تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ثنية الحجون وليس بها مقبرة يومئذ ، فقال : (يبعث الله من هذه البقعة ، ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا ، (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) ... (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا ، وجوههم كالقمر ليلة البدر).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام).

وقيل : (مَنْ دَخَلَهُ) عام عمرة القضاء (كانَ آمِناً) ؛ لأنه قال تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧].

قيل : الضمير في قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ) للبيت ، وقيل : للحرم ، وقواه الحاكم لأنه المتقدم ذكره (١).

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) اللام هذه للإلزام ، أي :

ولله فرض واجب.

ثمرة الآية الكريمة : الترغيب في زيارة البيت الحرام ، وفعل الطاعات فيه ؛ لأن الله تعالى وصفه بالبركة والهدى ، وجعل فيه آيات بينات.

الثانية : الأمان لمن دخله فيحرم صيد الحرم ، وتنفيره ، وإفزاعه ، ومن دخله وقد ارتكب ما يوجب الحد أو القصاص فقد حكى علي بن العباس إجماع أهل البيت عليهم‌السلام : أنه لا يقام عليه الحد إلى أن يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ، قال أبو حنيفة : لكن لا يطعم ولا يسقى حتى يخرج.

__________________

(١) هذا سهو عن الحاكم (إلا على قول من يقول : إن بكة اسم للمسجد (ويعود الضمير في قوله لأنه المتقدم ذكره على (البيت). وقد يقال عليه : الأولى أن يعود إلى أقرب ملفوظ.

ولفظ الحاكم ((وَمَنْ دَخَلَهُ) قيل : دخل مكة ، وقيل : البيت ، وهو الأولى ، وإن كان كل واحد منهما مذكورا يصح رجوع الكناية إليه).

٢٠١

ومثله ذكر أبو جعفر للهادي ، والناصر ، ووجه هذا القول قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) والمعنى : أمنوه ؛ لأنه خبر بمعنى الأمر.

وقال الشافعي : يقتل فيه ، قال أبو جعفر : والقصاص ثابت فيه في الأطراف وفاقا (١) ، وقد جعل (٢) علي بن العباس إجماع أهل البيت عليهم‌السلام في حد القذف أنه لا يستوفى في الحرم ، فلعله أخف ؛ لأنه مشوب بحق الله ، وأما لو ارتكب فيه ، فقال أبو جعفر : يجوز قتله فيه ؛ لأنه قد هتك الحرمة ، وظاهر كلام أهل المذهب يقام عليه خارج مكة.

قيل : أريد خارج المدينة ، وقيل : خارج الحرم (٣).

قيل : المراد إذا خرج ، لا أنه يخرج (٤) ، والظاهر من كلام أهل المذهب الفرق بين أن يرتكب في الحرم ، وبين أن يرتكب في غيره ، ثم يدخله (٥).

واعلم أن قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ليس على عمومه ؛ لأنه لو كان عليه دين طولب به ، وحبس.

وقد اشترى عمر بن الخطاب دارا بمكة بأربعة آلاف ، وجعلها سجنا ، فالمسألة في موضع الترجيح والنظر ، لأن الأمان يحتمل من تبعة الدنيا ، ومن تبعة الآخرة ، وأيضا آمنا فيه [أي :] في البيت ، أو في الحرم ، وأيضا يحتمل الأمان من شيء اقترفه في غير الحرم ، أو فيه ، وفي غيره.

__________________

(١) المذهب ان الاطراف وغيرها سواء. والله أعلم.

(٢) في نسخة (وقد ادعى علي بن العباس) ..

(٣) وهو المذهب.

(٤) يقال : فإن أخرج فهل يجوز قتله أم لا؟ [سؤال] لا يبعد أنه يجب رده ؛ لأن له فيه حقا ، قياسا على الشجر والصيد. (شامي).

(٥) فإن ارتكب فيه أخرج ، هكذا في الأزهار. (ح ص).

٢٠٢

الثالثة : وجوب الحج ، ووجوبه معلوم ، لكن قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السبيل بالزاد والراحلة ، وألحق بذلك ما في معناه من الأمن والصحة ، والمدة التي يبلغ فيها ، وهل القوة على المشي تنوب عن الراحلة؟ المذهب ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي : أن القوة لا تنوب عن الراحلة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل تفسير الاستطاعة الزاد والراحلة ، وإحدى الروايتين عن القاسم ، وهو قول مالك ، وقول للناصر ، والمنصور بالله : أنها تنوب ، لقوله تعالى في سورة الحج : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) [الحج : ٢٧] وقرئ (رجّالا) قيل : مشاة ، قلنا : هذا في القريب ـ والبعيد (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) ـ ويكون ذلك تقسيما.

وهل الحرفة تقوم مقام الزاد؟ في ذلك تفصيل للعلماء ، واختلاف ، ووجه التردد هل هي تشبه المال أم لا ، وهل الاستطاعة الشرعية كالعقلية ، فيكون المحرم شرطا كالزاد ؛ لأن المرأة ممنوعة من السفر من غير محرم؟ في ذلك الخلاف (١). وهل هو يصير مستطيعا ببذل الاستطاعة (٢) من الغير؟.

مذهبنا : أنه لا يكون كذلك لأجل المنّة ، وهو قول أبي حنيفة ، وأما الشافعي فقال : هو مستطيع على تفصيل في بذل المال ، أو أن يحج عنه غيره (٣) ، ويخرج العبد من الوجوب ؛ لأنه غير مستطيع ، وهل المعضوب (٤) الغني مستطيع فيلزمه الحج؟ مذهب الأئمة عليهم‌السلام ،

__________________

(١) في نسخة ب (في ذلك خلاف).

(٢) في الأصل (ببذل الاستطاعة) وفي النجري (ببذل المال) وفي كتب الفقه أيضا. والاستطاعة أعم لأنها تشمل بذل الدابة ونحوها.

(٣) وفي نسخة أ (أو أن يحجج عنه).

(٤) وفي نسخة (المغصوب الغني) وفي النجري ، وهل الغني المغصوب ماله.

٢٠٣

ومالك أنه غير مستطيع ، فلا يجب عليه الإيصاء ، إلا أن تكامل له الشرائط ، قبل ذلك عند الأئمة عليهم‌السلام.

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، والثوري ، وعبد الله بن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام : يجب عليه ذلك ، حكى كلام هؤلاء في الثعلبي ، وقد تضمنت الآية تأكيد وجوب الحج من وجوه خمسة :

الأول : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) يعني : أنه حق واجب له.

الثاني : أنه أبدل من الناس قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وفيه تكرير للمراد ، وإيضاح بعد الإبهام.

الثالث : قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) مكان (ومن لم يحج) تغليظا على تاركه ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا) ونحوه من التغليظ (من ترك الصلاة متعمدا كفر).

الرابع : ذكر الاستغناء عنه ، وذلك يدل على المقت.

الخامس : قوله (عَنِ الْعالَمِينَ) ولم يقل : عنه ؛ لأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على السخط.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (حجوا البيت قبل أن لا تحجوا ، فإنه قد هدم البيت مرتين ، ويرفع في الثالثة).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (حجوا قبل أن لا تحجوا ، قبل أن يمنع البر جانبه [والبحر جائبه] (١).

__________________

(١) وفي نسخة (البر جائبه ، والبحر راكبه).

٢٠٤

وعن ابن مسعود (حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت) (١).

وعن عمر رضي الله عنه (لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا).

قوله تعالى

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) [آل عمران : ٩٩]

يعني : ميلا ، والعوج بالكسر : الميل في الدين ، والقول والعمل ، وبالفتح لكل منتصب كالقناة ، والحائط.

ثمرة ذلك : تحريم ما يمنع الغير من الطاعات ، فيحرم إيراد الشبهة من غير حل ، ويحرم كيد المسلمين ، ويدخل كيد الإحن والضغائن ، ومقت صاحب الطاعة ، وأن تعلقه بها يورث الهوان.

وروي في نزولها : أن شاس بن قيس اليهودي ، وكان عظيم الكفر ، كثير الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج يتحدثون ، فغاظه ذلك حيث تآلفوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة ، فأمر شابا من اليهود أن يجلس بينهم ، ويذكرهم يوم بعاث (٢) ، وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار ، وكان

__________________

(١) في نسخة (لا تأكل منها دابة إلا هلكت).

(٢) لفظ القاموس : وبغاث بالعين ، وبالغين ، كغراب ، ويثلث ، موضع بقرب المدينة ، ويومه معروف وسيأتي في أول براءة ذكر بغاث أيضا ، وفي الصحاح لم يذكره بالمعجمة ، وفي بعض نسخ الكشاف المصححة ضبط بالمعجمة ، وفي حاشية في سيرة ابن هشام بعد ذكر هذه القضية ما لفظه (بعاث) بالعين المهملة ، وعند أبي عبيد بالمعجمة ، وفي المجمل يوم بغاث يوم ، ويقال : هو تصحيف ، وإنما هو بالعين المهملة (ح / ص).

٢٠٥

يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس ، ففعل ، فتنازع القوم عند ذلك ، وتفاخروا ، حتى قالوا : السلاح السلاح ، فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إليهم بمن معه من المهاجرين والأنصار ، فقال : (أتدّعون الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام ، وألّف بينكم) (١) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح ، وبكوا ، وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما كان يوم أقبح أوّلا ، وأحسن آخرا من ذلك اليوم (٢).

وقوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) [آل عمران : ١٠٠]

المعنى : إن تطيعوا من أثار الفتنة بينكم من اليهود ، وذكّركم العداوة.

وقوله تعالى

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : ١٠١]

هذا استفهام ، والمراد به الإنكار ، وفي ذلك دليل على أن من لم تبلغه الشرائع فهو غير مكلف بها.

__________________

(١) في نسخة (وألف بين قلوبكم) (ح / ص).

(٢) وفي الكشاف مثله ، ولفظه في آخر القصة (فقال : أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما كان يوم أقبح أوّلا وأحسن آخرا من ذلك اليوم).

٢٠٦

وقوله تعالى : (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يعني : يبين لكم ، ويزيح شبهكم ، وقيل : وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم ، وقد ظهرت فيه أشياء من المعجزات ، وذكر أنه كان في نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات كثيرة ، منها : أنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه.

ومنها : أنه كانت تنام عينه ، ولا ينام قلبه.

ومنها : أن ظله لم يقع على الأرض.

ومنها : أن الذباب لا يقع عليه.

ومنها : أن الأرض كانت تأكل بوله وغائطه ، فكان لا يرى.

ومنها : أنه كان لا يطول عليه أحد وإن طال.

ومنها : أنه كان بين كتفيه خاتم النبوة.

ومنها : أنه كان إذا مر بموضع علم لطيبه.

ومنها : أنه كان يسطع نوره من جبهته في الليلة المظلمة.

ومنها : أنه ولد مختونا.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢]

روي عن عبد الله (١) ، والحسن ، وقتادة ، هي أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى ، وروي مرفوعا.

وقيل : لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على النفس والآباء ، والأولاد ، عن مجاهد.

__________________

(١) في نسخة (جابر بن عبد الله).

٢٠٧

قال الأكثر : هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وطاووس ، وأبي علي ، وأبي القاسم.

وقيل : إنها منسوخة بقوله تعالى في سورة التغابن : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] وهذا مروي عن قتادة ، والربيع ، وابن زيد ، والسدي.

وقال أبو علي : هذا خطأ ؛ لأن من اتقى جميع المعاصي فقد اتقى الله حق تقاته فلا يجوز أن ينسخ ؛ لأن في ذلك إباحة بعض المعاصي.

قيل : وقد حمل قولهم على أنه كان يجب تحمل الواجب مع الخوف والأمن.

وقيل : كان يجب تحمل المغلظ والمخفف ، فنسخ المغلظ ، قال القاضي : لا معنى للنسخ.

قال في الثعلبي : وقيل : إنها نزلت لما تفاخر ثعلبة بن غنم من الأوس ، وسعد بن زرارة من الخزرج ، فقال الأوسي : منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ومنا حنظلة غسيل الملائكة ، ومنا عاصم بن ثابت بن أقلح حمي الدبر (١) ، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ، ورضي الله بحكمه في بني قريظة.

وقال الخزرجي : منا أربعة أحكموا القرآن : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم ، فجرى الحديث وطال حتى أخذوا السلاح فنزلت.

__________________

(١) وقد تقدم في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَولُهُ) الآية.

٢٠٨

وقوله تعالى

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣]

قيل : هو القرآن عن سعيد بن جبير وغيره ، وروي مرفوعا ، وعن ابن عباس أنه الإسلام.

وعن مجاهد ، وعطاء : هو عهد الله تعالى.

وعن ابن مسعود ، وابن عباس : هو الجماعة.

وعن أبي العالية : إخلاص التوحيد.

وقال الصادق عليه‌السلام : «حبل الله أهل البيت عليهم‌السلام (١).

وقوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا) قيل : أراد عن دين الله.

وقيل : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : عن القرآن.

وقيل : عن الجماعة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ستفترق أمتي بضعا وسبعين فرقة ، كلهم في النار إلا واحدة ، قيل : وما الواحدة؟ قال : الجماعة) ويروى «السواد الأعظم» ويروى «ما أنا عليه وأصحابي».

وقوله تعالى

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران : ١٠٣]

قيل : أراد ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب ، حتى تطاول ذلك إلى مائة وعشرين سنة ، فزالت الفتن والأحقاد بالإسلام.

__________________

(١) قال في تفسير الطوسي رحمه‌الله : روى جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لما نزلت هذه الآية سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حبل الله ، فضرب بيده على كتف علي عليه‌السلام ، وقال : هو حبل الله مرتين). وفي هذا دلالة واضحة على أن ولاية علي عليه‌السلام من الدين ، وأن طاعته واجبة ، لأنها دخلت في جملة حبل الله المأمور بالتمسك به. تفسير الطوسي. (ح / ص).

٢٠٩

وثمرة الآية : ما فيها من الأمر بتقوى الله ، والاعتصام بحبل الله ، وذكر نعمة الإسلام ، والانتهاء عما نهى الله عنه فيها من الافتراق.

قوله تعالى

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران : ١٠٤]

دلت الآية على وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ؛ لكن الأمر يتبع حكمه حكم المأمور ، فيندب في الندب ، ويجب في الواجب.

قيل : (من) في قوله (مِنْكُمْ) للتبعيض ؛ لأنه فرض على الكفاية ، وقيل : هي صلة أو للبيان.

وقيل : جاء بها ليخرج الصبيان والنساء ، حيث لا يتوجه عليهم.

إن قيل : قوله تعالى : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) هو الأمر بالمعروف ، وقوله تعالى : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) لم أعاده؟ قال جار الله رحمه‌الله تعالى (١) : الدعاء إلى الخير عام في التكاليف كلها ، من الأفعال والتروك ، وأما قوله تعالى : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فذلك خاص فجاء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله ، كقوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨].

قال الحاكم : واستدل بعض الزيدية بهذه الآية على أن طريق الإمامة الدعوة ، فإنه المراد بقوله : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) وذكر بعد ذلك الأمر

__________________

(١) لفظ الكشاف (فإن قلت : كيف قيل : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)؟ قلت : الدعاء إلى الخير عامّ في التكاليف من الأفعال والتروك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص ، فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله ، كقوله : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)).

٢١٠

والنهي ، وعموم الآية يقضي بوجوب الأمر والنهي سواء كان الآمر فاعلا لما أمر به ، ومنتهيا عما نهي عنه أم لا.

قال جار الله رحمه‌الله تعالى : لأن عليه واجبين ، فتركه أحدهما لا يسقط الآخر.

وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا ، وعن الحسن : أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل ، قال : وأينا يفعل ما يقول ، ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم ، فلا يأمر أحد بمعروف ، ولا ينهى عن منكر (١).

قال أبو هاشم : طريق وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الشرع ، وقال أبو علي : الشرع والعقل.

أخبار من الكشاف : روي (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل وهو على المنبر : من خير الناس؟ قال : آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم لله تعالى ، وأوصلهم) ـ يعني لرحمه ـ.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر (٢) فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه).

وعن علي عليه‌السلام : «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر».

__________________

(١) لفظ الكشاف (فإن قلت : هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهي عما يرتكبه قلت : نعم يجب عليه ، لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه : فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل ، فقال : وأينا يفعل ما يقول : ودّ الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر).

(٢) وفي الأحكام (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي).

٢١١

وعن حذيفة «يأتي على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر».

وعن سفيان الثوري «إذا كان الرجل محببا في جيرانه ، محمودا عند إخوانه ، فاعلم أنه مداهن».

وفيه فصول في حكمه ، وشروطه ، وكيفيته مشروحة في كتب الفقه.

قوله تعالى

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) [آل عمران : ١٠٥]

قيل : معناهما واحد ، ذكرهما للتأكيد ، وقيل : التفرق بالعداوة ، والاختلاف في الديانة. وقيل : غير ذلك ، قال الأكثر : أراد بهم اليهود. وقيل : المبتدعة

قال الحاكم : هذا فيما كان الحق فيه واحدا ، وأما المسائل الاجتهادية ، فكل مجتهد مصيب.

وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (خلاف أمتي رحمة) (١).

قوله تعالى

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠]

ثمرة هذه الآية : فضيلة هذه الأمة ، قيل : أراد بذلك الصحابة ، وقيل : المهاجرين ، وقيل : جميع المؤمنين.

وبيان فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنه جعل ذلك موجبا لكونهم خير أمة.

__________________

(١) هكذا في الأصل (خلاف) والرواية وردت بلفظ (اختلاف).

٢١٢

وقوله تعالى : (كُنْتُمْ) قيل : إنها زائدة ، والمعنى : أنتم.

وقيل : كنتم في اللوح المحفوظ. وقيل : كنتم في الذكر في من تقدم من الأمم

وقيل : بمعنى صرتم.

وقوله تعالى : (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) صلة. وقيل : بمعنى : أظهرت ، والناس صلة.

وقيل في سبب نزولها : إنها نزلت في عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وقد قال لهم مالك بن أبي الصيف ، ووهب بن يهوذا اليهوديان : نبينا خير من نبيكم ، وديننا أفضل مما تدعوننا إليه.

قوله تعالى

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) [آل عمران : ١١٢]

أي : ألزموا ذلك ، وقيل : أنزلت عليهم ، وجعلت محيطة بهم ، مأخوذ من ضرب الخيمة ، وهي واردة في اليهود حين أنّبوا من أسلم منهم ، كعبد الله بن سلام ، وأصحابهم.

وثمرتها : إلزامهم الإهانة ، وقد ورد إيجاب الجزية عليهم ، وإلزامهم الدنانير ، وإلجاؤهم إلى المضيق من الطريق ، وعدم ابتدائهم بالسلام ، وأن لا يرفعوا بناءهم على المسلمين ، على ما ذكره بعض العلماء ، ولا يؤذن لهم بفتح الطاقات (١) للاستراحة ونحو ذلك.

وقوله تعالى : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١١٢]

قال جار الله رحمه‌الله تعالى : المعنى ضربت عليهم الذلة في عامة

__________________

(١) وفي نسخة (الطيقان) والمراد بها النوافذ ، وهذا على لغة اليمن. جمع طاقة.

٢١٣

الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعني : ذمة الله ، وذمة المسلمين ، والمعنى : لا عزّ لهم إلا هذه الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة بالجزية.

وقيل : حبل الله الإسلام ، وحبل الناس : الموادعة على الجزية.

قوله تعالى

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) [آل عمران : ١١٣ ـ ١١٤]

النزول

قيل : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وجماعة معه ، قال أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا أشرارنا.

وعن عطاء : أنها نزلت في أربعين من نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه‌السلام وصدقوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والمعنى : (لَيْسُوا سَواءً) قيل : يعني أهل الكتاب غير مستويين ، فإن للذين آمنوا منهم صفة ، وللذين لم يؤمنوا صفة ، فالذين آمنوا (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي : طائفة وجماعة (قائِمَةٌ) أي : ثابتة على أمر الله تعالى ، وقائمة بطاعته ، إلى آخر الصفة ، والتقدير : وأخرى غير قائمة ، فترك الجملة الأخرى لدلالة الأولى عليها ، وهذا كقول أبي ذؤيب :

عصاني إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها (١)

__________________

(١) أي : أم غي ، والرواية (دعاني إليها القلب) الخ.

٢١٤

ولم يقل : أم غيره ؛ لأن في الكلام ما يدل عليه ، هذا قول الفراء.

وقال الزجاج وجماعة : تمام الكلام عند قوله : (لَيْسُوا سَواءً) ووقفوا عليه ؛ لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قوله : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) [آل عمران : ١١٠] ثم قال : (لَيْسُوا سَواءً).

ثم وصف الفاسقين بقوله : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) [آل عمران : ١١١] ووصف المؤمنين بقوله : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ).

وقيل : لا يستوي اليهود وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ابن مسعود ، ويعني (لَيْسُوا سَواءً) في أحكام الدنيا والآخرة.

وقوله تعالى : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) قيل : أراد بالتلاوة التهجد بالقرآن مع السجود.

وقيل : أراد بالتلاوة ـ التلاوة في الصلاة ، والسجود : يحتمل أن يكون المعروف ، أو عبر به عن الصلاة ؛ لأنه جزء منها ، وأراد قيام الليل.

وقيل : أراد الصلاة ما بين المغرب والعشاء.

وقيل : صلاة العشاء ؛ لأن أهل الكتاب لا يصلونها ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه «أخر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم ، وقرأ هذه الآية.

وقوله تعالى : (آناءَ اللَّيْلِ) قيل : ساعاته ، وقيل : جوفه ، وقيل : وقت العشاء ، كما تقدم.

الثمرة من هذه الآية أحكام :

الأول : الترغيب في اختصاص العبادة بالليل ، وهذا كقوله تعالى في سورة المزمل : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل : ٦] وفي الخبر

٢١٥

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير خير من الدنيا وما فيها ، ولو لا أن أشق على أمتي لفرضتهما عليهم).

وقد ذكر الله تعالى الترغيب في آيات ، نحو قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) [الذاريات : ١٧] وقوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦].

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أشراف أمتى حملة القرآن ، وأصحاب الليل).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أن أم سليمان عليه‌السلام قالت لسليمان : يا بني لا تكثر النوم بالليل ، فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرا يوم القيامة).

وعن أبي بكر بن عياش (١) «بينا أنا نائم إذ أتاني آت فقال :

وكيف تنام العين وهي قريرة

ولم تدر في أي المحلين تنزل

وقد جعل الحاكم رحمه‌الله تعالى لذلك فصلا في السفينة.

ويدل ما ورد في تأخيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعشاء على استحباب تأخيرها.

وهذا مذهب المؤيد بالله ، وأبي حنيفة.

وعند الهادي ، والقاسم : لا يستحب التأخير فيها ، ولا في غيرها ، بل يستحب التقديم لقوله تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ولعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (خير الأعمال الصلاة في أول وقتها).

الحكم الثاني : الحث على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

__________________

(١) إبراهيم بن عياش البصري النصيبي المعتزلي أبو إسحاق بن عياش ، قال في المنية والأمل : «كان من الورع والزهد والعلم على حد عظيم ، وهو من الطبقة العاشرة من المعتزلة ، وله كتاب في إمامة الحسنين ، وكتب أخر حسان».

٢١٦

والحكم الثالث : المسارعة إلى الخيرات ، وترك التسويف والتراخي ، فيدخل في هذا تعجيل جميع الصلوات في أول أوقاتها ، وهو مذهب الهادي ، والقاسم عليهما‌السلام ، وعليه ورد كثير من الأخبار.

وقال أبو حنيفة : يستحب تأخير العشاء إلى ثلث الليل ، أو نصفه ، والإسفار بالفجر أفضل ، وتأخير الظهر إذا كان ثم شدة حر ، وإلا فلا ، وتأخير العصر أفضل إذا صليت والشمس بيضاء ، وأما المغرب فوفاق أن التعجيل أفضل ، إلا فرقة من الإمامية ، فقالوا : يستحب تأخيرها ، وكلامهم ساقط.

قال في الانتصار ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لن تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم).

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) [آل عمران : ١١٦ ـ ١١٧]

ثمرة هذه الآية : أن الله تعالى جعل نفقاتهم باطلة ، لا نفع لها ، وقد اختلفوا في المعنى ، فقيل : شبه تعالى ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر ، وكسب الثناء ، وحسن الذكر ، لا يبتغون به وجه الله تعالى [بالزرع الذي حشه البرد فصار حطاما] فليس لها فائدة ، فلو قصد بها وجه الله تعالى أفادت.

٢١٧

وقد ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (أقل الناس عذابا عبد الله بن لحي (١) ، فقيل له في ذلك ، فقال : كان يطعم الطعام).

وقيل : شبه ما أنفقوه في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يحصل لهم بها غرض في الدنيا [بالحرث المذكور].

وقيل : شبه ما كانوا ينفقون يتقربون به إلى الله تعالى [بالحرث] فإنه باطل مع كفرهم.

وهذا يليق أن ينزل على قول الموازنة والإحباط ، فهو لا ينفع إن قلنا بالإحباط ، كما قال أبو علي ، وينفع إن قلنا بالموازنة ، على قول أبي هاشم ، بمعنى أنه يقل من عقابه بحسب نفقته في الطاعة ، لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧].

قال الحاكم : وفي الآية دلالة على الترغيب فيما عند الله تعالى ، والتزهيد في زينة الدنيا من المال والولد.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨]

ثمرة ذلك : النهي عن موالاة الكفار ؛ لأن البطانة خاصة الرجل الذي يفضي إليه بأموره ، ويعتمد على آرائه ، فنهوا عن ذلك ، وقوله تعالى : (مِنْ دُونِكُمْ) أي : من دون أبناء جنسكم ، يعني : تتركوا مباطنة المؤمنين ، وتباطنوا (٢) الكفار.

ويحتمل أن المراد أن المباطنة (٣) المنهي عنها من دون المسلمين ، أي : من غيرهم.

__________________

(١) قال في (ح / ص) : صوابه : عبد الله بن جدعان.

(٢) بدون نون في الفعلين (تتركوا ـ وتباطنوا) وقد جزمهما لأنهما تفسير لقوله (لا تَتَّخِذُوا).

(٣) في نسخة (أن البطانة).

٢١٨

قيل : نزلت في قوم صافوا بعض المشركين من اليهود ، لما كان بينهم في الجاهلية من الصداقة والرضاعة ، والجوار ، روي ذلك عن ابن عباس ، والحسن

وقيل : نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا يصافون المنافقين ، ويخالطونهم ، فنهوا عن ذلك ، عن مجاهد ، وأبي مسلم ، والقاضي.

قال الحاكم : وهو اللائق ؛ لأن وصفهم يأتي من بعد.

واختلف في الاستعانة بهم ، فالمذهب جوازه ، كما تقدم (١) ، إذا لم يتعمد على مشورتهم ، ومنهم من منعه ، وهو مروي عن عمر ، وروي أن عمر استدل على منعه بالآية.

وقوله تعالى : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي : لا يقصرون في إنالتكم الخبال ، وهو الفساد ، قال في الثعلبي : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تستضيئوا بنار المشركين) أي : لا يعمل برأيهم.

وروي أن أبا موسى الأشعري ، قال لعمر : «إن عندنا كاتبا نصرانيا حافظا ، من شأنه كيت وكيت؟ فقال : ما لك قاتلك الله ، أما سمعت قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) وقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١] هلا اتخذت حنيفيا ، قال : «فقلت (٢) : له دينه ، ولي كتابته؟ قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله تعالى ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله تعالى ، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله تعالى» (٣).

__________________

(١) تقدم في قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية في هذه السورة.

(٢) في نسخة (قال : قلت : له دينه).

(٣) وسيأتي إعادة ذكره في آخر المائدة في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

٢١٩

قوله تعالى

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [آل عمران : ١٢٠]

قيل : الحسنة ظهورهم على الأعداء ، وكثرة الخصب.

وقوله تعالى : (تَسُؤْهُمْ) أي : تغمهم ، وفي ذلك دلالة على تحريم الحسد ، وأنه يجب أن يحب المؤمن للمؤمن ما يسره ، ويكره ما يسوءه ؛ لأن الله تعالى جعل محبة مساءة المؤمن من صفات المنافقين ، وهذا يحتاج إلى معالجة للنفس.

قال في منتخب الإحياء للغزالي : عن ابن سيرين أنه قال : ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا ؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا ، وهي حقيرة في الجنة ، وإن كان من أهل النار ، فكيف أحسده على هذه الدنيا ، وهو يصير إلى النار».

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).

ولذلك أبواب في غير هذا المكان.

قوله تعالى

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) [آل عمران : ١٢١ ـ ١٢٢]

قيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدا من منزل عائشة يمشي على رجليه ، فعن الحسن ، وأبي علي : يوم بدر.

وعن مجاهد ، ومقاتل : يوم الأحزاب.

وعن ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، والسدي ، وابن إسحاق ، وصححه الحاكم : يوم أحد.

٢٢٠