تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وأما من قال : إن الأقراء هي الأطهار ، فإنه يحتسب بقية الطهر الذي طلقت فيه ، فيجعله قرءا.

قال في المهذب : وأقل ما يمكن اثنان وثلاثون يوما وساعة ، وبيانه : أن يطلقها لبقية ساعة من الطهر ، فتلك الساعة قرء ، ثم تحيض بعده يوما وليلة ، ثم تطهر خمسة عشر يوما ، ثم تحيض يوما مع ليلته الماضية ، ثم تطهر خمسة عشر يوما ، وهو القرء الثالث.

وعندنا أقل ما يمكن في تسعة وعشرين يوما.

الحكم الثالث

يتعلق بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) وهذا تصريح بتحريم كتمان ذلك.

واختلف المفسرون فقيل : أراد من الحيض ، فلا تكتمه استعجالا للطلاق ، بأن تقول : قد طهرت لتطلق قبل ، أو تقول : قد حضت لتبطل رجعته.

وقيل : أراد الولد ، فلا تكتم الحمل لتعجله على الطلاق ؛ لأنه إذا عرف الحمل أشفق من الطلاق رقة على الحمل.

قال الزمخشري (١) : ويجوز أن يراد كتم الولد ، ويكون هذا نهيا عن قتل الأجنة ، فلا يكتمن عازمات على قتله. وقيل : بنسبة الولد إلى غير أبيه.

__________________

(١) لفظ الزمخشري (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الولد أو من دم الحيض. وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض : قد طهرت ، استعجالا للطلاق. ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه).

٢١

وقوله تعالى : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ) تأكيد للنهي عن كتمه ، وأن من آمن بالله واليوم الآخر لم يجترئ على ذلك ، وقد أخذ من هذا الحكم حكم آخر ، وهو أن قولها مقبول في انقضاء العدة ، لو لا ذلك لم يكن للنهي فائدة في الظاهر ، وهذا كما ذكر الله تعالى في الشاهد من قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] لما توعده على كتمان الشهادة ، كانت شهادته مقبولة لكن أبا حنيفة ، والشافعي قالا : تقبل مطلقا ، حيث كانت المدة يمكن فيها الانقضاء ، وأهل المذهب قالوا : هذا في المعتادة ، أما ما لا تعتاد فلا بد من البينة ، لأنها ادعت خلاف الظاهر ، فصارت مدعية ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «البينة على المدعي».

وروي أن امرأة طلقها زوجها ، فادعت انقضاء عدتها في شهر ، فقال علي عليه‌السلام لشريح : احكم بينهما ، فقال شريح : إن جاءت ببطانة من أهلها ممن يرضى دينه وأمانته يشهدون أنها حاضت ثلاث حيض فهي كما قالت ، وإلا فهي كاذبة ، وقضى بذلك ، وصوبه علي عليه‌السلام.

تكملة لهذا الحكم

البينة عندنا في هذا ونحوه مما لا يطلع عليه الرجال امرأة عدلة ، والوجه : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل شهادة القابلة في الولادة ، وقال الشافعي في الولادة : أربع ، وقال مالك : اثنتان

وطريق الشهادة (١) : ذكر بعض المفرعين للمذهب أن المرأة الشاهدة

__________________

(١) وفي نسخة (وطريق الشاهدة). في البستان (فيما لا يطلع عليه المحارم ، قال القاضي صلاح الفلكي ، رحمه‌الله فيما لا يطلع عليه الجنس ، قال : وهو الذي حفظه عن مشائخه ، وقرره شيخنا المفتي ، ورواه عن مشائخه ، وفي جوابات التهامي على الشكايذي أنه الفرج فقط ، وهو صريح الغيث ، والحفيظ ، وفي الكواكب في البيع وغيره خلاف ذلك ، وفي البيان فيما لا يطلع الرجل عليه مثل ما في هذا الكتاب ، والله أعلم. (ح / ص).

٢٢

لا بد أن تشهد على خروج الدم من فرجها في أول زمان الحيض وآخره ، لا إن شهدت على الدم في خرقها ، وهذا فيه صعوبة ، وفي حديث شريح أنه قال : إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدون على [أنها كانت تحيض قبل الطلاق كذلك فالقول لها ، فقال علي عليه‌السلام : قالون ، أي : أصبت ، وهي كلمة رومية] (١).

قال الحاكم (٢) : «وكذا يستخرج من هذا تحريم كتم العلم ؛ لأنه إذا حرم كتم الحيض ، وكذا كتم ما فيه شريعة».

وكذا لا يحل لها كتم الحيض لأجل وطء الزوج ، ولا تمنعه من الوطء معتلة أنها حائضة ، وليست كذلك ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لعن الله المفسلة (٣) ، والمسوفة» المفسلة : التي تدعي الحيض لتمنع زوجها من وطئها ، والمسوفة تقول له : سوف نفعل بعد هذا الوقت.

__________________

(١) بياض في الأصل قدر سطرين ، وقد أتممناه مما ذكره العلامة النجري في شرحه على الخمسمائة ، ولفظ النجري (أن عليا عليه‌السلام سأله عن امرأة طلقت ، فذكرت أنها حاضت ثلاث حيض في شهر واحد ، فقال شريح : إن شهدت ثلاث نسوة من بطانة أهلها أنها كانت تحيض قبل الطلاق كذلك ، فالقول لها ، فقال عليه‌السلام قالون : أي أصبت ، وهي كلمة رومية. ورواه الزمخشري في الفائق ، وابن الأثير في النهاية.

ولفظ الحديث كما تقدم قريبا (إن جاءت ببطانة من أهلها ممن يرضى دينه وأمانته يشهدون أنها حاضت ثلاث حيض فهي كما قالت ، وإلا فهي كاذبة ، وقضى بذلك ، وصوبه علي عليه‌السلام).

(٢) لفظ الحاكم (وتدل على أن من علم شيئا في الشرع يحرم عليه كتمانه ، لأنه إذا حرم عليها كتمان الحيض لما يتعلق به من الحكم فتحريم كتمان الشرائع أولى.

(٣) المفسلة ـ بالفاء ـ في الصحاح : والمفسلة : المرأة التي إذا نشط زوجها يغشاها اعتلت بالحيض ، وليست بحائض ، فيفسل الرجل عنها ، ويفتر نشاطه ، من الفسولة ، وهي الفتور في الأمر. نهاية.

٢٣

الحكم الرابع

يتعلق بقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) المعنى : وأزواج المطلقات المذكورات أولى بردهن إليهم (فِي ذلِكَ) أي : وقت الأقراء (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) يعني : عدم الضرار ، والضرار بأن يسترجعها لمنعها من التزوج ، ثم يطلقها ، فإذا قرب انقضاء العدة استرجعها ثم كذلك ، والبعل : الزوج ، والجمع : البعول ، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع ، كقولك : سهولة) (١) ، وسمي الزوج بعلا لقيامه بأمور زوجته ، وأصل البعل : السيد والمالك ، قال تعالى : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) [الصافات : ١٢٥] ومعنى : (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) أي : يجب إيثار قوله : إن طلب الرجعة على قولها إن أبت ، وهذا عام في المطلقات ، لكن خرجت المثلثة بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) [البقرة : ٢٣٠] وخرجت المطلقة على عوض بأن طلاقها بائن عندنا ، وهو قول عامة الفقهاء ، لقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] وظاهر الفداء يفيد الاستبداد بما فدي له ، وعن علي عليه‌السلام» إذا قبل الرجل من امرأته الفدية فقد بانت منه بتطليقة» ولأنا قلنا : إن له الرجعة أدى إلى أنه يملك البدل والمبدل.

وقال أبو ثور : إنه تجوز الرجعة مع أخذ العوض ، وقال ابن المسيب ، والزهري : إن أحب الزوج الرجعة رد العوض ، كذلك عموم الآية يقضي أن للزوج الرجعة ، ولا فرق بين أن يطلق بالصرائح ، أو الكنايات ، وهذا مذهبنا ، والشافعي ؛ لعموم الآية ، ولقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) ولم يفصل.

وقال أبو حنيفة : الكنايات بائنة إلا ثلاثا ، وهي قوله : اعتدي ،

__________________

(١) ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك : بعل حسن البعولة ، أعني : وأهل بعولتهن. كشاف

٢٤

واستبرئي رحمك ، وأنت حرة ، وقال الحسن ، ورواية عن علي عليه‌السلام أنه إذا قال : جعلت أمرك إليك ، واختارت نفسها طلقت واحدة بائنة (١) لكن الرواية الظاهرة عن علي عليه‌السلام أنها رجعية.

وتكملة هذا الحكم أن يقال : بماذا يكون الرد؟ قلنا : أما بالقول فذلك إجماع ، وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر حين طلق ابنه عبد الله : «مره فليراجعها» وهو يكون بلفظ الرد ، أو الرجعة ، أو الإمساك ، وما أفاد ذلك ، ولفظ الرجعة صريح ، وكذا الرد والإمساك ، وقد ورد بذلك القرآن ، قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وقال تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٣١] ولأصحاب الشافعي وجه : أن الإمساك لا تصح به الرجعة ، لأنه يستعمل في البقاء ، والاستدامة دون الرد ، وقال بعضهم : هو كناية.

وأما بلفظ النكاح والتزويج فوجهان لأصحاب الشافعي ، واختار الإمام يحي عليه‌السلام صحة الرجعة به ؛ لأنه إذا صح به النكاح ، وهو ابتداء الإباحة فأولى أن تصح به الرجعة ؛ لأنها إصلاح شعب (٢) فيه.

وأما قوله : رفعت الطلاق ، وأعدت النكاح ، فهذا كناية ، وقد حكى عن الشافعي صحة الرجعة بالكناية ، في قوله الجديد ، واختار الإمام يحي عليه‌السلام أنها لا تصح بالكناية ، لأنها استباحة للوطء ، فأشبهت النكاح.

__________________

(١) في الغيث : وهو قول زيد بن علي ، والصادق ، والباقر ، أنها إذا اختارت نفسها وقعت طلقة بائن.

(٢) في النسخ الثلاث (شعب) (شعث) (شغب) وهي كلها بمعنى الصدع والتفرق ، والشغب : بتسكين الغين : التهييج للشر ، والفتنة والخصام ، وفي الصحاح : الشغب بالتسكين ، ولا يقال : شغب بالفتح.

٢٥

قال الإمام : وتكون رجعة الأخرس بالإشارة ، كنكاحه.

وأما الرجعة بالفعل كالوطء ومقدماته ، فقال الشافعي : لا يكون ذلك رجعة ، ولا يجوز ، ولو وطئها في العدة لزمه المهر ؛ لأنه وطء شبهة ، والذي خرج للهادي عليه‌السلام أن الوطء رجعة ، وهو قول الناصر.

والوجه : أن الوطء في باب الإيلاء قد جعل فيئا ورجوعا ، فكذا هنا ، وأيضا فإن الوطىء لما قام مقام القول في إبطال الخيار فكذا هنا ، وهذا قول مالك ، وتعلق الشافعي بأن قال : الرجعة كالنكاح لا تتم إلا بالقول.

وأما مقدمات الوطء ، فالمذهب أن ذلك رجعة ، لأنها لما قامت مقام الوطء في إبطال الخيار قامت هنا مقام الوطء في الرجعة.

وقال مالك : ليست كالوطء.

وقال أبو حنيفة : النظر رجعة إن كان إلى الفرج فقط.

وقال مالك : التقبيل ليس برجعة ، وشبهوا هذا بمقدمات النكاح ؛ لأجل تحريم الربيبة (١) ، وهذا الوطء جائز أن قصد به الرجعة ، فإن لم يقصد كان عاصيا لعزمه على فعل ما لا يجوز.

وقولهم : الرجعة بالوطء محظورة. أرادوا : حيث لم يرد الرجعة ، والإمام يحي عليه‌السلام بقاه على ظاهره ، وقال : يجب فيه التعزير.

ثم إن الوطء لا فرق فيه بين أن تكون طائعة ، أو مكرهة ، طاهرة ، أو غير ، محرمة أو غير ، نائمة أو غير.

ولا تجب نية في الرجعة كالنكاح ، خلافا لمالك ، وإسحاق ، ولا

__________________

(١) قلت : لا نسلم الأصل .. لأنها عندنا تقتضي التحريم حيث كانت لشهوة. (ح / ص).

٢٦

يجب الإشهاد ، بل يستحب ، وإنما يجب لعموم قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وهذا مذهبنا ، وأبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي.

وأحد قوليه : يجب الإشهاد ، محتجا بقوله تعالى في سورة الطلاق : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] وهذا أمر ، والأمر على الوجوب.

قلنا : الواو لا توجب التعقيب ، فإذا جاز تراخي الإشهاد ثبت أنه غير واجب ، إذ لو وجب وجب الاقتران كالنكاح ، ثم إن الأمر بالإشهاد ورد عقيب الفراق لا عقيب الرجعة ، ولما كان القياس على سائر العقود يوجب عدم الإشهاد ، كان القياس معارضا لظاهر الأمر ، فحمل على الندب.

ويتعلق بهذا الحكم فروع

الأول : في حكم الرجعة ، فإن كان الطلاق للسنة ، فهي مباحة ، ولعل أقسام النكاح تأتي هنا ، وإن طلقها وهي حائض فمذهبنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي أنها مستحبة ، غير واجبة ، وإنما لم تجب لقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وما كان حقا للإنسان لم يجب عليه.

وقال مالك : تجب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر حين طلق ابنه عبد الله زوجته وهي حائض : «مره فليراجعها» وهذه مسألة أصولية هل الأمر بالأمر يدل على الوجوب على المأمور أم لا (١)؟ ذهب الأكثر إلى أنه لا يدل ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مروهم لسبع» فإن ذلك لا يدل على الوجوب على الصبيان.

__________________

(١) ويمكن أن يقال : أما في مثل هذه المسألة فالكل متفقون على أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به ؛ لأنه مثل أن يأمر الملك وزيره بأمر ليلقيه إلى من دونه ، ولا شك أن من دون الوزير مأمورون ؛ لأن الوزير مبلغ عن الملك ، وإلا لزم أن لا تكون الأمة مأمورة بما أمر به رسوله أن يبلغه إليها ؛ لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا به ، وهو باطل اتفاقا ، وعمر مبلغ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ابنه عبد الله ، على أن الحديث مصرح بالأمر لعبد الله ، بقوله : (مره فليراجعها) فليس من مسألة الأمر بالأمر بالشيء في شيء من ذلك. (ح / ص).

٢٧

الفرع الثاني : لو استرجع وهي غائبة عنه ، ولم تعلم بالرجعة حتى تزوجت بآخر فمذهبنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي : أنها لمن استرجعها ، وأن الرجعة ليس من شرطها العلم ، كما ليس من شرطها الرضاء.

وقال مالك في رواية ، والليث ، والأوزاعي : الذي عقد عليها أولى.

وعن ابن المسيب أنه قال : مضت السنّة أن الذي راجعها ليس له من أمرها شيء ولكنها لمن تزوجها.

وعن مالك : هي للمراجع إلا أن يدخل بها العاقد جاهلا ، وقال الحسن : إذا لم تعلم بالرجعة حتى انقضت العدة فلا سبيل له عليها.

الفرع الثالث

يتعلق بقوله تعالى : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) قال المفسرون : الإصلاح أن يريدوا الإحسان فيما بينهم وبينهن ، ولا يريدون (١) الضرار.

إن قيل : هذا تصريح بثبوت حق الزوج مع إرادة الإصلاح.

ومفهوم الشرط : أنه لو لم يرد الإصلاح لم يكن له حق الرجعة ، جواب ذلك ما ذكر الحاكم أن الشرط لإباحة الرجعة لا لثبوت أحكامها ، فإن الإجماع منعقد أنها تصح مع إرادة الضرار ، وتثبت أحكامها ، فصارت كالطلاق في حال الحيض ، فمنع الإجماع من الأخذ بالمفهوم عند من قال به (٢).

وقوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) أي : مثله في الجنسية ، بمعنى أنه حسن لا أنه يفعل لها نظير ما تفعله له. وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) يعني : بما

__________________

(١) وفي نسخة (ولا يريدوا الضرار) فعلى هذه الواو عاطفة ، وعلى المثبت الواو للحال ، أو عطفا على محل إن واسمها.

(٢) وليس المراد منه شريطة قصد الإصلاح للرجعة ، بل للتحريض عليه ، والمنع من قصد الضرار. بيضاوى (ح / ص).

٢٨

يعتاد من حسن المعاشرة ، من غير تعنيف. وقوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) قيل : في الحق ، وقيل : بما فضّل من الشهادة ، والجهاد ، والميراث ، والطلاق ، والرجعة ، والتزوج عليها ، والعقل ، والقيام عليها.

خبر رواه في الثعلبي بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنه قال : خيار الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم ، وخير النساء من أمتي خيرهن لأزواجهن ، يرفع لكل امرأة منهم كل يوم وليلة أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين ، وتفضل إحداهن على الحور العين كفضل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أدنى رجل منكم ، وخير النساء من أمتي من تأتي مسرة زوجها في كل شيء يهواه ما خلا معصية الله تعالى ، وخير الرجال من أمتي من تلطف (١) بأهله لطف الوالدة بولدها ، يكتب لكل رجل منهم في كل يوم وليلة أجر مائة شهيد ، قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين ، فقال عمر : يا رسول الله ، وكيف يكون للمرأة أجر ألف شهيد ، ويكون للرجال أجر مائة شهيد ، قال : أو ما علمت أن المرأة أعظم أجرا من الرجل ، وأفضل ثوابا» في خبر طويل.

قوله تعالى

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩]

النزول

روي أن امرأة أتت عائشة فشكت أن زوجها يطلقها (٢) ويسترجعها مضارة لها ، وكان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء العدة ، ولو طلقها ألف مرة ، ولم يكن للطلاق حد ، فذكرت عائشة ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزل : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فجعل الطلاق ثلاثا.

__________________

(١) في نسخة (من يلطف لأهله).

(٢) في نسخة (فشكت زوجها أنه يطلقها).

٢٩

قيل : الثالث في قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) وقيل : في قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقد قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأين الثالثة؟ قال : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

واختلف في المعنى ، فقيل : أراد بيان ما يوجب البينونة ، وهو الثالث ، مما لا يوجبها وهو الأول والثاني ، وهذا عن قتادة.

قال الزجاج : وفيه حذف ، كأنه تعالى قال : الطلاق الذي تملك به الرجعة مرتان.

وقيل : المراد بيان طلاق السنة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، ولفظه الخبر ، والمراد الأمر ، أي : طلقوا مرتين ، وبعد ذلك (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي : فعليه إمساك بمعروف ، يعني : إذا راجعها بعد الثانية (أَوْ تَسْرِيحٌ) يعني : بالطلقة الثالثة.

وقيل : هو (١) أن يترك مراجعتها حتى تبين بانقضاء العدة ، روي ذلك عن الضحاك ، والسدي ، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن عدد الطلاق ثلاث ، وهذا جلي

وقوله تعالى : (مَرَّتانِ) معناه : التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة ، على التفريق ، دون الجمع ، ولم يرد بالمرتين التثنية (٢) ، ونحو هذا قوله : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] أي : كرة بعد كرة ، وكذا يراد به التكرار في الأسامي ، نحو «لبيك وسعديك» وقد ذكر الإمام في الانتصار أنه لو حلف ليضربن عبده مائة ضربة برئ بالعثكال ، إلا إذا حلف ليضربنه مائة كرة ، فإنه لا يبرأ إلا بالتفريق.

ولكنه يتعلق بهذا فرعان :

الأول : هل الطلاق يتبع الطلاق أم لا؟

أما قبل الدخول فالطلاق لا يتبع الطلاق ؛ لأنها قد بانت بالأولى ، وهذا مذهب الأكثر.

__________________

(١) أي : التسريح.

(٢) ولكن التكرير. كشاف.

٣٠

وعن مالك ، والليث ، وقول للشافعي : يتبع.

قيل : المراد إذا اتصل اللفظ ؛ لأن اتصاله يشبه إيقاع الطلقات بلفظ واحد ، ومأخذ هذا من الآية الكريمة أن الله تعالى خير الزوج بين الإمساك والتسريح ، وهو لا يملك الخيرة في البائن (١).

وأما إذا كان بعد الدخول ، وكان بعوض ، فالذي نص عليه القاسم ، والمؤيد بالله ، وهو قول الناصر ، وأحد قولي الشافعي : أنه لا يلحقها الطلاق ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وابن الزبير ، والوجه لهذا قوله في هذه الآية : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فجعل الخيار إلى الزوج ، وذلك لا يكون في البائن ؛ ولأن ذلك يشبه المطلقة قبل الدخول ، من حيث إنها بائن ، وقال أبو حنيفة ، والمنصور بالله : يلحقها الطلاق في العدة.

قال في شرح الإبانة : وروى هذا محمد بن منصور (٢) عن زيد بن

__________________

(١) إذ ليس له الإمساك بالمعروف لعدم صحة ما يترتب الإمساك عليه ، وهو الرجعة ، فكذلك قسيمه ، وهو التسريح بالإحسان يمتنع لعدم صحة ما يترتب عليه وهو الطلاق ، فيمتنع الطلاق كما امتنعت الرجعة في الطلاق البائن. تمت سماع شيخنا.

(٢) محمد بن منصور بن يزيد المرادي ، الكوفي الزيدي ، مسند الآفاق ، وإمام الزيدية بالإتفاق ، وصاحب الأئمة ، وجامع أقوالهم ، وخادمها ، وله مؤلفات نافعة منها : أمالي أحمد بن عيسى ، مسلسل الأحاديث ، وكتاب الذكر ، كذلك ، والمناهي ، وغير ذلك ، ومؤلفاته اثنان وثلاثون كتابا ، وهو جامع تفسير الغريب للإمام زيد بن علي بإسناده ، حدث عن أمم كثيرة ، أقدم شيخ له ابن جريج ، ومحمد ابن إسماعيل الأحمسي ، وأبو كريب ، وغيرهم ، ومن الأئمة القاسم ، وأحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى ، والحسن بن يحي ، وأخذ عنه الناصر للحق كثيرا ، وابن مالي. أسمع عليه أحمد بن عيسى مؤلفه سنة ٢٥٦ ه‍ وهو العام الذي مات فيه البخاري ، وفضله كثير شهير ، توفي رحمه‌الله سنة نيف وتسعين ومأتين ، أخرج له جميع الأئمة.

٣١

علي ، والباقر ، والصادق ، وتعلقوا بأن قالوا : إن الله تعالى قال بعد ذكر الخلع في هذه الآيات : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ).

قلنا : ليس في ذلك بيان متى طلق ، قالوا : وقد ورد عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المختلعة يلحقها الطلاق» قال في شرح الإبانة : معناه إذا تزوج بها في عدة الخلع ، والتأويل فيه تعسف إن صح الخبر ، وقال مالك : يلحقها إن كان متصلا ، وتمسك أبو حنيفة بأن قال : العدة من أحكام النكاح ، ولهذا لا يتزوج أختها في العدة عنده

وأما إذا كان طلاقا رجعيا فأتبعه طلاقا آخر في العدة ، فالذي خرجه أبو طالب ، وحمل عليه قول القاسم عليه‌السلام ، وهو قول المؤيد بالله ، والفرق الثلاث الشافعية ، والحنفية ، والمالكية ـ أن الطلاق يتبع الطلاق.

وحكى في شرح الإبانة عن أحمد بن عيسى ، وموسى بن عبد الله ، وابني الهادي ، وأبي العباس ، وابن سيرين ، كالقول الأول أنه لا يتبع ، وتعلق الجميع بقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

قال أهل القول الثاني وهم الأكثر : فجعل الله تعالى الخيرة للزوج بين الإمساك والتسريح ، ولم يشترط الرجعة ، قالوا : ولأن أحكام الزوجية باقية ، ولهذا تنتقل إلى عدة الوفاة.

قال الأولون : التخيير بين الإمساك والتسريح هو بعد الرجعة ، والذي يدل على ذلك أن الإمساك لا يكون إلا بعد الرجعة ، وقد خير بينه وبين التسريح ، فكانا جميعا بعد الرجعة ، حتى يكون المخير بينهما في حال واحدة ، قالوا : ولا يصح أن يكون الإمساك هو الرجعة إذا لبطلت

٣٢

القسمة بوجود حال ثالث (١) ، وهو أن لا يسرح ، ولا يمسك ، وأيضا فإنه يقال : فلان راجع امرأته ولم يمسكها بالمعروف ، فكأن الإمساك عبارة عن القيام بما يلزمه ، قالوا : ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمر في طلاق ابنه : «مره فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم يطلقها» فلو كان الطلاق يتبع الطلاق لم يأمره بالرجعة.

الفرع الثاني

لو جعل الطلقات بلفظ واحد هل تكون واحدة أو ثلاثا؟ وهذه مسألة اختلف العلماء فيها من الصحابة والتابعين ، والأئمة ، فعند الهادي ، والقاسم ، وطائفة ممن ذكر ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام : أن ذلك طلقة واحدة ، وعن المؤيد بالله ، والفرق الثلاث ، وهو رواية عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وعائشة : أنها ثلاث

قال الأولون : إن الله تعالى قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) إلى آخر الآية فجاء بالألف واللام فاقتضى ذكرهما الاستغراق ، وذكر المرتين للتكرار ، والتكرار لا بد له من أوقات ، فإذا قال : أنت طالق ثلاثا فله أن يطلق في أوقات ، واحتجوا بحديث ابن عباس (٢) قال : كان الطلاق على عهد

__________________

(١) يمكن أن يقال : يجوز أن يكون الإمساك هو الرجعة ، ولا نسلم وجود قسم ثالث ؛ لأن التخيير بين الرجعة والتسريح ، والتسريح بأمرين إما بالطلاق الثالث ، أو بعدم الرجعة إلى أن تبين منه ، ويمكن أن يجاب بأن الرجعة سبب الإمساك ، فإطلاقه عليها إطلاق لاسم المسبب على سببه ، فيكون مجازا ، وهو خلاف الأصل. والله أعلم. (ح / ص).

(٢) رواه في شرح التجريد المؤيد بالله مسندا ، حيث قال : أخبرنا به أبو العباس الحسني ، رضي الله عنه ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال أخبرنا الحسين بن أبي الربيع ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن ابن عباس ، وساق الحديث ، ورواه فيه بسند آخر من طريق أبي جعفر الطحاوي مرفوعا إلى ابن عباس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبي بكر ، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة (١) ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم.

واحتجوا أيضا بما روي «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف طلقتها؟ فقال : طلقتها ثلاثا ، قال : أفي مجلس واحد؟ قال : نعم ، قال : فإنها واحدة ، فراجعها إن شئت ، قال : فراجعها.

واحتج الفريق الآخر بحجج ، وهي عموم قوله تعالى في سورة البقرة : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [البقرة : ٢٣٦] وقوله تعالى في سورة الطلاق : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] ولم يفصل بين عدد وعدد آخر.

وبما رواه أبو داود أن رجلا طلق امرأته ألفا ، فجاء بنوه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إن أبانا طلق أمنا ألفا ، فهل له من مخرج؟ فقال : إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا ، وبانت منه بثلاث على غير السنة ، وتسع مائة وسبع وتسعون في عنقه».

وبما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حديث ركانة وقد طلقها البتة ، وادعى أنه أراد واحدة ، فحلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أراد إلا واحدة» فدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعت. قلنا : قد ذكر في السنن حديث ابن عباس في موضع ، قال : أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر ، وصدر من إمارة عمر ، وروي عن ابن عباس : الثلاث واحدة ، وهذه رواية طاووس وحده ، وجلة الرواة رووا عن ابن عباس «أنها ثلاث» وهم سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، وغيرهم.

__________________

(١) وفي رواية (أنى) مقصور بغير همز. شمس العلوم.

٣٤

وقالوا : حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة ، وهذه رواية الثقاة ، ورواية أنه طلق ثلاثا وهم ، ولكل واحد من الفريقين قياسات شبهية ، وقد حكي عن المؤيد بالله : أن المسألة قطعية ، واستضعف ذلك بعض السادة.

وقال بعض الإمامية : إنه إذا طلق ثلاثا بلفظ واحد لم تقع واحدة ، ولا أكثر ، ثم إن أبا حنيفة وأصحابه قالوا : الجمع بين التطليقتين ، أو الثلاث بدعة ، فيكون قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) لبيان السنة ، وقال الشافعي : ليس ذلك ببدعة.

وقوله تعالى

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩]

النزول

روي أن جميلة بنت (١)) عبد الله بن أبي كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه ، وهو يحبها ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ، ولا يجمع رأسي ورأسه شيء ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ، ما أطيقه بغضا ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها فنزلت ، وكان قد أصدقها حديقة ، فاختلعت منه بها ، وهو أول خلع كان في الإسلام.

__________________

(١) صوابه (أخت عبد الله بن أبي). ويروى (حبيبة بنت سهل الأنصارية) وهو هكذا في سنن أبي داود ، وهو كذلك في الثعلبي.

٣٥

المعنى

قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) هذا خطاب للأزواج ، وقوله : (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) يعني : من المهور وغيرها ، نهوا أن يأخذوا شيئا مما آتوهن عوضا عن الطلاق ، ثم استثنى حال الخوف (إِلَّا أَنْ يَخافا) معناه : يعلمان ، وقد يعبر عن العلم بالخوف ، قال أبو محجن الثقفي (١) :

ولا تدفنني في الفلاة فإنني

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

أي : أعلم.

وفي قراءة أبي : (إلا أن يظنا) والظن بمعنى العلم ، وعليه قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦].

وقيل : المراد بالخوف الظن ، ومنه قولهم : أخاف أن يكون ذلك. معناه : أظن

والقراءة الظاهرة (إِلَّا أَنْ يَخافا) يفتح الياء ، وقرأ حمزة (يُخَافَا) بضم الياء ، فجعل الخوف لغيرهما (٢) ، وهي من السبع.

وفي قراءة عبد الله (إلا أن يخافوا) وهي وقراءة أبي من الآحاد.

وقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ) خطاب للأئمة عليهم‌السلام ، والحكام ، وقد قال الزمخشري : مثل ذلك غير عزيز في القرآن ، قال : ويجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) للأئمة والحكام.

وقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ) لهم أيضا ، وإضافة الأخذ إليهم ؛ لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء ، عند الترافع إليهم ، فكأنهم الآخذون والمؤتون.

__________________

(١) هذا البيت هو أحمق بيت قالته العرب ، وقبله :

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

تروي عظامي بعد موتي عروقها

(٢) بإبدال (أَلَّا يُقِيما) من ألف الضمير ، وهو من بدل الاشتمال ، كقولك : خيف زيد تركه إقامة حدود الله. وانظر الكشاف.

٣٦

وقوله تعالى : (حُدُودَ اللهِ) أراد فيما يلزمهما من حقوق الزوجية ؛ وذلك بما يحدث من النشوز ، وسوء الخلق.

وقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) قيل : معناه فلا جناح على الزوج فيما أخذ ، ولا عليها فيما أعطت ، فلا يتوهم أنها عاصية بالإيتاء ، وإن عصت بغيره من أنواع النشوز ، وقيل : أضاف الإباحة إليهما لاقترانهما ، والمراد الزوج ، ونظيره : (نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١] والناسي هو فتى موسى لا موسى عليه‌السلام ، ومثل قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرج من الملح دون العذب.

وقوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي : أوامره ونواهيه ، في النكاح ، والطلاق ، والرجعة ، والعدة ، والخلع.

وهذه الآية الكريمة لها ثمرات ، وهي أحكام :

الأول : جواز ما يأخذ الزوج من زوجته ، عوضا عن الطلاق حال الخوف ، وإنما قلنا : عوضا عن الطلاق ؛ لأنه تعالى جعل ذلك افتداء لنفسها ، والافتداء حال الطلاق ، وجوازه عند الخوف ـ هو إجماع (١) ، ذكره أبو طالب ، والآية محكمة لا نسخ فيها ، وقد روي ذلك عن ابن عباس ، والحسن.

__________________

(١) المذهب أنه لا يصح إلا مع حصول النشوز ، ويمكن أن يقال : إذا فسر الخوف بالعلم لم يحصل إلا مع الوقوع ؛ لأن العلم هو الذي لا يحتمل النقيض ، ولا يكون كذلك قبل الوقوع ، فتتم الدعوى للإجماع مع تفسير الخوف بالعلم ، والله أعلم.

وفيه أن تفسير الخوف هنا بالعلم غير سديد ؛ لأنه لا يقال : علمت أن يقوم زيد ، لأن أن صلة للتوقع ، وهو ينافي العلم ، والله أعلم. (ح / ص).

٣٧

قال الحاكم ، وأجمع عليه الفقهاء.

وعن بكر بن عبد الله أنها منسوخة ، بقوله تعالى في سورة النساء :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [النساء ٢٠ ـ ٢١] وليس بصحيح.

وأما تحريم ذلك مع عدم الخوف فهذا مذهب الهادي ، والناصر ، وأئمة العترة عليهم‌السلام ، خلاف المؤيد بالله ، وهو قول مالك ، وعطاء ، والزهري ، والنخعي ، وأبي ثور ، وإسحاق ، وأهل الظاهر ، أخذا بظاهر الآية ، فإن الله تعالى قال : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) ولم يخرج من ذلك إلا حال الخوف.

وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : يجوز ذلك مع المراضاة ويكره ؛ لقوله تعالى في سورة النساء : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) فدلت هذه الآية أن مع طيبة نفس الزوجة يجوز ، وقالوا : قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) معناه : إذا كرهن ، قلنا : لو أراد مع الكراهة لم يجز (خافا) أو (لم يخافا). واعلم أنها قد وردت آيات في أخذ المال من الزوجة إحداهن قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) والثانية في النساء ، وهي قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] والثالثة فيها أيضا ، وهي قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [النساء : ١٩]. والرابعة في النساء أيضا ، وهي قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء : ٢٠].

٣٨

فقال بكر بن عبد الله المزني : لا يجوز أخذ شيء منها في عموم الأحوال ، وجعل هذه ناسخة لجواز الأخذ.

وقال ابن يزيد قوله تعالى : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) منسوخ بقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

والقول الثالث : الجمع بين الآيات ، فإن كان النشوز من قبلها جاز أخذ الفدية ، لقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). وإن رضيت بإسقاط المهر من غير إضرار فله أخذه ؛ لقوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ) [النساء : ٤].

وإن كان النشوز من جهته ، وهو يريد الاستبدال فلا يحل لقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) الآية ، ولا بد فيها من إضمار ، وهو أن لا يكون الأخذ بحق ، وذلك نصف المهر ، إن كان قبل الدخول ، أو يكون بطيبة نفس منها ، ويدل على هذا الإضمار أنه وصف الأخذ بالبهتان ، وما يؤخذ بهذين الوجهين ليس ببهتان.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) يفيد أن العضل ، وهو المنع عن حقها جائز ، وإن أتت بفاحشة.

وقد قيل : إن ذلك كان جائزا قبل ثبوت الحد ، فنسخ بثبوته.

وقيل : قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) استثناء من أخذ المال ، وصحح ، وسيأتي زيادة عند ذكر هذه الآية.

وعن الحسن ، وأبي قلابة ، وابن سيرين : لا يجوز الخلع وأخذ الفدية إلا إذا زنت ، فصار في الخلع خمسة مذاهب. قول بكر بن عبد الله : لا يجوز مطلقا.

وقول الهادي عليه‌السلام ، ومن معه : لا يجوز إلا عند خوفها.

وقول الحسن ، وأبي قلابة : لا يجوز إلا أن يجدها على الزنا.

٣٩

وقول المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : يجوز إذا لم يضارها ، وبسيئ عشرتها لتفتدي.

والخامس : حكاه في النهاية للنعمان أنه يجوز من الإضرار ؛ لأن الفداء جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الزوج من الطلاق.

الحكم الثاني

في مقدار ما يقع عليه الخلع ، وقد قال تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) فعمّ ، قال الهادي ، والناصر عليهم‌السلام : ومالك ، والحسن ، وابن المسيب ، وداود : يعني مما أعطاهما ، بدلالة خبر جميلة ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (أتردين عليه حديقته؟ قالت : نعم ، وزيادة ، قال : أما الزيادة فلا) وفي حديث آخر (أتردين عليه حديقته؟ قالت : نعم ، وزيادة ، قال : أما الزيادة فلا)

وخرج المؤيد بالله للهادي ، وهو قول المنصور بالله أن الزيادة لا تجوز (١) ولو تبرعا لهذا الحديث.

وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : يجوز وإن زادت لعموم الآية ، ولحديث أبي سعيد الخدري ، قال : كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة ، فكان بينهما كلام ، فارتفعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : تردين عليه حديقته ويطلقك؟ قالت : نعم وأزيد ، فقال : ردي عليه حديقته وزيديه).

وعن علي عليه‌السلام : ما افتدت به المختلعة من قليل أو كثير أقل من الصداق أو أكثر فلا بأس به.

__________________

(١) في الغيث : إذا تبرعت بالزيادة لا في مقابلة الطلاق جاز عندنا ، وادعى في الشرح الإجماع على ذلك. (ح / ص). والذي في شرح التجريد أنه منصوص عليه في الجامعين ، فينظر في رواية التحريم.

٤٠