تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وعن ابن عباس : لا توبة لقاتل المؤمن ، يريد عمدا ، كقول الخوارج ؛ لقوله في سورة النساء : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣]

قلنا : لم يذكر التوبة. والشرك أعظم من القتل. وتوبة الكافر مقبولة وفاقا.

وقال إسحاق : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته.

وقال أحمد : لا تقبل توبة المرتد ، وقال مالك : لا تقبل توبة الزنديق ، وقال (مالك) : لا تقبل توبة الزنديق ، وقد تقدم طرف من ذلك (١).

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء : ١٩]

النزول

قيل : كانت الجاهلية إذا مات رجل عن امرأة جاء ابنه من غيرها أو عصبته فألقى عليها ثوبا وقال : ورثتها كماله ، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول ، وإن شاء زوّجها الغير وأخذ صداقها ، فنهوا عن ذلك ونزلت الآية

__________________

(١) لعله في قوله تعالى في آل عمران : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ)

٣٠١

عن الحسن ومجاهد (١).

وقيل : كانوا يرثون الإمرأة فيمنعونها الأزواج ما لم تردّ عليهم صداقها فنهوا عن ذلك ، ونزلت الآية (٢).

وقيل : نزلت في امرأة أبي قيس بن الأسلت مات عنها ، فجاء ابنه وهو قيس بن أبي قيس فورث نكاحها ، ثم تركها ، ولم يقربها ، ولم ينفق عليها ، وضارها لتفتدي منه بمالها ، فجاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : مات أبو قيس وورث نكاحي ابنه ، وقد أضرني فلا ينفق علي ، ولا يدخل بي ، ولا يخلي سبيلي ، فلا أنا ورثت زوجي ، ولا تركت فأنكح ، فنزلت الآية ، عن مقاتل (٣).

وقيل : نزلت في اليتيمة في حجر وليها ، فيتزوجها لمالها ويتوقع وفاتها ليرثها وهو معتزل لفراشها ، عن الضحاك (٤).

__________________

(١) انظر صحيح البخاري (ح / ٤٥٧٩) ، (٦٩٤٨) ، وسنن أبي داود (٢٠٨٩) فتح الباري (٨ / ٢٤٦) ، تفسير الطبري (٣ / ٦٤٧) برقم (٨٨٧٠) ، سنن البيهقي (٧ / ١٣٧) أسباب النزول للواحدي (١٠٨ ـ ١٠٩) ، الدر المنثور للسيوطي (٢ / ١٣١) ، تفسيرا ابن كثير (١ / ٤٦٦) تفسير النسائي (١ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨) ، تفسير الخازن (١ / ٣٥٦) ، زاد المسير (٢ / ٣٩٨ ، تفسير) ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٩٤) ، البغوي (١ / ٤٠٨) ، المحرر الوجيز (٢ / ٢٦).

(٢) تفسير الطبري (٣ / ٦٤٧) برقم (٨٨٧٢) بالإضافة إلى المصادر المذكورة في الحاشية السابقة.

(٣) ينظر تفسير الخازن (١ / ٣٥٦) ، الطبري (٣ / ٦٤٧) برقم (٨٨٧٤) ، تفسير ابن كثير (١ / ٤٦٦) للسيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٣٢) ، لباب النقول للسيوطي ص (١٨٣) تفسير النسائي (٣٦٩) ، فتح الباري (٨ / ٢٤٧).

هذا قبل نزول قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) وستأتي قصة امرأة أبي قيس في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ).

(٤) انظر تفسير الطبري (٣ / ٦٤٩ وما بعدها).

٣٠٢

وقيل نزلت في الرجل تكون تحته المرأة ويكره صحبتها ، ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي بالمهر فنهوا عن ذلك ، ونزلت ، عن ابن عباس (١).

وقيل نزلت في الرجل يحبس المرأة من غير حاجة إليها إلى أن تموت فيرثها ، عن الزهري وأبي علي (٢).

المعنى : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) نهى الله تعالى عن عادة الجاهلية في ميراث النساء إما بأن يموت زوجها فيرثها عصبته ، قيل : بغير عقد ، وقيل : كان الاختيار إليه إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها غيره ، والكل منهي عنه ، وقوله : (كَرْهاً) يعني من غير اختيار منهن ، عن ابن عباس والحسن ومجاهد.

وعن أبي علي والزهري (٣) : المراد لا تحبسوهن على كراهتهن لترثوا مالهن ولا رغبة لكم فيهن إلا لهذا ، وقيل : أن يسيء صحبتها لتفتدي بمالها.

وقوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) العضل هو : المنع والتضييق ، ومنه قولهم : عضلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه (٤) ، وكانت عادتهم أن من تزوج امرأة ولم يرغب فيها ضارها لتفتدي بمالها وتختلع ، فقيل : هذا خطاب للأزواج ، ونهي لهم عن ذلك ، وأمر لهم بتخليتهن مع عدم الرغبة ، وألا يحتبسها لتفتدي بمالها ، وهذا مروي عن ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك (٥).

__________________

(١) فسير الطبري (٣ / ٦٥٠) رقم (٨٨٨٥).

(٢) تفسير الطبري (٣ / ٦٤٩) وما بعدها ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٩٤) ، المحرر الوجيز لابن عطية (٢ / ٢٧).

(٣) الطبري (٣ / ٦٤٨) برقم (٨٨٧٨).

(٤) معنى العضل انظر القرطبي (٣ / ١٥٩) ، (٥ / ٩٥) ، الكشاف (١ / ٥١٣ ـ ٥١٤).

(٥) زاد المسير (٢ / ٤٠).

٣٠٣

وقيل : هذا خطاب للوارث بترك المنع من التزويج كما كانت الجاهلية تفعل ، عن الحسن (١).

وقيل : هو خطاب للولي أن لا يمنعها من النكاح ، عن مجاهد (٢).

وقيل : هو خطاب للولي والزوج معا ، وقيل : هو في المطلقة يمنعها من التزويج كما كانت الجاهلية تفعل ، عن ابن زيد (٣).

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) ظاهر الآية أن مع حصول الفاحشة المذكورة يجوز له العظل ، وقد اختلفوا في ذلك ، فقال قتادة : (إِلَّا) هاهنا بمعنى الواو ، والمعنى : لا يحصل حبسهن وضرارهن ليفتدين (٤) بالمال وإن زنين (٥) ، وقيل : (إِلَّا) هاهنا للاستثناء ، لكن اختلفوا ، فقيل : هذا كان جائزا لهم إذا أتين بفاحشة أن يضيقوا عليم ليفتدين بمالهن عقوبة لهن ، ثم نسخ ذلك بالحد ، وهذا قول أبي علي وغيره (٦). وقال أبو مسلم : إن ذلك ثابت غير منسوخ (٧).

واختلفوا ما المراد بالفاحشة ، فقال الحسن ، والسدي ، وأبو قلابة (٨) : هي الزنى (٩).

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ٤٠).

(٢) التهذيب للحاكم الجشمي.

(٣) زاد المسير (٢ / ٤٠).

(٤) في (أ) : ليفتدي.

(٥) الكشاف (١ / ٥١٤ ، ٥١٥) ، القرطبي (٥ / ٩٥).

(٦) التهذيب للحاكم الجشمي. (خ) رهن التحقيق.

(٧) التهذيب للحاكم الجشمي (خ) رهن التحقيق.

(٨) أبو قلابة : بكسر القاف ، واسمه عبد الله بن زيد بن يحي بن وثاب ..

(٩) زاد المسير (٢ / ٤١) ، القرطبي (٥ / ٩٦).

٣٠٤

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : هي النشوز والفحش على الزوج بالكلام (١) ، وفي قراءة أبيّ (إلا أن يفحشن عليكم).

وقوله : (مُبَيِّنَةٍ) ، قرأ نافع ، وأبو عمرو. بكسر الياء ، وقرأ ابن كثير ، وعاصم مُبَيَّنَة بفتح الياء ، وقيل : الاستثناء راجع إلى أخذ المال لا إلى العظل ، بل إذا نشزت عذر في طلب الخلع إلا إذا (٢) لم يكن منها نشوز ، وقد تقدم ذكر الخلاف (٣).

وقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) نهي عن فعل الجاهلية في مضارتهن للإفتداء ، ويدخل في هذا وجوب النفقة والكسوة ، والعدل ، والقسمة ، وحسن المعاشرة في الأخلاق ، فلا يضرب ولا يشتم ، ويبسط الوجه معها.

وقوله تعالى : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) اختلف المفسرون في معنى ذلك ، فقيل : هذا حث على الإمساك وزجر عن العجلة في الطلاق ، وأن لا يفعل بما يشتهيه النفس بل ينظر إلى أسباب الصلاح ، فلعل نفسه تكره الأصلح وتحب الأضر ، فأمر الله تعالى بالصبر وحسن المعاشرة لعل الله تعالى يجعل في إمساكهن خيرا كثيرا (٤).

قال أبو علي : والخير الكثير هو ولد صالح (٥) ، وقيل : كل خير (٦) ،

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ٤١) ، القرطبي (٥ / ٩٥).

(٢) في (ب) : لا إذا.

(٣) لعله في تفسير قوله : في سورة البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا) الآية.

(٤) نظر حول المعنى : القرطبي (٥ / ٩٨) ، الزمخشري (١ / ٥١٤) ، زاد المسير (٢ / ٤٢).

(٥) وهو أيضا عن السدي وابن عباس ، الطبري (٣ / ٦٥٥ براقم ٨٩١١) ، عن السدي ، البغوي في معالم التنزيل (١ / ٤٠٩) ، الدر المنثور للسيوطي (٢ / ٢٣٦) ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٩٦) ، الخازن (١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧) ، تفسير الطرسي (٤ / ٥٦).

(٦) تفسير الطرسي (٤ / ٥٧).

٣٠٥

وقيل : هذا تسويغ للطلاق مع الكراهة لهن ، وأن الفراق لعل الله أن يجعل فيه خيرا كثيرا (١) ، وهو نظير قوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) النساء : ١٣٠] وهذا مروي عن الأصم (٢).

قال القاضي : هذا لا يصح ؛ لأنه تعالى حث على حسن الصحبة والاستمرار عليها لا على المفارقة.

وثمرات الآية : قد دخلت في ذكر معناها ، وهو تحريم عادة الجاهلية في الإرث ، والعضل ، والنهي عن إمساك المرأة ضرارا ، ونهي الولي عن العضل ، وقد فسر بأن يمتنع من زواجة البالغة الراضية من الكفء ، بعد معرفته للخاطب ، ثم إن الولاية عند (المؤيد بالله) ، وظاهر قول (أبي العباس ، والشافعي) تنتقل إلى الحاكم (٣) ؛ لأن في الحديث : «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (٤) ، والعضل من الاشتجار ، ولأن النكاح حق عليه يجب أن يفعله ، فإذا امتنع ناب عنه السلطان والحاكم كقضاء الدين ، وعند أبي طالب ، وأصحاب أبي حنيفة : تنتقل إلى الأقرب بعده ؛ لأنه (٥) بعضله صار كأنه معدوم ، ولا يجب إجباره وفاقا ، وأنه عند

__________________

(١) نفسه (٤ / ٥٧).

(٢) نفسه (٤ / ٥٧).

(٣) ولاية الحاكم والسلطان هي في حدته انقراض الأولياء وهو بين ، إذ أنه لا قياس مع دخوله أو موجودة.

(٤) أجرجه أحمد في المسند (١ / ٢٥٠) ، (٦ / ٤٧ ، ٦٦ ، ٢٦٠) ، والهندي في منتخب كنز العمال (٦ / ٤٧٣) ، وأبو داود في سننه ، الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك وابن ماجة في سننه.

يقال لهم : فما فائدة (من لا ولي له) ففي (من لا ولي له) إشارة إلى أن ولاية السلطان لا تكون إلا عند انقراض جميع الأولياء ، والله أعلم. فهذا فارق بين الولايتين ، فلا قياس مع وجوده. (ح / ص).

(٥) في (ب) : لأن.

٣٠٦

وجود الفاحشة يجوز له أخذ الفدية ، وفي ذلك ما تقدم ، إن حمل على جواز طلب الخلع فلا نسخ ولا تأويل ، وإن حمل على جواز الضرار فإنه منسوخ على قول الأكثر.

ولكلام في قدر الفدية : حيث يجوز الخلع ، قد (١) تقدم ، ويدل على وجوب حسن المعاشرة ويدخل ما تقدم من النفاق (٢) والكسوة ، والعدل في القسمة ، وحسن الأخلاق ، وتدل على حسن التؤدة (٣) وألا يعجل بالطلاق للكراهة.

قوله تعالى :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [النساء : ٢٠ ـ ٢١]

قال في الكشاف : كان الرجل إذا طمحت عينه إلى استطراف امرأة بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج غيرها (٤).

__________________

(١) في (ب) : وقد. (في (ح / ص) في الثاني من الأحكام من تفسير قوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ..) إلى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

(٢) النفاق : ايضا بالكسر فعل المنافق ، والنفاق أيضا جمع النفقة من الدراهم. صحاح. وفي نسخة (الإنفاق).

(٣) في (أ) : ويدل على حسن الأخلاق ويدل على حسن التؤدة.

(٤) الكشاف (١ / ٥١٤) ولفظه (وكان الرجل إذا طمحت عينه إلى استطراف امرأة؟ بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج غيرها. فقيل : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ) الآية.)

٣٠٧

واعلم : أن النهي عن الأخذ مع إرادة الاستبدال ومع عدم الإرادة ، وإنما قيد ذلك بالإرادة لأجل عادتهم التي كانوا يفعلونها ، أو لدفع توهم متوهم (١) أن الثانية تقوم مقام الأولى.

وقوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) القنطار : المال الكثير ، وحده بعضهم بدية إنسان ، وبعضهم بملء مسك ثور ذهبا ، وبعضهم بألف أوقية ومأتي أوقية ذهبا ، والمراد هنا بالنهي : أن يأخذه بهتانا ، وهو أن يكون بغير حق ولا طيبة نفس ؛ لأن إطلاق الآية يدل على المنع من الأخذ في عموم الأحوال ، وقد قال الله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤].

وقال تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] والتلفيق أن ابن زيد قال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (٢).

وقال بكر بن عبد الله المزني حكم الآية ثابت فلا يجوز في جميع الأحوال أخذ شيء (٣).

والقول الثالث : قول جلة العلماء أن قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) في حال ابتدائها راضية بذلك لأنه ابتداء هبة.

وقوله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) حيث النشوز من جهتها ، أو حال المراضاة على الخلاف ، وهذه الآية حيث النشوز من جهته وحده بأن يريد الاستبدال أو يضارها ، وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لثابت

__________________

(١) يعني الجواز ، لأن الفراقة على الثانية يجيز ما أخذ من الأولى. تمت حاشية النسخة (أ) ص (٨ ب).

(٢) تهذيب الحاكم (خ) رهن التحقيق.

(٣) نفس المصدر.

٣٠٨

بن قيس بن شماس حين كرهته امرأته وأراد فراقها : «خذ منها ما أعطيتها» فقال : هل يحل لي ذلك وقد أفضى بعضنا إلى بعض؟ قال : «نعم» (١).

وقوله تعالى : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الهمزة للاستفهام (٢) والمراد به النهي ، والبهتان : الظلم (٣) كالظلم بالبهتان أو باطلا كبطلان البهتان (٤) وانتصاب بهتان بنزع الخافض أي : ببهتان (٥) ، وقيل : بإضمار فعل تقديره تصيبون به بهتانا وإثما ، وفي الكشاف انتصب على الحال أي : باهتين [وآثمين] أو على أنه مفعول له وإن لم يكن غرضا كقوله : قعد عن الحرب جبنا (٦).

وقوله تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) هذا تعجيب من أخذهم مع الإفضاء ، كقوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) [آل عمران : ١٠١] والمراد بالإفضاء : الجماع لكن كني عنه

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٣١٢ ـ ٣١٥) ، والصغرى (٢ / ٨٠ رقم ٢٧٥٧) والبخاري في صحيحه (٩ / ٣٩٥) فتح الباري وابن ماجة (ج / ٢٠٥٧) النسائي (٦ / ١٦٩) كتاب الطلاق باب الخلع ، وأحمد في المسند (٤ / ٣) ، (٦ / ٣٣) ، واحتج به معظم من صنف في التفسير ومنهم الطبرسي (٤ / ٥٥) وانظر الناسخ والمنسوخ لعبد الله بن الحسين ص (٧٩) بتحقيقنا جاشية (٤).

واحتج به معظم من صنف في التفسير ومنهم : الطبرسي (٤ / ٥٥).

(٢) هي للاستفهام الإنكاري ، والمعنى تأخذونه باطلا وظلما كالظلم بالبهتان ، وقيل : معناه أتأخذونه بإنكار التمليك ، وقيل : الاستفهام للإنكار والتقريع ، انظر تفسير الطبرسي (٤ / ٥٨) ، تفسير الطبري (٣٦٥٦) ، فتح القدير (١ / ٤٤١) طبعة دار المعرفة.

(٣) وقيل : البهتان الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة له ، واصله التحيز ، تفسير الطبرسي (٤ / ٥٧).

(٤) البهتان عبارة عن الزور ، وقيل : البهتان أخذ المال غصبا ، وفيه تجوز. (ح / ص).

(٥) على رأي الكوفيين. (ح / ص).

(٦) الكشاف (١ / ٥١٤) ، وما بين [] منه.

٣٠٩

بالإفضاء ، روي ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي (١) وهو قول الشافعي.

فأما قبله فإنه يعود إليه النصف ولو خلا ، ومذهب الأئمة وأبي حنيفة : المراد الخلوة الصحيحة فلا يأخذ معها شيئا (٢) ، وقبلها يعود إليه النصف.

وقوله تعالى : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) فيه أقوال :

الأول : مروي عن الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي : أن الميثاق الغليظ هو الإمساك بالمعروف ، أو التسريح بالإحسان ، وكانوا يقولون ذلك عند عقد النكاح (٣).

الثاني : أنه كلمة (٤) النكاح التي يستحل بها الفرج وهو قوله : زوجت (٥) ، عن مجاهد ، وابن زيد (٦).

الثالث : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (٧) وهذا مروي عن عكرمة والشعبي والربيع (٨).

__________________

(١) تفسير الطبرسي (٤ / ٥٨) ، زاد المسير (٢ / ٤٣).

وفيه : وفي الإفضاء قولان : أنه الجماع ، والثاني : الخلوة بها وإن لم يغشها بحالة الضرار ، تفسير الطبري (٣ / ٦٥٦ برقم ٨٩١٥ وما بعده)

(٢) تفسير الخازن (١ / ٣٥٧).

(٣) زاد المسير (٢ / ٤٣) ، تفسير الطبري (٣ / ٦٥٧) ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٩٦) الدر المنثور (٢ / ٢٣٨) ، تفسير الطبرسي (٤ / ٥٩) ، تفسير الخازن (١ / ٣٥٧).

(٤) أي : عقد النكاح.

(٥) أي : نكحت.

(٦) تفسير الطبرسي (٤ / ٥٩) ، تفسير الطبري (٣ / ٦٥٨) ، تفسير الخازن (١ / ٣٥٧) ، زاد المسير (٢ / ٤٤).

(٧) أخرجه الحاكم الجشمي في تهذيبه رهن النحقيق ، ومن كتب الحديث أصحاب السنن وغيرهم ، واحتج به معظم من صنف في التفسير.

(٨) الطبرسي (٤ / ٥٩) ، الطبري (٣ / ٦٥٨) ، الخازن (١ / ٦٥٧)

٣١٠

وفي الكشاف ، (مِيثاقاً غَلِيظاً) ، أي : بإفضاء بعضكم إلى بعض ، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمة ، فقد قيل : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج (١).

وثمرات الآية : تحريم أخذ الزوج ما آتى إلا بوجه مبيح على ما تقدم ولزوم الصداق في النكاح ، وأن التحريم للأخذ بعد الإفضاء وهو الدخول أو الخلوة على الخلاف ، وأن المهر يلزم وإن كثر لقوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) ولا إشكال في لزومه وإن كثر ، وكذا في جوازه لظاهر الآية.

قال في الثعلبي : وقد تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم حبيبة وأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار ، وتزوج أم سلمة على عشرة آلاف درهم (٢).

قال : وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب من علي ـ عليه‌السلام ـ ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة ، فقال علي : إنها صغيرة ، فقال عمر : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» (٣) فلذلك رغبت في هذا ، فقال علي عليه‌السلام : فإني مرسلها إليك حتى تنظر صغرها فأرسلها إليه فجاءته ، فقالت : إن أبي

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥١٤).

(٢) انظر تفسير الخازن (١ / ٣٦٣) ، وفي شرح التجريد في هذا الموضع عشرة دراهم ، وفي شرح النجري أيضا عشرة دراهم. والموضوع فيه خلاف. قال في (ح / ص) : (أخذ لزوم المهر من العقد من هذه الآية فيه غموض ، ولعله لمح إلى الآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً).

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك (٣ / ١٧٢ ح ٤٧٤٧) ، والطبراني في الكبير (٣ / ٤٤ ح ٢٦٣٣ ، ٢٦٣٤ ، (١١ / ١١٦٢» ، والبيهقي في السنن الكبرى (٧ / ٦٤ ، ١١٤) ، وأبو نعيم في الحلية (٧ / ٣١٤) ، وعبد الرزاق المناوي في فيض القدير شرخ الجامع الصغير (ط ٢) وصاحب مجمع الزوائد (٩ / ١٧٣).

٣١١

يقول لك : هل رضيت الحلة؟ فقال : قد رضيتها فأنكحه بصداق أربعين ألف درهم (١).

قال : وروي أن الحسن بن علي تزوج امرأة فبعث إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم ، ذكره في الانتصار (٢).

وقد كره كثرة المهر كثير من العلماء.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من يمن المرأة أن ييسر صداقها» (٣).

قال عروة : وأنا أقول من عندي : من شؤمها أن يكثر صداقها.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير النكاح أيسره» (٤).

وروي أن عمر قام خطيبا فقال : أيها الناس لا تغالوا بصداق (٥) النساء فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة وقالت : يا أمير المؤمنين ولم تمنعنا حقا جعله الله لنا والله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال عمر : كل أحد أعلم من عمر (٦).

وقد روي ما أصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونشا ، والنش : نصف أوقية (٧).

__________________

(١) تفسير الثعلبي ، التهذيب للحاكم الجشمي.

(٢) الانتصار للإمام يحيى بن حمزة (/ خ) رهن التحقيق.

(٣) أخرجه المتقي الهذري في منتخب كنز العمال (٦ / ٥٦٠) ، وعزاه لأبي نعيم في الحليو عن عائشة.

(٤) أخرجه الحاكم والبيهقي في السنن بلفظ : «خير الصداق أيسره» ، انظر منتخب كنز العمال (٦ / ٤٧٧).

(٥) في نسخة (بصدق النساء).

(٦) لكشاف (١ / ٥١٤).

(٧) أخرجه الخازن في تفسيره (١ / ٣٦٣).

٣١٢

قوله تعالى :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) [النساء : ٢٢]

النزول

روي عن ابن عباس ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء : أنها نزلت فيما كان يفعله [أهل] الجاهلية من نكاح امرأة الأب (١) ، وأنه لما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه ، فقالت : إني أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكني آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأستأمره ، فأتته فأخبرته فنزل (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (٢).

وقد روي أن قوما تزوجوا نساء آبائهم منهم ابن أبي قيس هذا ، والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب ، ومنظور بن زبان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت الحارث (٣).

وفي الكشاف كانوا ينكحون روابّهم (٤) وناس منهم يمقتونه (٥) من ذوي المروءة ويسمونه نكاح المقت ، وكان المولود عليه يقال له : المقتي (٦) ، فمن ثم قيل : (وَمَقْتاً) فجعله فاحشة ومقتا.

__________________

(١) تفسير الطبرسي (٤ / ٦١) ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٩٧) ، زاد المسير (٢ / ٤٤) ، تفسير الطبري (٣ / ٦٥٩) ، القرطبي (٥ / ١٠٣ ـ ١٠٤)

(٢) تفسير الطبرسي (٤ / ٦١) ، الخازن (١ / ٣٥٧) ، زاد المسير (٢ / ٤٤).

(٣) تفسير الطبرسي (٤ / ٦١) ، الخازن (١ / ٣٥٨) ، تفسير الطبري (٣ / ٦٦٠) رقم (٨٩٤١) ، وفيه : مليكة بنت خارجة ، القرطبي (٥ / ١٠٤).

(٤) رواب جمع رابة وهي امرأة الأب ، والزاب زوج الأم.

(٥) الكشاف (١ / ٥١٥).

(٦) وقال الحاكم في التهذيب : (والفاحشة كل قبيح فحش خطأه ، والمقت بغض عن أمر قبيح يركبه صاحبه ، قال أبو مسلم : هو اسم جمع الكراهة والبغض ـ

٣١٣

المعنى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ) قيل : ما بمعنى الذي ، أي : الذي نكح آباؤكم ، وقيل : هي مصدرية أي : كنكاح آبائكم (١) فيعم حلائل الآباء وسائر أنكحتهم الفاسدة ؛ لأنها لو كانت بمعنى الذي لقال : من نكح آباؤكم (٢).

قال الحاكم : مثل ذلك جائز إذا أريد به الجنس (٣).

وقوله : (مِنَ النِّساءِ) قال الثعلبي : هذا يعم الحرائر والإماء ، لكن الحرائر بالعقد والإماء بالوطء وقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) هذا استثناء منقطع لأن الماضي لا يستثنى من المستقبل ، والمعنى : لكن ما قد سلف ، ونظيره لا تبع من مالي إلا ما بعت ولا تأكل إلا ما أكلت (٤) ، ومنه (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] وما في قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) بمعنى الذي (٥). وقال أبو مسلم : معناه بعد الذي قد سلف (٦) ، وقوله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) قيل : الضمير يرجع إلى النكاح

__________________

ـ والاستقباح يقال : مقت إلى الناس مقتا فهو ممقوت ، ويقال : إن ولد الرجل من امرأة أبيه كان يسمى المقتى ، ومنهم الأشعث بن قيس ، وأبو معيط بن أبي عمرو بن أميه جد الوليد بن عقبة بن أبي معيط).

(١) المراد ولا تنكحوا الذي قد نكح آبائكم وذكر ما دون لأحد الوجهين فلأنه أريد به الصفة ، وإما لأن ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر.

(٢) انظر تفسير الطبري (٤ / ٦١) ، تفسير القرطبي (٥ / ١٠٣).

(٣) تفسير الحاكم.

(٤) تفسير الطبرسي (٤ / ٦٠).

(٥) زاد المسير (٢ / ٤٤) ، وقاله أيضا الضحاك والمفضل ، وفيه أيضا في قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ستة أقوال ، القرطبي (٥ / ١٠٤).

(٦) تفسير الطبرسي (٤ / ٦٢) قال في الكشاف (فإن قلت كيف استثنى (ما قَدْ سَلَفَ) من (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ)؟ قلت : كما استثنى (غير أن سيوفهم) من قوله : (ولا عيب فيهم) يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف ، فانكحوه ، فلا يحل لكم غيره. وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته ، كما يعلق بالمحال في التأييد نحو قولهم : حتى يبيض القار ، و (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)).

٣١٤

بعد النهي ، وصححه أبو علي (١) ، وقيل : يرجع إلى النكاح الذي كان عليه الجاهلية (٢).

وقوله : (كانَ) قيل : كان زائدة ، عن أبي العباس (٣) والمعنى : أنه كان فاحشة وأنكر ذلك الزجاج وقال : لو كانت زائدة لم تعمل (٤) ، وقيل : إنما دخلت لتدل أنه قبل تلك الحال فاحشة ، نحو قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الأحزاب : ٧٣] وعن علي بن عيسى : نصب على التمييز (٥) ، وقيل : على الحال وهذا هو الصحيح إنه كان فاحشة قبل ذلك ، وقد قال الحاكم : ذكر شيخنا أبو القاسم أنه إجماع وأنكر قول من قال : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فإنه جائز لكم (٦).

__________________

(١) تفسير الطبرسي (٤ / ٦٢).

(٢) تفسير الطبرسي (٤ / ٦٠).

(٣) الطبرسي (٤ / ٦٠). ومثله في الحاكم ولفظه وقوله (كانَ فاحِشَةً) قيل : زائدة عن أبي العباس. والمعنى انه فاحشة ، وأنكره الزجاج ، وقال : لو كانت زائدة لم تعمل ، وقيل : إنها دخلت لتدل أنه قبل تلك الحال فاحشة ، نحو قوله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً ) عن علي بن عيسى نصب على التمييز ، وقيل : على الحال.

(٤) تفسير الطبرسي (٤ / ٦٠).

(٥) وفي نسخة (وَساءَ سَبِيلاً) وسبيلا عن علي بن عيسى نصب على التمييز) ولفظ المثبت يوافق ما في التهذيب للحاكم ولفظ الحاكم وقوله (كانَ فاحِشَةً) قيل : زائدة عن أبي العباس. والمعنى انه فاحشة ، وأنكره الزجاج ، وقال : لو كانت زائدة لم تعمل ، وقيل : إنها دخلت لتدل أنه قبل تلك الحال فاحشة ، نحو قوله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) عن علي بن عيسى نصب على التمييز ، وقيل : على الحال).

(٦) ولفظ الحاكم : («إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) لكن ما مضى معفو عنه لا يؤخذون به ، وقيل : بعد ما مضى عن أبي مسلم ، وقيل : إلا ما قد سلف فدعوه فإنه جائز لكم ، قال شيخنا أبو القاسم : وهذا خلاف الإجماع ، وما علم من دين الرسول ، وقيل : لكن ما سلف فدعوه واجتنبوه عن قطرب ، وقيل : إنما استثنى ما مضى ليعلم أنه لم يكن مباحا لهم أي : نكاح امرأة الأب (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) قيل : إنه فاحشة أي : معصية ـ

٣١٥

وعن قطرب : أن المعنى بقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يعني فدعوه واجتنبوه.

ثمرات الآية : دلت على تحريم نكاح امرأة الأب ، وذلك إجماع ومعلوم من دينه عليه‌السلام ضرورة.

وعن البراء بن عازب قال : لقيت خالي ومعه الراية ، فقلت : أين تريد؟ فقال : أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده لأقتله (١).

ويدخل في التحريم : امرأة الجد أب الأب ، وأب الأم وإن علا.

قال الحاكم : وذلك إجماع ولا يقال : الحقيقة في اسم الأب لا يقع على الجد ؛ لأن تسمية الجد أبا مجاز فكيف يحمل على الحقيقة والمجاز (٢).

قال الحاكم : ذلك جائز (٣) لأنه لا تنافي بينهما (٤) ، وقد قال الحاكم : إنه إجماع. ولكن اختلفوا هل تحريم امرأة الجد أخذ من الآية أو من غيرها ، وقد ذكر تحريم حليلة الجد أب الأم (المنصور بالله).

قال في الشفاء : وهو مقتضى كلام الهادي في الأحكام (٥).

__________________

ـ قبيحة ، وقيل : كان فاحشة قبل هذا ، ولا يكون كذلك إلا وقد قامت الحجة بالتحريم ، وقيل : (فاحِشَةً) أي : زنى (وَمَقْتاً) أي : بغضا يورث بغض الله (وَساءَ سَبِيلاً) أي : طريقا فاسدا ، ومعناه : وساء الطريق ذلك النكاح)

(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف () وابن أبي شيبة وأحمد في المسند () والحاكم في المستدرك وصححه () والبيهقي في السنن عن البراء بن عازب كما احتج به الخازن في تفسيره (١ / ٣٥٨) ، والشوكاني في فتح القدير (١ / ٤٤٣) وغيرهما.

(٢) تفسير الحاكم.

(٣) وهو المقرر في أصول الفقه.

(٤) تفسير الحاكم.

(٥) شفاء الأوام (١)

٣١٦

قال في كتاب (الروضة والغدير) (١) : وقد نجم في زماننا قول وقد انقطع وهو ما رواه الوالد عز الدين الهادي ابن تاج الدين عن حي السيد العالم يحيى بن بن الداعي ، وعن القاضي أحمد بن الحسن بن عواض أنهما أجازا نكاح امرأة الجد أب الأم ، وقد تكلم عليهما الأمير الحسين في (التقرير) وبين ذلك بيانا شافيا ، ثم أنه لا فرق بين أن يدخل الأب بالزوجة أو لا ، وأن (٢) مجرد العقد يوجب تحريمها على فروعه ، وهذا إجماع ، فإن حصل الوطء في نكاح شبهة (٣) قيل حرم إجماعا.

وأما وطء الزنا فمذهب الأئمة والشافعي وإحدى الروايتين عن (مالك) أنه لا يحرم (٤) للخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحرم الحرام الحلال» (٥) فأخرجه الخبر من دخوله في الآية.

وقال (أبو حنيفة ، وأحمد) : ورواية عن (مالك) : يحرم لأنه ينطلق عليه اسم النكاح ، وكما لو وطئها في نكاح صحيح وهي حائض.

فأما الوطء في الغلط والباطل فعلى قول (أبي حنيفة) يحرم ، واختلف الأئمة فقال الهادي والقاسم والناصر : لا يحرّم (٦) لأنه في نفسه حرام وإن سقط الإثم ، فخرج بالخبر.

وقال (المؤيد بالله) والفقهاء : أنه يحرم كوطء الشبهة ؛ ولأنه قد ثبت

__________________

(١) الروضة والغدير نسخة خاصة.

(٢) في (أ) : أن.

(٣) في (ب) : شبهة.

(٤) لأنه يجعله حقيقة في الوطء.

(٥) أخرجه المتقي الهندي في منتخبه (٦ / ٤٨٢ ، ٤٨٥) ، وعزاه لابن ماجة في سننه عن ابن عمر وللبيهقي في السنن الكبرى عن عائشة.

(٦) وهو المذهب الذي بنى عليه الإمام المهدي عليه‌السلام في مختصره المتن حيث قال : وكل وطء لا يستند إلى نكاح ، أو ملك صحيح أو فاسد لا يقتضي التحريم.

٣١٧

له من احكام النكاح المهر ، ولحوق النسب ، ووجوب العدة ، وسقوط الحد ، و (أبو حنيفة) يحتج بالخبر وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها» فجعل النظر موجبا للتحريم ؛ ولأنه يدخل في عموم الآية ، وقياسا على وطىء الأمة إذا وطئها الأب حرمت على فروعه ؛ لأن ذلك ينطلق عليه اسم النكاح ، وتدخل في ذلك حليلة الآباء من الرضاعة.

تكميل هذه الجملة

لو تزوج بأمرأة أبيه ووطئها فعند (أبي حنيفة) العقد شبهة يسقط الحد وكذا أصله في العقد على من كان لها رحامة (١).

ومذهبنا والشافعي أن الحد واجب وليس العقد شبهة.

قوله تعالى

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٢٣]

ثمرة هذه الآية الكريمة

تحريم نكاح من ذكر لأن التقدير حرم عليكم نكاح أمهاتكم ، وإنما

__________________

(١) لعله يريد من النسب ، والرضاع ، وكذلك الربائب من الجانبين ، وحلائل الأبناء من الجانبين ، أيضا هذه سبب من المصاهرة ، السابعة : الجمع بين الأختين. (ح / ص).

٣١٨

حذف لدلالة الحال عليه لتقدم قوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) ولأنه المعهود والمفهوم من إطلاق اللفظ ، كما أن المفهوم من تحريم الخمر شربها ، ومن تحريم الخنزير أكله.

وأما نفس العين فلا يتأتى فيها التحريم ، ثم أن الآية قد انطوت على ما ذكر من تحريم من يحرم بالنسب ، وتحريم من يحرم بالرضاع ، وتحريم من يحرم بالمصاهرة.

أما المحرمات بالنسب فهن سبع.

وعن ابن عباس : حرم الله تعالى من النسب سبعا ، ومن الصهر سبعا ، وتلا هذه الآية.

وقوله تعالى : (أُمَّهاتُكُمْ) يجمع الأم حقيقة ، وأمهات الأمهات ، وأمهات الأجداد من قبل الأب ومن قبل الأم.

وقوله تعالى : (وَبَناتُكُمْ) يجمع من انتهى إليك بطريقة الولادة من البنات وبناتهن ، وبنات البنين ، وبنات أولاد البنات ، وقد ضبط بقولنا : يحرم على الإنسان أصوله وفروعه.

وقوله تعالى : (وَأَخَواتُكُمْ) بجميع الأخوات من الأبوين أو من أحدهما ، ولما كان اسم الأخوات لا ينطلق على بناتهن ، ولا على بنات الأخ بين ذلك بقوله تعالى : (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) (١) وهذا يجمع من انتهى إلى الأخ أو إلى الأخت ، وقد ضبط هذه بقولهم : تحريم فروع أقرب الأصول.

وقوله تعالى : (وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) يجمع العمات والخالات من الطرفين أو من طرف ، ويدخل في ذلك عمات الأب وخالاته ، وعمات

__________________

(١) عند اللفظ (وبنات) نهاية.

٣١٩

الأم وخالاتها ، ولا يدخل أولاد العمات والخالات ؛ لأن الاسم لا يتعلق به (١) ، وقد ضبط بقولنا : وأول فرع من كل أصل بعد الأصل الأقرب.

ويتعلق بهذا فرع : وهو إذا زنى الرجل بامرأة فجاءت ببنت لها ، هل تحرم على الواطء أم لا؟

فعن (المؤيد بالله) و (أبي العباس) و (أبي حنيفة) أنها تحرم ؛ لأن بنت الرجل (٢) هي من خلقت من ماءه ، هذا في اللغة.

وقال (أبو طالب) و (الشافعي) و (الناصر) : يجوز زواجتها ويكره.

قال (أصحاب الشافعي) : لو علمنا أنها من ماءه لحرمت.

والوجه في عدم التحريم أن للبنوة أحكاما منها : لحوق النسب ، وثبوت الإرث ، ووجوب النفقة ، ومنع الزكاة (٣) ، فلما لم يثبت شيء من هذه الأحكام لم يثبت التحريم.

ولـ (أصحاب أبي حنيفة) طريقان في التحريم أحدهما : لكونها نبتة في المعنى ، وهو أنها من ماءه ، وعلى هذا تحرم على آبائه وأبنائه. والثانية : لكونها ربيبته فعلى هذا تحل لآبائه وأبنائه (٤).

واعلم : أن من حرم من هولاء بالنكاح حرم وطؤه بالملك.

وقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) هذا السبب الثاني من أسباب التحريم ، وهو تصريح بتحريم الأم من

__________________

(١) لا يتعلق به لا حقيقة ولا مجازا.

(٢) في (ب) : لأن بنته (قال في (ح / ص) : قوي ظاهر ؛ إذ المعتبر في الحقائق مع التعارض الشرعية لا اللغوية)

(٣) يقال : هذا تحكم ، واحتجاج بمحل النزاع. (ح / ص).

(٤) هذا يناسب أصله ؛ لأنه يجعل النكاح حقيقة في الوطء ، وأما أصحابنا القائلون بالتحريم فيعللون بالأول ، والله أعلم (ح / ص).

٣٢٠