تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

فقال مالك : إذا ظهرت إمارات البلوغ حكم ببلوغه ، وذلك كغلظ الصوت ، وانشقاق الأرنبة (١) ، ونحو ذلك.

وقال داود : لا يبلغ حتى يحتلم ، وإن بلغ أربعين سنة.

وقوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) اختلف في تفسير الرشد ، فعن قتادة : هو العقل ، وهذا قول أهل المذهب.

وقيل : الصلاح في العقل والدين ، وهذا مروي عن الحسن ، وقتادة أيضا.

والقول الثالث : الصلاح في العقل ، وحفظ المال ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والسدي.

قال عيسى بن عمر : هو الصحيح ؛ لأنه لا يجوز الحجر على الفاسق الذي ماله في يده ، فكذا الفاسق الذي ماله في يد وليه (٢).

وقال الشافعي : أن يظهر منه العقل والدين ، وصيانة المال.

وقيل : العقل وصلاح المال لا الدين (٣).

قال جار الله : وقوله تعالى : (رُشْداً) إنما جاء منكرا ؛ ليدل أنه أراد طرفا من الرشد لا جميعه ، فعلى مذهبنا إذا بلغ عاقلا سلم إليه المال مطلقا ، وزال حجر الصغر ، وعلى قول الحنفية : إنما يسلم [إليه ماله] (٤) إذا بلغ ، وأنس منه الرشد لصلاح المال ، فإن لم يكن مصلحا لماله ، حفظ عند أبي حنيفة إلى بلوغ خمس وعشرين سنة ، ثم يسلم إليه ، وإن لم يؤنس الرشد.

__________________

(١) الأرنبة : رأس الأنف.

(٢) هذا رد على من قال : الصلاح في العقل والدين. (ح / ص).

(٣) هذا يشبه القول الثالث.

(٤) ما بين القوسين ثابت في غير أ ، وب.

٢٦١

وعند أصحابه لا يدفع إليه أبدا ، إلا بإيناس الرشد ، وإنما قدر أبو حنيفة بخمس وعشرين ؛ قال في الكشاف ؛ لأن البلوغ بثمانية عشر سنة ، وزيد سبع ؛ لأنه يتعلق بالسبع حكم ، وهو أمر الصبي بالصلاة.

وفي الثعلبي : لأن هذه المدة يصير فيها جدا ، من حيث أنه يحصل منه الحبل ببلوغ اثنتي عشرة سنة ، ومدة الحمل ستة أشهر ، وابنه كذلك.

فإن بلغ مصلحا لماله ثم تغير ، فعند أبي حنيفة لا يحجر عليه ، وعند أبي يوسف ، والناصر ، والشافعي يحجر عليه ، وعند محمد صار محجورا بالتبذير ، وعندنا أن التبذير لا يوجب الحجر ؛ لأنه تصح مداينته ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) [البقرة : ٢٨٢] ولم يفصل.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه) والمبذر إذا تصرف فقد طابت به نفسه ، ولحديث حبان بن منقذ (١) فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحح بيعه ، وإن ثبت الخيار.

قال الحاكم : إذا وجب على الولي حفظ مال اليتيم حتى يؤنس منه الرشد دل ذلك على انه يجب على القاضي حفظ مال الغائب والمفقود ؛ لأنه أوكد حالا ، وقد ذكر أبو مضر أيضا : أن من وجد حيوان الغير يجود بنفسه ، وهو مما يؤكل لزمه ذبحه ، وإن أخل بذلك أثم ، ولم يضمن ، بخلاف ما لو كان في يده وديعة ، فإنه يضمن إذا أخل بذبحه ؛ لأن ذلك إساءة للحفظ.

وأما وجوب الدفع إليه بعد إيناس الرشد ـ والإيناس : الاستيضاح ـ فذلك واجب بظاهر الآية ، ولكن ما المراد بالدفع؟ إن كان التخلية فذلك

__________________

(١) حديث حبان بن منقذ أخرجه البخاري عن ابن عمر في كتاب البيوع ، وكذا أخرجه مسلم عن ابن عمر. حبان : بفتح الحاء المهملة ، وبالباء الموحدة المشددة.

٢٦٢

إجماع ، وإن كان المراد الحمل إليه ، والرد فهذا محتمل ، والذي يحققه المتأخرون أن هذا لا يجب ، إنما عليه الإعلام والتخلية.

وفي كلام الهادي عليه‌السلام في من تساقط ثمر شجرته إلى أرض الغير ، أو داره أنه يجب على صاحب المكان الرد ، وهو يحتمل أنه أراد التخلية ، وكذلك كلام القاضي زيد ، والقاضي ، وأبي مضر في المضارب إذا مات أنه يجب على ورثته الرد ، وهو محتمل للتخلية ، فيكون تقدير الآية الكريمة : وابتلوا اليتامى إذا قاربوا البلوغ ، فإذا بلغوا ، فإن كنتم (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) فالدفع معلق بشرطين : البلوغ ، وإيناس الرشد ، وجواب الشرط الأول وهو : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) جملة أخرى من شرط وجزاء ، وهي (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١).

ويصح أن يكون المعنى : وابتلوا اليتامى ، فإن أنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم إذا بلغوا ؛ لأن الابتلاء ، وإيناس الرشد قبل البلوغ ، وحتى هنا هي التي تدخل على الجمل ، كقول الشاعر :

بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

فما زالت القتلى تمج دماءها

الأشكل : الأحمر (٢).

وأما تحريم أكل مال اليتامى ، فقد دلت على تحريمه ، لكن قوله

__________________

(١) والجملة الواقعة بعدها جملة ؛ لأن إذا متضمنة لمعنى الشرط ، وفعل الشرط (بَلَغُوا النِّكاحَ) وقوله (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) جملة من شرط وجزاء ، واقعة جوابا للشرط الذي هو (إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. كشاف.

(٢) والشكلة : الحمرة ، قال : (كذاك عتاق الطير شكل عيونها). وقيل : هو الأحمر الذي خالطه بياض. تمت (ح / ص).

٢٦٣

تعالى : (إِسْرافاً) أي : متجاوزين ما أبيح لكم من الأجرة ، وما ذكر في تفسير المعروف.

وقوله تعالى : (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي : تبادرون الأكل خشية كبر الصبي فيأخذ ماله.

وأما بيان ما رخص للأولياء من أموال اليتامى ، فقد قال تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) والظاهر أنه أراد فليأكل من مال اليتيم ، وذكر الأكل لأنه معظم الانتفاع.

وقيل : إنه يعبر بالأكل عن الانتفاع ، وروي عن ابن عباس : «فليأكل من مال نفسه ، لا من مال اليتيم» واستبعد.

وقد اختلف المفسرون هل في هذه الآية نسخ أم لا؟ فقيل : إن هذه الرخصة منسوخة بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠]

فلا يحل لفقير ولا لغني أن يأكل من مال اليتيم ، وبقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢].

وقال الأكثر من المفسرين ، وسائر العلماء : إن هذا غير ناسخ ؛ لأن الأكل بالمعروف غير ظلم ، وهو من الأحسن ، ثم اختلفوا ما المراد بذلك المعروف؟ فقيل : أراد الأجرة ، وهذا يروى عن عائشة ، ومحمد بن كعب ، وواصل ، وجماعة من المفسرين ، والفقهاء ، وقواه الحاكم ، وهو الظاهر من أقوال الأئمة عليهم‌السلام.

وقوله تعالى : (فَلْيَسْتَعْفِفْ) في ذلك إشارة إلى أن ترك (١) الأكل بالمعروف على طريق الأولوية.

__________________

(١) وفي نسخة (إلى أن تركه).

٢٦٤

وقيل : إن له رخصة غير الأجرة ، واختلفوا في تلك الرخصة ، فقيل : يأخذ ذلك على وجه القرض إذا احتاج ، ثم يقضيه إذا استغنى ، وهذا مروي عن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعبيدة السلماني ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، ومجاهد ، والأصم.

وعن عمر بن الخطاب «إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى منزلة ولي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، وإن أيسرت قضيت».

ويتفرع على هذا القول أن للحاكم ، ومتولي المسجد ونحو ذلك الاقتراض ، ويفرع أيضا أن للإمام اقتراض الزكاة لنفسه ، أو لمصرف آخر إذا احتاج إلى ذلك ، كأن يقترض الزكاة لبيت المال ، ويقبضه لذلك ، ثم يصرفه في هاشمي يحل له بيت المال ، كما روي عن الإمام المهدي علي بن محمد عليه‌السلام.

وظاهر إطلاق أهل المذهب أنه إنما يقرض مال اليتيم لمصلحة تعود إليه.

وقيل : بل لولي اليتيم رخصة غير القرض ؛ لأن ظاهر الآية أنه لا يقضي ما أكل ، وأن هذه الرخصة للفقير دون الغني ، ويشبه ذلك باللّقطة ، على قول : إنها للفقير دون الغني ، وبنفقة ذي الرحم على رحمه يكون ذلك مع الفقر ، لا مع الغنى.

قال في التهذيب : وقد روي عن علي عليه‌السلام ، وأبي بكر ، وعمر : أن الإمام يتناول من بيت المال للحاجة ، ويكون تقدير ما يأخذه إلى اجتهاده.

وقد روي عن الحسن ، وإبراهيم ومكحول ، وعطاء : أن له ما يسد جوعته ، ويستر عورته.

٢٦٥

وقيل : الرخصة أن يأكل من ثمر شجرته ، ويشرب من رسل (١) ماشيته ، وأما الذهب والفضة فلا يأخذ منه شيئا ، وهذا مروي عن الحسن ، وغيره.

قال في الكشاف : وروي أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن في حجري يتيما ، أفآكل من ماله؟ قال : (بالمعروف غير متأثل مالا ، ولا واق مالك بماله) قال : أفأضربه؟ قال : (بما كنت ضاربا به ولدك).

وروي عن ابن عباس : أن وليا ليتيم قال له : أفأشرب من لبن إبله؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتلوط حوضها ، وتهنأ جرباها ، وتقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب.

قوله : وتلوط حوضها ، أي : تطينه ، يقال : لاط الحوض إذا لاطه بالطين ، وقوله : وتهنأ جرباها ، أراد طلاها بالقطران ، يقال : هنأ البعير إذا طلاه بالقطران ، وقوله : ولا ناهك في الحلب ، الناهك : أن لا يبقي شيئا من اللبن إذا حلب.

وعن محمد بن كعب : يتقرم تقرم البهمة (٢) وينزل نفسه منزلة الأجير ، فيما لا بد منه.

وعن الشعبي : يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه ، وروي بقدر ما يعيش فيه ، وعنه : كالميتة يأكل عند الضرورة ، ويقضي.

وعن مجاهد : يستسلف فإذا أيسر أدى.

وعن سعيد بن جبير : إن شاء شرب فضل اللبن ، وركب الظهر ، ولبس ما يستره من الثياب ، وأخذ القوت ، ولا يجاوزه ، وإن أيسر قضاه ، وإن أعسر فهو في حل.

__________________

(١) الرسل : اللبن. صحاح.

(٢) أي : يأخذ اليسير ، تمثيل بإرعاء البهمة اليسير. (ح / ص).

٢٦٦

فهذه الأقوال بعضها يؤذن أن الأخذ يكون عوضا عن عمله ، فيكون أجرة ، وبعضها يؤذن بالقرض.

والتقرّم : عبارة عن أخذ اليسير. والبهيمة : الصغيرة من الغنم.

وقوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) هذا أمر من الله تعالى بالإشهاد ، وهو أمر ندب وإرشاد لقطع الخصومة.

قيل : إلا أن يعرف أنه يتهم فالإشهاد واجب لتزول التهمة.

واختلف العلماء هل يقبل قول الوصي : إنه قد رد إلى الصبي ماله بعد بلوغه أم لا؟ فالظاهر من مذهب الأئمة عليهم‌السلام ، وهو قول أبي حنيفة :

أنه يقبل قوله مع يمينه (١) ، لأنه أمين فأشبه الوديع ، والحاكم ، والمضارب ، والشريك ، ولأنه لو ادعى التلف ، أو أنه أنفق عليه في حال صغره قبل قوله وفاقا ، وكذا هنا ، فيكون فائدة الإشهاد قطع الشجار.

وقد أفادت الآية أن اليمين الأصلية تسقط إذا شهد الشهود على التحقيق ، فتكون البينة هذه قاطعة لليمين ، ويأتي مثل هذا في المؤكدة أنها تسقط إذا شهدوا على التحقيق ، وهذا بناء على أن المؤكدة وجبت لتهمة المدعي ، لا لتهمة الشهود ، وقال مالك ، والشافعي : على الوصي البينة بالرد ، وأخذوا بظاهر الأمر بالإشهاد.

وعن الأصم : أمر الله تعالى بالإشهاد حيث استقرضه الوصي ، فيكون كسائر الديون ، أما لو كان الوصي أجيرا وجبت عليه البينة لأجل وجوب الضمان ، فهذه الآية الكريمة قد تضمنت أحكاما متعددة.

__________________

(١) وهو المذهب.

٢٦٧

قوله تعالى

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧]

النزول

روي أن أوس بن الصامت الأنصاري (١) ترك امرأته أم كجة ، وثلاث بنات ، وله ابنا عم سويد ، وعرفطة.

وقيل : قتادة ، وعرفجة ، فزويا ميراثه عنهن ، وكانت الجاهلية لا تورث النساء والأطفال ، ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح ، وذاد عن الحوزة ، وحاز الغنيمة ، فجاءت أم كجة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في مسجد الفضيخ بالمدينة

والفضيخ : موضع كانوا يفضخون فيه النبيذ (٢) ـ فشكت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها : ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله ، فنزلت الآية ، فبعث إليهما : لا تقربا من المال شيئا ، فإن الله قد جعل لهن نصيبا ، ولم يبين ، حتى تبين ، فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] فأعطى أم كجة الثمن ، والبنات الثلثين ، ودفع الباقي إلى ابني العم ، وروي إلى العم ، بدل ابني العم.

وقيل : إنها نزلت في ورثة سعد بن الربيع ، وذلك أنه لما مات جاءت امرأته بابنتي سعد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : قتل أبوهم يوم أحد ، فأخذ

__________________

(١) كذا النقل من تفسير الكشاف ، وفي تفسير الحاكم الجشمي ، وعيون المعاني ، والبغوي ، والثعلبي : أوس بن ثابت الأنصاري ، وفي التهذيب (تفسير الحاكم الجشمي) أوس بن زيد بن ثابت. (ح / ص).

(٢) الفضخ : الشدخ ، والفضيخ : شراب يتخذ من البسر المفضوخ ، أي : المشدوخ. نهاية.

٢٦٨

عمهما مالهما ، ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يقضي الله في ذلك) فنزلت ، ونزل : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) فأعطى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرأة الثمن ، والابنتين الثلثين ، والباقي للعم.

والظاهر من كلام المفسرين أن قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ) نزل بعد نزول (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) وبين إجماله بذكر الفرائض.

وقيل : نزل (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) بعد بيان الفروض في قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ).

وثمرة الآية أحكام : الأول : مخالفة ما كانت الجاهلية عليه من قطع النساء والصبيان ، وأنهم لا يورّثون إلا من حمل السلاح.

الثاني : أن جميع التركة مقسوم لقوله تعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) وقوله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ) وذلك لفظ عام ، وقالت الإمامية : لابن الميت سلاحه وثيابه.

الثالث : ثبوت ميراث ذوي الأرحام ، لقوله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) والعم من الأقربين ، وكذلك ابن الأخ ، فيلزم أن ترث بنت العم ، وبنت الأخت ، وهذا مذهب عامة أهل البيت عليهم‌السلام ، والحنفية ، خلاف رواية النيروسي ، عن القاسم ، والإمام يحي عليه‌السلام : أنه لا ميراث لذوي الأرحام ، كقول الشافعي ، وسيأتي بيان المسألة عند ذكر قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥].

الرابع : ما ورد في سبب نزولها ، من توريث العصبة مع البنات ، وهذا مذهب القاسمية ، وعامة الفقهاء ، وهو مروي عن جمهور الصحابة.

وقال الناصر ، والصادق ، والباقر ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى الرضا : إنه لا ميراث للكلالة مع الولد ، وتأولوا ما ورد في الخبر بأنه يحتمل (أنه أقر للعم ، أو أوصى له).

٢٦٩

وقال أبو جعفر : المسألة اجتهادية ، وذلك محكي عن أبي طالب.

وقيل : إنها قطعية.

الحكم الخامس : ذكره الحاكم : أنه يؤخذ من الآية أن الوصية لا تستغرق التركة ، إذ لو استغرقت لما ثبت النصيب.

قوله تعالى

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [النساء : ٨]

اعلم أن هذه القسمة المذكورة غير مصرح ببيانها ، وكذلك القربى يحتمل أنهم الورثة ، أو غيرهم.

وقوله تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) هل ذلك أمر ندب أو وجوب؟ وللعلماء رحمهم‌الله تعالى أقاويل مختلفة.

وبيانها : أنهم اختلفوا في القسمة والقرابة ، فقال بعضهم : أراد قسمة الميراث ؛ لأنه تعالى قال قبل هذه الآية : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ثم قال هنا : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) يعني : التي للأنصباء المذكورة.

وقوله تعالى : (أُولُوا الْقُرْبى) يعني : أهل الأنصباء الثابتة لهم بالميراث ، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب ، ولا نسخ ، وهذا قول خفي ، ولم يبين حكم اليتامى والمساكين.

وقال الأكثر : أراد الله سبحانه غير القرابة الوارثين ؛ لأنه تعالى بين قبل هذا حال من يرث ، ثم بين في هذه حال من لا يرث ، ثم اختلفوا بعد ذلك ، فقال أكثر المفسرين : أراد قسمة الميراث.

وقال ابن زيد : أراد قسمة الوصية ؛ لأنهم كانوا يحضرون قسمة الوصية ، فأمر الموصي أن يوصي لهؤلاء.

٢٧٠

وقيل : أمر أن يوصى للقرابة ، ويقال لغيرهم قولا معروفا ، وتفسير القسمة بأنها قسمة الوصية مروي عن ابن عباس ، وابن المسيب.

وروي أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه ، وعائشة في الحياة ، فلم يدع أحدا في الدار إلا أعطاه ، وتلا هذه الآية.

وعن الحسن : كان المؤمنون يفعلون ذلك إذا اجتمعت الورثة ، حضر هؤلاء فرضخوا بالشيء من رثة المتاع (١) ، فحضهم الله تعالى على ذلك تأديبا ، من غير أن يكون فريضة.

ثم اختلف المفسرون : هل هذا الأمر ندب أو أمر إيجاب؟ فقيل : إن ذلك أمر ندب غير واجب ، إذ لو كان واجبا لضرب له حد مقدر ، وهذا قول أبي علي ، وجعفر بن مبشر ، وأبي مسلم ، والحسن ، رواه عنه في الكشاف ، وهذا الذي أطلقه الزمخشري.

وقيل : بل ذلك أمر إيجاب ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم ، والشعبي ، والزهري.

واختلف المفسرون خلافا آخر ، وهو في نسخ الآية وبقائها ، فعن سعيد بن المسيب ، وأبي مالك ، والضحاك ، أنها منسوخة بآية المواريث.

وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والشعبي ، والزهري ، وأبو علي ، وأبو مسلم : إنها ثابتة.

وعن سعيد بن جبير : أن ناسا يقولون : نسخت. والله ما نسخت. ولكنها مما تهاون به الناس.

وعن الحسن : الآية ثابتة ، لكن الناس شحوا وبخلوا.

__________________

(١) الرثة : كقربة ، توحيدا وجمعا ـ السقط من متاع البيت. تمت صحاح معنى (ح / ص).

٢٧١

واختلف من قال : إن ذلك للوجوب ، وإنه باق غير منسوخ ـ إذا كان في الورثة صغار ، فعن ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي : أنه لا يعطى من مال الصغار ، بل يقال قول معروف ، وذلك أن يقول : لو كان لنا لأعطيناك ، ولكن هو لهؤلاء الضعفاء الصغار ، وإذا كبروا فهم يفرقون حقكم.

وقيل : بل يرضع من حقهم ، وهذا مروي عن عبيدة السلماني ، وابن سيرين.

وروي أن عبيدة ذبح شاة من مال اليتيم وقسمها بين هؤلاء.

قال الحاكم : وقدم القربى ؛ لأن وضع الصدقة فيهم أعظم أجرا ، ثم اليتامى للضعف والحاجة ، ثم المساكين ، فيدخل كل فقير عند الشافعي ؛ لأن المسكين عنده أحسن حالا من الفقير.

وقوله تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) الضمير لما ترك الولدان ، والأقربون.

وقوله تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) اختلف في ذلك ، فقيل : يجمع بين الرزق ، وبين القول بالمعروف ، وهو أن يقال : خذوا بارك الله فيكم ، ويعتذروا إليهم ، ويستقلوا ما أعطوهم ، ولا يمنوا عليهم (١).

وقيل : من لم يدفع إليه يصرف بكلام جميل.

وقيل : يعطون من الأثاث ، وفي قسمة العقار يقال قول معروف.

وقيل : يعطى من يرث ، ومن لا يرث يرفع إليه هدية ، ويدعا له.

وعن الحسن والنخعي : أدركنا الناس يعطون القرابات ، واليتامى ،

__________________

(١) وفي النسخة أ (ويعتذرون إليهم ، ويستقلون ما أعطوهم ، ولا يمنون عليهم).

٢٧٢

والمساكين ، إذا قسموا العين ، فإذا قسموا الرقيق ، والأرض ، وما أشبه ذلك قالوا لهم قولا معروفا ، فظهر من هذه الجملة أن الأمر للندب على ما صحح ، وأن القرابة هم من لا يرث ، وأن العطاء من الأثاث ونحوها ، لا من العقار ونحوها ، وقد فسر قدر المعطي بما طابت به نفس الورثة ، ويحتمل بما يسمى رزقا ، وصدقة.

قوله تعالى

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [النساء : ٩]

النزول

قال أبو علي : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا إذا حضروا الموصي ، وله ذرية ضعاف قالوا : أوص لفلان بكذا ، ولفلان بكذا ، حتى يستغرق ماله ، فنهوا عن ذلك.

المعنى : قيل : هذا الخطاب لمن يحضر الميت عند الوصية ، فيحثه على الوصية ، ويقول : أولادك لا يغنون عنك شيئا ، اعتق ، تصدق ، افعل كذا ، حتى يأتي على ماله ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن يأمروه أن يبقي ماله لورثته ، ولا يزيد على الثلث ، كما لو كان القائل الذي حضر هو الموصي ، فإنه يسره أن يوصيه ، كمن حضر في حفظ ماله لورثته ، ولا يدعهم عالة مع ضعفهم ، فأمروا أن يحبوا لورثة غيرهم ما يحبون لورثتهم ، وهذا معنى قول ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك ، ومجاهد.

ومنهم من قال : هو خطاب لمن يحضر المريض ، فيحثه على عدم الوصية ، وإمساك ماله دون القربى ، واليتامى ، والمساكين ، ولو كان هو

٢٧٣

الموصي لسره أن يوصي لهم ، فنهوا عن ذلك ، وهذا قول مقسم (١) ، وأبي مالك الحضرمي.

ومنهم من قال : هو خطاب لولاة الأيتام أن يقولوا خيرا ، ويفعلوا خيرا ، وليأت إلى اليتيم ما يحب أن يفعل لذريته من بعده.

فالمعنى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) صفتهم أنهم لو شارفوا الموت ولهم ذرية ضعفاء (٢) ، خافوا عليهم ، فليتقوا الله عن ضرار الورثة (٣) ، أو منع الميت من الوصية (٤) بماله أن يوصي به ، أو أن يغلظوا على الأيتام (٥) ، وجعل الورثة الذين يذهب حافظهم وكافلهم ضعافا ، فشبّهوا بناقص القوة ، وإن حمل على ضعف القوة لصغرهم صح ، وقد جاء على الأول قول القائل (٦) :

لقد زاد الحياة إلى حبا

بناتي إنهن من الضعاف

أحاذر أن يرين البؤس بعدي

وأن يشربن رنقا بعد صاف

الرنق : الماء الكدر.

__________________

(١) هو مقسم ـ بكسر الميم ، وسكون القاف ، وفتح السين ـ ابن بجرة ، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، وإنما قيل له : مولى ابن عباس للزومه له ، وهو تابعي ثقة.

(٢) وفي ب (ضعاف).

(٣) هذا على الوجه الأول.

(٤) هذا على الوجه الثاني.

(٥) هذا على الوجه الثالث.

(٦) القائل : هو أبو خالد الخارجي ، لامه قطري بن الفجاءة ، عن التخلف عن الحرب ، فاعتذر بذلك ، وقيل : لمحمد بن عبد الله الأزدي ، وقيل : لعمران بن حطان. انظر حاشية الكشاف. وذكر ابن أبي الحديد أنه لأبي خالد الخارجي ، وبعد البيتين :

وإن تعرين إن كسي الجواري

فتنبو العين عن كوم عجاف

ولو لا ذاك قد سومت مهري

وفي الرحمن للضعفاء كاف

٢٧٤

وثمرة الآية : أنه يجب أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه ، ويجب أن يحب لذرية غيره من المؤمنين ما يحب لذريته ، وأن على ولي اليتيم أن لا يؤذي اليتيم ، بل يكلمه كما يكلم أولاده ، بالأدب الحسن ، والترحيب ، ويدعو اليتيم : يا بني ، يا ولدي ، وقد جاء في الرقة على الأيتام آثار كثيرة :

منها : ما رواه الحاكم في السفينة ، عن أبي الدرداء ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أتاه رجل يشتكي قسوة قلبه : (أتحب أن يلين قلبك؟ قال :

نعم. أدن اليتيم منك ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، فإن ذلك يلين قلبك ، ويقدرك على حاجتك عند الله).

ومن ثمراتها : أن من حضر مريضا ، وأراد أن يوصي بفوق الثلث ، أن يقول : لا تجحف بأولادك ، ولا تسرف في وصيتك ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعد بن معاذ ، وقيل : سعد بن أبي وقاص : (إنك إن تترك أولادك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس).

وقد اختلف ما الأفضل للمريض في الوصية؟ فعندنا : يوصي إلى الثلث ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إن الله جعل لكم الثلث في آخر أعماركم ، زيادة في أعمالكم).

وقال الناصر : بدون الثلث ، لأن في حديث سعد بن الربيع بالثلث ، والثلث كثير ، وهكذا عن أصحاب الشافعي إذا كان ورثته فقراء.

قال في الكشاف : وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ، وأن الخمس أفضل من الربع ، والربع أفضل من الثلث.

٢٧٥

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠]

النزول

قيل : نزلت في مرثد بن زيد ، وهو رجل من غطفان ، أكل مال ابن أخيه ، وهو يتيم في حجره ، عن مقاتل.

وقيل : نزلت في المشركين الذين كانوا لا يورثون اليتامى أموالهم ، ويأكلونها بغير حق.

وقيل : نزلت في القائمين بأمور اليتامى ، من الأوصياء والحكام ونحوهم ، وقد تقدم أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وأنه لا منافاة بينها وبين قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة : ٢٢٠] وبين قوله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦].

ومنهم من قال : إنها (١) منسوخة بقوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ؛ لأنها لما نزلت تحرجوا عن مخالطة الأيتام ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) وخص الأكل لما تقدم أنه معظم المنافع.

وجعل التحريج في مال اليتيم أغلظ لضعفه.

قال أبو علي : إذا خان في مال اليتيم بقدر خمسة دراهم قطع بكبره ، قياسا على مانع الزكاة.

وقال أبو هاشم : عشرة ، قياسا على القطع في السرقة (٢).

__________________

(١) في ب (ومنهم من قال : هذه منسوخة).

(٢) يقال : ولو قلّ ؛ لأن الله قد قطع ، بخلاف مال اليتيم ، فيحقق النظر في ذلك. (ح / ص).

٢٧٦

وقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي : يأكلون ما يجر إلى النار

وقيل : لأنه يصير يوم القيامة في بطنه (١) نارا.

قال جار الله : وروي (أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ، ومن فيه ، وأنفه ، وأذنيه ، وعينيه ، فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا) (٢).

قوله تعالى

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ

__________________

(١) في نسخة ب (فِي بُطُونِهِمْ ناراً).

(٢) في الأصل المنقول عليه ما لفظه : (تم الجزء الأول من الثمرات اليانعة بحمد الله ، ومنه ، ولطفه ، وحوله وقوته ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما مباركا طيبا غدقا ، من يومنا هذا إلى يوم الدين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني).

٢٧٧

بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء : ١١ ـ ١٢] (١).

النزول

روي عن جابر بن عبد الله قال : مرضت ، فعادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، فأغمي عليّ ، فدعا بماء فصبه عليّ ، فلما أفقت قلت : يا رسول الله أوصني في مالي كيف أصنع؟ فنزلت آية المواريث (٢).

وعن عطاء قال : استشهد سعد بن الربيع يوم أحد ، وترك ابنتين وامرأة وأخا ، فأخذ الأخ المال ، فأتت امرأته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالت : إن هاتين ابنتا سعد وإن سعدا قتل وإن عمهما أخذ مالهما ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ارجعي فلعل الله يقضي في ذلك» فأقامت حينا ثم عادت فبكت ، فنزل (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمهما وقال :

__________________

(١) هاتان الآيتان من عمدة الأحكام وركن من أركان الدين ، وأم من أمهات الآيات ، وذلك لأن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم. انظر أحكام القرآن للقرطبي (٥ / ٥٥ وما بعدها).

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه (رقم ٤٥٧٧) كتاب التفسير ، باب (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ، ومسلم في صحيحه (رقم ٦١٦ / ٦) كتاب الفرائض ، باب ميراث الكلالة.

والنسائي في تفسيره (١ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ح ١١١) وفي السنن الكبرى كتاب الفرائض ، والطبري في تفسيره (٤ / ١٨٦) ، والبيهقي في سننه (٦ / ٢١٢) والواحدي في أسباب النزول ص (١٠٧) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣٠٣) وصححه ، والسيوطي في أسباب النزول ص (٧٢).

كما احتج به أغلب مصنفو كتب التفسير كالقرطبي والخازن وابن كثير وغيرهم.

٢٧٨

«أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك» (١) ، فهذا أول ميراث قسم (٢) في الإسلام.

وعن مقاتل : أنها نزلت في قصة أم كجّة (٣) ، وقد تقدمت.

وعن السدي : أنها نزلت في (قصة) (٤) عبد الرحمن ابن أخي حسان بن ثابت (٥) وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات ، فلم تعط الإمرأة شيئا ، فشكت إلى رسول الله ، فنزلت (٦)

وعن ابن عباس : كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ ذلك ، وأنزل الله تعالى المواريث (٧)

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٣٥٢) وأبو داود (٣ / ٣١٦) كتاب الفرائض ، باب ميراث الصلب (ح / ٢٨٩٢) ، والترمذي (٤ / ٤١٤) كتاب الفرائض (ح / ٢٠٩٢) ، وابن ماجة في سننه (٢ / ٩٠٨) (ح / ٢٧٢٠) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٢٢) وعزاه إلى ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وابن داود والترمذي وابن ماجة ومسدد والطيالسي وابن أبي عمر وابن منيع وابن أبي أسامة وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي عن جابر. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وانظر تفسير الخازن (١ / ٣٤٦) ، القرطبي ، (٥ / ٥٥ وما بعدها) ، وتفسير الطبري (م ٣ / ٦١٨) ، ولباب النقول للسيوطي ص (٧٢) أسباب النزول للواحدي ص (١٠٧).

(٢) في (أ) : تم.

(٣) تفسير القرطبي (٥ / ٥٨) الطبري (م ٣ ص ٦١٧) خبر (٨٧٢٧) ، الناسخ والمنسوخ لهبة الله سلامة (ص ١٠٢) ، وحول أم كجة انظر : الإصابة (٤ / ٤٦٤ ت ١٤٦٥).

(٤) من (ب).

(٥) الذي وقفت انه عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت وليس ابن أخي حسان بن ثابت.

(٦) انظر تفسير القرطبي (٥ / ٥٨) زاد المسير (٢ / ٢٥) ، تفسير الطبري (م ٣ / ٧١) باب النقول للسيوطي ص (٧٢).

(٧) انظر الناسخ والمنسوخ لعبد الله بن الحسين بتحقيقنا ص (١٢٢ وما بعدها) ، والناسخ والمنسوخ للنحاس ص : (١٩ ـ ٩٢) ، والطبري (م ٣ / ٦١٧) ، الطبرسي (م ٢ ح ٤ ص ٣٤).

٢٧٩

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تعالى لم يرض بملك مقرّب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمة التركات ، وأعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث» (١) ، وقيل : كانت الجاهلية لا يقسمون الميراث بين أولاد الميت بل يجعلونه لمن يقاتل ويذب عن الحريم ، فنزلت (٢) ، وقيل : كانت المواريث في الجاهلية بالقوة فيورثون الرجال دون النساء والصغار ، فأبطل الله تعالى ذلك بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] ثم كانت في ابتداء الإسلام بالمحالفة لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء : ٣٣] ثم صارت بالهجرة ثم نسخ ذلك كله بآية المواريث المذكورة (٣).

وثمرات ذلك كله (٤) : قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أي : يأمركم ويعهد إليكم ، وفي الآية حذف تقديره : في توريث أولادكم ، وقوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قدم ذكر الذكر لبيان فضل الذكر كما فضّل في الميراث (٥) ، وقوله تعالى : (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) هذا بيان

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن (٦ / ٢٦٤) وأحمد في المسند (٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٢٣٨) (٥ / ٢٦٧) وابن ماجة في سننه (٢ / ٩٠٥) والطبراني في الكبير (٨ / ٧٥٣١ ، ٧٦٢١) ، (١٧ / ٦٩ ، ٧١ ، ٦١ (٨ / ٧٦٥١) ، وعبد الرزاق (١٦٣٠٨) وأبو داود (٢٨٥٣ ، ٣٥٤٨) والترمذي (٦٥٥ ، ٢٢٥٣) وابن ماجة أيضا (٢٠٠٧ ، ٢٧١٣ ، ٢٣٩٨) وانظر الناسخ والمنسوخ لعبد الله بن الحسين بتحقيقنا ص (٨٢ ، ١٢٤) ، تفسير الطبري (م / الجزء ٤ ص ٣٤).

(٢) تفسير الطبري (م ٣ / ٦١٦).

(٣) الكشاف (١ / ٥٠٥) ، القرطبي (٥ / ٦٠).

(٤) من (ب).

(٥) انظر حول الموضوع تفسير الفخر الرازي (٣ / ٥٠٩ وما بعدها).

٢٨٠