تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الباب السابع عشر

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ظاء

الظلمات (١)

الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، ومنه : ظلم السقاء إذا شربه قبل أن يروب ، وقال الشاعر :

هزّت الشّقاشق ظلامون للجزر

أي يعرقبونها فيجعلون العرقبة مكان النحر ؛ ومنه قيل الظلمة لأنها قد تكون سببا لوضع الشيء في غير موضعه لعدم الإبصار فيها ، وقال بعض أهل اللغة : يقال في الجمع القليل منه ظلم ومنه ثلث ظلم ، والكثير الظلمات وهذا خلاف الأصل ؛ لأن الجمع القليل يجيء بالتاء في جميع اللغة.

والظلمات في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الكفر ؛ قال الله : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة الأحزاب آية : ٤٣ ، الحديد : ٩] أي : من الكفر إلى الإيمان ؛ فأخرج ما يرى بالعين إلى ما لا يرى بالعين ليتولد التشبيه ، وجعل الكفر ظلمة لما في الكفر من الحيرة والوحشة ، والإيمان نورا لما يكون مع النور من الاهتداء والاستقامة والأنس بثلج اليقين.

الثاني : الأهوال ؛ قال الله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [سورة الأنعام آية : ٦٣] قال أهل التفسير : أراد أهوالهما ، ويجوز أن يكون أراد الظلمات بعينها ، ومن الأول قولهم : يوم مظلم ، وأظلم النهار في عينه ؛ يريدون الهول والشدة.

__________________

(١) (ظ ل م): (المظلمة) الظّلم في قول محمّد رحمه‌الله في هذا مظلمة للمسلمين واسم للمأخوذ في قولهم عند فلان مظلمتي وظلامتي أي حقّي الّذي أخذ منّي ظلما وأمّا في يوم المظالم فعلى حذف المضاف (وقوله) فظنّ النّصرانيّ أنّه لم يلتفت إلى ظلامته يعني شكايته وهو توسّع. [المغرب : الظاء مع اللام].

٣٢١

الثالث : الظلمة بعينها ؛ قال الله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [سورة الأنعام آية : ١] وقد تقدم ذكر الظلمات لأنه خلق الظلمة قبل النور ، كما خلق الجنة قبل النار ، والسماوات قبل الأرض.

وفي هذا معنى حسن ، وهو جعله مثالا للشك الذي غلبه البرهان والدلالة ؛ فأما الجنة فقدمت لأنها الغرض المطلوب ، وأما السماوات فقدم خلقها لأنها أشرف من الأرض من غير اعتراض معنى يزيلها عن مرتبتها.

والفرق بين جعل الظلمات وفعل الظلمات ؛ أن الجعل يقتضي فعلها على الصفة التي هي عليها ، كما يقال : جعل الطين خزفا ، والجعل أيضا يدل على الاتصال ؛ ولذلك جعل طرفا للفعل يستفتح به ؛ كقولك : جعل يقول ، وجعل ينشد ، قال الشاعر :

وزعمت أنّك سوف تسلك فازرا

والموت مكتنع طريقي فازر

فاجعل بحلل من يمسّك إنّما

حنث اليمين على الأثيم الفاجر

٣٢٢

الظلم

قد ذكرنا أن أصله وضع الشيء في غير موضعه ، ويجوز أن يكون أصله النقصان ، ومنه قوله : (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [سورة الكهف آية : ٣٣] أي : لم تنقص ، والمظلومة : أرض لم تمطر بين أرضين قد مطرنا ؛ كأنها نقصت حقها.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الشرك ؛ قال الله : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [سورة الأنعام آية : ٨٢] ، والشاهد قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [سورة لقمان آية : ١٣] ، ولما نزلت قوله : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق على الناس ؛ فقالوا : يا رسول الله ، وأينا لا يظلم نفسه ، فقال : " أنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم" (١).

الثاني : ظلم العبد نفسه ؛ قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [سورة البقرة آية : ٢٣١].

فإن قيل : كيف يظلم العبد نفسه ولم يقصد ضررها؟ قلنا : لأنه يقصد إلى ضرر قبيح ينزل بها من أجل شهوته له فيضرها من حيث يظن أنه ينفعها ، ولو نظر فيما يأتيه حق النظر وقف على مكان الضرر منه فيكون ظالما لنفسه بذلك ؛ ونظيرها قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [سورة فاطر آية : ٣٢].

ويجوز أن يكون المعنى أنه ينقصها الحظ من الثواب والذكر الجميل.

الثالث : ظلم الإنسان غيره ؛ قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) [سورة النساء آية : ٣٠] والعدوان والظلم واحد ؛ وإنما كرر اللفظين على المعنى الواحد إرادة التوكيد والتصرف في الكلام على ما بينا من مذهب قوم يذهبون إلى ذلك ، وأصح منه أن

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود (٣٥٧٨) ، وأبو عوانة في المستخرج (٢١٢) ، (٢١٤) ، والعراقي في طرح التثريب ج ٦ / ٢١١.

٣٢٣

يقال : العدوان مجاوزة الواجب ، والظلم هنا وضع الشيء في غير موضعه من قبل النفس المذكورة في الآية ، فلما اختلف معنى اللفظين عطف أحدهما على الآخر ؛ ولو لا ذلك لم يجز العطف.

الرابع : النقص ؛ قال : (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [سورة الكهف آية : ٣٣] أي : لم تنقص وقال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [سورة الأنبياء آية : ٤٨].

٣٢٤

الظالمون

في القرآن على أربعة أوجه :

أولها : المشركون ؛ قال : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة هود آية : ١٨] كذا قيل ، ويجوز أن يكون غيرهم ممن يظلم ، كثير الظلم داخلا معهم ، وقوله : (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة الأعراف آية : ٤٧] وهم يعلمون أن الله لا يجعلهم مع المشركين ؛ ولكن هذا القول منهم تعظيم لما فيه المشركون من العذاب.

الثاني : الظالم لنفسه ؛ وهو الذي ينقصها بعض ثوابها بمعصية يوافقها ، قال : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة آية : ٣٥ ، الأعراف : ١٩] ، وقوله : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة الأنبياء آية : ٨٧] أي : لنفسه بخطيئته ، وقال موسى عليه‌السلام : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) [سورة القصص آية : ١٦] ومعنى هذين الحرفين داخل فيما تقدم.

الثالث : الجحود ؛ قال تعالى : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) [سورة الأعراف آية : ٩] أي : يجحدون ؛ كذا قال ابن عباس ، ومقاتل.

وقيل : أراد أنهم يظلمون أنفسهم بالكفر بها ، وقيل : يظلمون بها ؛ أي : يكفرون بها لوضعهم إياها في غير موضعها.

ويجوز أن يكون المعنى أنهم يظلمون النبي والمؤمنين بها ؛ أي : بتصديقهم بها لأنهم ينسبونهم في ذلك إلى الخطأ ويؤذونهم من أجلها وهذا على مقتضى اللفظ ، وقوله : (فَظَلَمُوا بِها) [سورة الأعراف آية : ١٠٣ ، الإسراء : ٥٩] أي : جحدوا بها.

ويحتمل الوجوه التي تقدمت أيضا ، ويقال : جحد بالشيء ؛ إذا أنكر صحته ، وجحده ؛ إذا أنكر وجوده ، كما يقال : جحد حقه.

٣٢٥

الرابع : السرقة ؛ قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) ، ثم قال : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) [سورة المائدة آية : ٣٨ ، ٣٩] ، وقال : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [سورة الأعراف آية : ٤١] يعني : السارقين.

والظلم في هذا الوجه يرجع إلى النقصان ؛ لأن السارق ينقص مال المسروق ، ويجوز أن يكون سمى الله السارق ظالما لأنه يدخل الضرر على من لا يستحقه ، وكل ضرر غير مستحق ولا معقب نفعا ظلم ، وقد سمي أيضا ظالما ؛ لظلمه لنفسه.

٣٢٦

الظهور وما يتصرف منه (١)

قد ذكرنا أن أصله من العلو ، يقال : ظهر فوق البيت إذا علاه ، وقال الشاعر :

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي عارها مرتفع عنك لا يلحقك ، وظهر كل شيء أعلاه ، وظهر الرجل ؛ بين درعين إذا ألبس إحداهما فوق أخرى ، وظاهر الرجل الرجل إذا عاونه فعلا أمره ، وهو ظهيره ؛ أي : معينه ، ودرع مظاهرة ؛ إذا نسجت حلقتين حلقتين.

وهو في القرآن على سبعة أوجه :

الأول : ظهر إذا بدا ؛ قال الله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [سورة الروم آية : ٤١] ، ونتكلم في هذه الآية في باب الفاء إن شاء الله تعالى.

وقال : (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [سورة غافر آية : ٢٦] ، وقال : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [سورة الروم آية : ٧] يعني : ما بدا منه من معاشهم ؛ أي : يعرفون ذلك من شدة عنايتهم به ، ويغفلون عن المعاد ، وقال : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) [سورة النور آية : ٣١] أي : لا يبدين الزينة الباطنة ، نحو : المخنقة ، والخلخال ، والدملوج ، والسوار ؛ فإن ذلك من التبرج ، والذي يظهر الثياب والوجه والكفان ، وزينة الوجه الكحل ، وزينة الكف الخضاب والخاتم.

وقد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف ؛ فاقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكف ، ويدل على أن الوجه والكف ليسا من العورة ؛ إنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين فجاز نظر الأجنبي إليهما لغير شهوة ، وجاز أن ينظر إليهما لعذر وإن كان تشبيها ، مثل : أن يريد تزويجها ، أو ينظر إليها لشهادة ، أو لأنه حاكم يريد أن يسمع إقرارها ، ويدل على أنه لا

__________________

(١) (ظ ه ر) : ظهر الشّيء يظهر ظهورا برز بعد الخفاء ومنه قيل ظهر لي رأى إذا علمت ما لم تكن علمته وظهرت عليه اطّلعت وظهرت على الحائط علوت ومنه قيل ظهر على عدوّه إذا غلبه وظهر الحمل تبيّن وجوده ويروى أنّ عمر بن عبد العزيز سأل أهل العلم من النّساء عن ظهور الحمل فقلن لا يتبيّن الولد دون ثلاثة أشهر. [المصباح المنير : الظاء مع الهاء والراء].

٣٢٧

يجوز النظر إلى الوجه لشهوة ، قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لا تتبع النّظرة النّظرة ؛ فإنّ لك الأولى وليست لك الآخرة" (١).

الثاني : الإطلاع ؛ قال الله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [سورة الجن آية : ٢٦ ، ٢٧] ، وقال : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) [سورة الكهف آية : ٢٠] أي : يطلعوا.

الثالث : الارتقاء ؛ قال الله : (مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [سورة الزخرف آية : ٣٣] أي : يرتقون ، والمعارج : الدرج ، يقال : أعرج الملك إذا صعد ، وعرج إذا نزل ، وقال : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) [سورة الكهف آية : ٩٧] أي : يعلوه ، وهو من قولهم : ظهر فوق البيت ؛ إذ أعلاه.

الرابع : التعاون ؛ قال : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) [سورة التحريم آية : ٤] أي : تعاونا ، وقال : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [سورة التحريم آية : ٤] أي : ظهرا ، يريد أن الملائكة أيضا تضار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقريب منه : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [سورة الحاقة آية : ١٧] أي : الملائكة ، وقال : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة التحريم آية : ٤] فذكر الواحد وأراد الجمع.

والأرجاء : الجوانب واحدها رجاء مقصور ، وهما رجوان ، ويقال : يرمى بفلان الرجوان ، إذا كان سائرا لا يستقر ركابه ، وقال : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) [سورة الأحزاب آية : ٢٦].

الخامس : العلو والغلبة ؛ قال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [سورة التوبة آية : ٣٣ ، الفتح : ٢٨ ، الصف : ٩] أي : ليغلبه حتى يغلب كل دين يدان به.

__________________

(١) أخرجه الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب (٢٧٧٧) ، وأبو داود (٢١٤٩) ، وأحمد في مسنده (٢٢٤٦٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى ج ٧ / ٩٠.

٣٢٨

وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه خبر وقع مخبره على ما أخبر به ، ومثله : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) [سورة غافر آية : ٢٩] أي : عالين قاهرين ، ومثله : (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [سورة الصف آية : ١٤].

السادس : الباطل ؛ قال أهل التفسير في قوله : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) [سورة الرعد آية : ٣٣] أي : بباطل ، وأم هاهنا بمعنى بل ، ومنه قوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) [سورة الزخرف آية : ٥٢] أي : بل أنا خير لأنه قال : أيخبرونهم بما لا يعلم في الأرض بل يقول : زائل باطل لا ينبت ، وهو ادعاؤكم لهم الألهية.

وقوله : (قُلْ سَمُّوهُمْ) [سورة الرعد آية : ٣٣] يعني : الملائكة لأنهم عبدوهم ، فقال لهم : إنكم تعبدونهم فما أسماؤهم ، قالوا ومنه قوله تعالى : (يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [سورة المجادلة آية : ٣] أي : يقولون باطلا.

وأصل هذه الكلمة عندنا من قولهم : أنت علي كظهر أمي ، وكان من طريق الجاهلية ، وصار في الإسلام فيه كفارة صورتها معروفة ونزلت في خولة بنت ثعلبة ، وأوس بن الصامت.

السابع : بمعنى الإعراض عن الشيء ؛ قال : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [سورة هود آية : ٩٢] أي : جعلتموه وراء ظهوركم ؛ يعني : أنكم تركتم العمل به ، ويقال : جعلت حاجتي تظهر إذا أطرحتها ولم تلتفت إليها.

والاتخاذ : أخذ الشيء لأمر يستمر ، وقيل : الظهري ؛ ما جعل وراء الظهر وقد ظهرته أي : جعلته كذلك ، وقيل : معناه أنه ثقل عليكم ، من قول العرب : حملت فلانا على ظهري إذا ثقل عليك ، ويقال أيضا : ظهر بفلان ؛ إذا لم يلتفت إليه ، قال الشاعر :

جدّ تأمر بني البرّ شاء من ولد الظّهر

أي الذين يظهر بهم ولا يلتفت إلى أرحامهم ، والظهري في غير هذا الموضع : العون ، ومنه الظاهري في الدواب.

٣٢٩

والكلمة من الأضداد ، : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي : اتخذتم الله وراءكم ، وحقيقة المعنى أنكم جعلتم أمره بمنزلة ما وراء ظهوركم لا يلتفتون إليه ، وقيل : الضمير في : (اتَّخَذْتُمُوهُ) لما جاء به متغيب وهو قول مجاهد ، ولفظ الآية دال على الوجه الأول.

٣٣٠

الظلال

يجوز أن يقال أصل الظل : الدوام ، ومنه يقال : ظل يفعل كذا ؛ أي : دام يفعله ، ويجوز أن يكون أصل الظل : الستر ، وظل الليل : ظلمته لأنها تستر كل شيء ، وهو بالغداة وما طلعت عليه الشمس ثم زالت فهو في ، لأنه فاء من جانب إلى جانب ، وألفيء الرجوع.

وهو في القرآن على وجهين :

الأول : جمع ظل ، قوله : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [سورة الرعد آية : ١٥] جاء في التفسير أن الكافر لا يسجد لله ، ومثله : يسجد على كره منه ، والمراد أن الحال يتصرف بالظل لدوران الشمس وتنقلها من مكان إلى مكان ؛ وفيه دليل على الخالق ؛ فجعل ذلك سجودا لأن حال السجود أبين ، والغدو هنا اسم للوقت ، وأصله المصدر ، والآصال جمع أصيل ، وهو العشي ، وقال بعضهم : الظل ما يستراح إليه.

الثاني : جمع ظلة ؛ قال الله : (فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) [سورة يس آية : ٥٦] وهي جمع ظلة ، مثل : قلة ، وقلائل.

وأما قوله : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ)(١) [سورة الواقعة آية : ٤٣] و : (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) [سورة المرسلات آية : ٣٠] ومعناه دخان جهنم ، واليحموم الأسود ، وأراد أنه يغشاهم فيسترهم ؛ فسماه ظل لأن الظل الستر.

__________________

(١) قال الشوكاني : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) اليحموم يفعول من الأحم : وهو الأسود ؛ والعرب تقول : أسود يحموم : إذا كان شديد السواد ، والمعنى : أنهم يفزعون إلى الظلّ ، فيجدونه ظلا من دخان جهنم شديد السواد. وقيل : وهو مأخوذ من الحم ، وهو الشحم المسودّ باحتراق النار. وقيل : مأخوذ من الحمم ، وهو : الفحم. [فتح القدير : ٧ / ١٢٨].

٣٣١

الظن (١)

الظن في العربية على وجهين : شك ، ويقين ، وقد جاء في القرآن كذلك ، قال الله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [سورة الحاقة آية : ٢٠] أي : أيقنت ، ومنه قول الشاعر :

ظنّوا بألفي مدحج

أي : أيقنوا ذلك ، وليس ذلك في أصل اللغة ، وإنما صار كذلك في الاستعمال ، ومن جهة الاستعارات وكثرتها في الكلام.

وقال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [سورة البقرة آية : ٤٦] أي : يوقنون.

وقال ابن درستويه : يتوهمون ذلك ، والكافر لا يتوهمه.

وهذا خطأ لأنهم لو كانوا يتوهمونه ولا يوقنونه لكانوا كفارا ؛ لأن التوهم من قبيل الشك ، والشاك بالبعث كافر.

والآخر قوله : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلى) [سورة الانشقاق آية : ١٤ ، ١٥] أخبر أنه كان شاكا في البعث.

وقال أبو بكر رحمه‌الله : الظن على أربعة أقسام : محظور ، وواجب ، ومندوب إليه ، ومباح.

فالمحظور : سوء الظن بالله ، وكل ظن لصاحبه سبيل إلى العلم فيه ؛ مما تعبد به فهو محظور.

__________________

(١) (ظ ن ن) : الظّنّ مصدر من باب قتل وهو خلاف اليقين قاله الأزهريّ وغيره وقد يستعمل بمعنى اليقين كقوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ومنه المظنّة بكسر الظّاء للمعلم وهو حيث يعلم الشّيء قال النّابغة فإنّ مظنّة الجهل الشّباب والجمع المظانّ قال ابن فارس مظنّة الشّيء موضعه ومألفه والظّنّة بالكسر التّهمة وهي اسم من ظننته من باب قتل أيضا إذا اتّهمته فهو ظنين فعيل بمعنى مفعول وفي السّبعة (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي بمتّهم وأظننت به النّاس عرّضته للتّهمة. [المصباح المنير : ٥ / ٤٩٠].

٣٣٢

وأما الظن الواجب : فمثل ما تعبد بإنفاذ الحكم به ، ولم ينصب عليه دليل ؛ نحو : قبول شهادة العدول ، وتحري القبلة ، وتقويم المستهلكات ، وأروش الجنايات التي لم يرد بها توقيف.

وأما المباح : فكالظان في الصلاة ، أمره النبي صلى الله عليه بالعمل على غالب الظن ؛ فإن فعل كان مباحا ، وإن عدل إلى البناء على اليقين كان جائزا.

والمندوب إليه : حسن الظن بالأخ المسلم ، قال الله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [سورة النور آية : ١٢].

٣٣٣
٣٣٤

الباب الثامن عشر

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله عين

القول في العالمين

العالم يقع على الملائكة والإنس والجن ، واشتقاقه من العلم ؛ لأنه يقع على من يعلم ، ويصلح أن يكون من العلامة ؛ لأن فيهم دلائل على خالقهم.

وقيل : أهل كل زمان عالم ، وقيل : كل ما يحوي الفلك عالم ، والناس يقولون : العالم العلوي ؛ يعنون السماء وما فيها ، والعالم السفلي ؛ يريدون الأرض وما عليها ، ويقولون على وجه التشبيه : إن الإنسان العالم الصغير وإلي فلان تدبير العالم يعنون الدنيا.

واشتقاقه على هذا القول من العلامة فقط ، وقيل : العالم اسم أشياء مختلفة فلا يوحد وليس هو مثل الناس ؛ لأن كل واحد من الناس إنسان ، وليس كل واحد من العالم ملائكة.

والعالم إن كان جميعا لا واحدا له من لفظه ؛ فليس هو ، كالنعم والرهط والنسوة ؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء جمع لجنس بعينه ، والعالم جمع لأجناس مختلفة ، وقال بعضهم : العالم كل جنس ذي روح.

وحكي عن العرب : عالم من الطير ومن الظباء وليس ذلك بمعروف عندنا ، وعندنا أن العالم سمي عالما لأنه يصلح أن يستدل به فيوصل إلى العلم ، ومثله : الخاتم لأنه يصلح للختم على الأشياء ، والطابع يصلح أن يطبع به.

قال المفضل : العرب تقول : العالمين في الرفع والنصب والجر ؛ لأنه جمع لا نظير له ، وكان حقه أن يجمع به على عوالم وعواليم ، مثل : خاتم وخواتيم وخواتم ، فلما انقطع عن بابه جمع بالنون وألزم الياء وأجرى مجرى : المقتوين والمفتكرين ، قال : وقد جاء عن قوم من كنانة وأسد عالمون وليس بمشهور.

ولفظ العالمين في القرآن مستعمل في أربعة مواضع :

٣٣٥

الأول : الملائكة والجن والإنس ؛ وهو قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) هذا قول أكثر المفسرين ، وإنما ذكر هؤلاء : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة الأنعام آية : ١٦٤] لأن الأقل داخل في الأكثر.

الثاني : الجن والإنس خاصة ؛ قال الله : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [سورة الفرقان آية : ١] أي : عظة وزجرا عن المعاصي وداعيا إلى التوحيد.

الثالث : قوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة الجاثية آية : ١٦] يعني : عالمي زمانهم ، ودليل هذا أنه لم يفضلهم على أمة محمد عليه‌السلام ؛ ولو فضلهم لم يقل : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران آية : ١١٠].

__________________

(١) قال الرازي : العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى ، وهي على ثلاثة أقسام : المتحيزات ، والمفارقات ، والصفات. أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات ، أو البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات ، وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة ، واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة ، وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له ، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات ، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم ، / بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم ، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر ، ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية ؛ قال أبو العلاء المعري :

يا أيها الناس كم لله من فلك

تجري النجوم به والشمس والقمر

هين على الله ماضينا وغابرنا

فما لنا في نواحي غيره خطر

ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل ، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح ، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار ، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب ، ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ)[لقمان : ٢٧] وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ). [مفاتيح الغيب : ١ / ٣٥].

٣٣٦

الرابع : الناس من لدن آدم عليه‌السلام إلى يوم القيامة ، قال : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران آية : ٤٢] والاصطفاء هاهنا بمعنى أنه خصها بإخراج الولد منها من غير ذكر.

ويجوز أن يكون في الأنبياء من هو مثلها في الفضل ، مثل : آسيا وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه ، للأثر المروي" خير نساء العالمين : آسيا ، ومريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه" (١).

__________________

(١) أخرجه ابن حبان من حديث أنس بن مالك (٦٩٥١) ، والطبراني في المعجم الكبير (١٠٠٤) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (٢٩٦١) ، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم في المستدرك ج ٣ / ١٥٤ ، والبوصيري في إتحاف الخيرة (٩٠٤١).

٣٣٧

العمى (١)

أصل العمى من الستر ، ومنه قيل : السحاب العماء ؛ لأنه يستر السماء ، وعمي الرجل ؛ كأنه سترت عنه المرئيات ، وعمى عن الصواب تشبيه كأنه ستر عنه ، ويقولون للفلاة التي لا علم فيها : عمياء وعطشاء ، والعطش ضعف البصر ، وقالوا لها ذلك لأنهم لا يبصرون فيها القصد لأنه قد ستر ، وفي القرآن : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) [سورة القصص آية : ٦٦] لأنها سترت.

والعمى وما يتصرف منه في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : عمى القلب ؛ قال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ) [سورة الحج آية : ٤٦] والمعنى أنها لا تنتفع ببصائرها كما لا تنتفع العمى بأبصارها ، ومثله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [سورة البقرة آية : ١٨ ، ١٧١] فجعلهم صما لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون فكأنهم لا يسمعون ، كما أن الأصم لا يسمع ؛ وسماهم عميا على هذا السبيل ، وبكما لأنهم إذا سئلوا عن صحة ما يذهبون إليه لم يأتوا بحجة وكأنهم بكم.

وقوله : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) [سورة يونس آية : ٤٣] ، وقال : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [سورة الإسراء آية : ٧٢] ومعنى ذلك أنه إذا عمى في الدنيا عن التوبة وقد جعل الله إليها سبيلا كان في الآخرة أعمى ؛ لأنه لا يجد متابا ، وأضل سبيلا ؛ لأنه لا يهتدي إلى طريق النجاة والفوز.

الثاني : عمى البصر ؛ قال : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) [سورة النور آية : ٦١ ، الفتح : ١٧] ، وقوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) [سورة عبس آية : ١ ، ٢] يعني : عبد الله ابن أم مكتوم ، وكان ضريرا ؛ جاء النبي عليه‌السلام وهو

__________________

(١) [عمي] : العمى : ذهاب البصر ، عمي يعمى عمى. وفي لغة اعمايّ يعمايّ اعميياء ، أرادوا حذو ادهامّ ادهيماما فأخرجوه على لفظ صحيح كقولك ادهامّ : اعمايّ. ورجل أعمى وامرأة عمياء لا يقع على عين واحدة. وعميت عيناه. وعينان عمياوان. وعمياوات يعني النساء. ورجال عمي. ورجل عم ، وقوم عمون من عمى القلب ، وفي هذا المعنى يقال ما أعماه ، ولا يقال ، من عمى البصر ، ما أعماه لأنّه نعت ظاهر تدركه الأبصار. [العين : عمى].

٣٣٨

يدعوا بعض أشراف قريش إلى الإسلام ؛ فتشاغل عنه ؛ فنزلت : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [سورة عبس آية : ١] إلى قوله : (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [سورة عبس آية : ١٠].

الثالث : العمى عن الحجة ؛ قال تعالى : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [سورة طه آية : ١٢٥] جاء في التفسير أنه أراد ؛ لم حشرتني أعمى عن الحجة وقد كنت بها بصيرا في الدنيا ، ويجوز أن يكون بمعنى عمى العين على ما قدمنا قبل ؛ وهو أنه حشره أعمى ليجعله علامة بين الخلق.

٣٣٩

العلم (١)

هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة ، وأصله الظهور ، ومنه قيل للجبل : علم لظهوره ، وأعلام الشيء دلائله ؛ لأنها تدل بظهورها عليه ، والمعلم : الموضع المعروف.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : على قول بعض المفسرين الرؤية ؛ قال الله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) [سورة محمد آية : ٣١] ، ومثله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) [سورة آل عمران آية : ١٤٢].

جاء في التفسير أنه أراد الرؤية ؛ أي : حتى نراهم مجاهدين ؛ لأنه تعالى كان يعلم المجاهدين قبل الجهاد ، وقيل : معنى العلم هنا التمييز ، وسمى التميز علما ؛ لأن العلم يقع معه بحال ما يتميز وما يتميز منه ، وقيل : معناه ليصر المؤمنون على ما يصابون به ؛ فجعل العلم منه مكان الصبر منهم إذ كان الله عالما بصبرهم إذا صبروا ، وقيل : يعلمهم فاعلين كما يعلمهم معتقدين.

الثاني : العلم بعينه ؛ قال : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [سورة البقرة آية : ٧٧ ، هود : ٥ ، النحل : ٢٣] ، وقال : (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) [سورة الأنبياء آية : ١١٠].

__________________

(١) (ع ل م) : العلم اليقين يقال علم يعلم إذا تيقّن وجاء بمعنى المعرفة أيضا كما جاءت بمعناه ضمّن كلّ واحد معنى الآخر لاشتراكهما في كون كلّ واحد مسبوقا بالجهل لأنّ العلم وإن حصل عن كسب فذلك الكسب مسبوق بالجهل.

وفي التّنزيل (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي علموا وقال تعالى ((لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ)) أي لا تعرفونهم الله يعرفهم وقال زهير وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنّني عن علم ما في غد عمي أي وأعرف وأطلقت المعرفة على الله تعالى لأنّها أحد العلمين والفرق بينهما اصطلاحيّ لاختلاف تعلّقهما وهو سبحانه وتعالى منزّه عن سابقة الجهل وعن الاكتساب لأنّه تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون وعلمه صفة قديمة بقدمه قائمة بذاته فيستحيل عليه الجهل وإذا كان علم بمعنى اليقين تعدّى إلى مفعولين وإذا كان بمعنى عرف تعدّى إلى مفعول واحد وقد يضمّن معنى شعر فتدخل الباء فيقال علمته وعلمت به وأعلمته الخبر وأعلمته به وعلّمته الفاتحة والصّنعة وغير ذلك تعليما فتعلّم ذلك تعلّما. [المصباح المنير : العين مع اللام].

٣٤٠