تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الباب الثاني

في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله باء

البوء (١)

باؤوا : أصل البواء الرجوع ، ومبوأ الرجل : منزله الذي يرجع إليه إذا فرغ من أموره ، ثم كثر حتى سمي الإنزال التبوئة ، قال الله تعالى : (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) [سورة يونس آية : ٩٣] ، وقال عمر بن معدي كرب :

كم من أخ لي صالح

بوّأته بيديّ لحدا

ثم كثر حتى سمي التسوية بين الشيئين : بواء ، يقال : هذا بواء لهذا إذا كان مثله ، وفلان بواء بفلان ، إذا قتل به فرضي.

وجاءت هذه الكلمة وما يتصرف منها في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) [سورة البقرة آية : ٩٠] أي : احتملوا وزرا على وزر. وقيل : استوجبوا غضب الله والغضب من الله : العقاب ، وقال : (باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) [سورة آل عمران آية : ١٦٢]

الثاني : الرجوع ، قال الله تعالى : (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [سورة المائدة آية : ٢٩] أي ترجع إلى الله بإثم قتلي ، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك.

__________________

(١) (ب وء) : باء يبوء رجع وباء بحقّه اعترف به وباء بذنبه ثقل به والباءة بالمدّ النّكاح والتّزوّج وقد تطلق الباءة على الجماع نفسه ويقال أيضا الباهة وزان العاهة والباه بالألف مع الهاء وابن قتيبة يجعل هذه الأخيرة تصحيفا وليس كذلك بل حكاها الأزهريّ عن ابن الأنباريّ وبعضهم يقول : الهاء مبدلة من الهمزة يقال فلان حريص على الباءة والباء والباه بالهاء والقصر أي على النّكاح قال يعني ابن الأنباريّ الباه الواحدة والباء الجمع ثمّ حكاها عن ابن الأعرابيّ أيضا ويقال إنّ الباءة هو الموضع الّذي تبوء إليه الإبل ثمّ جعل عبارة عن المنزل ثمّ كني به عن الجماع إمّا لأنّه لا يكون إلّا في الباءة غالبا أو لأنّ الرّجل يتبوّأ من أهله أي يستكنّ كما يتبوّأ من داره وقوله عليه الصّلاة والسّلام «من استطاع منكم الباءة» على حذف مضاف والتّقدير من وجد مؤن النّكاح فليتزوّج ومن لم يستطع أي من لم يجد أهبة فعليه بالصّوم. [المصباح المنير : الباء مع الواو].

١٢١

ويجوز أن يكون المعنى في هذا ، وفي قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) [سورة البقرة آية : ٩٠] واحدا وسمي الحصول في القيامة جوعا إلى الله تعالى ، وحقيقة ذلك الرجوع في الخلقة ، لأنهم يخلقون في القيامة بعد الفناء.

الثالث : التبوء من النزول قال تعالى : (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) [سورة يونس آية : ٩٣] ، وقال : (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) [سورة يوسف آية : ٥٦] ، في" الحشر" : (تَبَوَّؤُا الدَّارَ) [سورة الحشر آية : ٩] ، قالوا : معناه أوطنوا ، وهذا قريب من الأول.

١٢٢

البصر (١)

أصله من الوضوح. ومنه : أبصرته لمحا باصرا ، أي : بصرا واضحا ، وقيل : نظرا صائبا بتحدق. ومن ثم سمي ضرب من الحجارة أبيض رخو بصرة ، لما في البياض من الوضوح. وبه سميت البصرة.

والبصرة : العلم لأن الأشياء تتبين بها وتصح وجوهها عند العالم. وقال : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [سورة الإسراء آية : ١٢] أي : مشرقه واضحة. وقيل : معناه : مبصرا ، أي : مضيئا.

__________________

(١) [بصر] : البصر : العين ـ مذكّر ـ. ونفاذ في القلب. والبصارة : مصدر البصير ، أبصر يبصر ، وأبصرت الشّيء ، وبصرت به وبصرت. وأبصر الطّريق والصّبح والنهار : إذا أبصرته. وتبصرته : أي رمقته.

واستبصر في أمره ودينه : إذا كان ذا بصيرة وتحقيق من أمره. واجعلني بصيرة عليهم : أي شهيدا.

ورأى لمحا باصرا : أي أمرا مفزعا. وإذا فتح الجرو عينه قلت : بصّر تبصيرا. ويقال للفراسة الصّادقة : ذات البصائر وذات البصيرة. والبصر : القطن. والقشر أيضا. والتبصر : العين نفسها في قول أبي زبيد :

كالجمرتين التّبصّر

ويقولون : لقيته بين سمع الأرض وبصرها : أي بارض خلاء ما بها أحد. ويسمّون اللحم : الباصور ، أي أنه جيد للبصر يزيد فيه. والمبصر : الذي يوش بحفظ الثمار. والبصيرة : الدّرع. وبصائر الدّم : طرائقها على الجسد. والبصيرة : ما بين شقّي الباب ، وجمعها بصائر. وهي العبرة ـ أيضا ـ في قوله :

في الذاهبين الأوّلين

من من القرون لنا بصائر

وهي الفراسة أيضا.

والبصر : غلظ الشيء ؛ كبصر الجبل والسّماء. وهو جلد كلّ شيء ، وجمعه أبصار. ويقال : إنه لغليظ البصر : أي جلد الوجه. وهو مغضوب البصر والبصر.

والبصر : أن يضمّ أديم إلى أديمين يخاطان ، يقال : بصرت الأديمين أبصرهما.

وبصره بالسيف : قطعه.

والبصرة : أرض حجارتها جص ، وهي البصرة والبصرة أيضا ، وجمعها بصار. فإذا حذفت الهاء قلت : بصر ـ بالكسر ـ ؛ وبصر : لغة فيه. وأرض بني فلان بصرة : إذا كانت طيبة حمراء. والمبصرات : الأرضون ذات والبصرة. وأرض بصرة : فيها حجارة بيض. وبصرت وأبصرت : أتيت البصرة. والبصرتان : الكوفة والبصرة. والباصور : رحل دون القطع ؛ وهي عيدان تقابل شبيهة بأقتاب البخت.

والباصر : قتب صغير ، ويجمع بواصر. [المحيط في اللغة : بصر].

١٢٣

وقيل إذا صار الناس يبصرون فيه ، فهو مبصر ، كقولك : رجل مخبث ، إذا كان أهله خبثاء ، ورجل مضعف : دوابه ضعاف ، والنهار مبصر : أهله بصراء. ومبصر فيه أجود. وهو كقولهم : أحمق الرجل ، إذا جاء بأولاد حمقى ، وأصرم النخل ، إذا أذن بالصرام وألبن الرجل صار ذا لبن.

ويجوز أن يكون أصل الكلمة من الصلابة وبصر الشيء : حيث يغلظ ، تقول : هذا بصر الجبل والحائط ، وبصر السماء ؛ لأنه أقرب ما يبصر منها وهو أغلظها في رأى العين. وبصائر الدم : طرائقه على الجسد.

والبصر في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : البصر بالقلب ، قال الله : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) [سورة يونس آية : ٤٣] يعني : عمى القلب وبصر القلب.

ونحوه قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) [سورة غافر آية : ٥٨] ، يعني : المؤمن الذي يعلم والكافر الذي لا يعلم ، ويجوز أن يكون بصر العين وعماها ، ويكون المراد التنبيه على المنفعة بالإيمان ، لأنه مشبه بالبصر ، والمضرة بالكفر ، لأنه مشبه بالعمى.

الثاني : بصر العين ، قال : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [سورة الإنسان آية : ٢]. وقال : (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) [سورة يوسف آية : ٩٠].

الثالث : البصر بالحجة ، وهو راجع إلى الوجه الأول ، قال تعالى : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [سورة طه آية : ١٢٥]. جاء في التفسير أنه أراد : لم جعلتني أعمى عن الحجة ، وكنت في الدنيا بصيرا بها ، ويجوز أن يكون من بصر العين ، وأن الله يحشره أعمى العين ليجعله نكالا لمن خلفه.

١٢٤

الباء

هي لإلصاق الشيء بالشيء وخلطه به ، فإذا قلت : مررت بزيد ، فقد أضفت المرور إلى زيد ، وألصقته به. وجائز أن يكون معه استعانة كقوله : كتب بالقلم.

وتزاد في خبر المنفي توكيدا وتثبيتا ، كقولك : ليس زيد بقائم. وجاءت زيادة في قولك : حسبك بزيد. هذا قول الفراء ومن يقول بقوله.

وعندنا أنها دخلت على معنى قولك : اكتف بزيد ، لأن معنى قولك : حسبك هذا ، أي : اكتف به ، وأحسبني الشيء : كفاني. وسنتكلم في ذلك.

قالوا : وهو في القرآن على الوجهين :

الإلصاق ، والزيادة في قول الفراء.

وعلى تقدير الإلصاق كقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [سورة الفلق آية : ١] ، كأنك ألصقت الاستعانة به ، وقوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [سورة البقرة آية : ٤] ، كأن إيقافهم التصق بالآخرة. ومثله كثير.

وأما الزيادة على قول من يقول بذلك ، فقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [سورة النساء آية : ٧٩] ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [سورة الحج آية : ٢٥] ، قال : المعنى : ومن يرد فيه إلحادا ، وقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [سورة المؤمنون آية : ٢٠] معناه : تنبت الدهن.

والصحيح أن ذلك لمعان ، وليس بزيادة. فأما قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) فمعناه : اكتف بالله شهيدا ، وكذلك : حسبك بزيد ، أي : اكتف بزيد ؛ لأن حسبك بمعنى يكفيك فالباء تدخل في هذا على التقدير. وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) فإنما تحمل هذا على مصدره ، والمراد : من كانت إرادته واقعة بالإلحاد ، فدخلت الباء للمصدر. وكذلك : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) معناه : تنبت نبتها بالدهن ، وقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) [سورة الزمر آية : ١٢] أي : وقع الأمر لأن أكون.

١٢٥

وقال سيبويه : بحسبك زيد. ومعنا ـ على ما ذكرنا ـ أي : اكتف بزيد ، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) : إنما تنبت ما يكون منه الدهن ، وهو ثمرها ، والتقدير : تنبت ثمرها بالدهن ، أي : ومعه الدهن.

ومعنى الباء هناك كمعناه في قولك : أذهبته ، إذا حملته على أن يذهب به. ويجوز أن يجعل أنبت هاهنا بمعنى نبت على ما يقوله أهل اللغة ، كما قال زهير

حتّى إذا أنبت البقل

وأنبت ونبت عندنا لغتان فصيحتان.

١٢٦

البأس (١)

أصله : الشدة. وفي القرآن : عذابا بئيسا ، أي : شديدا.

وأكثر ما جاء عن العرب : البأس في الحرب ، والبؤس : الشدة في المعيشة. وكذلك البأساء.

وفي القرآن : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) [سورة البقرة آية : ٢١٤] ذكرهما للتوكيد ، وهما واحد ، كما قال : العدل والإحسان. هذا قول.

وأجود منه أن يقال : البأساء : الشدة في الحرب ، والضراء : الشدة في المعيشة ، والعدل : الإنصاف في الحكم والإحسان في ذلك ، وفي غيره من الأفعال الحسنة.

وقوله تعالى : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة هود آية : ٣٦ ، وسورة يوسف آية : ٦٩] أي : لا تغتم. والابتئاس : حزن في استكانة.

والبأس في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : العذاب ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [سورة المؤمن آية : ٨٤] أي : عذابنا ، وقال : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) [سورة الأنبياء آية : ١٢] وقال : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) [سورة غافر آية : ٢٩].

الثاني : الحرب ، قال الله في البقرة : (وَحِينَ الْبَأْسِ) [سورة البقرة آية : ١٧٧] يعني : الحرب.

__________________

(١) [بأس] : البأس : الحرب ، رجل بئيس ؛ قد بؤس بآسة : وهو الشّجاع. والبأساء : اسم للحرب ، والمشقّة ، والفقر. [المحيط في اللغة : بأس].

الفرق بين البأس والخوف : أن البأس يجري على العدة من السلاح وغيرها ونحوه قوله تعالى"(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)" ويستعمل في موضع الخوف مجازا فيقال لا بأس عليك ولا بأس في هذا الفعل أي لا كراهة فيه [الفروق اللغوية : ١ / ٨٩].

١٢٧

الثالث : السطوة والنكاية ، قال تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة النساء آية : ٨٤]. وقوله : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) [سورة النمل آية : ٣٣] أي : أولو سطوة ونكاية في العدو.

١٢٨

البطلان (١)

أصله من الذهاب. وسمي الباطل باطلا ؛ لأنه لا ثبات له مع الحق ، على حسب قوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [سورة الإسراء آية : ٨١]. ورجل بطل : شجاع ، لأنه إذا قاوم قرنا لم يقم له القرن. والبطل والباطل سواء.

وهذا الحرف وما يتشعب منه في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : الكذب ، قال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [سورة فصلت آية : ٤٢] يعني : الكذب ، إذا لم يكن قبله كتاب يشهد بتكذيبه ، ولا يجيء بعده كتاب يكذبه. ويجوز أن يكون معناه : إن الله يحفظه من أن ينقض ، فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. وعلى هذا تأويل قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [سورة الحجر آية : ٩].

الثاني : الإحباط ، قال : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٦٤] [أي : لا تحبطوها] بالمن والأذى وقال : (لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [سورة محمد آية : ٣٣]

والثالث : خلاف الحق ، قال الله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [سورة العنكبوت آية : ٨١] وقيل : يعني : به هاهنا الشرك. فإذا جعلته خلاف الحق كان أعم.

والمراد على القول الأول أن الإسلام قد جاء فهلك الكفر وذهب. والزهوق والزهق : الهلاك ، : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [سورة الإسراء آية : ٨١] أي : من شأن الباطل إذا جاء الحق أن يذهب ويبطل ولا يثبت ، وذلك من شأنه في ما تقدم ، فكان هنا يفيد ما قلناه.

__________________

(١) [بطل] : بطل الشّيء يبطل بطلأ ، أي : ذهب باطلا.

والباطل : نقيض الحقّ ، قال النّابغة :

لعمري ، وما عمري عليّ بهيّن

لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع

وأبطلته : جعلته باطلا. وأبطلت : جئت بكذب ، وادّعيت غير الحقّ.

والتّبطّل : فعل البطالة ، وهو اتّباع اللهو والجهالة. [العين : بطل].

١٢٩

الرابع : ما يعبد من دون الله ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ) [سورة العنكبوت آية : ٥٢]. وقال : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) [سورة النحل آية : ٧٢] وسماء باطلا ، لأنه لا حجة لأهله يثبتون عبادتهم إياه بها.

والخامس : الظلم ، قال : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) [سورة البقرة آية : ١٨٨] أي : بالظلم. وبطلان الشيء : ذهابه ، فسمي الظلم باطلا ، لأن الله حكم فيه بأن يبطل ولا يثبت.

والمعنى على ما قال الحسن : هو أن يكون للرجل على صاحبه حق فإذا طالبه دعاه إلى الحاكم ، فيحلف له ، ويبطل حقه ، والحاكم يحكم على الظاهر. وأصل الإدلاء : إلقاء الدلو في البئر. ويقال : أدليت الدلو ، إذ أنزلتها في البئر ، وفي القرآن : (فَأَدْلى دَلْوَهُ) [سورة يوسف آية : ١٩] ثم صار كل إلقاء إدلاء ، يقال : أدلى فلان حجته ، إذا أرسلها على صحة ، ودلوت الدلو ، إذا أخرجتها من البئر ، ومنه دلى فلان إلى فلان ، إذا توسل به ، قال الشاعر :

فقد جعلت إذا ما حاجة عرضت

بباب دارك أدلوها بأقوام

١٣٠

البر (١)

أصله : السعة. ومنه : البر ، خلاف البحر. ثم استعمل في الزيادة ، فقيل : أبر فلان على فلان ، إذا زاد عليه. والجواد المبر : السابق لكل ما سابقه ، كأنه اتسع لما يتسع له غيره.

وقيل : رجل بار وبر. وفعل بمعنى فاعل معروف. مثل رجل سمح ، ويوم قر ونحوه : رجل ندب ، أي : منتدب للأمور. ثم استعمل في القبول ، فقيل : بر حجك ، أي : قبل ، وصدقت وبررت تأكيد للصدق.

وهو في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : الصلة ، قال تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) [سورة البقرة آية : ٢٢٤] يعني أن تصلوا القرابة. وقيل : معنى : (أَنْ تَبَرُّوا) أن لا تبروا. وقيل : لا يجوز أن يكون حذف لا وإثباتها سواء في شيء في الكلام.

وإنما المعنى أنه نهاهم عن كثرة الإيمان ، وعن الجرأة على الله ، ليكونوا بررة أتقياء ، والمعنى : لأن تبروا. وكانوا ربما حلفوا ألا يبروا أقرباءهم ، ولا يتكلموا في صلح لأمر معرض لهم. فالذي تشتمل عليه الآية أمران :

أحدهما : النهي عن أن يجعل يمينه مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس ، فإذا طلب منه ذلك قال : قد حلفت ، والذي ينبغي في هذا أن يفعل ما حلف عليه ، ويكفر عن يمينه.

__________________

(١) [بر] : البرّ : خلاف البحر. وإنّه لمبحر مبرّ. وأبرّ وأبحر : ركب البرّ والبحر. والبرّيّة : الصّحراء.

وخرجت برّا : وهو ضدّ الكنّ.

ويقولون : " من أصلح جوّانيّه أصلح الله برّانيّه" أي من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.

والبرّ : البارّ بذوي قرابته ، وقوم بررة وأبرار ، والمصدر : البرّ.

وصدقت وبررت ، وبرّت يمينه ، وأبرّها الله : أي أمضاها على الصّدق. وبرّ حجّك فهو مبرور. وهو يبرّ ربّه : أي يطيعه.

والبرّ : الحجّ ؛ في قوله : عليهنّ شعث عامدون لبرّهم

وبرّة : اسم للبرّ معرفة. [المحيط في اللغة : ٢ / ٤٢٨].

١٣١

وثانيهما : كثرة الأيمان ، وهو ضرب من الجرأة على الله ، وابتذال لاسمه في كل حق وباطل ، وتقول : هذا الشيء عرضتي ، إذا كنت لا تزال معرض له ، وهو عرضة للناس ، إذا كانوا لا يزالون يقعون فيه ، والناقة عرضة أسفار ؛ إذا كان صاحبها لا يزال يسافر عليها ، وقال حسان :

هم الأنظار عرضتها اللّقاء

وقال الله في الممتحنة : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) [سورة الممتحنة آية : ٨].

الثاني : بمعنى الطاعة ؛ قال الله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [سورة المائدة آية : ٢] ، أي : على طاعة الله ، ومثله : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) [سورة المجادلة آية : ٩] ، أي : بالطاعة دون المعصية ، وقال : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) [سورة مريم آية : ٣٢] ، أي : مطيعا لها ، وقال : (كِرامٍ بَرَرَةٍ) [سورة عبس آية : ١٦] ، أي : مطيعون ، وقال : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) [سورة المطففين آية : ١٨] ، أي : المطيعين ، كذا جاء في التفسير ، وهو وجه ، ولو جعلت ذلك بمعنى الصلة واللطف.

الثالث : بمعنى الثواب ، قال الله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [سورة آل عمران آية : ٩٢] ، يعني : الثواب.

الرابع : التقوى ، قال : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [سورة البقرة آية : ١٧٧] ، يعني : التقوى ، وأراد توكيد ما احتج به على سفهاء أهل الكتاب في إنكارهم على المسلمين توجههم إلى الكعبة بعد توجههم إلى بيت المقدس ، فقال : ليس البر كله في التوجه إلى المشرق والمغرب في الصلاة : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [سورة البقرة آية : ١٧٧] ، أي : البر بر من آمن بالله ، وهو التقوى ، هكذا جاء في التفسير.

وليس ببعيد أن يكون البر هاهنا بمعنى الطاعة ، ويسمى الطاعة برا في قولهم : هذا من أعمال البر ، أي : مما يطاع الله به ، وحذف لبر الثاني لبيان المعنى ، كما قال الشاعر :

وكيف تخالل من أصبحت

خلالته كأبي مرجب

أي كخلال أبي مرجب.

١٣٢

وهكذا في قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) [سورة البقرة آية : ١٨٩] ، أي : ولكن البر بر من اتقى.

وأول الآية : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [سورة البقرة آية : ١٨٩] ، وهو مثل ضربه الله للمشركين في تأخيرهم أشهر الحرم فأخبر الله أن ذلك عكس البر ، كما أن من أتى البيت من ظهوره ؛ فقد عكس أمر الدخول.

وقيل : إن قوما من قريش وثقيف وخزاعة وطائفة من عامر بن صعصعة ؛ كانوا إذا حرموا لا يأقطون الأقط ، ولا يأكلون السمن ، ولا يدخلون البيوت من أبوابها ؛ ولكن من ظهورها وأدبارها ، وظهورها : سطوحها ، فسموا حماه ، والأحمى : المتشدد في دينه ، فأخبر الله أن ذلك ليس من البر ، وأن البر بر من اتقى معاصي الله.

١٣٣

البرهان (١)

قال علي بن عيسى ـ رحمه‌الله ـ البرهان : شاهد صدق في نفسه وشهادته.

والبرهان : حق في نفسه وشهادته.

والبرهان : بيان صدق يظهر به صحة أمر.

والبرهان : ما ثبت المعنى في النفس على ثقة به ، وذلك بالبيان الذي فيه.

والبرهان : ما فصل الحق من الباطل ، وميز الصحيح من الفاسد بالبيان الذي فيه.

والبرهان : ما أوجب الثقة وأزال التهمة بالبيان الذي فيه.

والبرهان : ما أوصل النفس إلى إدراك الحق بالبيان الذي فيه ؛ فكأن البرهان آلة بها يتم إدراك النفس للحق.

وقيل : جاء البرهان بمعنى الدليل والدلالة.

والفرق بين الدلالة والبرهان أن الدلالة : ما أحضر المعنى النفس ، والبرهان : ما ثبت المعنى في النفس بالبيان الذي فيه ؛ فكأن الدلالة آلة الإحضار ، والبرهان آلة لتثبيته في النفس

__________________

(١) قال الجرجاني : البرهان : هو القياس المؤلف من اليقينيات ، سواء كانت ابتداء ، وهي الضروريات أو بواسطة ، وهي النظريات. والحد الأوسط فيه لا بد أن يكون علّة لنسبة الأكبر إلى الأصغر ، فإن كان مع ذلك علة لوجود تلك النسبة في الخارج أيضا ، فهو برهان لمّي ، كقولنا : هذا متعفن الأخلاط ، وكل متعفّن الأخلاط محموم ، فهذا محموم ، فتعفن الأخلاط ، كما أنه علة لثبوت الحمى في الذهن ، كذلك علة لثبوت الحمى في الخارج ، وإن لم يكن كذلك كان لا يكون علة للنسبة إلا في الذهن ، فهو برهان إنّي ، كقولنا : هذا محموم ، متعفن الأخلاط ، فهذا متعفن الأخلاط ، فالحمى ، وإن كانت علة لثبوت تعفن الأخلاط في الذهن ، إلا أنها ليست علة له في الخارج ، بل الأمر بالعكس.

وقد يقال على الاستدلال من العلة إلى المعلول : برهان لمّي ، ومن المعلول إلى العلة : برهان إنّي.

البرهان التطبيقي : هو أن تفرض من المعلول الأخير إلى غير النهاية جملة ، ومما قبله ، بواحد مثلا ، إلى غير النهاية ، جملة أخرى ، ثم تطبق الجملتين ، بأن تجعل الأول من الجملة الأولى بإزاء الأول من الجملة الثانية ، والثاني بالثاني ، وهلم جرّا ، فإن كان بإزاء كل واحد من الأولى واحد من الثانية ، كان الناقص كالزائد ، وهو محال ، وإن لم يكن فقد يوجد في الأولى ما لا يوجد في إزائه شيء في الثانية ، فتنقطع الثانية وتتناهى ، ويلزم منه تناهي الأولى ، لأنها لا تزيد على الثانية بقدر متناه ، والزائد على المتناهي بقدر متناه يكون متناهيا بالضرورة. [التعريفات : البرهان].

١٣٤

على جهة الثقة به ، وكل برهان ففيه معنى الدلالة ، وليس كل دلالة فيها معنى البرهان ، ألا ترى أن الاسم دلالة على معناه ؛ وليس ببرهان على معناه ، وكذلك هداية الطريق دلالة عليه وليس ببرهان عليه ، وسمعت من يقول إنه فارس معرب ، ولا أعرف ما صحة ذلك.

ويجوز أن يكون أصله من البرهة ، وهي القطعة من الدهر ، كأن البرهان قطعة من القول ، أو هو قطع بين الحق والباطل وفصل ، كما أن البرهة فصل بين الزمانين ، والنون فيه زائدة ، كما زيدت في" السلطان" ؛ وهو من السليط.

وهو في القرآن على وجهين :

الأول : الحجة ، قال الله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة آية : ١١١] ، أي : حجتكم بأن معه آلهة ، وفي النمل : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة النمل آية : ٦٤].

الثاني : الآية ، قال الله تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) [سورة القصص آية : ٣٢] ، أي : آيتان ، وقال : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [سورة يوسف آية : ٢٤] ، يعني آية من آيات ربه.

١٣٥

البعل (١)

أصله من القيام بالأمر ، ومن ثم قيل للنخلة التي تستغني بماء السماء عن سقي العيون : بعل. وقد استبعل النخل : صار بعلا.

وهو في القرآن على وجهين :

أحدهما : الزوج (٢) ، قال : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [سورة هود آية : ٧٢] ، والزوجة : بعلة ، ولا يقال : هو بعلها حتى يدخل بها ، وهو زوجها على كل حال. وكذلك القول

__________________

(١) [بعل] : البعل : الزّوج. يقال : بعل يبعل بعلا وبعولة فهو بعل مستبعل ، وامرأة مستبعل ، إذا كانت تحظى عند زوجها ، والرّجل يتعرّس لامرأته يطلب الحظوة عندها. والمرأة تتبعّل لزوجها إذا كانت مطيعة له.

والبعل : أرض مرتفعة لا يصيبها مطر إلّا مرّة في السّنة. قال سلامة بن جندل :

إذا ما علونا ظهر بعل عريضة

تخال علينا قيض بيض مفلّق

ويقال : البعل من الأرض التي لا يبلغها الماء إن سيق إليها لارتفاعها.

ورجل بعل ، وقد بعل يبعل بعلا إذا كان يصير عند الحرب كالمبهوت من الفرق والدّهش. قال أعشى همدان :

فجاهد في فرسانه ورجاله

وناهض لم يبعل ولم يتهيّب

وامرأة بعلة : لا تحسن لبس الثّياب.

والبعل من النّخل : ما شرب بعروقه من غير سقي سماء ولا غيرها. قال عبد الله بن رواحة :

هنالك لا أبالي سقيّ نخل

ولا بعل وإن عظم الإتاء

الإتاء : الثّمرة. والبعل : الذّكر من النّخل ، والنّاس يسمّونه : الفّحل. قال النّابغة :

من الواردات الماء بالقاع تستقي

بأذنابها قبل استقاء الحناجر

أراد بأذنابها : العروق.

والبعل : صنم كان لقوم إلياس. قال الله عزوجل : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً).

والتّباعل والمباعلة والبعال : ملاعبة الرّجل أهله ، تقول : باعلها مباعلة ، وفي الحديث : أيّام شرب وبعال.

[العين : بعل].

(٢) الفرق بين البعل والزوج : أن الرجل لا يكون بعلا للمرأة حتى يدخل بها وذلك أن البعال النكاح والملاعبة ومنه قوله عليه‌السلام" أيام أكل وشرب وبعال" وقال الشاعر :

وكم من حصان ذات بعل تركتها

إذا الليل أدجى لم تجد من تباعله

وأصل الكلمة القيام بالامر ومنه يقال للنخل إذا شرب بعروقه ولم يحتج إلى سقي بعل كأنه يقوم بمصالح نفسه. [الفروق اللغوية : ١ / ١٠٤].

١٣٦

فيها ، والشاهد قولهم : باعلها ، أي : جامعها ، وفي الحديث : " أيام أكل وشرب وبعال" (١) ، أي : جماع.

والآخر : بمعنى الرب ، قال : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) [سورة الصافات آية : ١٢٥] ، أي : ربا غير الله.

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث نبيشة بن عبد الله وكعب بن مالك (١١٤٤) ، من غير كلمة" بعال" ، وأخرجه الترمذي من حديث عقبة بن عامر (٧٧٣) ، وأخرجه أبو داود من حديث عقبة (٢٤١٩) ، وأخرجه الدارقطني بلفظه في السنن من حديث عبد الله بن حذافة (٢٣٨٢) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أم عمرو بن سليم (٢٤٢٠).

١٣٧

بل

أصلها في العربية : الإضراب عن الاول ، وإثبات الثاني ، تقول : لقيت زيدا بل عمرا فتركت الأول ، وأخذت تذكر شيئا آخر ، غلطت في الأول ، أو بدا لك فيه ، فتداركت كلامك ب" بل" فجعلت الأمر للثاني ، وأخرجت الأول مما دخل فيه الثاني.

ثم جاء في القرآن لغير الغلط والاستدراك والبداء ، ولكن لترك قصة إلى أخرى ، كأنه قال : دع هذا مع تمام فائدته إلى فائدة أخرى ، ومثل هذا يكون منا أيضا ، يقول أحدنا : جاءني الحاجب بل الأمير ، أي : دع مجيء الحاجب مع أفدتك به ، فالأمير هذا أمره.

وينقسم في القرآن على وجهين :

أحدهما : قوله تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) [سورة الأنبياء آية : ٥] ، كأنه قال : دع ما تقدم ذكره من أمرهم ، وخذ في أنهم قالوا : إن القرآن أضغاث أحلام ، وأضغاث الأحلام : مختلطاتها التي لا تأويل لها ، ثم حكى عنهم فقال تعالى : (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) [سورة الأنبياء آية : ٥] ، والمراد أنه اختلط عليهم أمرهم ، فكذبوا أنفسهم ، وخرجوا من شيء إلى شيء ، وهذا على سبيل الإضراب عن الأول وإثبات الثاني.

ومثل الوجه الأول قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)(١) [سورة النمل آية : ٦٦] ، ف : (ادَّارَكَ) لفظ ماض ومعناه الاستقبال ، أي : بل يتكامل علمهم في الآخرة إذا حصلوا فيها ، ويوقنون أن ما وعدوا منها في الدنيا حق.

__________________

(١) قال الطبري : قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر وعامة قرّاء أهل الكوفة : (بَلِ ادَّارَكَ) بكسر اللام من" بل" وتشديد الدال من" ادراك" ، بمعنى : بل تدارك علمهم أي تتابع علمهم بالآخرة هل هي كائنة أم لا ثم أدغمت التاء في الدال كما قيل : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ).

وقرأته عامة قرّاء أهل مكة : " بل أدرك علمهم في الآخرة" بسكون الدال وفتح الألف ، بمعنى هل أدرك علمهم علم الآخرة. وكان أبو عمرو بن العلاء ينكر فيما ذكر عنه قراءة من قرأ : " بل أدرك" ويقول : إن" بل" إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار. ومعنى الكلام : إذا قرئ كذلك" بل أدرك" لم يكن ذلك لم يدرك علمهم في الآخرة ، وبالاستفهام قرأ ذلك ابن محيصن على الوجه الذي ذكرت أن أبا عمرو أنكره.

وينحو الذي ذكرت عن المكيين أنهم قرءوه ، ذكر عن مجاهد أنه قرأه ، غير أنه كان يقرأ في موضع بل : أم.

١٣٨

وأصل : ادارك : تدارك كأنه قال : قد يدرك بعض علمهم بعضا في الآخرة حتى يتكامل ، ثم قال : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) [سورة النمل آية : ٦٦] ، وهذا إخبار عن الدنيا ، كأنه قال : دع ما تقدم ذكره من تكامل علمهم في الآخرة بأن ما وعدوا منها حق مع ما أفدتك بذلك ، وخذ في أنهم في الدنيا شاكون في البعث ، ثم قال : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [سورة النمل آية : ٦٦] ، أي : دع ما تقدم من ذكر شكهم ، وخذ في أنهم عمون عنه ، أي : جاهلون ، والشاك في الشيء بمنزلة الجاهل به ، وقوله : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [سورة النمل آية : ٦٦] ، توكيد لقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) [سورة النمل آية : ٦٦] ، وهذا كقولك : فلان جاهل بكذا ، بل هو أعمى عنه ، تريد توكيد ما وصفته به من الجهل.

وأما" بلى" فليس من" بل" في شيء ، و" بلى" لا يكون إلا جوابا لما كان فيه حرف جحد ، كقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [سورة الأعراف آية : ١٧٢] ، وقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [سورة الأنعام آية : ١٣٠ ، الزمر : ٧١] ، ثم قال في الجواب : (قالُوا بَلى) [سورة الأعراف آية : ١٧٢] ، وهو مخالف لنعم لأن نعم لا يكون إلا جوابا للاستفهام بلا جحد ؛ كقوله تعالى : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) [سورة الأعراف آية : ٤٤] ، وكذلك جواب الخبر ، إذا قال : فعلت ذلك ، قلت : نعم لعمري قد فعلته.

__________________

وقال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على قراءة من قرأ" بل أدرك" القول الذي ذكرناه عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، وهو أن معناه : إذا قرئ كذلك (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) بل أدرك علمهم نفس وقت ذلك في الآخرة حين يبعثون ، فلا ينفعهم علمهم به حينئذ ، فأما في الدنيا فإنهم منها في شكّ ، بل هم منها عمون.

وإنما قلت : هذا القول أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، على القراءة التي ذكرت ؛ لأن ذلك أظهر معانيه. وإذ كان ذلك معناه ، كان في الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ظهر منه عنه ، وذلك أن معنى الكلام : وما يشعرون أيان يبعثون ، بل يشعرون ذلك في الآخرة ، فالكلام إذا كان ذلك معناه ، وما يشعرون أيان يبعثون ، بل أدرك علمهم بذلك في الآخرة ، بل هم في الدنيا في شك منها. وأما على قراءة من قرأه (بَلِ ادَّارَكَ) بكسر اللام وتشديد الدال ، فالقول الذي ذكرنا عن مجاهد ، وهو أن يكون معنى بل : أم ، والعرب تضع أم موضع بل ، وموضع بل : أم ، إذا كان في أول الكلام استفهام. [جامع البيان : ١٩ / ٤٨٨ ـ ٤٨٩].

١٣٩

وقال الفراء : وإنما امتنعوا أن يقولوا في جواب الجحود نعم لأنه إذا قال الرجل لصاحبه : أمالك علي شيء ؛ فلو قال الآخر : نعم ، كان كأنه صدقه ، كأنه قال : نعم ليس لي عليك شيء ، فإذا قال : بلى ؛ فإنما هو رد لكلام صاحبه ، أي : بلى لي عليك شيء. فلذلك اختلف نعم وبلى.

١٤٠