تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الصيحة (١)

فعلة من صاح يصيح ، ويستعمل في جميع الحيوان ، وجاء في غير ذلك أيضا ، قال الشاعر :

تصيح الرّدينيّات فينا وفيهم

صياح بنات الماء أصبحن جوّعا

والصيحة في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : صيحة جبريل صلى الله عليه ؛ قال الله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [سورة المؤمنون آية : ٤١ ، الحجر : ٧٣ ، ٨٣] في مواضع من القرآن.

الثاني : النفخة الأولى لفناء الخلق ؛ قال الله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) [سورة يس آية : ٢٩] ، ومثله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [سورة يس آية : ٤٩].

الثالث : النفخة الثانية لقيام الساعة ؛ قال الله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [سورة يس آية : ٥٣] ، ونحوه : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) [سورة الصافات آية : ١٩] ولم يقل : ما ينظرون ليكون أعظم في الإخبار ، كما يقول : لو رأيت عليا بين الصفين ، ومثله : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) [سورة ق آية : ٤٢].

__________________

(١) (ص ي ح) : صاح بالشّيء يصيح به صيحة وصياحا صرخ. [المصباح المنير : الصاد مع الياء]

٢٨١

الصاعقة (١)

هي ما كثف من البروق وعظم ، وأصلها من شدة الضرب ، يقال : صقعه إذا ضربه ضربا شديدا ، وأكثر ما يستعمل في الضرب على الرأس فقلب ، فقيل : صاعقة ، وربما قيل : صاقعة على الأصل ، وصعق الرجل ؛ إذا سمع صوتا شديدا فغشي عليه وهو صعق ، وفي القرآن : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [سورة الأعراف آية : ١٤٣] ، وصعق الرجل بالفتح ؛ إذا صاح ، ويجوز أن تكون الصاعقة من هذا.

والصاعقة في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : شدة الصوت ، قال : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [سورة النساء آية : ١٥٣] وكانوا سمعوا صوت تدكدك الجبل ؛ فماتوا موتا لم يضطروا معه إلى معرفة البارئ ؛ ولهذا أجاز أن يكلفهم بعده لأن التكليف مع وقوع العلم ضرورة لا يصح من أجل أن العالم ضرورة ملجأ إلى فعل الطاعات ، والتكليف لا يكون إلا مع الاختيار وإلا فإنه ليس بتكليف.

الثاني : العذاب ، قال : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [سورة فصلت آية : ١٣].

الثالث : الموت قال : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [سورة الزمر آية : ٦٨] أي : ماتوا ، وقيل : معنى ذلك أنهم يغشى عليهم ثم يموتون.

__________________

(١) [صعق] : الصّعاق : الصّوت الشّديد للثّور والحمار ، صعق صعاقا ، قال رؤبة :

صعق ذبّانه في غيطل

أي يموت الذباب من شدّة نهيقه إذا دنا منه. قال رؤبة يصف حمارا وأتانه :

ينصاع من حيلة ضمّ مدّهق

إذا تتلّاهنّ صلصال الصّعق

وحمار صعق الصّوت أي شديده. والصعّاق : الشّديد الصّوت. والصاعقة : صيحة العذاب. والصّاعقة : الوقع الشّديد من صوت الرّعد ، يسقط معه قطعة من نار يقال : إنها من صوت الملك ، ويجمع صواعق. والصّعق : المغشيّ عليه. صعق صعاقا : غشي عليه من صوت يسمعه أو حسّ أو نحوه. وصعق صعقا : مات. [العين : العين والقاف والصاد]

٢٨٢

الصلاح (١)

الصلاح نفع يلتئم به الأمور ، والإصلاح تقويم العمل على ما ينفع بدلا مما يضر ؛ والفساد ضر تضطرب به الأمور ، والإفساد تقويم العمل على ما يضر بدلا مما ينفع.

وأما القبح فهو المنكر في النفس من جهة زجر العقل ، والفرق بين فساد التفاحة بتعينها وفساد الإنسان بخطيئته ؛ أن أحدهما تزجر عنه الحكمة ، والآخر لا تزجر عنه على أنه قد حدث ما ينافي في المنفعة به.

والصلاح في القرآن على سبعة أوجه قالوا :

الأول : الإيمان ؛ قال الله عزوجل : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) [سورة الرعد آية : ٢٣] ، قال : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [سورة النور آية : ٣٢] ، يعني : المؤمنين ، وقال تعالى : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [سورة النمل آية : ١٩].

الثاني : المنزلة الرضية ؛ قال الله : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) [سورة يوسف آية : ٩] ، قال بعض أهل التفسير : تصلح منزلتنا عند أبينا ، ومثله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة النحل آية : ١٢٢] ، أي : في المنزلة الرضية عند الله. ويجوز أن يكون المراد إنا نتوب فيما بعد ونكون من الصلحاء ، وقيل : الصلاح في قوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [سورة النور آية : ٣٢] ، العفة وليس أن من لم تكن عفيفة لا تزوج ؛ وإنما أراد الحث على الصلاح.

__________________

(١) (ص ل ح): (الصّلاح) خلاف الفساد وصلح الشّيء من باب طلب وقد جاء في باب قرب صلاحا وصلوحا وأصلحه غيره (ومنه) علك مصلح أي معمول معجون والجيم خطأ وإنّما عدّي بإلى في قوله دابّة أنفق عليها وأصلح إليها على تضمين معنى أحسن (والصّلح) اسم بمعنى المصالحة والتّصالح خلاف المخاصمة والتّخاصم وقول عليّ رضي الله عنه لو لا أنّه صلح لرددته أي مصالح فيه أو مأخوذ بطريق الصّلح ولا صلح في (ع م) (وقوله) كانت تستر صلحا في ت س (وقوله) فإنّ اصطلاح ذلك ودواءه على المرتهن الصّواب فإنّ إصلاح ذلك. [المغرب : الصاد مع اللام]

٢٨٣

وظاهر هذا الأمر الوجوب ؛ وهو ندب بالإجماع ، ولم يخل عصر من الأعصار من الأيامي من الرجال والنساء ، ولم يذكر أحد أن ترك تزويجهن محظور.

وأيضا فإن الأيم إذا لم ترد التزويج لم يكن للولي إجبارها ، وأيضا فإن الرجل لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامي.

قال أبو علي رحمه‌الله : هو في الأيم إذا أرادت التزويج على الوجوب ، وفي العبد والأمة ترغيب ، قال : ويجوز أن يكون المعنى ترغيب الأحرار أن يتزوجوا الإماء الصالحات ، وترغيب الحرائر أن يتزوجوا العبيد الصالحين.

الثالث : الرفق على قولهم ؛ قال تعالى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة القصص آية : ٢٧] ، أي : ممن يرفق ولا يخرق ، قال : ومثله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) [سورة الأعراف آية : ١٤٢].

وليس هذا بالوجه ؛ وإنما أراد ضد الفساد ، والشاهد : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة الأعراف آية : ١٤٢] ، ويجوز أن يكون المراد بقوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة القصص آية : ٢٧] أي : أصلح لك في أمورك ، وإني أفي لك ولا أخونك فأفسد أمرك.

الرابع : تسوية الخلق ؛ قال الله : (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [سورة الأعراف آية : ١٨٩] أي : ولدا سويا ، ويجوز أن يكون أراد صلاح الطريقة.

الخامس : ضد الفساد ؛ قال : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [سورة هود آية : ٨٨] ، وقال : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [سورة البقرة آية : ١١] أي : لأمور أنفسنا فيما نولي الكافرين ؛ لأنهم إذا ظهروا أبقوا علينا ، والدليل على صحة هذا التأويل أنه قرنه بالفساد ، وقال : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [سورة البقرة آية : ١٢].

السادس : الطاعة ؛ قال : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعني : الطاعات.

٢٨٤

السابع : الأمانة ؛ قال الله : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) [سورة الكهف آية : ٨٢] قالوا : يعني : ذا أمانة ، ويجوز أن يكون معناه صلاح الطريقة في الدين ، ويرجع معناه إلى الطاعة ، وفلان صالح في نفسه ؛ إذا أتى بمحاسن الأفعال ، وفاسد في نفسه ؛ إذا أتى بمقابحها.

٢٨٥

الصراط (١)

هو في العربية الطريق الواضح السهل ، يذكر ويؤنث ، مثل : الطريق ، والسبيل ولم نسمع له بجمع ، والقياس : أصرطة ، وسرط ، وأصل الصاد فيه سين ؛ من قولهم : سرطت الطعام ؛ إذا أسرعت بلعه ، وذلك أن السراط : ممر الحلق ، والمسرط : البلعوم ؛ لسرعة مرور الطعام فيه.

وسمي الفالوذ سرطراطا ؛ لسرعته وسهولته في الحلق ، وسيف سراطي سريع القطع ، سمي الطريق القاصد السهل سراطا ؛ لسرعة المشاة فيه ؛ لسهولته لا يمنعه من ذلك شيء ، وجعل السين صادا لموافقة الصاد الطاء.

وهو في القرآن على وجهين :

الأول : الطريق ؛ قال الله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) [سورة الأعراف آية : ٨٦] ، ومثله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [سورة الصافات آية : ٢٣].

الثاني : الدين ؛ قال الله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [سورة الفاتحة آية : ٦] يعني : الدين المستقيم ؛ فجعله صراطا على التمثيل ، ومثله : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) [سورة الأنعام آية : ١٢٦].

والمستقيم : القاصد ، والاستقامة : الاستمرار في جهة واحدة ؛ فإذا كان في الدين فالاستمرار على طريق الحق.

__________________

(١) الفرق بين الصراط والطريق السبيل : أن الصراط هو الطريق السهل قال الشاعر :

خشونا أرضهم بالخيل حتى

تركناهم أذل من الصراط

وهو من الذل خلاف الصعوبة وليس من الذل خلاف العز ، والطريق لا يقتضي السهولة ، والسبيل إسم يقع على ما يقع عليه الطريق وعلى ما لا يقع عليه الطريق تقول سبيل الله وطريق الله وتقول سبيلك أن تفعل كذا ولا تقول طريقك أن تفعل به ويراد به سبيل ما يقصده فيضاف إلى القاصد ويراد به القصد وهو كالمحبة في بابه والطريق كالارادة. [الفروق اللغوية : ١ / ٣١٣]

٢٨٦

وقال بعضهم : الصراط : الطريق المستقيم ، والذي يفيده الصراط هو السهولة على ما ذكرنا ، والذي يدل على ذلك أصل الكلمة وما يتصرف منها ، مثل : السرطراط وسرطته ؛ إذا أسرعت بلعه لسهولته.

٢٨٧

الصلاة (١)

أصلها الدعاء ؛ صليت إذا دعوت ، قال الشاعر :

وقابلها الريح في دنّها وصلّ

ى على دنّها وارتشم

وسميت الصلاة لما فيها من الدعاء ، والصلاة على الجنازة ؛ لأنها دعاء لا سجود فيه ولا ركوع ، وقيل : أصلها اللزوم ، ومن قيل : (تَصْلى ناراً) [سورة الغاشية آية : ٤] أي : يلزمها.

واستعمل في القرآن على خمسة أوجه زعموا :

الأول : الدعاء ؛ قال الله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [سورة التوبة آية : ١٠٣] أي : ادع لهم إن دعائك مما يسكنهم وتطمئن إليهم قلوبهم ، وقيل : معناه استغفر لهم ، ومعناهما قريب.

والثاني : الترحم : قال بعضهم : قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [سورة التوبة آية : ١٠٣] أي : ترحم عليهم أنهم يسكنون إلى ذلك ، قال الأعشى :

__________________

(١) (ص ل و): (الصّلاة) فعالة من صلى كالزّكاة من زكّى واشتقاقها من الصّلا وهو العظم الّذي عليه الأليتان لأنّ المصلّي يحرّك صلويه في الرّكوع والسّجود وقيل للثّاني من خيل السّباق المصلّي لأنّ رأسه يلي صلوي السّابق (ومنه) (سبق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلى أبو بكر وثلّث عمر) وسمّي الدّعاء صلاة لأنّه منها (ومنه) (وإذا كان صائما فليصلّ) أي فليدع وقال الأعشى لابنته عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي نوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا يعني : قولها يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا لأنّه دعاء له منها وقال أيضا وقابلها الرّيح في دنّها وصلى على دنّها وارتسم أي استقبل بالخمر الرّيح ودعا وارتسم من الرّوسم وهو الخاتم يعني : ختمها ثمّ سمّي بها الرّحمة والاستغفار لأنّهما من لوازم الدّاعي (والمصلى) موضع الصّلاة أو الدّعاء في قوله تعالى (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقوله عليه‌السلام حكاية عن الله تعالى «قسمت الصلاة» يعني سورة الصّلاة وهي الفاتحة لأنّها بقراءتها تكون فاضلة أو مجزئة (وقوله) عليه‌السلام لأسامة (الصّلاة أمامك) أي وقت الصّلاة أو موضعها يعني بها صلاة المغرب (وقول) عبيد فلان يصلّون أي هم بالغون (ومنه) حديث ابن الزّبير أقرع بين من صلى من رقيقه حين أعتقهم من بعده أي من بلغ وأدرك الصّلاة صلى (الصّلاة) الحجر يسحق عليه الطّيب وغيره (ومنها) أخرج جرصنا أو صلاية أي حجرا (وقوله) في الواقعات حدّاد ضرب حديدة بمطرقة على صلاية يعني السّندان وهذا وهم (والصّلى) بالفتح والقصر أو بالكسر والمدّ النّار. [المغرب : الصاد مع اللام]

٢٨٨

عليك مثل الّذي صلّيت فاعتصمي

رفع مثل على الدعاء دعا لها مثل الذي دعوت له ، ونصبه على الأمر ؛ أي : تزداد من الدعاء ، أي : عليك بمثل ما قلت ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [سورة الأحزاب آية : ٥٦].

[الثاني : الرحمة] ؛ قال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [سورة البقرة آية : ١٥٧].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى" (١) أي : ارحمهم ، وهذا والأول واحد لأن الترحم دعاء ، ولا شك أن الله يرحم نبيه.

والفائدة في الترحم عليه ما يستحق المترحم من الثواب ، فإذا جدد الله تعالى لنبيه تكريما عند دعاء الداعي ؛ قيل : إن الله أجاب دعائه وفي الإجابة تكريم المجاب.

والدعاء ليس بواجب في العقول ؛ وإنما أوجبه القرآن لأن العاقل يعلم أن الله لا يختار له إلا الأصلح في دينه ودنياه. فيجوز أن ينصرف عن الدعاء تفويضا لأمره إلى الله ، والله لا يمنع العبد ما فيه صلاحه ؛ ولكنه أمره بالدعاء تعريضا للإجابة لما فيها من إكرام المجاب.

ويجوز أن يكون أمره بالدعاء ؛ لأن الذي يطلبه لا يكون مصلحة لما فيها له إلا بالدعاء.

الثالث : الصلاة المعروفة ؛ قال : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [سورة الإسراء آية : ٧٨] ، وقيل : دلوكها : غروبها ، وقيل : زوالها.

الرابع : قوله : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) [سورة هود آية : ٨٧] قال المفسرون : أراد قراءتك والمشهور الصلاة المعروفة.

وقالوا له ذلك لما أنكروا ما يدعوهم إليه من مخالفة دينهم ، كما تقول للرجل الصالح : تنكر منه أمرا أورعك أو صلاحك أمرك بهذا وأنت تريد نهيه عن ذلك وإنكاره عليه.

__________________

(١) متفق عليه من حديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه البخاري (١٤٩٨) ، (٤١٦٦) ، (٦٣٣٢) ، (٦٣٥٩) ، وأخرجه مسلم (١٠٧٩) ، والنسائي (٢٤٥٩) ، وأبو داود (١٥٩٠) ، وابن ماجه (١٧٩٦).

٢٨٩

الخامس : المغفرة ؛ قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) [سورة الأحزاب آية : ٤٣] يعني : أنه يغفر لكم إذا تبتم إليه ، ويستغفر لكم ملائكته ، وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني ؛ لأن الرحمة والمغفرة يتقاربان.

٢٩٠

الصوم (١)

أصله الإمساك ، ومصام الشيء مكانه ، قال امرؤ القيس :

كأنّ الثّريا علّقت في مصامها

بأمر أسر كتّان الصّائم جندل

والخيل الصائمة : الممسكة عن الحملة ، وقد صام النهار عبد قائم الظهيرة ؛ كأن الشمس تسكن عند ذلك فلا تسير.

والصوم في القرآن على وجهين :

الأول : الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح مع النية ، وهو قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٨٤] وفي هذه الآية دليل على أن هذه الآية منسوخة لأنه لا يجوز أن تقول في هذا الوقت أن الصيام في شهر رمضان خير من الإفطار فيه.

الثاني : الصمت ؛ قال الله : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [سورة مريم آية : ٢٦] أي : صمتا ، ويسمى الصمت صوما لأنه إمساك عن الكلام ، ومن قال : أن الصوم ليس بمعنى ؛

__________________

(١) (ص وم): (الصّوم) في اللّغة ترك الإنسان الأكل وإمساكه عنه ثمّ جعل عبارة عن هذه العبادة المخصوصة يقال صام صوما وصياما فهو صائم وهم صوّم وصيّم وصيام وفي حديث عمر رضي الله عنه إنّا نصنع شرابا في صومنا أي في زمن صومنا ومن مجازه صام الفرس على آريّه إذا يكن يعتلف (ومنه) قول النّابغة خيل صيام وخيل غير صائمة وقول الآخر والبكرات شرّهنّ الصّائمة يعني : الّتي سكنت فلا تدور وهي جمع بكرة البئر (وصام) سكت (وماء) (صائم) وقائم ودائم ساكن وصام النّهار إذا قام قائم الظّهيرة [المغرب : الصاد مع الواو].

والصاد والواو والميم أصل يدلّ على إمساك وركود في مكان. من ذلك صوم الصّائم ، هو إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ما منعه. ويكون الإمساك عن الكلام صوما ، قالوا في قوله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً)[مريم ٢٦] ، إنّه الإمساك عن الكلام والصّمت. وأمّا الرّكود فيقال للقائم صائم ، قال النابغة :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وخيل تعلك اللّجما

والصّوم : ركود الرّيح. والصّوم : استواء الشّمس انتصاف النّهار ، كأنّها ركدت عند تدويمها ، وكذا يقال صام النّهار.

قال امرؤ القيس :

* إذا صام النّهار وهجّرا*

ومصام الفرس : موقفه ، وكذلك مصامته. قال الشّماخ :

* إذا ما استاف منها مصامة*

٢٩١

فقد قال : أن الله فرض ما ليس بشيء ، وأن النية والعزم يصح ما ليس بشيء ، والنهي نحو عن ترك ما ليس بشيء ، وتوطين النفس يكون لا على شيء وليس هذا بمعقول ، وقد يكون صوم أعظم من صوم ، وهذا يوجب على قوله : أن يكون لا شيء أعظم من لا شيء.

٢٩٢

الباب الخامس عشر

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ضاد

الضحى (١)

مؤنثة وأصلها من البروز ، ويقال مكان ضاح ؛ أي : بارز ، وضواحي المدينة : ظواهرها ، وضحى الرجل يضحي إذا برز للشمس ، وفي القرآن : (لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [سورة طه آية : ١١٩] والأضحية ترجع إلى هذا ، وذلك أنهم كانوا يذبحونها في الضحى ، والضحا بالمد بعد الضحى.

والضحى في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : النهار كله ؛ قال : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [سورة الأعراف آية : ٩٨] جاء في التفسير أنه بمعنى النهار جمع قلنا ، وذلك أنه جعله بإزاء البيات ، والبيات يكون في جميع الليل ، ولا يحسن في نظم الكلام أن يجعل الضحى التي هي أول النهار إزاء الليل كله.

الثاني : إذا ترجل النهار ؛ قال الله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [سورة النازعات آية : ٤٦].

الثالث : حر الشمس ؛ قال الله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [سورة الشمس آية : ١] قالوا يعني : حرها ، ويجوز أن يكون الوقت ونسبه إلى الشمس ؛ لأن الأوقات تعرف بمسير الشمس.

__________________

(١) ضحو : الضّحو : ارتفاع النّهار ، والضّحى : فويق ذلك ، والضّحاء ـ ممدود ـ إذا امتدّ النّهار ، وكرب أن ينتصف. وضحي الرّجل ضحى : أصابه حرّ الشّمس. قال الله تعالى : " لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى " ، أي : لا يؤذيك حرّ الشّمس. وقد تسمّى الشّمس : الضّحاء ـ ممدود ـ. وتقول : اضح ، أي : ابرز للشمس. ضحا يضحو ضحوّا وضحي يضحى ضحى وضحيّا. [العين : ضحو].

٢٩٣

الضرب (١)

أصله الثبات ، ومن ثم قيل : ضرب علي فلان البعث أي : ألزمه وأثبت عليه حكمه ومنه قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [سورة البقرة آية : ٦١].

ويخبر عن الإلزام بالضرب ؛ لأن الضرب تأثيرا ليس إلا إلزاما ؛ فلما أراد أنهم ألزموا ذلة تبقى أثرها كبقاء أثر الضرب ، عدل عن ذكر الإلزام إلى ذكر الضرب ، وقيل : المعنى أن الذلة أحاطت بهم من قولك : ضربت الخيمة على القوم ، ونحوه قوله :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك بها الكتاب المنزّل

ومنه المضرب لأنه تضرب أوتاده في الأرض فتثبت ، ويقال للجليد : الضريب ؛ لأنه يثبت أكثر مما يثبت الثلج ولا يثبت ولا يجري.

واستضرب العسل إذا غلظ تشبيها بالجليد ، وضريبة الإنسان : خليقته لأنها ثابتة له لا يكاد يزول عنها ، والضرب في الأرض المسير فيها ؛ وهذا خلاف الثبات ، والمضارب مشتق من الضرب في الأرض.

والضرب العسل الأبيض الغليظ ، والضريب ضرب من اللبن ، والضرب من الشيء : الصنف منه.

والضرب في القرآن على ثلاث أوجه :

الأول : الضرب في الأرض ؛ قال الله : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة النساء آية : ٩٤] ، وقال معاوية لبعض رؤساء اليمن : ما قول قومك في : (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) [سورة

__________________

(١) (ض ر ب) : ضربه بسيف أو غيره وضربت في الأرض سافرت وفي السّير أسرعت وضربت مع القوم بسهم ساهمتهم وضربت على يديه حجرت عليه أو أفسدت عليه أمره وضرب الله مثلا وصفه وبيّنه وضرب على آذانهم بعث عليهم النّوم فناموا ولم يستيقظوا وضرب النّوم على أذنه وضربت عن الأمر وأضربت بالألف أيضا أعرضت تركا أو إهمالا وضربت عليه خراجا إذا جعلته وظيفة والاسم الضّريبة والجمع ضرائب وضربت عنقه وضرّبت الأعناق والتّشديد للتّكثير قال أبو زيد ليس في الواحد إلّا التّخفيف وأمّا الجمع ففيه الوجهان قال وهذا قول العرب وضربت أجلا بيّنته وجميع الثّلاثيّ وزن واحد والمصدر الضّرب وضرب الفحل النّاقة ضرابا بالكسر وضرب الجرح ضربانا اشتدّ وجعه ولذعه. [المصباح المنير : الضاد والراء].

٢٩٤

سبأ آية : ١٩] قال : أرادوا بعد الهمة والضرب في الأرض ؛ ولكن ما قول قومك في : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [سورة الأنفال آية : ٣٢] هلا قالوا : إن كان هذا هو الحق من عندنا فاهدنا له؟ ومثله : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [سورة المزمل آية : ٢٠] فوضع التاجر مع المجاهد ، وفي ذلك بيان عن فضل التجارة.

الثاني : الضرب باليد والسيف وغيره ؛ قال : (فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١) [سورة محمد آية : ٤] وسمي ضربا لأن أثره يثبت في المضروب ، ونصب ضرب الرقاب على المصدر.

والمراد فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ؛ ولكن أكثر القتل ضرب الرقبة ، فأخرج الكلام على الأكثر ، ولم يرد أن هذا الضرب مقصور على الرقبة.

والشاهد قوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [سورة الأنفال آية : ١٢] ، وقال : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [سورة الأنفال آية : ١٢] يعني : اضربوا الرؤوس ، واضربوا منهم كل بنان ؛ لأنه قال : إنكم تتمكنون منهم أشد تمكن ؛ فاضربوا الجليل من أبدانهم والدقيق.

وقيل : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) [سورة الأنفال آية : ١٢] أي : ما بدا منها وهو على ما قلنا أنه أراد أن اقتلوهم.

الثالث : التبين والوصف ؛ قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) [سورة إبراهيم آية : ٢٤] أي : وصف شبها وبينه.

__________________

(١) قال الرازي : ما الحكمة في اختيار ضرب الرقبة على غيرها من الأعضاء نقول فيه : لما بيّن أن المؤمن ليس يدافع إنما هو دافع ، وذلك أن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولا مقتله بل يتدرج ويضرب على غير المقتل ، فإن اندفع فذاك ولا يترقى إلى درجة الإهلاك ، فقال تعالى ليس المقصود إلا دفعهم عن وجه الأرض ، وتطهير الأرض منهم ، وكيف لا والأرض لكم مسجد ، والمشركون نجس ، والمسجد يطهر من النجاسة ، فإذا ينبغي أن يكون قصدكم أولا إلى قتلهم بخلاف دفع الصائل ، والرقبة أظهر المقاتل لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك ، والرقبة ظاهرة في الحرب ففي ضربها حز العنق وهو مستلزم للموت بخلاف سائر المواضع ، ولا سيما في الحرب. [مفاتيح الغيب : ١٤ / ٧٩].

٢٩٥

وقال : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [سورة النحل آية : ٧٤] قالوا : معناه لا تصفوا بصفات غيره ولا تشبهوه بسواه.

وضارب المثل كأنه ينصب شبها لما يريد أن يعرفك إياه فتنظر إليه وهو راجع إلى الإثبات.

ويجوز أن يقال : ضرب المثل أي : جعله يسير فيكون من الضرب في الأرض ، وقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) [سورة النحل آية : ١١٢] أي : وصف له شبها ومثله كثير.

وأما قوله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) [سورة النور آية : ٣١] فإنما أراد إلقاء الثوب على الصدر ليستتر به ، والجيب جيب الدرع ، وكن يلبسن الدروع ، ولدرع جيب مثل جيب الدراعة ، والمرأة فيها مكشوفة الصدر فأمر بستره ؛ وفيه دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة.

٢٩٦

الضر (١)

الضر ضد النفع ، والضر : الهزال وسوء الحال ، وكذلك الضراء ، وقيل : الضر والضر لغتان وليس بالوجه.

وذكر أن الضر أبلغ من الضر ؛ لأنه عدل عن صيغة المصدر للمبالغة وهذا أجود. وأصل الكلمة الدنو ، ومعنى قولهم : ضره ؛ إذا لحق به المكروه ، وإذا لحقه به فقد أدناه منه. وسحاب مضر إذا دنا من الأرض لكثرة مائه ، قال الشاعر :

غواشي مضر تحت ريح ووابل

وسميت الضرة ضرة ؛ لأنها أدنيت من مثلها ، والضرة أصل الضرع لقربها من البدن.

والضر في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الشدة وسوء الحال ؛ قال : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) [سورة يونس آية : ١٢] والفرق بين المس واللمس ؛ أن المس يكون من الحجارة وما بسبيل ذلك ، يقول : مس الحجر الحجر ، واللمس لا يكون إلا لطلب معرفة اللين ، أو الخشونة ، والحرارة ، والبرودة فهو مستعمل في الإنسان.

الثاني : الهول ، قال الله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) [سورة الإسراء آية : ٦٦] يعني : الهول ، ويجوز أن يكون المعنى جميع ما يدخل عليهم من الضرر عند الضلال.

الثالث : النقص ؛ قال الله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) [سورة محمد آية : ٣٢ ، آل عمران : ١٧٦ ـ ١٧٧] أي : لا ينقصونه من ملكه شيئا معاصيهم.

__________________

(١) الضّرّ والضّرّ لغتان ، فاذا جمعت بين الضرّ والنّفع فتحت الضّاد ، وإذا أفردت الضرّ ضممت الضاد إذا لم تجعله مصدرا ، كقولك ضررت ضرّا ، هكذا يستعمله العرب. وقال الله تعالى : " (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ)".

والضّرر : النّقصان يدخل في الشيء ، تقول : دخل عليه ضرر في ماله. ورجل ضرير : بيّن الضّرارة ، وقوم أضرّاء : ذاهبو البصر. ورجل ضرير وامرأة ضريرة : أضرّه المرض ، والضرير : المريض ، والمرأة بالهاء. [العين : ٢ / ١٦].

٢٩٧

وأما الضراء فقد جاءت بمعنى القحط والجدب ، في قوله : (أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) [سورة يونس آية : ٢١] أي : خصبا وسعة بعد قحط وشدة.

والفرق بين الضر والضراء ؛ أن الضراء مضرة تظهر ، ويجوز أن يكون الضر خافيا ، والضراء خرجت مخرج الأحوال الظاهرة ؛ مثل : الحمراء ، والسوداء.

وكذلك الفرق بين النعمة والنعماء ؛ أن النعماء أنعام تظهر أثره ، ويجوز أن تكون النعمة خافية.

٢٩٨

الضلال (١)

أصل الضلال الزوال عن القصد والسير عن غير بصيرة ، وصاحبه بصدد الهلاك ؛ ولهذا قيل : أن الضلال الهلاك.

ثم استعير لمن زال عن سبيل طاعة الله ؛ فقيل للكافر ضال ، وللفاسق مثله ؛ ثم جعل اسما للعقاب على الفسق والكفر ، ويقال : أضللت فرسي وبعيري ، وكل ما زال عنك فذهب.

وضللت الطريق والدار وكل ما لا يترح ، وأضللت فلانا ؛ وجدته ضالا ، ومنه قوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [سورة الجاثية آية : ٢٣].

والإضلال ؛ أيضا الإحباط في قوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [سورة محمد آية : ١]. والإضلال ؛ الصرف عن القصد في قوله : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [سورة طه آية : ٧٩].

وقال بعضهم : الضلال والهلاك من قولهم : ضلت الناقة إذا أهلكت بضياعها ، وضل الكافر إذا هلك بكفره ، وضللنا في الأرض ؛ إذا هلكنا بقطع أوصالنا ، ورجل مضل ؛ منسوب إلى الهلاك بأنه لا يتوجه لخير ، وضل الرجل عن الطريق ؛ إذا هلك عن قصده.

__________________

(١) [ضل] : ضلّ الشّيء يضلّ ضلالا : إذا ضاع. وإذا جار الرّجل عن القصد قيل : ضلّ يضلّ ويضلّ. والتّضلال : مصدر كالتّضليل ؛ لمصدر ضلّلت. وضللت مكاني : إذا لم تهتد إليه. وأضللت بعيري : إذا أفلت فّذهب. والضّالّة من الإبل : التي تبقى بمضيعة لا يعرف لها ربّ ، والجميع الضّوالّ. وكذلك اللّقط. والضّلالة : المصدر. ورجل مضلّل : لا يوفّق لخير صاحب غوايات وأضاليل ، والواحد أضلولة. والضّلضلة : من الضّلال. زهي أيضا : كلّ حجر قدر ما يقلّه الرّجل ؛ أملس ؛ في بطون الأودية. وأرض ضلضلة وضلاضلة : كثيرة الحجارة. والضّلضلة بفتح الضّاد الأولى : الأرض الغليظة. والضّلضل : الحجارة المكسّرة يتضلضل الماء من تحتها أي يذهب. وضلاضل الماء : بقاياه. وإنّه ضلّ أضلال بمعنى الصاد : إذا كان داهيا منكرا. وهو ضلأّ بن ضلّ ويرفعان وضلّ أضلال : إذا لم يعرف أبوه ، وقيل : ميّت بن ميّت ، من قوله تعالى : " (أَإِذا ضَلَلْنا)". و" سلك وادي تضلّل" : إذا تكلّم فأخطأ أو عمل شيئا فلم يصب ، ويقال : تضلّل ، وكأنّه اسم أرض. و" وقع القوم في وادي تضلّل". وضلّ فلان : أي مات وغيّبته الأرض. وأضلّه قابروه : دفنوه. ومنه : ضلّ الماء في اللّبن : أي خفي فيه. [المحيط في اللغة : ٢ / ١٨٩].

٢٩٩

والضلال في القرآن على اثني عشر وجها :

الأول : التسمية والحكم ، وقال تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [سورة إبراهيم آية : ٢٧] يعني : أنه يسميهم ضالين ، كما تقول : جهلته إذا سميته جاهلا.

الثاني : النسيان ؛ قال : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] أي : تنسى ، وإذا ذهب عن الطريق ، قيل : قد ضل وكذا إذا ذهب عن معرفة الشيء.

الثالث : عدم العلم بمبلغ الجرم ؛ قال : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [سورة الشعراء آية : ٢٠] أي : لم أعلم أن وكرتي تبلغ القتل ؛ كأنه قال : فعلتها وأنا ضال عن العلم بها أنها تبلغ القتل ، ومن ذهب عن الشيء يجوز أن يقال : أنه ضل عنه.

وقال الزجاج : (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [سورة الشعراء آية : ٢٠] أي : الجاهلين ، وهذا خطأ لأن اسم الجاهلين لا يطلق على الأنبياء.

الرابع : الخطأ ؛ قال الله : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة يوسف آية : ٨] أي : في خطء بين ، ولو عنوا غير ذلك كفروا ؛ فإن تضليل الأنبياء عليهم‌السلام على الحقيقة كفر ، وحقيقة المعنى أنه ذهب عن الاستواء في تدبير أمر الدنيا ؛ لأنه يفضل من لا غنى له على من له غنى.

الخامس : الكفر ، وهو قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [سورة الفاتحة آية : ٧] يعني : بالضالين النصارى ، والمغضوب عليهم اليهود ، والمعنى غير طريق الذين تريد عقابهم في الآخرة من اليهود والنصارى ، والغضب من الله العقاب.

السادس : الغفلة ؛ قال الله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [سورة الضحى آية : ٧] أي : كنت في غفلة عن النبوة لم تدر أنك تؤتاها ، ودليله قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) [سورة الشورى آية : ٥٢].

وقال بعضهم : (ضَالًّا) أي : في قوم ضلال ؛ كما قال أبو عثمان المازني ؛ لنزوله في بني مازن ، وعمر والغزال ؛ لمقامه بين الغزالين ، وكل من نزل في قوم نسب إليهم ، ومن

٣٠٠