تصحيح الوجوه والنضائر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

تصحيح الوجوه والنضائر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-341-1
الصفحات: ٥٣٢

الثالث : الإذن ؛ قال تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة هود آية : ١٤] أي : بإذن الله ، وسمي الإذن علما ؛ لأن أصل الإذن العلم ، ومنه الآذان ؛ وقد ذكرنا ذلك ، وقيل : معناه أنزله وهو عالم به.

٣٤١

العز

أصل العز الغلبة ، ومنه قيل : من عزيز. أي : من غلب اغتصب ، ثم استعمل في المنعة ، فقيل : فلان عزيز الجانب ؛ أي : منيعه ، وقال الهزلي :

حتّى انتهيت إلى فراش عزيزة

سوداء روثة أنفها كالمخصف

ومن الغلبة ؛ قوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [سورة ص آية : ٢٣] أي : غالبني ، وسمي الله عزيزا لأنه الغالب الذي لا يقهر ، وفي مثل : إنما تعز من ترى وتعزك من لا ترى ، والعزيز أيضا القليل ، يقال : هذا شيء عزيز ؛ أي : قليل ، وإنما سمي القليل عزيزا ؛ لأنه لا يقدر عليه ، شبهه بالعزيز من الرجال ، ليس أن العز في العربية القلة.

وهو في القرآن على سبعة أوجه :

الأول : المنعة ؛ قال تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) [سورة النساء آية : ١٣٩].

الثاني : العظمة ؛ قال الله : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) [سورة الشعراء آية : ٤٤] أي : بعظمته.

الثالث : خلاف الذل ؛ قال : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) [سورة النمل آية : ٣٤] ، وقوله : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [سورة المنافقون آية : ٨] ، وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [سورة الدخان آية : ٤٩] ومعنى ذلك يرجع إلى العظمة.

الرابع : الحمية ؛ قال الله : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ)(١) [سورة البقرة آية : ٢٠٦] أي : إذا أمرته بالتقوى أخذته الحمية من الائتمار لك فأثم ، ومثله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ)

__________________

(١) قال الشوكاني : العزة : القوّة والغلبة ، من عزّه يعزّه : إذا غلبه ، ومنه : وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص : ٢٣] وقيل : العزة هنا : الحمية ، ومنه قول الشاعر :

أخذته عزّة من جهله

فتولىّ مغضبا فعل الضّجر

وقيل : العزة هنا : المنعة وشدّة النفس. ومعنى : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) حملته العزة على الإثم ، من قولك أخذته بكذا : إذا حملته عليه ، وألزمته إياه. وقيل : أخذته العزة بما يؤثمه ، أي : ارتكب الكفر للعزة ، ومنه : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ)[ص : ٢] وقيل : الباء في قوله : (بِالْإِثْمِ) بمعنى اللام ،

٣٤٢

وَشِقاقٍ) [سورة ص آية : ٢] أي : في حمية يشاقونك معها ؛ أي : يباعدونك ، وقيل : المعنى أخذته العزة بالإثم الذي في قلبه ؛ فأقام الباء مقام اللام ، كما قال غيره :

حشر الإمالة جوانب قمقم

أي : من أجله ؛ فأقام حرفا مقام حرف.

الخامس : الغلظة ؛ قال الله : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة المائدة آية : ٥٤] أي : غلظا.

السادس : العزيز بمعنى الشديد ؛ قال الله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [سورة التوبة آية : ١٢٨] ، وقوله : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [سورة إبراهيم آية : ٢٠ ، فاطر : ١٧] أي : شديد يشق فعله عليه.

السابع : التقوية ؛ قال : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [سورة يس آية : ١٤] أي : قوينا ، واستعز الشيء إذا قوي واشتد.

__________________

ـ أي : أخذته العزّة ، والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه ، وهو : النفاق ، وقيل : الباء بمعنى : مع ، أي : أخذته العزّة مع الإثم. [فتح القدير : ١ / ٢٧٨].

٣٤٣

العبادة (١)

أصل العبادة التذلل ، يقال : طريق معبد ؛ أي : موطوء مذلل ، ويعبر معبد وهو المهنوء بالقطران ، ومعناه راجع إلى الأول.

والعبادة مفارقة لدوام الطاعة ؛ لأنا نديم الطاعة للرسول ولسنا نعبده ، والعبادة غاية الخضوع ولا تستحق إلا بغاية الإنعام ، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى ، ويقال : هؤلاء عباد الله ، ولا يقال : عباد فلان إلا في القليل.

وقد جاء في القرآن : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [سورة النور آية : ٣٢] وإنما جاء كذلك لأنه وقع مع إمائكم فازدوج ، ويقال : عبيد الله ، وعباد الله أكثر ، وقال بعضهم : العباد جمع عبيد.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : التوحيد ؛ قال الله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [سورة البقرة آية : ٢١] أي : وحدوه ، وقوله : (اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [سورة النساء آية : ٣٦] ، وقوله : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) [سورة العنكبوت آية : ١٦ ، نوح : ٣] كذا قيل ، ويجوز أن تكون العبادة هاهنا أداء الفرائض واجتناب المحارم.

الثاني : الطاعة ؛ قال الله : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سورة سبأ آية : ٤١] أي : يطيعون الشياطين ، وقال : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [سورة يس آية : ٦٠] وهم لم يعبدوا الشيطان ، وإنما هو كما نقول : فلان يعبد فلانا إذا كان شديد الطاعة له ، وما كان أيضا قصدهم طاعته ؛ ولكن لما وافق أفعالهم رضاه سماها طاعة له ؛ لأن الطاعة توفيق رضا المطاع.

__________________

(١) (ع ب د) : عبدت الله أعبده عبادة وهي الانقياد والخضوع والفاعل عابد والجمع عبّاد وعبدة مثل كافر وكفّار وكفرة ثمّ استعمل فيمن اتّخذ إلها غير الله وتقرّب إليه فقيل عابد الوثن والشّمس وغير ذلك وعبّاد بلفظ اسم الفاعل للمبالغة اسم رجل ومنه. [المصباح المنير : العين مع الباء].

٣٤٤

الثالث : السجود للأصنام وهي وإن سمتها العرب عبادة فليست بعبادة ، وهي على حسب ما سمت العرب ربا وإلها وليس هو على الحقيقة ، وقال : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [سورة القصص آية : ٣٦] ، وقال : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سورة سبأ آية : ٤٠] فإن قيل : ما معنى قوله : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) وليس في الآخرة كذب ، قلنا : معناه إنا لم نكن نستحق العبادة ؛ فلم تكن عبادتهم على الحقيقة عبادة لنا ، كما تقول : لصاحبك ليس هذا القول قولك ، وإن كان قاله بمعنى أنه لا يليق بك ، وبمعنى أنك دون ما يقوله أيضا ، وقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [سورة الحجر آية : ٤٢ ، الإسراء : ٦٥] أضافهم إلى الله ، إضافة الخصوصية ، لأن الخلق كلهم عباده.

والإضافة على خمسة أوجه :

إضافة الخصوصية ؛ وهي مثل هذا ، ومثل قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [سورة الجن آية : ١٨].

وإضافة النسب ؛ وهي قولك : ابن فلان ، وبنت فلان.

وإضافة السبب ؛ وهو قوله : فلان شريك فلان وصديقه.

وإضافة التعريف ؛ وهو سرج الدابة ، ولجام الفرس ، وقميص الرجل.

وإضافة الملك ؛ مثل : دار زيد ، وصنعة عمرو.

٣٤٥

العدوان

قد ذكر أصل هذا الحرف ، وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى العذاب ؛ قال الله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)(١) [سورة البقرة آية : ١٩٣] أي : من انتهى منهم عن الكفر فلا عذاب عليه ؛ وإنما هو على من ظلم نفسه بإقامته على الكفر ، وسمي العذاب عدوانا لأنه مقابلة بالعدوان ، كما قال الشاعر :

جزينا ذوي العدوان بالأمس مثله

قصاصا سواء جزوك النّعل بالنعل

ويجوز أن يكون سمي عذاب الآخرة عدوانا لمجاوزته حد العذاب المعهود.

الثاني : الظلم ؛ قال الله : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة آية : ٢] ، وقال : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة البقرة آية : ٨٥].

والإثم في هذه المواضع يجوز أن يكون مثل العدوان مثل الإثم وإنما ذكر للتوكيد ، كما تقول : الغشم والظلم هذا قول.

وقول آخر : وهو أن الإثم يقتضي أنه يتتبع عليه ، وأصله في العربية التقصير. والعدوان يقتضي مجاوزة الحد ؛ فعطف أحدهما على الآخر مخالفة ما يقتضيه كل واحد منهما ولو كانا في المعنى سواء لم يجز عطف أحدهما على الآخر ، كما لا يجوز عطف زيد على أبي عبد الله إذا كان هو هو.

__________________

(١) قال الرازي : أما قوله تعالى : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ففيه وجهان الأول : فإن انتهوا فلا عدوان ، أي فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون على الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم على ما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

فإن قيل : لم سمي ذلك القتل عدوانا مع أنه في نفسه حق وصواب؟

قلنا : لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)[الشورى : ٤٠] وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)[البقرة : ١٩٤](وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ)[آل عمران : ٥٤](فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ)[التوبة : ٧٩] والثاني : إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين فنسلط عليكم من يعتدي عليكم. [مفاتيح الغيب : ٣ / ١٤٩].

٣٤٦

الثالث : قوله تعالى : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [سورة القصص آية : ٢٨] أي : لا اعتلال ولا حجة علي ، ويجوز أن يكون بمعنى إلي إذا قضيت ذلك لا أظلم فأكلف غيره.

٣٤٧

العفو (١)

أصله الترك ، وعفا المنزل ؛ ترك حتى درس ، وقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [سورة البقرة آية : ١٧٨] ؛ أي : ترك له الدم وصولح على الدية من أخيه ؛ يعني : من ولي الدم ولم يريد القاتل ، وشيء يعني : به الدم ؛ فعبر بشيء وهو نكرة عن كل معرفة ؛ والعرب تكنى بشيء عن كل معرفة لأنها على كل حال شيء ، وأنشد :

لعمرك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

والاتباع : المطالبة بما صولح عليه القاتل من الدية ؛ أي : فليطالب ولي المقتول بذلك في رفق ؛ : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [سورة البقرة آية : ١٧٨] أي : وليود الجاني ما يود به من الدية أداء حسنا من غير مطل ولا تأخير ، : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٧٨] يعني : إجازته أخذ الدية وترك الدم ؛ فمن رضى بالدية ثم قتل فله عذاب أليم.

وقد أجمع المسلمون أن الدية إذا وجبت على قاتل العمد كانت من ماله دون مال العاقلة ، وكانت حالة لا يجوز تأخيرها ، وأن دية الخطأ على العاقلة ويلزمهم أداؤها في ثلاث سنين ؛ في كل سنة ثلث وعفا الله عنك ترك معاقبتك ، واستعمال الترك في الله مجاز.

والعفا : التراب ؛ لأنه متروك لوجوده بكل مكان ليس هو مما يؤخذ ويدخر ، ثم اشتق منه الكثرة ، فقيل : عفا الشيء ؛ إذا كثر كأنه صار كالتراب بكثرة ، ثم اشتق منه الكثرة حتى عفوا ، وعفاه يعفو إذا قصده وسأله ، ويجوز أن يكون معناه أنه أتاه تاركا لغيره.

والعفو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : الفضل من المال ؛ قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [سورة البقرة آية : ٢١٩] يعني : الفضل واليسر ، وذلك أنهم حضوا على الإنفاق في قوله : (أَنْفِقُوا

__________________

(١) [عفو] : العفو : تركك إنسانا استوجب عقوبة فعفوت عنه تعفو ، والله العفوّ الغفور. والعفو : أحلّ المال وأطيبه. والعفو : المعروف. والعفاة : طلّاب المعروف ، وهم المعتفون. واعتفيت فلانا : طلبت معروفه.

والعافية من الدّوابّ والطّير : طلّاب الرزق ، اسم لهم جامع. [العين : عفو].

٣٤٨

مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) [سورة البقرة آية : ٢٦٧] ، وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فسألوا عن القدر الذي تنفقون ، فقال : ما يفضل عنكم ويسهل عليكم إنفاقه تنفقونه ؛ وهو قليل لتنالوا به الكثير من الثواب.

الثاني : الترك ؛ وهو قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [سورة البقرة آية : ٢٣٨]. أي إلا أن يتركز لكم ما يجد لهن من وصف الصداق أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح يعني : الزوج ، وعفوه أن يعطي المهر كاملا وليس هو الولي ؛ لأنه ليس للولي أن يترك من مهر المرأة شيئا ، ومثله قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٨٧] ، وقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [سورة البقرة آية : ١٧٨].

الثالث : العفو عن الذنب ؛ قال الله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [سورة التوبة آية : ٤٣] وفي هذا دليل على أن الأنبياء يذنبون ؛ لأنه إذا لم يكن ذنب لم يكن عفو ولكن ذنوبهم صغائر.

٣٤٩

العدل (١)

أصل العدل ؛ الاستقامة ، عدل الرجل إذا استقام حكمه ولم يمل ، وقيل : العدلان لأن كل واحد منهما يستقيم بالآخر ، والعدل المثل ؛ كان المثلين يستقيمان في الشبه أو الصفة ، والعدل لا يستعمل إلا في المدح ؛ لأن رجلا لو سوى بين رجلين في الظلم ، لم يقال : أنه عدل أو هو عادل ، وإذا قسم رئيس القوم السرقة بينهم بالتسوية لم يقل أنه عدل ؛ وسمي الله عدلا من أجل أن أفعاله تقع على طريقة مستقيمة ، والعدل : الفدية يرجع إلى هذا.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

الأول : المثل ؛ قال الله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [سورة المائدة آية : ٩٥] أي : مثله ، قالوا : والعدل أيضا المثل ، ويجوز أن يكون سمي العدلان عدلين ؛ لأنهما مثلان ، والعدل والعدل : المثل من الجنس ، ومن غير الجنس ، كما أن المثل هو من الجنس وغير الجنس وليس العديل مثل ذلك ؛ لأن العدل أعم من العديل ، وما كان أعم فإنه أخص بالنكرة فهو للجنس وغير الجنس ، تقول : عمرو عدل زيد وعديله ، وعمرو عدل الأسد ، ولا يقال : عديل الأسد.

الثاني : الفدية ؛ قال الله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [سورة البقرة آية : ٤٨] أي : فدية ؛ وهو ما يكون بدل الشيء.

الثالث : خلاف الجور ؛ قال الله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [سورة النحل آية : ٩٠] والإحسان داخل في العدل ، والعدل داخل في الإحسان ، ومع هذا فإن

__________________

(١) (ع د ل) : العدل القصد في الأمور وهو خلاف الجور يقال عدل في أمره عدلا من باب ضرب وعدل على القوم عدلا أيضا ومعدلة بكسر الدّال وفتحها وعدل عن الطّريق عدولا مال عنه وانصرف وعدل عدلا من باب تعب جار وظلم وعدل الشّيء بالكسر مثله من جنسه أو مقداره قال ابن فارس والعدل الّذي يعادل في الوزن والقدر وعدله بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه ومنه قوله تعالى (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) وهو مصدر في الأصل يقال عدلت هذا بهذا عدلا من باب ضرب إذا جعلته مثله قائما مقامه قال تعالى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) وهو أيضا الفدية قال تعالى (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) وقال عليه الصّلاة والسّلام «لا يقبل منه صرف ولا عدل» والتّعادل التّساوي وعدّلته تعديلا فاعتدل سوّيته فاستوى ومنه. [المصباح المنير : العين مع الدال].

٣٥٠

الفرق بينهما معروف ، وقد يعطف الشيء على الشيء وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد إذا كان في أحدهما خلاف للآخر ، فأما إذا أريد بالثاني ما أريد بالأول فعطف أحدهما على الآخر خطأ ، لا تقول : جاءني زيد وأبو عبد الله إذا كان زيد هو أبا عبد الله ، ولكن مثل قوله :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

لأن المال إذا لم يفيد فإنما يعني : به الماشية أو الصامت والنشب : ما نشب من العقارات ، وكذلك قول الحطيئة :

وهند أتى من دونها النّاي والبعد

فالنأي يكون لما ذهب عنك إلى حيث بلغ ، وأدنى ذلك يقال له نائي ، والبعد تحقيق الخروج والذهاب إلى الموضع السحيق ، والتقدير ؛ إني من دونها النائي الذي هو أول البعد ، والبعد الذي هو الغاية.

٣٥١

العهد (١)

العهد : وجدانك الشيء ، ومنه قيل : عهدته عهدا ، والعهد : اليمين ، ومنه : عليه عهد الله ، والعهد الوصية ، من قولهم : عهد إليه ، والعهد المطر ، والعهد : الأمر والوصية في قوله تعالى : (عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ) [سورة آل عمران آية : ١٨٣] ومنه سمي عهد الأمير ؛ لأنه يؤمر فيه بما يعمل به ، والعهد : الضمان الذي يوجبه الضامن على نفسه ، والعهد : المودة ، وقيل : ليس لفلان عهد ؛ أي : مودة ، ويجوز أن يكون العهد هاهنا الحفاظ ، والعهد المنزل ، قال الراجز :

هل يعرف العهد المحيل أرسمه

والعهد : الكتاب يكتب بين قوم ، وتعهدت صنعتي : تفقدتها ، والعهد : الحفاظ في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " حسن العهد من الإيمان وأصل الكلمة من الثبات" (٢).

وهو في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : الأمان ؛ قال الله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [سورة التوبة آية : ٤] وذلك أن الله تعالى أمره نبذ العهد إلى من عرف منه الغدر ، في قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [سورة الأنفال آية : ٥٨] ويجوز أن يقال : أنه كان شارطهم أن يقرهم ما أقرهم الله ؛ فلما أمره بقطع العهد قطعه ثم استثنى قوما ثبتوا على العهد ، فقال :

__________________

(١) (ع ه د): (العهد) الوصيّة يقال عهد إليه إذا أوصاه وفي حديث سويد بن غفلة عهدي أن لا آخذ من راضع شيئا أي فيما كتب من العهد والوصيّة فاختصر مجازا (والعهد) العقد والميثاق (ومنه) ذو العهد للحربيّ يدخل بأمان وعهده بمكان كذا لقيه ويقال متى عهدك بفلان أي متى عهدته (ومنه) متى عهدك بالخفّ أي بلبسه يعني متى لبسته (وتعهّد الضّيعة) وتعاهدها أتاها وأصلحها وحقيقته جدّد العهد بها وقولهم عهدته على فلان فعلة بمعنى مفعول من ذلك لأنّ معناه ما أدرك فيه من درك فإصلاحه عليه هكذا عن الغوريّ ومثله عن أبي الهيثم برئت إليك من عهدة هذا العبد أي ممّا أدركت فيه من عيب كان معهودا عندي وعن الطّحاويّ أنّها من العهد بمعنى العقد والوصيّة. [المغرب : العين مع الهاء].

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ج ١ / ١٥ ، والقضاعي في مسند الشهاب (٩٧١) ، والطبراني في المعجم الكبير (٢٣) ، وابن الأعرابي في معجمه (٧٧٤).

٣٥٢

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة التوبة آية : ٤] إلى أن قال : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).

قال ابن عباس : هم بنوا ضمرة من كنانة ، والمدة تسعة أشهر ، وكان أمر عليا ؛ فنادى من كان بينه وبين رسول الله عهد فأحله إلى أربعة أشهر ، فقيل : العهد مرفوع للأمان من القتال على غرة ؛ فإذا أعلمهم رفعة فهو جائز ، وسواء خاف غدرهم ولم يخف ، وليس ذلك غدرا ، وإنما الغدر أن يأتيهم بعد الأمان وهم غازون ؛ ولذلك قال الكوفيون : يجوز للإمام أن يهادن العدو إذا لم يكن بالمسلمين قوة على قتالهم ؛ فإن قووا بعد ذلك كان لهم أن ينبذ إليهم ويقاتلهم.

الثاني : اليمين ؛ قال الله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) [سورة النحل آية : ٩١] ، والشاهد قوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [سورة النحل آية : ٩١].

الثالث : الأمانة والنبوة ؛ قال الله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة آية : ١٢٤].

الرابع : الوصية ؛ قال الله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [سورة يس آية : ٦٠] ، وقوله : (عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) [سورة آل عمران آية : ١٨٣] وقد تقدم.

الخامس : الضمان ؛ قال الله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [سورة البقرة آية : ٤٠] أي : أوفوا بما ضمنتم لي من الإيمان ، أوف لكم بما ضمنت لكم من الثواب.

٣٥٣

العرض

أصله الظهور ، ومنه عرضت عليه الشيء ؛ إذا أظهرته له ، والمعرض ما تعرض فيه الجارية ؛ أي : تظهر ، ولفلان عارضة جيدة ، والعراضة : العطية ترجع إلى ذلك ، وأعرض الرجل عن الرجل : ولاه عرضه ؛ أي : جانبه وأعرض له أمكنة من عرضه ، والعرض خلاف الطول ، وإذا استعمل العرض فيما لا يكون عريضا على الحقيقة ؛ فإنما يراد به التمام ، مثل قول الشاعر :

في المجد صار إليك العرض والطّول

أي صار إليك المجد بتمامه ، وقوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(١) [سورة فصلت آية : ٥١] أي : تام ، والعرض : ما يظهر من منافع الدنيا ، والعرض ما يحل في الجسم ولا يقوم بنفسه وليس له بقاء الجواهر.

واشتق له هذا الاسم من عارض السحاب وهو جسم ؛ فسموا به ما ليس بجسم لما اجتمعا في قلة اللبث ، ومثال هذه التسمية تسمية الملك ملكا ، وإن لم يكن رسولا على أن أصل هذا الاسم من الألوكة ؛ وهي الرسالة ، ولو كان العرض عرضا لأنه ليس بجسم ولا جوهر لكان الله عرضا ؛ لأنه ليس بجسم ولا جوهر ، وقولهم : عرض في كلامه ، معناه أنه ذهب فيه عرضا ولم يستقم فيه ، والتعريض : هو ترك الإفصاح ، يقال : عرض في الجبل إذا أخذ يمينا وشمالا ولم يستقم في مصعده.

والعرض في القرآن على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى الكثرة ؛ قال تعالى : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [سورة فصلت آية : ٥١] أي : كثيرة ، ولم يقل : طويل ؛ لأن العرض أدل على الطول والتمام.

__________________

(١) قال الشوكاني : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي : كثير ، والعرب تستعمل الطول ، والعرض في الكثرة مجازا ، يقال : أطال فلان في الكلام ، وأعرض في الدعاء : إذا أكثر ، والمعنى : أنه إذا مسه الشرّ تضرّع إلى الله ، واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به ، واستكثر من ذلك ، فذكره في الشدّة ، ونسيه في الرخاء ، واستغاث به عند نزول النقمة ، وتركه عند حصول النعمة ، وهذا صنيع الكافرين ، ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين [فتح القدير : ٦ / ٣٦٤].

٣٥٤

الثاني : التهيئة ؛ قال : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) [سورة الكهف آية : ١٠٠] أي : فهيأناها لهم ، ويجوز أن يكون المراد إنا أظهرناها لهم.

الثالث : بمعنى الجمع ؛ قال الله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) [سورة الكهف آية : ٤٨] أي : جمعوا للحساب بحيث أمر الله ، وقيل : معناه أنهم ظاهرون لله يرى أحدهم كما يرى جماعتهم.

وأصل العرض الظهور على ما ذكرنا ، وليس المعنى أنهم كانوا مستورين عن الله فظهروا له ، ولكن المعنى أنهم ظهروا من قبورهم لأمر الله ؛ فعبر عن هذا المعنى بلفظ العرض عليه لما في ذلك من التفخيم لشأن الحساب والوقوف في مواقفه ؛ وهو من قول الناس : عرض فلان على الأمير.

الرابع : قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) [سورة الأحزاب آية : ٧٢] وهو لفظ مجاز والكلام فيه كثير ، وتلخيص معناه عندي ؛ إنا لو جعلنا هذه الأشياء بمنزلة من تكلف ، ثم كلفناها لإطاعتنا وكلفنا الإنسان فعصانا.

والأمانة هاهنا الطاعة ، والإنسان العاصي من الناس خاصة ، وقال الحسن : يعني : أن الكافر والمنافق حملا الأمانة فخانا ، وتصديق ذلك قوله : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) [سورة الأحزاب آية : ٧٣].

الخامس : السعة ؛ قال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة الحديد آية : ٢١] أي : سعتها كسعتها.

٣٥٥

العين

أصلها عين الحيوان ، ثم كثر الاستعمال بها حتى تصرفت على خمسين وجها أفردتها في كتاب.

وهي في القرآن على وجهين :

الأول : عين الإنسان ؛ وهو قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)(١) [سورة المائدة آية : ٤٥] ، وذكر تعالى أنه حكم بهذا الحكم على من قبلنا ، وشرائع من قبل ثابتة علينا إلى أن يرد

__________________

(١) قال ابن فارس : العين والياء والنون أصل واحد صحيح يدلّ على عضو به يبصر وينظر ، ثم يشتقّ منه ، والأصل في جميعه ما ذكرنا.

قال الخليل : العين النّاظرة لكلّ ذي بصر. والعين تجمع على أعين وعيون وأعيان. قال الشاعر :

فقد أروع قلوب الغانيات به

حتّى يملن بأجياد وأعيان

وقال :

* فقد قرّ أعيان الشّوامت أنّهم*

وربّما جمعوا أعينا على أعينات. قال :

* بأعينات لم يخالطها قذى*

وعين القلب مثل على معنى التشبيه. ومن أمثال العرب في العين ، قولهم : " ولا أفعله ما حملت عيني الماء" ، أي لا أفعله أبدا. ويقولون : " عين بها كلّ داء" للكثير العيوب. ويقال : رجل شديد جفن العين ، إذا كان صبورا على السّهر. ويقال : عنت الرّجل ، إذا أصبته بعينك ، فأنا أعينه عينا ، وهو معيون. قال :

قد كان قومك يحسبونك [سيّدا

وإخال أنّك] سيّد معيون

ورجل عيون ومعيان : خبيث العين. والعائن : الذي يعين ، ورأيت الشّيء عيانا ، أي معاينة. ويقولون : لقيته عين عنّة ، أي عيانا. وصنعت ذاك عمد عين ، إذا تعمّدته. والأصل فيه العين الناظرة ، أي إنّه صنع ذلك بعين كلّ من رآه. وهو عبد عين ، أي يخدم ما دام مولاه يراه. ويقال للأمر يضح : " بيّن الصّبح لذي عينين".

ومن الباب العين : الذي تبعثه يتجسّس الخبر ، كأنّه شيء ترى به ما يغيب عنك. ويقال : رأيتهم أدنى عائنة ، أي قبل كلّ أحد ، يريد ـ والله أعلم ـ قبل كلّ نفس ناظرة. ويقال : اذهب فاعتن لنا ، أي انظر. ويقال : ما بها عين ، متحركة الياء ، تريد أحدا له عين ، فحرّكت الياء فرقا. قال :

* ولا عينا إلّا نعاما مشمّرا*

فأمّا قولهم : اعتان لنا منزلا ، أي ارتاده ، فإنّهم لم يفسّروه. والمعنى أنّه نظر إلى المنازل بعينه ثم اختار.

ومن الباب العين الجارية النّابعة من عيون الماء ، وإنّما سمّيت عينا تشبيها لها بالعين النّاظرة لصفائها ومائها.

ويقال : قد عانت الصّخرة ، وذلك إذا كان بها صدع يخرج منه الماء. ويقال : حفر فأعين وأعان.

ومن الباب العين : السّحاب ما جاء من ناحية القبلة ، وهذا مشبّه بمشبّه ، لأنّه شبّه بعين الماء التي شبّهت بعين الإنسان. يقولون : إذا نشأ السّحاب من قبل العين فلا يكاد يخلف.

٣٥٦

نسخها ؛ والشاهد قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة المائدة آية : ٤٥] فدل على ثبوت الحكم في وقت نزول هذه الآية من وجهين :

أحدهما : أنه ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين نبي من الأزمان.

والثاني : أنه معلوم أنهم استحقوا سمة الظلم والفسوق عند نزول هذه الآية بتركهم الحكم بها ، وقوله : (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) عند أصحابنا معناه ؛ أن العين إذا ضربت فذهب ضوئها.

__________________

ـ قال ابن الأعرابيّ : يقال هذا مطر العين ، ولا يقال مطرنا بالعين. وعين الشّمس مشبه بعين الإنسان. قال الخليل : عين الشّمس : صيخدها المستدير.

ومن الباب ماء عائن ، أي سائل. ومن الباب عين السّقاء. قال الخليل : يقال للسّقاء إذا بلي ورقّ موضع منه : قد تعيّن. وهذا أيضا من العين ، لأنه إذا رقّ قرب من التخرّق فصار السّقاء كأنّه ينظر به. وأنشد ثعلب :

قالت سليمى قولة لريدها

ما لابن عمّي صادرا من شيدها

بذات لوث عينها في جيدها

أراد قربة قد تعيّنت في جيدها. ويقال سقاء عيّن ، إذا كانت فيه كالعيون ، وهو الذي قد ذكرناه. وأنشد :

* ما بال عيني كالشّعيب العيّن*

وقالوا في قول الطرمّاح :

فأخضل منها كلّ بال وعيّن

وجفّ الرّوايا بالملا المتباطن

إنّ العيّن الجديد بلغة طيّ. وهذا عندنا مما لا معنى له ، إنّما العيّن الذي به عيون ، وهي التي ذكرناها من عيون السّقاء. وإنّما غلط القوم لأنّهم رأوا باليا وعيّنا ، فذهبوا إلى أنّ الشاعر أراد كلّ جديد وبال. وهذا خطأ ، لأنّ البالي الذي بلي ، والعيّن : الذي يكون به عيون. وقد تكون القربة الجديد ذات عيون لعيب في الجلد. والدّليل على ما قلناه قول القطاميّ :

ولكنّ الأديم إذا تفرّى

ب لى وتعيّنا غلب الصّناعا

ومن باقي كلامهم في العين العين : البقر ، وتوصف البقرة بسعة العين فيقال : بقرة عيناء. والرّجل أعين. قال الخليل : ولا يقال ثور أعين. وقال غيره : يقال ثور أعين. قال ذو الرّمّة :

رفيق أعين ذيّال تشبّهه

فحل الهجان تنحّى غير مخلوج

قال الخليل : الأعين : اسم الثور ، [ويقال] معيّن أيضا. قال :

ومعيّنا يحوي الصّوار كأنّه

متخمّط قطم إذا ما بربرا

معجم مقاييس اللغة مادة (ع ي ن)

وقال القاضي أبو يعلى : وقوله : العين بالعين ، ليس المراد قلع العين بالعين ، لتعذّر استيفاء المماثلة ، لأنا لا نقف على الحدّ الذي يجب قلعه ، وإنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمة ، وصفة ذلك أن تشدّ عين القالع ، وتحمى مرآة ، فتقدّم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. [زاد المسير : ٢ / ٢١٦].

٣٥٧

والقصاص في ذلك أن تحمي مرآة وتدني إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوئها ، وليس هو أن تقلع العين ، وليس في قلع العين عندهم قصاص ؛ لأن استيفاء القصاص في ذلك غير ممكن ؛ إذ لا يوقف على الحد الذي يجب أن يقلع منه ، وكذلك كل ما لا يوقف على ذلك منه.

الثاني : العين بمعنى الحفظ ؛ وهو قوله : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [سورة طه آية : ٣٩] أي : لتربي وأنا حافظ لك ، وذلك أن من له بالشيء عناية تجعله نصب عينه ناظرا إليه ؛ فاستعير ذلك في شدة الحفظ لما فيه من الدلالة على صدق العناية ، ومنه قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [سورة القمر آية : ١٤] أي : تجري من أمنا وحفظ ، ومنه قول امرئ القيس :

وبات بعيني قائما غير مرسل

٣٥٨

الباب التاسع عشر

فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله غين

الغي (١)

أصله الفساد ، يقال : غوى الرجل ؛ إذا فسد طريقته في الدين ، ورجل غاو وغوى ؛ إذا فسد عيشه وأمره أيضا ، وغوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن ، وقيل أيضا ذلك له إذا لم يزو من لبن أمه فمات هزلا ، فقيل في الرجل غوى وفي الفصيل غوى والأصل واحد.

وهو في القرآن على ثلاثة أوجه :

__________________

(١) الفرق بين الغي والضلال : أن أصل الغي الفساد ومنه يقال غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن وإذا لم يرو من لبن امه فمات هزلا.

فالكلمة من الاضداد ، وأصل الضلال الهلاك ومنه قولهم ضلت الناقة إذا هلكت بضياعها وفي القرآن" أءذا ضللنا في الارض" أي : هلكنا بتقطع أوصالنا فالذي يوجبه أصل الكلمتين أن يكون الضلال عن الدين أبلغ من الغي فيه ويستعمل الضلال أيضا في الطريق كما يستعمل في الدين فيقال ضل عن الطريق إذا فارقه ولا يستعمل الغي إلا في الدين خاصة فهذا فرق آخر وربما استعمل

الغي في الخيبة يقال غوى الرجل إذا خاب في مطلبه وأنشد قول الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقيل أيضا : معنى البيت أن من يفعل الخير يحمد ومن يفعل الشر يذم فجعل من المعنى الاول ويقال أيضا ضل عن الثواب ومنه قوله تعالى " (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)" والضلال بمعنى الضياع يقال هو ضال في قومه أي ضائع ومنه قوله تعالى"( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) " أي ضائعا في قومك لا يعرفون منزلتك ويجوز أن يكون ضالا أي في قوم ضالين لان من أقام في قوم نسب إليهم كما قيل خالد الحذاء لنزوله بين الحذائين وأبو عثمان المازني لاقامته في بني مازن لم يكن منهم ، وقال أبو علي رحمه‌الله : " ووجد ضالا فهدى" أي وجدك ذاهبا إلى النبوة فهي ضالة عنك كما قال تعالى" (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) " وإنما الشهادة هي الضلالة عنها وهذا من المقلوب المستفيض في كلامهم ويكون الضلال الابطال ومنه" (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) " أي أبطلها ، ومنه"( أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) " ويقال ضللني فلان أي سماني ضالا ، والضلال يتصرف في وجوه لا يتصرف الغي فيها. والفرق بين الغي والفساد : أن كل غي قبيح ويجوز أن يكون فساد ليس بفبيح كفساد التفاحة بتعينها ويذهب بذلك إلى أنها تغيرت عن الحال التي كانت عليها ، وإذا قلنا فلان فاسد إقتضى ذلك أنه فاجر وإذا قلت إنه غاو إقتضى فساد المذهب والاعتقاد. [الفروق اللغوية : ١ / ٣٩٣].

٣٥٩

الأول : فساد العيش ؛ قال تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [سورة طه آية : ١٢١] أي : فسد عيشه في الجنة ، أخبرنا بذلك أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد رحمه‌الله ، عن أبي عمر الزاهد ، عن ثعلب ، وأصل الغي الفساد على ما ذكرنا ؛ فإن قيل : أنتم تزعمون أن صاحب الصغيرة لا يقال أنه عاص قولا مطلقا ، وقد قال الله ذلك لآدم ، وكذلك وصفه إياه بأنه غوى ، قلنا : إنما قال ذلك مضمنا بالقصة التي عصى فيها ، فكان ذلك كالتقييد ؛ فكأنه قال : أنه عصى في كذا وأحرى ؛ فإن السيد يطلق في عبده إذا عصاه ما لا يجوز أن يطلقه فيه غيره.

الثاني : فساد الطريقة في الدين ؛ قال تعالى : (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [سورة الحجر آية : ٤٢].

الثالث : العذاب ؛ قال : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [سورة مريم آية : ٥٩] أي : عذابا ؛ وإنما سمي العذاب غيا لأنه مجادلة على الغي ، وقيل : غي واد في جهنم.

٣٦٠