تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) قيل : لأن نبيهم لما دعا الله حين طلبوه ملكا أتى بعصى يقاس بها من يتملك عليهم ، ولم يساوها إلا طالوت ، فجعله الله تعالى ملكا ، وذلك بعث من الله.

(قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ) استنكروا ذلك ؛ لأنه لم يكن من بيت النبوة ، ولا بيت الملك ، لأن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب ، والملك في سبط يهوذا ، ولم يكن طالوت من أحد السبطين ، وقد استنكروا ذلك لفقره ، وقيل : إنه كان دباغا ، وقيل : سقاء.

وقوله تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) قيل : أراد بالعلم لأمر ما طلبوه لأجله من الحرب ، ويجوز أن يكون عالما بالديانات وغيرها ، وقد أوحي إليه وتنبّىء بعد ذلك (وَالْجِسْمِ) لطوله.

وروي أن الرجل القائم كان يمد يده فينال رأسه وهو قاعد.

وقيل : البسطة في الجسم القوة ، وقيل : الجمال ، وكان أجمل بني إسرائيل.

ثمرة الآية : أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث ، وأن الغنى والصيانة من الحرف الدنية لا تشترط في أمير ، ولا إمام ، ولا قاض ، قال الحاكم : يبطل قول الإمامية : إنها وراثة ، والمعروف من قولهم : أن الإمامة طريقها النص ، وتدل أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولاه ، فيكون سليما من الآفات ، عالما بما يحتاج إليه ؛ لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم ، ردا على ما اعتبروا ، ثم إنه قد ذكر في صفة التابوت أنه كان فيه صور الأنبياء ، ولعل ذلك منسوخ بنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التصاوير ، ولعنه المصورين.

١٠١

قوله تعالى

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) [البقرة : ٢٥٠]

يدل على أن من حزبه أمر فإنه ينبغي له سؤال المعونة من الله تعالى ، والتوفيق ، والانقطاع إليه تعالى.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤]

هذا أمر بالإنفاق لبعض المال ، قيل : هو أمر إيجاب ، وأنه تعالى أراد بذلك الإنفاق الواجب ، وهو الزكاة ؛ لأنه تعالى عقبه بالوعيد بقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قيل : أراد بالكافرين التاركين للزكاة تغليظا عليهم ، كما قال الله تعالى في آخر آية الحج : (وَمَنْ كَفَرَ) [آل عمران : ٩٧] مكان ومن لم يحج ؛ ولأنه تعالى جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ـ ٧] وهذا مروي عن الحسن. وقال الأصم ، وأبو علي : أراد النفقة في الجهاد.

وقال أبو مسلم ، وابن جريج : أراد الفرض والنفل ، وفي الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها ، بهجوم ما يخشى معه الفوات من موت أو غيره.

قوله تعالى

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦]

اختلف أهل التفسير هل هذا خبر؟ أو نهي؟ أو أمر؟ فقيل : إنه خبر ،

١٠٢

والمراد أن الله تعالى لم يجر الإيمان على أن يجبر عباده ويقسرهم ، ولكن ذلك على التمكين والاختبار ، ونحو ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩].

القول الثاني : أنه نهي ، والمعنى : أنه تعالى نهى أن يقال لقوم أسلموا بعد الحرب : إنهم أسلموا مكرهين ، وهذا عن الزجاج.

القول الثالث : أنه خبر ، والمراد به الأمر.

واختلف في ذلك فقيل : هذا فيمن قبل الجزية خاصة.

وقيل : عموما ، ولكنها منسوخة بآية السيف ، والنزول يدل على هذا ، فقد روي عن مجاهد أنها نزلت في رجل من الأنصار ، كان له غلام أسود ، فكان يكرهه على الإسلام.

وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار كان له ابنان تنصرا ، وخرجا إلى الشام ، وأراد أبوهما طلبهما ، فنزلت.

وقيل : تنصرا قبل المبعث ، ثم قدما بعد ذلك المدينة فلزمهما أبوهما ، وقال : والله لا أدعهما حتى يسلما ، فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فنزلت. فخلاهما.

قوله تعالى

(فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) [البقرة : ٢٦٠]

احتج بهذا من قال : الجزء هو الربع ، وأنه إذا أوصي لرجل بجزء من ماله أن له الربع ، وهذا يروى عن الباقر عليه‌السلام.

وقال الأكثر : يعطيه الورثة ما شاءوا ؛ لأن الجزء والحظ ينطلق على

١٠٣

القليل والكثير ، وقد روي أنه جعل ذلك على أربعة جبال ، وقيل : على سبعة.

قوله تعالى

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١]

التقدير : مثل نفقة (١) الذين ينفقون كمثل زرّاع حبة.

قيل : أراد ما ينفق في الجهاد.

وقيل : الواجب من الزكاة.

وقيل : ذلك يعم الواجب والتطوع.

وثمرة الآية : الترغيب في الإنفاق.

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠]؟.

قلنا : في ذلك جوابان ذكرهما الحاكم ، الأول : أن هذه الآية وهي بلوغ الحسنة بسبعمائة في الإنفاق [في سبيل الله] ، وقوله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) في سائر الطاعات ، وهذا مروي عن الربيع ، والسدي.

__________________

(١) لعل (نفقة) غير ثابتة ليستقيم ، كمثل زراع ، وعلى الجملة ، المعنى : يستقيم بتقدير نفقة بدون زراع ، وبتقدير زراع بدون نفقة ، فتأمل (مجد الدين المؤيدي).

قلت : يدل على هذا ما ورد في التهذيب للحاكم ، ولفظه (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) في الآية إضمار قيل : تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) وقيل : مثل الذين ينفقون كمثل زراع حبة).

وفي الكشاف أيضا ، ولفظه (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) لا بد من حذف مضاف ، أي مثل نفقتهم كمثل حبة ، أو مثلهم كمثل باذر حبة).

١٠٤

الجواب الثاني : أن العشرة مستحقة ، والزائد تفضل ، وقد قال الضحاك : إن السبع المائة للمطيعين.

واعلم أنهم قد اختلفوا في أفضل الطاعات ... (١)

قوله تعالى

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٢٦٢]

النزول

قيل : نزلت في عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، أما عثمان فجهز جيش العسرة ، في يوم غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها ، وألف دينار ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده يقول : يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه.

وأما عبد الرحمن فتصدق بنصف ماله ، أربعة آلاف دينار ، وترك لعياله أربعة آلاف دينار.

ثمرة هذه الآية : الترغيب في الإنفاق.

قيل : أراد الإنفاق في الجهاد عن ابن زيد.

وقيل : في أبواب البر عن أبي علي ، ويدل على قبح المن ، والأذى ، وأنهما يبطلان الأجر ، لأنه جعل استحقاقه مشروطا بعدمهما ، وأما الفعل فقد وجد ، والمنّ : أن يعتدّ على من أحسن إليه أنه أوجب عليه حقا ، ويريه ذلك.

__________________

(١) بياض في الأصل ، وينظر تفسير النجري الخمسمائة ، فقط بسط فيه في شرح هذه الآيات.

١٠٥

وكانوا يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها ، ولبعضهم :

وإنّ امرءا أسدى إلي صنيعة

وذكرنيها مرة لبخيل

وفي نوابغ الكلم للزمخشري : صنوان من منح سائله ومنّ ، ومن منع نائله وضنّ ، وفيها : طعم الآلاء أحلى من المنّ ، وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ.

الآلاء : شجر مرّ حسن المنظر.

والظاهر أن المراد : أن يمن على المنفق عليه ، كأن يقول : أحسنت إليك ونعشتك.

وقيل : يمن على الله تعالى بصدقته ، وقيل : يمن على الناس.

والأذى : ما يؤذى به الفقير ، وقيل : أن يستعمله في أشغاله ، لمكان عطائه.

قيل : ومن الأذى ذكر العطية لمن يكره المنفق عليه ، وعن بعضهم : إذا أعطيت أحدا شيئا ، فظننت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه ، ولمحمود الوراق (١) :

أحسن من كل حسن

في كل وقت وزمن

صنيعة مربوبة

خالية من المنن

ولأبي علي البصري :

وصاحب سلفت منه إليّ يد

أبطا عليه مكافاتي فعاداني

لما تيقن أن الدهر حاربني

أبدى الندامة فيما كان أولاني

أفسدت بالمن ما قدمت من حسن

ليس الكريم إذا أعطى بمنان

__________________

(١) هو محمود بن حسن الوراق ، شاعر أكثر شعره في المواعظ والحكم ، روى عنه أبن أبي الدنيا ، وفي الكامل للمبرد نتف من شعره ، توفي نحو سنة ٢٢٥. (الأعلام).

١٠٦

قال الحاكم : وفي ذلك دلالة على كبرهما ؛ لأن الصغائر لا تحبط أجر الصدقة (١) ، ويلزم أن تحبط ثواب سائر الطاعات ؛ إذ لو بقي أجر سائر الطاعات ، وقع الأذى والمن مكفرا.

قوله تعالى

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) [البقرة : ٢٦٣]

قيل : أراد بقوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي : كلام حسن ، وردّ جميل.

خبر رواه الثعلبي مسندا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته ، حتى يفرغ منها ، ثم ردوا عليه بوقار ولين ، أو ببذل يسير ، أو رد جميل ، فإنه قد يأتيكم من ليس بإنسي ولا جان ، ينظر كيف صنعكم فيما خولكم الله تعالى).

وعن بشر بن الحارث ، قال : «رأيت علي بن أبي طالب عليه‌السلام في المنام ، فقلت : يا أمير المؤمنين تقول شيئا لعل الله تعالى ينفع به؟ فقال لي : ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء ، رغبة في ثواب الله عزوجل ، وأحسن منه صبر الفقراء عن الأغنياء ، ثقة بالله تعالى».

وقيل : أراد بالقول المعروف عدة حسنة ، وقيل : دعاء صالح.

وقيل : قول في صلاح ذات البين ، عن الضحاك.

وقوله تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ) قال ابن جرير : ستر الخلّة عن السائل.

وقال الحسن : العفو عن ظلمه ، وقيل : التجاوز عن السائل إن استطال عليه عند رده.

__________________

(١) ويمكن أن يقال : عدمها شرط في قبول الإنفاق ، وإذا بطل الشرط بطل المشروط ، فلا يلزم ما ذكر. والله أعلم. (ح / ص).

١٠٧

وقوله تعالى : (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) قيل : خير للفقير ، عن القاضي.

وقيل : خير المغفرة عن السائل إن بذا بلسانه ، وتطاول في الشّكى (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً).

خبر رواه الحاكم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «المنان بما يعطي لا يكلمه الله ، ولا ينظر إليه ، ولا يزكيه ، وله عذاب أليم».

وثمرة الآية : ما ذكر من رد السائل بالقول الجميل ، والعفو عما يبدر منه مما يسبق من إلحاح في سؤال ، أو أذية ، أو شكى ، وفي ذلك تأكيد للنهي عن المن.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٦٤]

هذا أمر بحفظ الأعمال عن الضياع ، وبيان أن المن والأذى مبطل ، وهذا تأكيد لما تقدم.

ثم أكد تعالى ذلك بأن شبهه بمن ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالبعث ، ثم مثّل المرائي ب ـ (صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) وهو الحجر الأملس أصابه الوابل (فَتَرَكَهُ صَلْداً) ، أي : أملس مجردا.

ثم قال تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) بمعنى : قد حبط عملهم.

ثم أكد تعالى ذلك بذكر صدقة المؤمنين ، الصادرة عن النية

١٠٨

المحمودة ، وتثبيت القلب على حفظها ، فجاء بوصفين في صدقة المؤمنين (١) يخالفان الوصفين ، في صدقة من لا تقبل صدقته.

ثم أكد تعالى ذلك بما ضربه مثلا من فوات المحاسن لمن يحتاج إليها غاية الحاجة ، بقوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة : ٢٦٦].

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة : ٢٦٧]

النزول

قيل : كانت الأنصار تضع الصدقة في المسجد ليأكل منها فقراء المهاجرين ، وكان بعضهم يأتي بالحشف فيدخله فيها ، ويظن جوازه ، عن ابن عباس ، والبراء ، وقتادة.

وقيل : كان بعضهم يتصدق بشرار ثمراته ، ورذال (٢) ماله ، ويعزل الجيد لنفسه ، فنزلت الآية عن علي عليه‌السلام ، ومجاهد ، والضحاك.

واعلم أنه تعالى قد ذكر ما يتعلق بصفة المنفق ، وأنه يجب أن ينوي

__________________

(١) في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

(٢) الرذل : الدون الخسيس ، وقد رذل فلان ـ بالضم ـ يرذل رذالة ، ورذالا ، فهو رذل.

١٠٩

التقرب ، ولا يمن ، ولا يؤذي ، لأن ذلك يحفظها عن الإفساد ، ثم بين هنا صفة الصدقة بأن لا تكون من الخبيث. ثم بين تعالى حال المتصدق عليه.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا نداء للمتصدقين.

وعن الحسن ، وعلقمة : كل ما في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزل بالمدينة ، وكل ما فيه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) نزل بمكة.

وقوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) قيل : أراد بالطيب الحلال ، وهذا مروي عن ابن مسعود ومجاهد ، ونظيره : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢].

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب ، لا يكسب عبد ما لا من حرام فيتصدق به فيقبل منه ، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، وإن الله لا يمحو السيء بالسيء ، ولكنه يمحو السيء بالحسن ، وإن الخبيث لا يمحو الخبيث) هذا الخبر رواه الثعلبي (١).

وقيل : أراد بالطيب : الخيّر ، وعليه يدل سبب النزول ، ولا مانع من الجمع بينهما أن يكون المنفق حلالا غير رديء.

وقوله تعالى : (ما كَسَبْتُمْ) أراد بالتجارات والصنائع.

خبر رواه في الثعلبي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (الخير عشرة أشياء ، أفضلها التجارة ، إذا أخذ الحق وأعطاه) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (تسعة أعشار الرزق في التجارة).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (البركة في التجارة ، وصاحبها لا يفتقر إلا حلاف مهين).

__________________

(١) وفي بعض النسخ (رواه الثعلبي والبغوي).

١١٠

وقوله تعالى : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض ، فحذف لفظ (الطيبات) لتقدم ذكرها ، وأراد ما يخرج من الثمار ، والزروع والمعادن.

خبر رواه في الثعلبي قال : (دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أم معبد حائطا ، فقال : يا أم معبد من غرس هذا النخل أمسلم أم كافر؟ فقالت : بل مسلم ، قال : فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ، ولا دابة ، ولا طير ، إلا كانت له صدقة إلى يوم القيامة).

وعن مالك بن دينار : قرأت في التوراة : (طوبى لمن أكل من ثمرة يديه).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (التمسوا الرزق في خبايا الأرض). شعر :

تتبع خبايا الأرض وابغ مليكها

لعلك يوما أن تجاب فترزقا

قيل : أراد بالخبايا : المعادن ، وقيل : ما تخرج الأرض من الثمار والزروع.

وقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) أي : لا تقصدوا إليه ، قال الأعشى :

تيممت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذي شرف (١)

الشرف : المكان المرتفع.

خبر رواه في الثعلبي : أن رجلا جاء بعذق حشف ، فلما أبصبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (من جاء بهذا العذق الحشف؟ قالوا : لا ندري يا رسول الله ، قال : بئس ما صنع هذا).

وفي بعض الأخبار : (أما إن صاحب هذا ليأكل الحشف يوم القيامة)

__________________

(١) رواية الضياء (ذي شزن) بالنون ، والقصيدة نونية ، بدليل ما بعده وما قبله.

١١١

وأمر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلق ، فجعل من رآه من المسلمين يقول : بئس ما صنع صاحب هذا الحشف.

وقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) هذا تأكيد للزجر عن إخراج الرديء.

والمعنى : لو كان لكم دين لم تأخذوا الرديء (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا) أي : تسامحوا ، مأخوذ من قولهم : أغمض فلان عن بعض حقه إذا تسامح ، وغض بصره.

ويقال للبائع : أغمض ، أي : لا تستقص ، كأنك لا تبصر ، قال الطرماح :

لم يفتنا بالوتر قوم وللض

يم رجال يرضون بالإغماض

وعن الحسن : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه ، حتى يهضم لكم في ثمنه.

وقيل : لو أهدي إلى أحدكم ما قبله إلا عن استحياء ، فكيف يخرجه في الصدقة.

واختلفوا ما أراد بالإنفاق. فقيل : القرض ، وقيل : أراد النفل. وقال القاضي : ذلك يعم ، وقواه الحاكم.

ثمرات الآية : وجوب الزكاة في أموال التجارة ، وهو مذهب أكثر العلماء ، خلافا لأهل الظاهر.

ووجوب الزكاة فيما تخرج الأرض (١) ، وفي الآية إجمال ، وبيان ذلك من جهة السنة ، ثم إن أبا حنيفة أخذ بالعموم فقال : لا يعتبر النصاب.

وقال الشافعي : ذلك مخصص بالسنة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ليس فيما دون

__________________

(١) هلا قيل : تدل على وجوب الخمس في المعادن ، فينظر ولعله كذلك. (ح ص).

١١٢

خمسة أوسق صدقة) وهذه خلافية بين الأئمة عليهم‌السلام ، فزيد يأخذ بالعموم. والهادي وأصحابه يخصصون دون النصاب.

وتدل الآية أن الحق يجب فيما يحل له ، لا فيما يحرم عليه (١).

إن قيل : إذا بذر ببذر مغصوب ، وقلنا : إنه استهلاك فليس من طيبات الكسب ، وقد قلتم : إنه يجب عشره ، وقستم على هذا أرباح المغصوب. سؤال (٢) ...

وتدل على جواز التكسب ، قال الحاكم : خلاف قول من حرم المكاسب أصلا ، أو حرم ما زاد على قدر الحاجة ؛ لأن الآية لم تفصل.

وتدل على المنع من إنفاق الرديء ، وأن من فعله عالما بالتحريم عاص ، فلا يخرج الرديء في الفضة عن الجيد ، إلا على طريق القيمة ؛ لأن بالزيادة يكتسب صفة جودة (٣) ، وهذا مذهب الأكثر.

وجوز أبو حنيفة ، وأبو يوسف إخراج الرديء عن الجيد في الذهب والفضة ، وإذا قلنا : يخرجه على طريق القيمة بالزيادة ، لم يخرجه عن جنسه لئلا يكون ربا إلا على قول من يقول : لا ربا بين العبد وربه.

وقد نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المصدق أن يأخذ هرمة أو ذات عوار (٤) ، وبه احتججنا على أبي حنيفة

إن قيل : فقد قال الهادي عليه‌السلام في المنتخب : وصححه الأخوان ،

__________________

(١) عملا بالمفهوم.

(٢) بياض في الأصل .. ولعله يقال في الجواب : أخذ من عموم المعطوف ، وهو قوله : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) وأما أرباح المغصوب فقد قالوا : إنما وجب التصدق به ؛ لأنه ملكه من وجه محظور ؛ لا أنه مما أنفق لقصد الثواب والتقرب.

(٣) وفي (ح / ص) (صوابه (لأن الزيادة تكسبه صفة جودة).

(٤) عوار ـ بالفتح ، وقد تضم. قاموس. وهي المعيبة.

١١٣

وهو قول أبي حنيفة ، وأحد وجهي أصحاب الشافعي : إنه يجوز أن يخرج في الفطرة من دون ما يأكل هو وعياله مع الكراهة.

ومنع ذلك في الأحكام ، وأبو العباس ، وأحد وجهي أصحاب الشافعي ، جواب ذلك أن الجواز مأخوذ من كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير في الفطرة.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرض صدقة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من زبيب ، أو صاعا من أقط. ومعلوم أن هذه الأصناف لا تكون قوتا لكل قوم ، وإنما يقتاتون جنسا منها أو جنسين ، وإذا اقتضت الآية أنه لا يجوز إخراج الرديء ، ولا يجزئ ؛ لأنه لا يأخذه عن دينه إلا مع الإغماض ؛ اقتضى ذلك منع الحيلة بأن يواطء الفقير بأنه يهب له ؛ لأنه لا يقبل ذلك في دينه إلا مع الإغماض بأن يهب البعض.

قوله تعالى

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٨ ـ ٢٦٩]

الوعد : يستعمل في الخير والشر ، وقوله : (بِالْفَحْشاءِ). قيل : أراد البخل ومنع الزكاة ، عن أبي مسلم.

وعن مقاتل ، والكلبي : كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء ، فالمراد به الزنى ، إلا في هذه الآية ، فالمراد به مانع الزكاة.

وثمرة الآية : التأكيد لوجوب الزكاة ، والترغيب في العلم ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

١١٤

قوله تعالى

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة : ٢٧٠ ـ ٢٧١]

النزول

روي أنهم قالوا : يا رسول الله صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ).

المعنى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) يعني لله تعالى ، أو للشيطان ، وما نذرتم من نذر لله ، أو للمعاصي.

وقيل : أراد ما أنفقتم في القرب (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) يجازيكم عليه (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين لا يوفون بما عليهم من الصدقات والنذر ، بل يمنعونها ، أو يضعونها في غير أهلها (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم من عذاب الله.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) بإظهارها ، اختلفوا ما أراد به (١)؟ فقيل : أراد المندوبة. فأما الواجب فإظهاره أفضل ، لإزالة التهمة ، إذا كان معروفا بالغنى ، لا إذا كان غير معروف.

وقيل : لا فرق بين الواجب والمندوب ، وكذا المتطوع إذا كان يقتدى به كان الإظهار أفضل ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وسفيان ، وأبي علي ، وقواه الحاكم ، والزمخشري.

وقال الحسن ، وقتادة : في الواجب والتطوع.

__________________

(١) في النسخة ب (اختلفوا ما المراد بالصدقة).

١١٥

وعن ابن عباس رضي الله عنه : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا.

خبر رواه في الثعلبي ، قال في الحديث : (صدقة السر تطفىء غضب الرب ، وتطفئ الخطيئة ، كما يطفى الماء النار ، وتدفع سبعين بابا من البلاء).

ثمرات الآية : أن النذر في سبيل الله من القرب ، وأن فيه ما يجب ؛ لأنه قرنه بالواجب ، وقد قال تعالى في سورة الدهر : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان : ٧] ذكر ذلك على وجه المدح ، ونذر علي عليه‌السلام [وفاطمة] في مرض الحسنين.

فإن قيل : فقد جاء النهي عن النذر في الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن النذر ، وقال : إنه لا يرد شيئا ، وإنما ليستخرج به من الشحيح.

أجاب ابن الأثير : بأن النهي للإرشاد ، لئلا يتسامح به بعد وجوبه ؛ إذ لو كان معصية لم ينعقد.

قال المفسرون : فالواضع للصدقة في غير موضعها داخل في الظالمين.

وتدل أن صرف الزكاة إلى الفقراء جائز من غير تقسيط (١) ، وهذا قول أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي : إنما للفقراء الثمن ؛ لأنها لثمانية أصناف.

وتدل أن الإسرار في الصرف أفضل ، وهو على الخلاف هل يعم ذلك الواجب والنفل؟ أو يكون في التطوع دون الواجب.

__________________

(١) أخذها من قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

١١٦

واستدل أبو حنيفة ، والشافعي ، وهو رواية عن زيد ، والباقر ، وأحمد بن عيسى : أنه يجوز صرف الزكاة الباطنة إلى الفقراء من غير إذن إمام.

قال بعض أصحاب الشافعي : ويكون إخراجها بنفسه أفضل ؛ لأنه يثق بالصرف ، وبعضهم إلى الإمام أفضل لمعرفته بالمصارف.

قلنا : هذا في النفل ، أو مع عدم الإمام ، وأما مع وجوده ، فيجب الدفع إليه ، لقوله تعالى في سورة التوبة : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث السعاة بقبضها (١).

فرع

لو عدم الإمام كان إخراجه للزكاة بنفسه أفضل ، ذكره المؤيد بالله ، وأحد وجهي أصحاب الشافعي ؛ لأنه يتيقن الإخراج (٢).

وبعض أصحاب الشافعي قال : التوكيل أفضل ؛ لأن فيه نوعا من الإخفاء.

قوله تعالى

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٢]

النزول

قيل : كانوا يتصدقون على فقراء الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين ، نهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك (٣) [فكانوا لا ينفقون الصدقة على المشرك]

__________________

(١) في بعض النسخ زيادة (ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أربعة إلى الأئمة) وهو محذوف من أ ، وب.

(٢) في الغيث (لأنه أسكن لنفسه) وقوي للمذهب.

(٣) كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام ، فنزل قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). انظر البغوي.

١١٧

حتى نزلت الآية ، عن محمد بن الحنفية (١) وابن عباس ، وابن جبير.

وقيل : إن أسماء بنت أبي بكر اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرة القضاء ، فقصدتها أمها وجدتها يسألانها ، يعني البر ، فأبت حتى تسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما سألته نزلت الآية عن الكلبي.

وقيل : كان ناس من المسلمين لهم أصهار وقرابة من اليهود ، ينفقون عليهم قبل أن يسلموا ، فلما أسلموا منعوهم من الإنفاق ، حتى يسلموا فنزلت.

ثمرة هذه الآية : جواز الصدقة على الكفار ، قال في الكشاف : وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك.

قال في الثعلبي : وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا من أهل الذمة ، يسأل على أبواب المسلمين ، فقال : ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ، ما دمت شابا ، ثم ضيعناك اليوم ، وأمر أن يجرى عليه قوته من بيت المال.

وهذا جائز في صدقة النفل ، وأما الفرض فلا يجوز إلى أيّ كافر كان ؛ لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم) خطاب للمسلمين ، وكان مخصصا لعموم (٢) قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) [البقرة : ٢٧١] ولقوله تعالى في سورة التوبة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة : ٦٠].

__________________

(١) ما بين القوسين من الحاكم ، ولفظ الحاكم (قيل : كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين نهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فكانوا ينفقون الصدقة على المشرك ، حتى نزلت الآية عن محمد بن الحنفية وابن عباس وسعيد بن جبير).

(٢) هذا من تخصيص الكتاب بالسنة.

١١٨

قيل : وعن العنبري جواز صرف الواجبات إلى كل كافر.

وقال أبو حنيفة : تجوز الفطرة (١) والمظلمة ، والكفارة ، والزكاة إلى فقراء أهل الذمة.

وأما الفاسق فأكثر العلماء جوّز (٢) الدفع إليه إذا لم يعرف أنه يتقوى به على المعصية ، للعمومات المذكورة ، وقال القاسم ، والهادي ، والناصر عليهم‌السلام : لا يجوز وأنها مخصصة باعتباره بالكافر (٣) لكونه من أهل الوعيد.

وقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ)

المعنى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي : نفعه عائد إليكم ، فلا تمنوا به (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) يعني : فهو المجازي لكم ، ومعناه : النهي أن يقصدوا غيره ، أو غرضا عاجلا في الدنيا ، من كسب حظ ، أو جلب نفع ، أو دفع مضرة ، وقيل : فيه إضمار ، وتقديره : وما تنفقون من خير ، ولا تريدون به [إلا ابتغاء] وجه الله (فَلِأَنْفُسِكُمْ) (٤).

فرع

__________________

(١) الذي في الكشاف ، والنيسابوري (إنما أجاز الفطرة فقط) فينظر. (ح / ص) ، ولفظ الكشاف (واختلف في الواجب ، فجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقه الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره).

(٢) وفي بعض النسخ (على جواز الدفع).

(٣) أي : بالقياس على الكافر.

(٤) عبارة الأصل في النسخة أ ، وب هكذا (وقيل : فيه إضمار ، وتقديره : وما تنفقون من خير ، ولا تريدون به وجه الله إلا لأنفسكم) وفي هذه العبارة قلق ، وخفاء في المعنى ، وقد أصلحنا اللفظ من التهذيب ، ولفظ التهذيب : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) شرط وجزاء ولذلك حذف النون (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) وفيه إضمار ، يعني : وما تنفقون ولا تقصدون به إلا ابتغاء وجه الله فلأنفسكم يوف إليكم عن أبي علي ، وقيل : تقديره لا تكونوا منفقين حتى تبتغوا وجه الله.

١١٩

لو صرف إلى فقير لكونه يخدمه ، أو يدفع عنه المظالم ، أو يحسن إليه ، أو نحو ذلك ، فإنه ينظر فإن دفع الزكاة ونحوها إليه ، لكونه قد فعل هذه الأشياء في الزمن الماضي جاز ذلك ؛ لأن هذا مكافأة له بالإحسان لكونه خصه من بين الفقراء ، وإن دفعت إليه الزكاة ونحوها ، ليفعل ذلك في المستقبل ، بحيث عرفوا من نفوسهم أنه لو لم يحصل من الفقير ما أرادوا ما صرفوا إليه لم يجزهم لأنهم جعلوها للعوض (١) ، وعلى هذا قوله تعالى في سورة الدهر : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩] وقوله تعالى في سورة الليل : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ١٩ ـ ٢٠] وهذه المسألة قد يتعثر فيها كثير ممن لم تخلص نيته.

إن قيل : إذا كان حكم الدافع الإثم ، وعدم الإجزاء ، فما حكم المدفوع إليه؟ وما حكم المال المدفوع؟ قلنا : أما حكم المدفوع إليه ، فإن علم أثم ؛ لأنه مسبب للدافع على الإخلال بالواجب ، ومقرر له (٢) ، وأما حكم ما سلم ، فإن كان ثم شرط فهو باق على ملكه ، وهو يشبه الأجرة المشروطة على المحظور (٣) ، وإن كان ذلك مضمرا ، فإن سلم في مقابلة واجب عليه ، وهو أن يدفع عنه منكرا فذلك رشوة يجب صرفها ؛ لأنه

__________________

(١) إذا كان هذا هو المانع ، فلا فرق بين تقدمه وتأخره ، فتأمل. (ح / ص).

(٢) لعل هذا إذا كان الدافع يظن الإجزاء ، فإنها تكون إباحة في مقابلة عوض غير حاصل ، وهو الإجزاء ، وأما إذا كان الدافع يعلم أن يظن عدم الإجزاء فهي إباحة في مقابلة ما سيفعله ، فينظر في الذي يفعله هل هو واجب ، أو محظور على الفاعل ، فإن كان كذلك وفعل ذلك العوض جاء على الخلاف في الرشوة على واجب أو محظور ، هل يملك ويتصدق به ، أو لا يملك ، وإن لم يفعل كان على الخلاف بين المذاكرين ، هل الإباحة تبطل ببطلان عوضها ، أو لا تبطل ، وإن لم يكن أحدهما ، وإن فعل العوض حل له ، وإلا فهو باق على ملك مالكه على الخلاف. (ح / ص).

(٣) فيجب رده ، ويكون كالغصب إلا في الأربعة.

١٢٠