تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

الحكم الثالث

يتعلق بقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أنه يستحب استطابة النفوس في المعاملات بإسقاط بعض ما يجب ، لأن ذلك أبعد من الظلم ، وأقرب إلى تأدية ما يجب ، وأقرب إلى نيل الأجر.

والقراءة الظاهرة : (وَأَنْ تَعْفُوا) بالتاء خطاب للنساء والرجال ، ولكن غلب المذكر ، وقراءة الشعبي (وأن يعفوا) ورده إلى (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، وقوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) بمعنى : لا تتركوا ؛ لأن النسيان فعل الله ، فهو لا ينهى عنه ، وقد يكون سببه من فعل العبد (١) ، قال تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] ومن فعل الشيطان ، قال تعالى : (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف : ٦٣].

وفي قراءة علي عليه‌السلام (ولا تناسوا) بألف من المفاعلة ، قال في الكشاف : عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل لها الصداق ، وقال : أنا أحق بالعفو ، وعنه : أنه دخل على سعد بن أبي وقاص ، وعرض عليه بنتا له فتزوجها ، فلما خرج طلقها ، وبعث إليها بالصداق كاملا ، فقيل له في ذلك ، فقال : كرهت أن أرده ، فقيل : لم أكملت الصداق؟ فقال : فأين الفضل

تكملة لهذه الأحكام

وهي أن المرأة لو وهبت لزوجها ما فرض لها ، ثم طلق قبل

__________________

(١) وفي نسخة (وقد يكون سببه من فعل الشيطان ، قال الله تعالى حكاية عن يوشع (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) ومن فعل العبد كما في قوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ).

٨١

الدخول ، فقال مالك : لا يرجع عليها بشيء ؛ لأن الواجب في عين الصداق وقد صار إليه.

وقال الشافعي : يرجع عليها ؛ لأن الواجب في ذمتها ، وقال أبو حنيفة : إن قبضت ثم وهبت رجع عليها ؛ لأنه قد صار الحق في الذمة ، وإن لم تقبض حتى وهبت فلا رجوع له ؛ لأن حق الزوج في عينه ، وأهل المذهب جعلوه يتعلق بالعين مع البقاء ، ولم يخرج عن ملكها ، فإن خرج عن ملكها فلهم تفصيل ، هل هو عين أو دين؟ والعين إما أن تقبضها أم لا ، ويقولون : قد ملكته الزوجة ملكا غير مستقر ، فلهذا جعلوا له نصف الفوائد ، وقال الشافعي والناصر : قد استقر ملكها ، فلهذا لم يرجع إليه نصف الفوائد.

وقوله تعالى

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨]

النزول

قيل : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي في الهاجرة ، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم) فنزلت الآية.

وعن زيد بن أرقم (١) : «كنا نتكلم في الصلاة ، فيسلم الرجل فيردون

__________________

(١) زيد بن أرقم هو : زيد بن أرقم بن زيد بن قيس ، الأنصاري ، الخزرجي ، صحابي مشهور ، أول مشاهده الخندق ، كان من الملازمين أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام ، وشهد معه حروبه ، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين ، توفي سنة ست ، أو ثماني وستين.

٨٢

عليه ، ويسألهم : كم صليتم؟ كفعل أهل الكتاب ، فنزل قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام.

ثمرة الآية :

وجوب المحافظة على الصلوات ، والمراد الواجبات ، وتأكيد المحافظة على الوسطى ، لكن اختلف ما أراد بالمحافظة ، فقيل : أراد المداومة على فعلها. وقيل : استيفاء أركانها ، ومواقيتها ، ولا دلالة في الآية مصرحة ما أراد بالوسطى ، وفي ذلك أقوال للعلماء رحمهم‌الله تعالى :.

فقال الهادي ، والناصر : إنها الظهر لأن سبب نزولها ما ذكر أنهم تراخوا عن الظهر ، فنزلت ، وكثر الناس فدل ذلك أنهم فهموا أنها الظهر ، ولأنها وسط النهار ، وهذا مروي عن عائشة ، وزيد بن ثابت ، وأبي سعيد الخدري ، ورواه الهادي عن علي عليه‌السلام.

القول الثاني : قول المؤيد بالله ، وأبي حنيفة : إنها العصر ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام ، وأبي هريرة ، وابن مسعود ، وعائشة ، وأم سلمة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا).

وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف (١) : إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤها ، فأملت عليه (والصلاة الوسطى صلاة العصر).

وعن عائشة ، وابن عباس : والصلاة الوسطى ، وصلاة العصر) بالواو ، فيكون التخصيص لصلاتين الصلاة الوسطى ، وصلاة العصر.

وقيل : فضلت العصر لما في ذلك الوقت ، من اشتغال الناس بمعائشهم ؛ لأنه وقت الإبراد.

__________________

(١) الذي كتبه لها هو رافع مولى عمر. شرح التجريد.

٨٣

القول الثالث : مذهب الشافعي ـ أنها الفجر ، وهو مروي عن ابن عباس ، وجابر ، وعكرمة ، ومجاهد ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) والقنوت في صلاة الفجر ، وبقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] فخصها بالذكر.

وقال قبيصة : المغرب لأنها متوسطة في عدد الركعات ، ومتوسطة بين صلاة الليل والنهار ، وقال في الثعلبي : ولما روي عن عائشة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب) وقال بعضهم : العشاء : لأنها أشد ما على المنافقين.

وقيل : أخفيت ليحافظ الناس على جميع الصلوات ، والقراءة الكثيرة (الْوُسْطى) بالسين ، من الوسط في الشيء ، ومن هنا أخذ أن الوتر غير واجبة ؛ لأن ذلك يبطل الوسط.

وقيل : أراد بالوسطى الخيار ، قال الله تعالى : (أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] وقال أعرابي يمدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا أوسط الناس طرّا في مفاخرهم

وأكرم الناس أما برّة وأبا

وقراءة نافع في رواية قالون (الوصطى) بالصاد لمجاورة الطاء ، وتقارب المخرج ، كالصراط ، والسراط ، وقراءة عائشة (والصلاةَ الوسطى) بنصب الصلاة على المدح.

وقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي : مطيعين ، عن ابن عباس ، وطائفة من الصحابة ، وقيل : ساكتين عن ابن مسعود ، وغيره ؛ لأنهم نهوا عن الكلام فيها ، ومن هنا استدل على تحريم الكلام ، وقيل : خاشعين ، وقيل : داعين ، وقيل : القنوت القيام في الصلاة ، وقيل : إتمام فروضها.

٨٤

وقوله تعالى

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٣٩]

لما ذكر الله تعالى المحافظة على الصلاة ، ومن المحافظة الإتيان بها بجميع شروطها ـ بيّن الرخصة في حال الخوف ، وهي أن الصلاة في حال السير بالإيماء جائزة رجالا وركبانا ، وذلك جمع راجل وراكب.

وثمرتها : الدلالة على صحة المسايفة بالإيماء ، وهذا مذهب الأئمة عليهم‌السلام ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة ، والمنصور بالله : إنها لا تصلى بالإيماء في حال المسايفة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الصلاة يوم الخندق ، إلى هوىّ من الليل ، وقال : شغلونا عن الصلاة الوسطى) وقد فاته الظهر ، والعصر ، قلنا : ذلك قبل أن تنزل صلاة المسايفة ، وهذا مروي عن أبي سعيد الخدري ، وكانت هذه الآية ناسخة لما كان يوم الخندق من جواز الترك ، فإن قيل : كانت غزوة ذات الرقاع قبل الخندق ، وقد صلى فيها صلاة الخوف؟ قلنا : لم يصل بذات الرقاع في حال المسايفة ، بل صلى الصلاة الأخرى التي يقتسمون فيها طائفتين ، ويشترط في صحة هذه الصلاة أن يكونوا محقين ، ومطلوبين ؛ لأن غير المحق عاص ، والطالب يمكنه استيفاء أركان الصلاة ، وتجوز جماعة ، وفرادى لعموم الأمر. إن قيل : قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) لم يصرح فيه بالصلاة ، ويجوز أن يكون المراد به قاتلوا رجالا وركبانا؟.

قلنا : تقدم ذكر المحافظة على الصلاة دلالة أنه أراد بقوله : (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) الصلاة على هذه الحالة ، وذلك مروي عن أبي سعيد الخدري ، كما تقدم ، وهذه الآية قد أطلقت الخوف فيدخل فيه أيّ مخافة ، من عدو أو سبع ، أو جمل صائل ، وهذا قول الأكثر ، وشذ قول الوافي ، وبعض

٨٥

الظاهرية ، إن الخوف يختص بأن يكون من آدمي ، وقد أفادت الآية أن فعلها بالإيماء هو فرضهم ، فلا قضاء عليهم بعد الأمن (١).

قال في التهذيب : خلاف ما يقوله بعضهم ، ولكن هذا إذا أتوا بما يسمى صلاة ، فإن لم يمكنهم شيء من الأفعال ، وإنما أتوا بالذكر فقط ، قال القاضي زيد ، وابن أبي الفوارس ، وأبو جعفر : هذا لا يسمى صلاة ، فيجب القضاء (٢).

وقال المنصور بالله ، والأمير الحسين : هو بعض الصلاة فلا قضاء ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وروي (فأتوا به) وإذا ثبت الترخيص في هذه الصلاة بترك كمال الفروض رخص فيها بفعل ما يحتاج إليه من الأفعال ، وبلباس ما فيه نجس ، إذا احتيج إليه.

وقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) قيل : الذكر الصلاة التامة ، وقيل : أراد الحمد له تعالى.

وقوله تعالى

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٤٠]

النزول

عن ابن عباس وغيره : أنها نزلت في رجل من أهل الطائف ، يقال له : حكيم بن الحارث ، هاجر إلى المدينة ، وله أولاد ، ومعه أبوان وامرأته

__________________

(١) وهو الذي اختاره في الأزهار للمذهب. (ح / ص).

(٢) وهو الذي اختاره الإمام في المختصر للمذهب. (ح / ص).

٨٦

فمات ، فرفع ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت ، فأعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبويه وأولاده ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئا ، غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا ، وكانت المرأة تعتد في بيت زوجها ، ثم تخرج ، وكانت نفقتها وسكناها في مال الزوج ، ولم يكن له الميراث ، فإن خرجت فلا نفقة لها (١).

وهذه الآية قد تضمنت أحكاما :

الأول : وجوب الوصية للزوجة بالمتاع والسكنى ، وبيان وجه الوجوب أن قراءة نافع ، وابن كثير (وصيةٌ) بالرفع ، والتقدير مع هذا : فعليهم وصية ، أو فلأزواجهم وصية ، أو كتب على الذين يتوفون وصية ، أو وصية الذين يتوفون وصية.

وقرأ الباقون بالنصب ، فقالوا : (وَصِيَّةً) أي : فليوصوا وصية ، فتنتصب على المصدر ، أو كتب الله عليهم وصية ، فينتصب لأنه مفعول.

وفي قراءة عبد الله (كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول) مكان (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) وهي آحادية.

الحكم الثاني : أن العدة تكون حولا.

الثالث : وجوب المتاع في العدة والسكنى.

__________________

(١) وفي البغوي (وكانت نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السن ما لم تخرج ، ولم يكن لها الميراث ، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها ، وكان على الرجل أن يوصي بها ، وكان كذلك حتى نزلت آية المواريث ، فنسخ الله نفقة الحول بالربع والثمن ، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر).

وقد أخذ من هذه العبارة ، ومن عبارة هذا الكتاب ، ومن سبب النزول وجوب النفقة أوصى أو لم يوص ، ووجوب الإيصاء ، من الآية كوجوب الإيصاء بسائر الواجبات المالية ، التي لا تسقط بعدمه ، والله أعلم (ح / ص) ، وفي الكشاف قريبا منه.

٨٧

الرابع : جواز الخروج بعد العدة.

أما وجوب الوصية فاتفق المفسرون أن ذلك منسوخ ، واختلفوا ما الناسخ له؟ فقيل : آية المواريث ، وهذا يروى (١) عن الهادي عليه‌السلام ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد.

وقيل : بالسنة ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا وصية لوارث) وهو يروى عن المنصور بالله.

وأما الحكم الثاني : وهو كون العدة حولا ، فذلك منسوخ أيضا بآية عدة الوفاة ، وهي الأربعة الأشهر والعشر.

وقيل : المنسوخ الزائد على الأربعة والعشر ، وهذا شائع ، وإن تقدم الناسخ في التلاوة فإنه متأخر في النزول ، وهذا كقوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٤٢] مع قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] وكقوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) [البقرة : ٢٤١] عم المطلقات بإيجاب المتعة ، بعد ما أوجبها لواحدة ، وهي المطلقة قبل الدخول ، على أحد الوجوه ، وقد تقدم ذكر ذلك ، وتقدم كلام أبي مسلم محمد بن بحر (٢).

قال الحسن : كانت العادة في الترتيب أن يأمر جبريل عليه‌السلام أن توضع الآية في موضع كذا على حسب المصلحة.

وأما الحكم الثالث : وهو وجوب النفقة والسكنى في العدة التي هي أربعة أشهر وعشر فهذه المسألة ، فيها أقوال للعلماء.

الأول : قول القاسم ، والهادي ، والناصر : إنها تستحق النفقة دون السكنى (٣) ، وروي إيجاب النفقة عن ابن عمر ، والحسن بن صالح ،

__________________

(١) في نسخة (وهذا مروي).

(٢) في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ).

(٣) وهو المذهب.

٨٨

وروي وجوب النفقة إذا كانت حاملا عن علي عليه‌السلام ، وابن مسعود ، وشريح ، وابن أبي ليلى.

حجتنا على إيجاب النفقة قوله تعالى : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فاقتضت الآية إيجاب النفقة إلى الحول ؛ لأن المتاع عبارة عنها ، ونسخ الحول لا ينسخ إيجاب النفقة فيما بقي من العدة ؛ لأن الآية إذا تضمنت حكمين فنسخ أحدهما لا يقتضي نسخ الآخر ، لكن يقال : قد سقط المتاع في الزيادة على الأربعة والعشر إجماعا فقد دخل النسخ على بعض المتاع إجماعا ، فهل نسخ البعض نسخ للباقي حتى لا يثبت إلا بدليل آخر؟ قلنا : الذي ذهب إليه الأكثر أنه لا يكون نسخا للباقي.

وقال قاضي القضاة ، وأبو طالب : إنه يكون نسخا للباقي ، كنسخ ركعة من الصلاة يكون نسخا للجميع (١) على قولهما ، لا على قول الأكثر.

أما لو كان حكما منفصلا كما لو قال : أوجبت الصلاة والزكاة ، ثم قال : نسخت الزكاة ، فقال الرازي : إن هذا لا يكون نسخا بلا تردد.

والجواب على قول أبي طالب (٢) [أن الناسخ مثبت للباقي ، وهي الأربعة والعشر ، مسقط لما نسخه ، وهو ما زاد عليها ، وهو والعدة حكم واحد].

__________________

(١) لكنهم لا يقولون : إن الصلاة المنسوخ بعضها في المثال تكون ساقطة ، بل هي ثابتة بالناسخ عند من قال : بأن نسخ البعض نسخ للجميع ، فلا يتحقق الخلاف.

(٢) بياض في الأم مساحة سطر واحد ، وما بين القوسين ثابت في بعض النسخ. وهو في بعض النسخ حاشية.

وفي بعض النسخ عوضا عن البياض ما لفظه (والجواب على قول أبي طالب ظاهر ؛ لأن له أن يقول : أحد الجزئين لازم للأثر ، فنسخ الملزوم نسخ للازم ، وليس كذلك في الصلاة ، والزكاة ، فإن كلا منهما مستقل عن الآخر منفصل عنه بذاته ولوازمه ، فلا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر ، والاجتماع في الإيجاب لا يوجب شيئا عند التلازم.

٨٩

وأما عدم وجوب السكنى فقد خرجه أبو العباس ليحي عليه‌السلام ، من كونه لم يثبت للمبتوتة سكنى ، وهذا مروي عن عمر ، وعثمان ، وهو قول المؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، والمنصور بالله ، والشافعي في الجديد ، وقال في القديم ، ومالك : تجب السكنى.

فإن قيل : إن الله تعالى قد قال : (غَيْرَ إِخْراجٍ) فجعل السكنى كالنفقة ، قلنا : أما على قول المؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، والشافعي في أن النفقة ساقطة ، فقد قالوا : النسخ لهما ، وأما إذا قلنا بالفرق ؛ فلأن قوله تعالى : (غَيْرَ إِخْراجٍ) لم يلزم السكنى مطلقا إلا لوجوب المتاع ، فكأنه خير المرأة بين أن لا تخرج فتستحق المتاع ، وبين أن تخرج فلا جناح عليهم في تركه ، وأما المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي فقد أسقطوا النفقة ، واستدلوا بما روي عن ابن عباس أنه قال : نسخ المتاع بآية الميراث ، وقد أجيب بجواز أن ذلك اجتهاد لابن عباس (١) ، بخلاف ما لو قال الصحابي : نسخ كذا ، ولم يبين الناسخ فإنه يقبل ، مع أن آية الميراث ليس فيها شيء يقتضي نسخ النفقة ، وقوله تعالى : (غَيْرَ إِخْراجٍ) أي : لا يخرجن من بيوت الأزواج.

ثم قال تعالى : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) اختلف في معنى ذلك فقيل : أراد في العدة ، لكن خرجن بأنفسهن من غير إخراج الورثة ، وقيل : أراد إذا خرجن بعد مضي العدة ، وأن بمعنى إذا ، ذكره قاضي القضاة وغيره ، وصححه الحاكم.

وقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي : لا حرج عليكم يا معشر أولياء المرأة.

وقيل : أراد لا حرج في قطع النفقة والسكنى ، عن الحسن ،

__________________

(١) إذ هو مما للإجتهاد فيه مسرح ، ولهذا حصل فيه الخلاف.

٩٠

والسدي ، قالوا : ذلك واجب يسقط بالخروج ، وقيل : لا جناح في ترك منعهن من الخروج ؛ لأن إقامتها سنة غير واجب عن أبي علي ، وقيل : لا حرج عليكم في زواجها بعد العدة ، قال الحاكم : وهو الوجه ، وأنه المعروف ، وقيل : المعروف طلب النكاح والتزين ، وإن فسر بالنكاح كان حجة لأبي حنيفة أن للبالغة تزويج نفسها.

وقد استلزم الكلام على الآية ذكر حكمين آخرين :

الأول : هل في الآية دليل على لزوم الإحداد أم لا؟ قلنا : ليس بصريح ، ولكن من كلام من فسر المعروف بأن لها أن تزين ، وأنها قبل كانت ممنوعة ، وذلك صريح من جهة السنة.

والحكم الثاني : هل لها أن تخرج من بيت زوجها ، أو يلزمها العدة فيه؟ فالمحكي عن القاسم ، والهادي ، والناصر ، والأخوين ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، وعائشة : أنها بالخيار ، إن شاءت اعتدت في بيتها ، وإن شاءت في بيت زوجها ، قيل : إذا رضي الورثة ، واحتج لذلك في الشرح بقوله تعالى : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فجعل الخروج المذكور في العدة ، وفيه ما تقدم ، وروي أن عليا عليه‌السلام نقل بنته أم كلثوم تعتد في بيته لما قتل عمر.

قالوا : ولكن إذا اعتدت في بيتها أو بيت زوجها كان لها أن تخرج بالنهار ، ولا تبيت إلا في منزلها ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر نساء شهداء أحد بذلك.

وعن زيد بن علي صلوات الله على روحه الطاهرة ، وابن مسعود ، وأكثر الفقهاء : لا تعتد إلا في بيت زوجها ، احتجوا بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفريعة بنت مالك : «اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك ، حتى يبلغ الكتاب أجله» وهذا جلي إن قلنا بوجوب السكنى ، ويكون هذا دليلا لمن أوجبه ، فإن لم يوجبه فلعل ذلك إذا رضوا ، أو كان نصيبها يكفيها ، وقد

٩١

قال في شرح الإبانة على أصلهم : إن كان نصيبها في بيته لا يكفيها ، أو خافت فلها أن تنتقل (١).

وقوله تعالى

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢٤١]

قيل : لما نزل قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] قال بعضهم : إن شئت فعلت ، وإن شئت لم أفعل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهي قوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ).

واعلم أن أهل التفسير اختلفوا في تفسير المتاع المذكور في الآية ، فقيل : أراد المتعة الواجبة.

وقيل : أراد نفقة العدة ، وكسوتها ، لا المتعة ، وهذا قول أبي علي وغيره ؛ لأن المتعة قد تقدمت.

فإن قلنا : أراد المتعة ، فقد تقدم ذكر هذا (٢) ، وبيان المذاهب ، وتنزيل الآيات ، وإن قلنا : أراد النفقة والكسوة ؛ لأن ذلك يسمى متاعا ، ولهذا قال تعالى : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) فهذا عام في المطلقات ، لكن تخرج التي لم يدخل بها إجماعا ، إذ لا عدة فتجب فيها النفقة ، والمطلقة رجعيا تستحق النفقة ، والكسوة ، والسكنى في عدتها إجماعا.

وأما المثلثة ، وهي المبتوتة ، فهي داخلة في العموم ، وقد اختلف العلماء في ذلك ، فنص الهادي عليه‌السلام : أن لها النفقة دون السكنى ، وكذا

__________________

(١) حاشية في الأصل (أو كان نصيبها يكفيها ، وفي الأزهار : واعتداد الحرة حيث وجبت ، ولو في سفر بريد فصاعدا ، ولا تبت إلا في منزلها).

(٢) عند الحديث على قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦]

٩٢

ذكر للمؤيد بالله ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وحجته على إيجاب النفقة عموم هذه الآية ، وقوله تعالى في سورة الطلاق : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٦] ولم يفصل بين أن تكون رجعيا أو بائنا.

والحامل في هذه المسألة ، والحايل سواء بالاتفاق ، وإنما سقطت السكنى لقوله تعالى في سورة الطلاق : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) [الطلاق : ٦] فشرط في إسكانها أن تسكن حيث يسكن معها ، وهذا الشرط لا يصح في المبتوتة ، وهذا محتمل (١) ، وفي النهاية جعله حجة لمن أوجب السكنى في المبتوتة (٢).

القول الثاني : مروي عن الناصر ، وهو قول أبي حنيفة : أن لها النفقة والسكنى.

الثالث : قول مالك ، وهو رواية عن القاسم : أنه لا نفقة لها ، ولا سكنى ، وهو قول ابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، والامامية ، ومروي عن ابن عباس ، وقال الشافعي : لها السكنى دون النفقة ، إلا أن يكون معها حمل ، فهما لها كلاهما.

وحجة من أسقط حديث فاطمة بنت قيس أنه لما طلقها ابن عمها أبو عمرو بن حفص ثلاثا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا نفقة لك ولا سكنى).

قلنا : قد روي أن عمر قال في ذلك : «لا ندع كتاب ربنا ، وسنة نبيئنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت» وروي أنه قال : لعلها وهمت ، قال ذلك في محضر من الصحابة ، ولم ينكر عليه ، فدل هذا أنه فهم وجوب النفقة للمبتوتة من الكتاب والسنة.

__________________

(١) ولعله جعل من للتبعيض كما في البيضاوي وغيره ، ويحتمل أن تكون صلة زائدة ، فيقوى الاحتجاج بها على المقصود هنا ، والله أعلم ، وقد ذكره البغوي وغيره.

(٢) وهي دلالة قوية ، ومأخذ ظاهر (ح ص)

٩٣

وروي أن ابن المسيب لم ينقل حديثها في إسقاط السكنى.

وروي أن عائشة عابت حديث فاطمة ، قال في الشفاء فيما ألحقه الأمير صلاح (١) : وقد روي عن زيد ، والناصر ، وعلي عليه‌السلام ، وابن عباس وجوب النفقة والسكنى.

وفي النهاية عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، وجابر : أنه لا نفقة لها ولا سكنى ، ومن أوجب احتج بعموم قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) [الطلاق : ٦] وقالوا : النفقة تابعة للسكنى ، أينما وجبت السكنى وجبت النفقة ، والفرق بينهما خفي ، أعني إيجاب السكنى دون النفقة.

وقوله تعالى (بِالْمَعْرُوفِ) يدل على أنه على حسب اليسار والإعسار من غير سرف ولا تقتير.

وقوله تعالى

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : ٢٤٣]

قيل : قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي : ألم تعلم ، واختلفوا في هؤلاء الخارجين ، فقيل : فروا من الطاعون ، وهم أهل داوردان : قرية قبل واسط ، وقع فيها الطاعون ، فخرجوا هاربين ، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليعتبروا ، ويعلموا أنه لا مفر من أمر الله.

وقيل : أماتهم عقوبة ثم أحياهم ليستوفوا بقية أعمارهم ، وقيل : مر بهم حزقيل [ابن بورق] ، وقد بليت أوصالهم ، فتعجب ، فأوحى الله إليه

__________________

(١) هو الأمير العلامة صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين ، من مؤلفاته تتمة شفاء الأوام للأمير الحسين بن بدر الدين ، وفاته في أوائل القرن الثامن.

٩٤

أن ناد فيهم أن قوموا بإذن الله ، فنظر إليهم قياما يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت.

وقيل : هم قوم من بني إسرائيل ، دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرا من الموت فأماتهم الله تعالى ثمانية أيام ، ثم أحياهم ، وذلك لأنه تعالى عقبه بقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

وقوله تعالى : (وَهُمْ أُلُوفٌ) هذا جمع كثرة ، وجمع القلة آلاف (١) ، وقد اختلف في ذلك فقيل : عشرة آلاف ، وقيل : ثلاثون ألفا ، وقيل : سبعون ألفا ، وقيل : ثلاثة آلف ، وقيل : أربعة ، وقيل : ثمانية.

والثمرة من هذه الآية :

أنه لا يخرج من أرض نزل بها المرض خوف وقوعه ، وقد ورد الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إذا وقع الطاعون بأرض ولستم بها فلا تدخلوها ، وإن كنتم بها فلا تخرجوا منها).

قوله تعالى

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ) [البقرة : ٢٤٤]

قيل : هذا خطاب للصحابة ، وحث لهم على الجهاد ، وتحذير لهم أن يكون حالهم كحال الذين فروا منه فأماتهم الله ثم أحياهم ، وقيل : إنه من تمام حكاية حال من أماته الله ، كأنه قال : (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ، وقيل لهم وقاتلوا في سبيل الله).

وثمرتها : وجوب الجهاد ، وهو مجمل هنا ، مبين في غيره.

__________________

(١) وقيل : (أُلُوفٌ) جمع إلف ، أو إلاف ، كقاعد ، وقعود ، والواو للحال. (بيضاوي) وفائدة القصة التشجيع للمسلمين على الجهاد ، والتعرض للشهادة ، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء. (ح / ص).

٩٥

قوله تعالى

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً)

ثمرتها : الترغيب في الإنفاق في سبيل الله.

واختلف ما ذا أراد؟ قيل : الواجب والنفل.

وقيل : أراد النفل ، وقواه الحاكم ، من حيث أنه شبه ذلك بالقرض التبرع.

وقيل : أراد بالقرض نفس الجهاد. وقيل : أراد بالقرض ما قدمه الإنسان من الخيرات.

وقيل : فيها حذف تقديره : «من ذا الذي يقرض عباد الله» كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) [الأحزاب : ٥٧].

وقيل : هذا ترغيب من الله في المواساة ، والإقراض لعباده.

خبر رواه في الثعلبي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رأيت على باب الجنة مكتوبا : القرض بثمانية عشر ، والصدقة عشرا ، فقلت : يا جبريل ما بال القرض أكثر جزاء؟ قال : لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا محتاجا ، وربما وقعت الصدقة في غير أهلها).

خبر آخر رواه في الثعلبي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من أقرض أخاه المسلم فله بكل درهم وزن أحد ، وثبير ، وطور سيناء حسنات).

وقوله تعالى : (حَسَناً) قيل : هو أن يكون المال حلالا ، لا يمن به ولا يؤذي ، وقيل : هو أن لا يقصد بقرضه عوضا.

__________________

(١) لأن إطلاق الأذى عليه مجاز كما صرح به المفسرون في سورة الأحزاب في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

٩٦

قال فيه : لما نزلت قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال : نعم ، يريد أن يدخلكم الجنة ، قال : فإني إن أقرضت ربي عزوجل قرضا أيضمن لي به الجنة؟ قال : نعم (من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة ، قال : وزوجتي أم الدحداح معي؟ قال : نعم ، قال : وصبيتي الدحداحة؟ قال : نعم ، قال : ناولني يدك فناوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده ، قال : إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة ، والأخرى بالعالية ، والله لا أملك غيرهما ، قد جعلتهما قرضا لله عزوجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اجعل إحداهما لله عزوجل ، والأخرى معيشة لك ولعيالك ، قال : وأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى ، وهو حائط فيه ستمائة نخلة ، قال : إذا يجزيك الله به الجنة ، قال فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أم الدحداح ، وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل ، فأنشأ يقول :

هداك ربي سبل الرشاد

إلى سبيل الخير والسداد

بيني من الحائط بالوداد

فقد مضى قرضا إلى التناد

أقرضته الله على اعتماد

بالطوع لا منّ ولا إنكاد

إلا رجاء الضّعف في المعاد

فارتحلي بالنفس والأولاد

والبر لا شك فخير زاد

[قدمه المرء إلى المعاد]

قالت أم الدحداح : ربح بيعك ، بارك الله لك فيما اشتريت. وأنشأت تقول :

بشرك الله بخير وفرح

مثلك أدى ما لديه وسمح

إن لك الحظ إذا الحظ وضح

قد متع الله عيالي ومنح

بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد كدح

طول الليالي وعليه ما اجترح

٩٧

ثم أقبلت أم الدحداح إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم ، وتنفض ما في أكمامهم ، حتى أفضت إلى الحائط الآخر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كم من عذق (١) رداح ، ودار فياح في الجنة لأبي الدحداح).

في الضياء في معاني (رداح) هو للشجرة العظيمة ، والفياح : البيت الواسع.

قوله تعالى

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة : ٢٤٦]

الملأ : الجماعة الأشراف ، وقوله تعالى : (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) اختلف من هو من الأنبياء؟ فقال قتادة : يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف.

وقيل : إنه شمعون ، وهو من ولد لاوي بن يعقوب ، وهذا مروي عن السدي ، وسمته أمه شمعون ؛ لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولدا فاستجاب دعاءها بشمعون ، يعني : سمع دعاءها ، والسين تصير شينا بالعبرانية ، وعن وهب : أنه أشمويل ، من ولد هارون ، قال الحاكم : وعليه أكثر المفسرين.

__________________

(١) العذق ـ بالفتح ـ (للدوحة) للنخلة بحملها ، جمعه أعذاق ، وعذاق ، وبالكسر ـ للصنو منها. شمس العلوم. (ح / ص).

٩٨

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي : من بعد زمان موسى ؛ لأنه لما مات موسى خلف [من] بعده (١) يوشع بن نون ، يقيم فيهم التوراة ، ثم خلف من بعده حزقيل كذلك ، ثم من بعد موته نسوا عهد الله ، وعظمت الأحداث حتى عبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم إلياس ، ثم من بعد إلياس أليسع ، فلما قبض عظمت الأحداث ، فظهر عليهم قوم جالوت ، وهم العمالقة ، كانوا يسكنون بساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فسبوا كثيرا من ذراريهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام ، وضربوا عليهم الجزية ، فلما أظهر الله تعالى هذا النبي سألوه أن يبعث لهم ملكا يدبر أمر الحرب ، ويأتمر بما يأمره النبي من الوحي ، وكانت هذه عادة الرسل (٢).

وقوله تعالى : نّقتل قراءة أكثر القراء (نُقاتِلْ) حكاية عنهم ، وعن السلمي بالياء من تحت أي : يقاتل الملك.

وقوله تعالى : (هَلْ عَسَيْتُمْ) أي : قال لهم النبي : (هَلْ عَسَيْتُمْ) أي : لعلكم لا تقاتلون إن كتب عليكم القتال (٣).

وقوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي : فرض.

ثمرة هذه الآية الكريمة : أنها قد دلت على أحكام.

الأول : وجوب الجهاد ؛ لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل ، وما نالهم تحذيرا عن سلوك طريقهم ، وأيضا شرائع من تقدمنا تلزمنا.

__________________

(١) في نسخة ب (خلف من بعده) وفي نسخة أمحذوف.

(٢) في بني إسرائيل.

(٣) هل معناها : التقرير ، وتثبيت أن المتوقع كائن ، أو صائب في توقعه ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ) ذكر معناه في الكشاف.

٩٩

الثاني : أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد ، ليدبر أمورهم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بعث سرية أمّر عليهم أميرا.

قال في الكشاف : وروي أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميرا عليهم.

الثالث : وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة ، وتدبير الحرب ، لأن سياق الآية يقضي بذلك ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أطيعوا الأمير ولو كان عبدا حبشيا).

وقد ذكر أهل علم المعاملة : أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميرا ، ودليلا ، وإماما ، وهذا محمود ؛ إذ بذلك ينقطع الجدال ، وتنتظم أمورهم ، ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء ، نحو أمور الأوقاف والمساجد ، والإمام لكل مسجد ، ونحو هذا.

قال الحاكم : وفيه دلالة إلى أن للأنبياء عليهم‌السلام تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم ، ووجه ذلك أنه قال : (هَلْ عَسَيْتُمْ) وهذا نوع من التأكيد عليهم ، وكذا يأتي في الإمام على قياس ما ذكر الحاكم في النبي.

قوله تعالى

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧]

قال المفسرون : طالوت من ولد بنيامين ، وسمي طالوت لطوله.

١٠٠