تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وكان من حديثه أن طائفة من الخزرج ، وهم بنو سلمة ، وطائفة من [الأوس] (١) وهم بنو حارثة هموا بالانصراف ، وكان حديث نفس ، وهذا يدل أنه ينبغي لرئيس العسكر تهيئتهم ، وترصيفهم في الحرب ، وأن حديث النفس معفو عنه

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران : ١٣٠ ـ ١٣٢]

ثمرتها : تحريم الربا ، وفي الآية زواجر :

منها : النهي ، وخص الأكل ؛ لأنه معظم الانتفاع ، وإن كان جميع الانتفاع به محرما.

الثاني : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) لأن المعنى عن فعله.

الثالث : قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

الرابع : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ) لأن في ذلك وعيدا بها.

__________________

(١) في النسخة أ ، وب (وطائقة من الأنصار وهم بنوا حارثة) ، وما بين القوسين ذكر في حاشية نسخة أنه نسخة صحيحة ، وهو الصحيح ؛ لأن الكل من الأنصار ، وليس إحدى الطائفتين كما ذكر المصنف ، قال في الكشاف. (والطائفتان حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس).

وفي تهذيب الحاكم ما لفظه ((طائِفَتانِ) فرقتان قيل : بنوا سلمة من الخزرج ، وبنوا حارثة حيان من الأنصار عن ابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد ، وابن إسحاق ، وكان ذلك في حرب أحد ، وقيل : طائفة من المهاجرين ، وطائفة من الأنصار قالوا : ما خرجنا لجهاد ، ولم نأخذ أهبته ، وهموا بالانصراف فعصمهم الله حتى حاربوا ، عن أبي علي).

٢٢١

الخامس : قوله تعالى : (الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فتوعد بأشد النار ، وهي نار الكافرين.

السادس : قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ) وهذا تأكيد لامتثال أوامره فيما ذكر ، واجتناب ما نهى عنه.

السابع : قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فقيد الرحمة بطاعته تعالى فيما أمر ونهى.

وكان أبو حنيفة يقول : هذه أخوف آية في القرآن ؛ لأنه تعالى وعد المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوا محارمه.

وقوله تعالى : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) قيل : كان أجل الدّين إذا حلّ زاد المدين في الدين لزيادة الأجل ، ثم كذلك. وقيل : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) تضعفون مالكم ، وقد ورد تحريم الربا في سورة البقرة ، وفي هذا تأكيد.

قوله تعالى

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٣ ـ ١٣٤] (١)

المعنى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) قال جار الله (٢) : المسارعة إلى المغفرة والجنة : الإقبال على ما به تستحقان (٣).

__________________

(١) قال في التهذيب (قرأ نافع وابن عامر (سارعوا) بغير واو ، كذلك هو في مصاحف المدينة ، والشام ، وقرأ الباقون بالواو ، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ، ومصحف عثمان. والمعنى واحد إلا بمقدار الاستئناف أو وصل الكلام).

(٢) وفي نسخة (جار الله رحمه‌الله).

(٣) بمناسبة ذكر هذه الآية أذكر أنه ورد سؤال خلال ندوة في جامع برط من أحد الأساتذة ، فقال : إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض ، فأين السموات ـ

٢٢٢

وعن علي عليه‌السلام : «إلى أداء الفرائض» وعن ابن عباس «إلى الإسلام» وعن عثمان «إلى الإخلاص» وعن أبي العالية «إلى الهجرة» وعن أنس «إلى التكبيرة الأولى» وعن سعيد بن جبير «إلى أداء الطاعات» وعن الضحاك «إلى الجهاد» وعن يمان (١) «إلى الصلوات الخمس» وعن عكرمة ، والأصم ، والقاضي «إلى التوبة» وعن مقاتل «إلى الأعمال الصالحة» وعن أبي مسلم «إلى جميع ما سبق».

وقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٢).

__________________

ـ والأرض؟ فأثبت هنا ما ذكره الحاكم في تفسيره ، ولفظه (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا) وإنما ذكر العرض بالعظم دون الطول ، لأنه يدل على أن الطول أعظم ، وليس كذلك لو ذكر الطول بدلا من العرض ، وعن الزهري قال : إنما وصف العرض فأما الطول فلا يعلمه إلا الله ، وقيل : لم يرد العرض الذي هو خلاف الطول ، وإنما أراد سعتها ، وعظمها. والعرب إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض. أنشد أبو مسلم :

بلاد عريضة وأرض أريضة

مواقع عتب في فضاء عريض

و (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) يعني : كعرض السموات السبع والأرضين السبع إذا ضم بعض ذلك إلى بعض ، عن ابن عباس ، والحسن ، وقيل : تقديره عرضها عرض السموات فحذف كقوله (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني : كبعث نفس ، ويقال : إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ قلنا : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال : سبحان الله إذا جاء النهار فأين يذهب الليل) وهذه معارضة حسنة سقطت المسألة لأن القادر على أن يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء ، وروي أن جماعة من اليهود سألوا عثمان عن ذلك فأتى بهذا ، فقالوا : إنه لمثلها في التوراة ، وسئل ابن عباس عن ذلك ، فأجاب كذلك).

(١) (عن يمان) هو في الحاكم هكذا.

(٢) (وقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) مبتدأ ، فأين الخبر؟ يقال : هو محذوف وتقديره : يؤيد ذلك. أي : كلام أبي مسلم ، أو إلى ما سبق كله ، لأن ما تقدم كله من صفات المتقين. ثم أضاف صفات أخر بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) الخ.

٢٢٣

وبين تعالى صفتهم فقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) يعني : في أبواب البر من الجهاد والصدقة.

وقوله تعالى : (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) قيل : أراد حال اليسر ، وحال العسر ، وقد يروى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة ، وعن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب ، وقيل : في حال السرور والاغتمام.

قال جار الله : وقد الإنفاق لأنه أشق على النفس ، ولأنه في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في الجهاد ، ومواساة الفقراء.

وقوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وذلك بأن يمسك على ما في نفسه [منه بالصبر] ، ولا يظهر له أثرا (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا) (٢). للكرخي :

وإذا غضبت فكن وقورا كاظما

للغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفا بصبرك ساعة

يرضى بها عنك الإله وترفع (٣)

وقوله تعالى : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) يعني : إذا جنى عليهم أحد

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط في الأصل ، وقد أثبتناه من الكشاف ، فإنه نقل كلام جار الله ولفظ الأصول التي بين أيدينا (وذلك بأن يمسك على ما في نفسه ، ولا يظهر له أثر).

(٢) ولفظ الكشاف (وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص ، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين. كظم القربة : إذا ملأها وشد فاها. وكظم البعير : إذا لم يجتر. ومنه : كظم الغيظ ، وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا).

(٣) وفي نسخة (ترضى بها عند الإله وترفع).

٢٢٤

لم يؤاخذوه ، وروي (أنه ينادي مناد يوم القيامة : أين الذين كانت أجورهم على الله تعالى ، فلا يقوم إلا من عفا).

وعن ابن عيينة : أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يجوز أن تكون اللام للجنس ، فيدخل في ذلك كل محسن ممن تقدم ، ومن غيرهم ، وأن تكون للعهد فتكون لمن تقدم ، وعن الثوري «الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، فأما إلى من أحسن إليك فإنه متاجرة».

ولكل واحدة من هذه الخصال باب فيه ترغيب وآثار كثيرة.

وثمرة هذه الآية : ما ذكر من المسارعة إلى الخيرات ، والإنفاق ، وكظم الغيظ ، والعفو ، والإحسان ، وهذه الأشياء تنقسم إلى واجب ، ومندوب.

قال في الثعلبي : وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رأيت قصورا مشرفة على الجنة ، فقلت : يا جبريل لمن هذه؟ قال : للكاظمين (الْغَيْظَ ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : ١٣٥]

يدل على أن مع جهل القبح يعذر الفاعل (١).

__________________

(١) واشترط الشيخان أبو علي وأبو هاشم في قبح القبيح أن يصدر من العالم بكونه قبيحا القاصد له ، فلا يكون قبيحا إذا صدر من المجانين والبهائم ، صرحا بذلك في الظلم ، وقال غيرهما : بل هو قبيح مطلقا ، وإنما العلم شرط في استحقاق العقاب فقط لا في القبح ، ذكره في أول كتاب العدل في شرح المقدمة. ـ

٢٢٥

قيل : الفاحشة : الكبيرة. وظلم النفس : الصغيرة.

وقيل : الفاحشة : الزنا. وظلم النفس : ما دون ذلك من اللمس ، والتقبيل.

وقيل : الفاحشة : الزنا ، وظلم النفس : سائر المعاصي.

وسبب نزول هذه الآية : أن قوما من المؤمنين قالوا : يا رسول الله بنوا إسرائيل أكرم منا ، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه : اجدع أنفك ، اقطع أذنك ، افعل كذا .. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانزل الله تعالى هذه الآية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا أخبركم بخير من ذلك؟ وقرأ هذه الآية) وفيها تسهيل على أمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا مروي عن ابن مسعود ، وعطاء ابن أبي رباح.

وقيل : نزلت في تيهان (١) التمّار أتته امرأة تبتاع منه تمرا ، فقال : إن هذا ليس بجيد ، وفي البيت أجود منه ، وذهب بها إلى بيته ، وضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها ، وندم ، وأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر ذلك. فنزلت الآية.

وقيل : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أنصاري ، وثقفي ، فخرج الثقفي غازيا ، واستخلف الأنصاري على أهله ، فاشترى ذات يوم لهم لحما ، فأخذته امرأة الثقفي منه ودخلت بيتها ، فتبعها وقبلها ، ثم ندم وانصرف ، فقالت : والله ما حفظت غيبة أخيك ، ولا نلت حاجتك ، فخرج ووضع

__________________

ـ وسيأتي قوله في النساء (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ) الآية فأثبت عصيانا ، وقوله مع الجهل وهو كالمناقض لما هنا كما ترى ، وسيأتي كلام الحاكم في التهذيب منقولا في النساء فيؤخذ من هناك. (حص).

(١) في جامع الأصول (أبو البشر كعب بن عمير بن عباد بن عرند ، وقد ضبط أيضا في بعض النسخ بالنون والباء الموحدة (نبهان) (ح / ص).

٢٢٦

التراب على رأسه ، وهام على وجهه ، ورجع الثقفي وسألها عن حاله ، فوصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال نائيا ، فطلبه الثقفي ، وأتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية. عن مقاتل ، والكلبي.

قوله تعالى

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) [آل عمران : ١٣٩]

ثمرتها : الترغيب في الجهاد ، والتسلية للمؤمنين بما نالهم.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران : ١٤٩ ـ ١٥٠]

ثمرة الآية :

الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار ، ولا يطيعوهم ، ولا يقبلوا مشورتهم ، خشية أن يستزلوهم عن دينهم.

وعن علي عليه‌السلام : «أنها نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم ، وادخلوا في دينهم».

وعن الحسن «أن اليهود ، والنصارى كانوا يستغوونهم» ويوقعون لهم الشبه في الدين ، فنهوا عن قبول قولهم».

قوله تعالى

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [آل عمران : ١٥١]

ثمرة ذلك : أن الله تعالى لما وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النصر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ـ دل ذلك على أنما حصل به الرعب من شهر السلاح ،

٢٢٧

وتهيئة العسكر ، والطبول ، والرايات ، فإن ذلك يستحب فعله ، ويجب إن علم أن له تأثيرا.

قوله تعالى

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) [آل عمران : ١٥٢]

المعنى : قيل : لما وعد الله تعالى المسلمين بالنصر بقوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).

وقيل : الوعد في قوله تعالى في هذه السورة : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) [آل عمران : ١٢٥] فلما حصل الفشل والتنازع لم يحصل الرعب ، أو لما لم يحصل الصبر لم يحصل النصر ؛ لأنه مشروط بالصبر ، والوعد صادق ، والقصة في يوم أحد ، على قول أكثر المفسرين ، وقيل : يوم بدر.

وقيل : لما رجعوا إلى المدينة منهزمين ، قال ناس من المؤمنين : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله بالنصر؟ فنزلت.

وكان من حديثهم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل أحدا خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، وأقام الرماة عند الجبل ، وأمرهم أن يثبتوا مكانهم ، كانت الدولة للمسلمين أو عليهم ، فلما أقبل المشركون ، جعل الرماة يرشقون (١) خيلهم ، والباقون يضربونهم بالسيوف (٢) ، حتى انهزم الكفار ، والمسلمون على أثرهم يحسونهم ، أي : يقتلونهم قتلا ذريعا.

__________________

(١) الرشق : ـ بالتحريك ـ الحجارة ، وبالتسكين : السهام.

(٢) في النسخة ب : (يضربون بالسيوف).

٢٢٨

وقوله تعالى : (بِإِذْنِهِ) قيل : أراد بأمره ، وقيل : بعلمه ، وقيل : بلطفه.

حتى إذا فشلوا ، أي أصابهم الفشل ، وهو الجبن ، وضعف الرأي ، وتنازعوا حصل بينهم التنازع ، فقال بعضهم : قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا؟ وقال بعضهم : لا نخالف أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فممن ثبت مكانه عبد الله بن جبير ، أمير الرماة ، في نفر دون العشرة ، وهم المعنيون بقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ومال نفر سواهم ينهبون ، وهم الذين أرادوا الدنيا ، فكرّ المشركون على الرماة ، وقتلوا عبد الله بن جبير.

وقيل : والتقدير حتى إذا عصيتم وتنازعتم فشلتم (١).

وقيل : الواو لا توجب الترتيب ، والمعنى : فعلتم جميع ذلك فحصل الامتحان لكم ؛ لنبتلي صبركم على المصائب ، فالمعنى على هذا : أن قد صدق وعد الله بالنصر بقتلكم إياهم ، حتى حصل منكم معصية الرسول ؛ لأنه أمر بالثبات والصبر.

وثمرتها : أن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالثبات والمصابرة يلزم ، فكذا أمر الإمام بمثل ذلك.

__________________

(١) وفي التهذيب ما لفظه (يقال : أين جواب (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ)؟ قلنا : فيه وجوه ـ الأول ـ أنه محذوف وتقديره حتى إذا فشلتم امتحنتم. الثاني ـ على زيادة الواو. والثالث ـ جوابه (صَرَفَكُمْ). ودخلت ثم في أضعاف الكلام لأنها في المعنى مثل إذ ؛ كأنه رد لفظ إذ لما طال الكلام ، وتلخيصه لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم صرفكم عنهم عن أبي مسلم. الرابع ـ قيل : إن فشلتم تقديره حتى إذا فشلتم يعنى إلى أن فشلتم ، وحتى غاية بمعنى إلى ، وحينئذ لا جواب له ، وقيل : الواو زائدة في عصيتم ، أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم نبيكم في لزوم الموضع الذي رتبكم فيه).

٢٢٩

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) [آل عمران : ١٥٦]

أي : لأجل إخوانهم.

وثمرة ذلك : أنه لا يجوز التشبه بالكفار.

قال الحاكم : وقد يكون منه ما يكون كفرا ، وفيه أيضا دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل.

قوله تعالى

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : ١٥٩]

المعنى : قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) (ما) زائدة ، كقوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥].

وثمرة ذلك : وجوب التمسك بمكارم الأخلاق ، خصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ، ويأمر بالمعروف.

وقوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) يعني : فيما يخصك ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يعني : فيما يختص بحق الله ، وهذا لمن تاب ، وقيل : لأهل الصغائر.

وقوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قيل : أمر الله تعالى بذلك ليكون سنة لغيره في الاستشارة ، ولئلا يظن أن ذلك نقيصة ، وقيل : لاستطابة نفوسهم ، ورفع مقاديرهم.

وقيل : كان سادات العرب إذا لم يتشاوروا شق عليهم ، فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمشاورة أصحابه ، لئلا يثقل عليهم استبداده بالأمر.

٢٣٠

وقيل : هذا فيما لا وحي فيه من أمر الدنيا ، أو من تدبير الحرب.

وعن الحسن : قد علم الله تعالى أنه ما به إليهم حاجة ، ولكن أراد ليستن به من بعده.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما تشاور قوم قط إلا هدوا إلى رشد).

وعن أبي هريرة «ما رأيت أحدا أكثر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشاورة ، وقد بوّب للاستشارة باب في كتب مكارم الأخلاق ، وقد تكاثرت الأخبار والآثار فيها ، وتتأكد الاستشارة على الحكام فيما طريقه الاجتهاد.

وتدل الآية : على أن الأحكام قد تتعلق بغالب الظن.

وقوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يدل على وجوب الانقطاع إليه تعالى.

قوله تعالى

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [آل عمران : ١٦١]

قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو (يَغُلَّ) بفتح الياء ، وضم الغين. على أن الفعل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي : ما كان النبي يخون (١).

وقرأ الباقون : (يُغَلَّ) بضم الياء ، وفتح الغين ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن المراد ما كان لنبي أن يخان ، أي : تخونه أمته.

الثاني : ما كان لنبي أن تخوّنه أمّته ، أي : تنسبه إلى الخيانة.

__________________

(١) في نسخة (ما كان للنبي أن يخون).

٢٣١

النزول

روي عن ابن عباس ، وعكرمة : أنها نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعضهم : لعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها.

وعن ابن عباس أيضا : أن رجلا غله بمخيط ، يعني : بإبرة ، من غنائم هوازن يوم حنين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وعن مقاتل : أنها نزلت في غنائم أحد ، حين ترك الرماة المركز ، وطلبوا الغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أخذ شيئا فهو له) ولا يقسم ، كما لم يقسم يوم بدر ، ووقعوا في الغنائم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أتظنون أنا نغل ، ولا نقسم لكم شيئا) فنزلت (١).

وقيل : إنه قسم المغنم ، ولم يقسم للطلائع ، فلما قدمت الطلائع قالوا : قسم الفيء ولم يقسم لنا؟ فعرفه الله الحكم فيه ، ونزلت ، عن الضحاك.

وقيل : كان عليه‌السلام يقرأ القرآن ، وفيه عيب دينهم ، وسب آلهتهم ، فسألوه أن يطوي ذلك فنزلت.

وقيل : أراد عليه‌السلام جمع الغنائم ، فقال بعضهم : يقسم بيننا غنائمنا ، فقال : لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم درهما ، أترون أني أغلكم مغنمكم ، فنزلت ، عن الأصم

قال جار الله رحمه‌الله تعالى : وسمى حرمان بعض الغزاة غلولا تفظيعا لصورة الأمر

والمعنى : على القراءة بفتح الياء ، أي : لا تجتمع النبوة والخيانة ، أو ما كان له أن يكتم شيئا من الوحي.

__________________

(١) ومثله في الكشاف وقال أيضا : (يعني : وما كان لنبيّ أن يعطي قوما ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة «غلولا» تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر) (ح / ص).

٢٣٢

وقيل : إنه في معنى النفي ، كقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥].

وأما على قراءة الرفع للياء ، فالمعنى : ما كان للنبي أن يخان ، يعني : يخونه أصحابه. ويكتمونه شيئا ، وخصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كانت الخيانة لغيره محرمة ـ لعظم خيانته ، أو لأنه القائم بأمر الغنائم ، فكأنه قيل : ما كان لأحد أن يغل.

وقيل : ما كان لنبي أن ينسب إلى الخيانة ، أو تظنّ به الخيانة.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قيل : يأتي به حاملا له يوم القيامة ؛ ليفضح به ، وقيل : يأتي بوباله ، وقيل : يمثّل له ذلك الشيء في النار ، ثم يقال له : انزل فخذه ، فينزل فيحمله على ظهره ، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ، فيكلف لينزل إليه فيخرجه ، يفعل به ذلك عن الكلبي.

قال الحاكم : والأول الوجه ؛ لأنه الظاهر.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا لا أعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء ، وببقرة لها خوار ، وبشاة لها ثغاء ، فينادي يا محمد ، يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد بلغتك).

وعن بعض جفاة الأعراب أنه سرق نافجة مسك ، فتليت عليه الآية ، فقال : إذا أحملها طيبة الريح ، خفيفة المحمل.

وثمرة الآية : تحريم الخيانة من المغنم ، فإنه جميعه مقسوم بين الغانمين ، ولا يرخص لأحد في شيء إلا ما استثني له (١) ، مما يحتاج إليه كالطعام ، وعلف البهائم ، إذا كان ممن له سهم ، أو رضخ ولم يبعه.

__________________

(١) وفي نسخة (إلا ما يستثنى مما يحتاج إليه).

٢٣٣

قال الحاكم رحمه‌الله تعالى : وكذا سلاح الحرب ، وهذا بالإضافة إلى الغانمين ، أما بالإضافة إلى الإمام فله التفضيل والمن ، ونحو ذلك من الخيارات ، وكذلك يحرم تخوين الرسول ، ويأتي مثله الإمام ، فإنه يجب أن لا يخون ، ولا تظنّ به الخيانة ، وكذلك ليس للإمام منع بعض الغانمين ، وإعطاء البعض إلا لصلاح ظاهر ، وكذلك لا يكتم شيئا من الشرائع.

قال في الثعلبي بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلى أبي بكر ، وعمر : أنهم أحرقوا متاع الغال ، وضربوه) وفي بعض الروايات (ومنعوه سهمه).

قوله تعالى

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) [آل عمران : ١٦٩]

قيل : أحياء بالذكر والتعظيم.

وقيل : في الجنة يوم القيامة.

وقيل : أحياء في جريان العبادة لهم ، كما كانت تجري لهم في حال الدنيا.

وقيل : في الدين.

وقيل : في العلم.

وقيل : أجسادهم لا تبلى في القبر ، ولا تأكلها الأرض.

وقيل : لأنهم لا يغسلون ، ومن قال : الحياة في الدنيا للأرواح ، قال : لأن أرواحهم تركع ، وتسجد إلى يوم القيامة.

وقيل : أحياء في القبر.

وقيل : حال هذا الخطاب.

وثمرة هذه الآية وما بعدها : الترغيب في الجهاد والشهادة.

٢٣٤

قوله تعالى (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) [آل عمران : ١٧٦]

ثمرة هذه الآية وما بعدها : أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين.

قوله تعالى

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٠]

قيل : نزلت في مانع الزكاة ، وهو الظاهر.

وقيل : في أهل الكتاب الذين كتموا صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأصم ، والأول هو قول أكثر المفسرين.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مانع الزكاة : (يطوّق بشجاع أقرع) وروي (أسود).

وفائدة ذلك : الدلالة على وجوب الزكاة ، ولحوق الوعيد بمن بخل بها.

قوله تعالى

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [آل عمران : ١٨٦]

قيل : أراد بإيجاب الزكاة ، وبالأمراض.

وقيل : بتعذيب الكفار لهم ، وأخذ أموالهم.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦]

٢٣٥

ثمرة ذلك : وجوب الصبر ، وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي ، وهذا بخلاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه إذا كان الأمر والنهي يؤديان إلى أقبح من ذلك لم يحسن ، كما يحكى عن أبي طالب ، أنه قال : إذا عرف أنه إذا كسر الطنبور قذف لم يحسن (١).

قوله تعالى

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧]

المعنى : اذكر يا محمد الأيمان التي أخذها الأنبياء على أممهم ، ليبينوا أمر محمد للناس ، عن أبي علي.

وقيل : هو أمر أهل الكتاب ببيان ما أوتوا ، وروي أن الحجاج قال للحسن : أنت الذي قلت : إن النفاق كان مقموعا ، فأصبح وقد تعمم ، وتقلد سيفا؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على ذلك؟ قال : الذي أخذ ميثاقا على (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ).

وثمرة ذلك : وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين ، والأحكام ، والفتاوى ، والشهادات ، وغير ذلك ، مما يوجب إظهاره ، وقد تقدم هذا (٢). وأن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة ، كما قال المؤيد بالله قدس الله روحه : إنه يصح إقرار الوكيل إلا أني لا أفتي به لفساد الزمان (٣).

__________________

(١) بل يقبح ، كما هو ظاهر المذهب. (ح / ص).

(٢) في سورة البقرة متكررا.

(٣) لعل هذا أحد قوليه ، كما في الغيث ، وسيأتي للفقيه يوسف إعادة هذا القول عن المؤيد بالله في أول سورة يوسف ، والأبيات المشهورة عن زين العابدين ، التي هي (إني لأكتم من علمي جواهره ب) (ح / ص).

٢٣٦

ويدخل في الكتم منع الكتب المنطوية على علم الدين ، حيث تعذر الأخذ إلا منها ، وكفى بها دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس ، وما علموه ، وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد ، من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، أو لجر منفعة ، وحطام دنيا ، أو لتقية مما لا دليل عليه ، أو لبخل بالعلم أن ينسب إليه غيرهم (١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار).

وعن طاووس : أنه قال لوهب : إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب.

وعن علي عليه‌السلام «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا».

قوله تعالى

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩٤]

في هذه النكتة الكريمة نفائس حسنة : منها : ما روي في سبب

__________________

(١) أي : لا يعلمون أحدا ؛ لئلا ينسب ذلك الغير إلى العلم حسدا. (ح / ص).

٢٣٧

نزولها ، عن ابن عباس : أن مشركي العرب جاءوا إلى اليهود ، وقالوا : ما جاءكم به موسى؟ قالوا : العصا ، ويده البيضاء ، فأتوا النصارى ، وقالوا : ما جاءكم به عيسى؟ فقالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحي الموتى. فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : ادع لنا ربك يجعل الصفا ذهبا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وعن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام بالليل يصلي ، فأصبح وهو يبكي ، فقال بلال : أليس قد غفر الله لك؟ فقال : أفلا أكون عبدا شكورا ، ثم قال : ما لي لا أبكي ، وقد نزل علي في هذه الليلة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ثم قال : ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها.

وروي : (ويل لمن لاكها بين فكيه ، ولم يتأملها).

وعن علي عليه‌السلام أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قام من الليل يتسوك ، ثم ينظر إلى السماء ، ثم يقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وحكي أن الرجل من بني إسرائيل ، كان إذا عبد الله تعالى ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها (١) فتى من فتيانهم ، فلم تظله ، فقالت له أمه : لعل فرطة منك في مدتك؟ قال : ما أذكر ، قالت : لعلك نظرت مرة إلى السماء فلم تعتبر. قال : لعل ، قالت : فما أتيت إلا من ذلك.

الثانية : تتعلق بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ).

اختلف ما المراد بالذكر ، فقيل : ذكر الله عموما ، ويعني في جميع الأحوال ، وروي أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمنعه من قراءة القرآن شيء ، وكان يضع رأسه في حجر عائشة ، وهي حائض ، وهو يقرأ القرآن.

__________________

(١) يعني : الثلاثين السنة ، أي : عبد الله مدة الثلاثين السنة.

٢٣٨

وقيل : أراد الصلاة ، ولهذا جاء في حديث عمران بن الحصين ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب ، تومىء إيماء)

وهذه حجة المؤيد بالله ، والشافعي أن المريض الذي يعجز عن القعود يصلي على جنب ، كما في اللحد.

وعند الهادي عليه‌السلام ، وأبي حنيفة : يستلقي على قفاه ؛ لأنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مريض : (وجهوه إلى القبلة). والدليل الأول أظهر.

وقد قيل : هذا الخلاف في الأفضل ، وإلا فالكل صحيح.

الثالثة : تعلق بقوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا تنبيه على فضل التفكر ، وهو أفضل الأعمال.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متى ، فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض).

قالوا : وإنما كان ذلك التفكر ، الذي هو عمل القلب ؛ لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض.

وعن الحسن : تفكر ساعة خير من قيام ليلة.

وعن سفيان الثوري : أنه صلى خلف المقام ركعتين ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، فلما رأى الكوكب غشي عليه ، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بينما رجل مستلق على فراشه ، إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : أشهد أن لك ربا وخالقا ، اللهم اغفر لي ، فنظر الله إليه فغفر له).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا عبادة كالتفكر) وكان سفيان بن عيينة كثيرا ما يتمثل ويقول :

٢٣٩

إذا المرء كانت له فكرة

ففي كل شيء له عبرة

وقد بوّب للتفكر أبواب في كتب المعاملات (١).

الرابعة : تتعلق بقوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) وهذا بيان أدب الدعاء.

قال الحاكم : فيقدم الداعي التوحيد ، والثناء ، ثم يدعو بعد ذلك.

وعن الصادق عليه‌السلام (من حزبه أمر ، فقال خمس مرات : ربنا. أنجاه الله مما يخاف ، وأعطاه ما أراد) وقرأ هذه الآية.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ٢٠٠]

هذا أمر بأربعة أمور :

الأول : الصبر ، وهو باب تبنى (٢) عليه أكثر الطاعات ، وقد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف ، وذكر (٣) في القرآن في نيف وسبعين موضعا منها :

قوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر ١٠] وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة ما الإيمان؟ قال : الصبر ، وعن ابن عباس : الصبر على ثلاثة أوجه : صبر على أداء فرائض الله ، فله ثلاثمائة درجة.

__________________

(١) أي : معاملة الباري تعالى ، وهي كتب أهل الطريق ، كتصفية الديلمي ، وسياسة المريدين للمؤيد بالله ، وتصفية الإمام يحي بن حمزة ، والسفينة للحاكم. (ح / ص).

(٢) وفي نسخة (تنبني عليه أكثر الطاعات).

(٣) قوله (وذكر) أي : الصبر.

٢٤٠