تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وعن عمر أنه لم يعطي امرأة المقتول ، وقال : أنما الدية للعصبة ، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال : كتب إلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي (١) من عقل زوجها فورثها عمر (٢).

وعن شريك : لا يقضى من الدية دين ، ولا تنفذ وصية (٣) ، ولزوم الدية والكفارة على القاتل ، لكن الكفارة مستقرة في ذمته ، والدية تحملها العاقلة أخذا من الحديث الوارد عنه عليه‌السلام أنه قضى بدية المقتول (٤) على العاقلة ، وذلك إجماع الصحابة ، فسقط ما ذكره الأصم ، وبعض الخوارج من قولهم : إن الدية مستقرة على الجاني ، ولا تعقل عنه.

ولا عقل عن العامد لقوله عليه‌السلام : «لا تعقل العاقلة عمدا».

وقوله تعالى : (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي : مؤداة ، وقيل : سالمة من النقص ، ومطلق الآية لا يقتضي التأجيل ، لكن ورد عن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهما : أنه مؤجل ثلاث سنين ، ولم يرو عن غيرهما خلافه (٥).

قال في (الشرح) : وقال بعض الناس : يجب حاله.

قال الشافعي (٦) : الأجل أوله من وقت القتل ؛ لأنه السبب ، فأشبه الزكاة.

وقال المنصور بالله [والقاسمية] (٧) وأبو حنيفة : من وقت الحكم.

__________________

(١) أشيم : بفتح الهمزة ، وسكون الشين المعجمة ، وفتح الياء تحتها نقطتان ، والضبابي : بكسر الضاد المعجمة ، وتخفيف الباء الموحدة الأولى. جامع الأصول.

(٢) الكشاف (١ / ٥٥٣).

(٣) نفس المصدر.

(٤) الطبرسي (٥ / ١٩٢) ، زاد المسير (٢ / ١٦٥).

(٥) فصار إجماعا سكوتيا. (ح / ص).

(٦) ومثله عن الناصر ، ومثله عن الإمام يحي أيضا ، وفي البيان عن الثلاثة. (ح / ص).

(٧) ما بين الأقواس في بعض النسخ حاشية ، ونسبها إلى الغيث.

٤٤١

الحكم الرابع

يتعلق بقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) يعني إذا كان المقتول مؤمنا ، وهو من أهل الحرب ولم يعلم بإيمانه فقتل ، ففي قتله الكفارة دون الدية ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن وقتادة ، والسدي ، وإبراهيم (١).

قال ابن زيد : لا تؤدى الدية إليهم ؛ لأنهم يتقوون بها.

واعلم. أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذا من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة ، ولم يذكر الدية ، كما ذكرها في أول الآية وآخرها ، وهذا القول حكاه في الشرحين : شرح القاضي زيد ، و (شرح الإبانة) عن (أبي حنيفة).

وقال الناصر ، والشافعي : تجب الدية إن قتله خطأ مع الكفارة ، وإن قتله عمدا وجب القود ؛ أخذا بعموم قوله تعالى أول الآية : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) وهذا مؤمن ، ولخبر خالد بن الوليد في قتله لقوم من خثعم ، وقد اعتصموا بالسجود ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصف الدية.

ويجب القود في العمد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في العمد القود» ، والذي خرّجه أبو طالب للهادي ، وهو مروي عن مالك : أنه لا قود لأنها دار إباحة ، وتجب الدية في الخطأ مع الكفارة ، وقد قال في (الثعلبي) في حديث عياش وقتله للحارث أنه كان فيه الكفارة دون الدية ، وقد حكي أنه قتله بظهر قباء ، فكأن العلة ليست دار الحرب ، بل عدم العلم بإسلامه ، مع كونه من أعداء المسلمين.

ولو قتل مسلم مسلما في دار الحرب ، نحو أن يكونا تاجرين أو أسيرين ، فقد حكى في (شرح الإبانة) عن الناصر ، والشافعي : أن ذلك

__________________

(١) ابن كثير (١ / ٩٤٦).

٤٤٢

كما لو كان في دار الإسلام ، في وجوب القود مع العمد والدية في الخطأ.

قال : وذكر (أبو طالب) للهادي : أنه لا قود في العمد والخطأ ، وتجب الدية ، وهو قول مالك ، قال : وما ذكره علي بن العباس : أن ذلك هدر غير صحيح.

وقال (أبو حنيفة) في الأسيرين : إذا قتل أحدهما صاحبه في دار الحرب لا شيء ، وقال صاحباه (١) : إن كان خطأ لزمت الدية والكفارة ، وإن كان عمدا فالدية.

الحكم الخامس

يتعلق بقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

ثمرة ذلك : أن من قتل رجلا من الكفار له ميثاق على وجه الخطأ لزمت فيه الدية والكفارة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والزهري ، والشعبي ، وقتادة.

قال الحاكم : وهو ظاهر الكتاب العزيز ، وعليه الفقهاء.

وقال الحسن ، وإبراهيم ، وجابر ، وأبو مسلم : إن هذا (٢) في مسلم من أهل الكتاب ، والذي قبله في مسلم من أهل الحرب ، والأول في مسلم غيرهما (٣).

__________________

(١) وبعد المذهب

(٢) يعني (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) والذي قبله يعني (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) والذي قبلها يعني (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) (ح / ب ص ٣٣ أ).

(٣) يعني (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) والذي قبله يعني : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) والذي قبلها ، يعني : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) تمت إملاء الوالد العلامة عبد الله محمد مشكاع.

٤٤٣

فأما الكافر فلا كفارة فيه ، وهذا مروي عن مالك (١).

أما لو قتل المستأمن من أهل الحرب فقد قال في (الشرح) : لا كفارة في قتله ؛ لأن دمه ليس بمحقون على التأييد ،

وقيل الفقيه حسن النحوي : تجب الكفارة ، قال في (التذكرة) : تجب في الذمي ، ومن له عهد.

وفي (التهذيب) : اختلفوا في المراد بالذي بيننا وبينهم ميثاق ، فقال ابن عباس وجماعة من أهل العلم : هم أهل الذمة من أهل الكتاب ، وعن الحسن : هم من عاقد رسول الله من مشركي العرب خاصة.

والدية مجملة في الآية ، وبيانها من جهة السنة ، ومنشأ الخلاف في قدرها وجنسها ، واختلافها ، بحسب حال المقتول في الإسلام وغيره ، وعدم الاختلاف اختلاف الآثار ، واختلاف الصحابة.

الحكم السادس

يتعلق بقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ).

وثمرة ذلك : أن العادم للرقبة يجب عليه صوم شهرين متتابعين ، ويتعلق بذكر العدم مسائل :

الأولى : من ملك رقبة وهو زمن يحتاجها للخدمة ، هل له أن ينتقل إلى الصوم أم لا ؛ لأنه واجد؟

قلنا : اختلف العلماء في هذه المسألة ، فالذي خرج أبو العباس للهادي ، وهو قول أبو حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي : أن الصوم لا يجزيه مع ملك هذه الرقبة ؛ لأنه يطلق عليه اسم الوجود ،

__________________

(١) وهو قول القاضي زيد.

٤٤٤

والنظر على هذا القول أن يقال : فهل يلزمه عتقها وإن كان زمنا؟ هذا محتمل ؛ لأنه لو كان عليه دين لآدمي ولا يملك إلا رقبة يحتاج إلى خدمتها له ، ولا يجد بما يستأجر لم يلزم إخراجها في الدّين ، فكذا في دين الله تعالى.

وأما في كفارة الظهار ، فظاهر كلامهم لزوم الإخراج ؛ لأنه يتعلق بالتكفير حق آكد من الدين ، وهو حق الزوجة.

وقال الشافعي ، والليث : وخرّجه صاحب (الوافي) للهادي : لا يلزمه إخراجها ؛ لأن حاجته مستغرقة لها ، ويجوز له الصوم ، كما إذا ملك منزلا يحتاجه ، ولأنه لو وجد الثمن وهو يحتاجه لم يلزمه أن يشتري به رقبة.

وقال أصحاب أبي حنيفة : هذا لا يلزم ، بل يجب عليه أن يشتري إن وجد الثمن ولو احتاجه ، وقاسوا أيضا على واجد ثمن الماء ، أو الماء وهو بحاجة لشربه ، فإنه يجوز له التيمم ، ويكون كالعادم ، لكن فرق الأولون بأن التيمم قد أبيح مع وجود الماء حيث كان الماء يضر ، فلم يصح القياس عليه ، ودخل في هذا أن واجد الثمن واجد المثمن.

الثانية : هل بالعبرة بالوجود حال الوجوب ، وهو حال القتل أو حال الأداء ، وهو حال الإخراج ، هذا يأتي هنا ، وفي الظهار فالذي خرّج أبو طالب ، والوافي ، وهو قول أبي حنيفة ، وأحد أقوال الشافعي : أن العبرة بحال الأداء.

والوجه : أنه تعالى قال : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) وهذا غير واجد للرقبة عند الصوم ، قياسا على الطهارة بالماء ؛ لأن الجميع عبادة ذات بدل.

٤٤٥

وقال الشافعي في قول : بحال الوجود ، وفي قول بالأغلظ (١).

الثالثة : إذا شرع في الصوم لعدم الرقبة ، وعدم ثمنها (٢) ، ثم قدر ، فإنه يستأنف عندنا وأبي حنيفة ؛ لأن الله سبحانه إنما أباح الصوم مع العدم ، وهذا واجد. وكالمعتدة بالشهور إذا حاضت قبل تمام الشهور.

وقال الشافعي : لا يجب عليه الاستئناف ، بل يتم على تمام الصوم (٣).

الرابعة : ما صفة الواجد؟ هل يعتبر الغنى؟ أو إمكان الرقبة؟

فالمذهب أن العبرة بالوجود والتعذر ، ولو غاب ماله جاز له الصوم (٤).

وقال (الوافي) : وهو محكى عن مالك : العبرة باليسار ، ولو غاب ماله انتظر ولم يكفر بالصوم ، وقال أيضا (الوافي) : العدم المبيح للصوم أن يجوز له أخذ الزكاة ، وهو محكي عن الشافعي ، وكلام أهل المذهب أكثر ملائمة واقتضاء لدلالة الآية ، وبيان من ليس بواجد.

الخامسة : كم حد غيبة المال المبيحة للانتقال إلى الصوم التي يسمى فيهما غير واجد؟ وقد ذكر الفقيه (محمد بن سليمان) في كفارة اليمين مسافة القصر.

وعن المؤيد بالله : ثلاثة أيام ، وهي مسافة القصر عنده [....] (٥).

__________________

(١) الذي سيأتي في المجادلة في كفارة الظهار : وأبو حنيفة وأصحابه ، وقول للشافعي ، وأحد قولي الناصر ، وقول للشافعي بحال الوجوب ، والثالث له : بأغلظ الأحوال. (ح / ص).

(٢) هذا بناء على أن واجد الثمن واجد للمثمن. (ح / ص).

(٣) الشافعي يوافق في المعتدة بالشهور ، فما الفرق على أصله ينظر.

(٤) قال في شرح الخمسمائة للنجري : وحد الغيبة مسافة القصر ، وكل على أصله.

(٥) بياض في الأصول ، وفي (ح / ص) (وفي البيان : الناحية).

٤٤٦

قال المؤيد بالله : ولو حجر عليه للدين لم يكفر بالصوم ؛ لأنه واجد ، وإن منع منه.

وقوله تعالى : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ)

يتعلق به مسائل : الأولى : أن الشهر ينطلق على تمامه بالأهلة ، فلو صام من شهر قد انخرم بعضه اعتبر ما بعده بالأهلة ، وكمل المنخرم بتمام ثلاثين يوما ، هذا مذهبنا والشافعي وأبي يوسف ، ومحمد ، ورواية لأبي حنيفة ؛ لقوله تعالى في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أي : لأحكام الناس ، وقد أمكنه اعتبار الهلال في أحد الشهرين فلزم ، ويعذر في الشهر الثاني ، فجعله بالعدد كمن غم عليه هلال رمضان حتى فاته يوم أو يومان فإنه يكمل بالعدد.

وقال (أبو حنيفة) في رواية : يكون الجميع بالعدد.

الثانية : إذا أخل بالتتابع لغير عذر لزمه الاستئناف ؛ لأنه لم يمتثل ما أمر به ، وأن أخل بالتتابع لعذر أيس من زواله ، ثم زال جاز له البناء ، ذكر ذلك عامة العلماء ، ويقدرون في الآية لمن أمكنه التتابع ، وهذا لم يمكنه التتابع.

فإن قيل : بل يمكنه التتابع بعد زوال العذر باستئناف الصوم فيما يخرجون عن عهدة الأمر.

أما لو حاضت المرأة فقد ادعى الإجماع أنه يجوز التفريق ، ولا ينتظر إلى الأياس ، وعلل أن انتظارها فيه تعريض لفوات الواجب ؛ لأنه يخشى عليها الموت ، فلعله يقاس على الحيض ما أيس من زواله (١).

فأما إذا كان العذر يرجى زواله كالمرض ، فهذا فيه خلاف بين السادة

__________________

(١) وهو جواب ما تقدم.

٤٤٧

والفقهاء ، فأبو العباس ، وأبو طالب ، وبعض أصحاب الشافعي يجوزون البناء قياسا على الحيض (١) ؛ لأن الحيض يزول بالأياس ، والمؤيد بالله ، وبعض أصحاب الشافعي لا يجوزون البناء ؛ لأنه إذا رجي زواله فهو كالصحيح.

وأما الفطر بالسفر فأبو العباس ، وأبو طالب يقولان : لا يجوز البناء إن أفطر لأجل السفر إلا أن تلحقه علة فيكون كالمريض ، والمؤيد بالله خرج قولا للهادي ـ عليه‌السلام ـ من كلام المنتخب وهو جواز البناء ؛ لأنه أفطر لعذر مبيح للإفطار ، وأصحاب الشافعي اختلفوا أيضا.

الثالثة : أن الصوم لا يجزئ إلا بنية أنه عن الكفارة ؛ لأنه من جملة العبادات التي تحتاج إلي التمييز ، ولا بد من تجديد النية لكل يوم.

الرابعة : إذا كان القاتل عبدا فكفارته الصوم ، ويحتمل أن لا يصوم إلا بإذن سيده كما قالوا في الحج أن أحرم بغير إذن سيده ولزمته فدية لم يصم إلا بإذن سيده ، وكذا إن أحرم بإذنه وتعدى في سبب الفدية ، ولم يكن ناسيا أو مضطرا ، ولا يقال : إذا كان قتله خطأ لم يمنعه من الصوم كما لا يمنع الزوج زوجته ؛ لأن حق السيد آكد من حق الزوج ؛ لأن العبادات مستثناة من حقوق الأزواج إذا كانت واجبة ابتداء ، وقد نص أهل المذهب أنه لا يمنع زوجته من صوم كفارة الخطأ (٢).

__________________

(١) بحيث تعذر معه الوصال ، وإلا استأنف ، وظاهر الأزهار أنه لا يستأنف وإن لم يتعذر معه الوصال ، وفرق في الغيث ، وشرح الفتح بأن كفارة الظهار وجبت بإيجاب الله ، فلم يجب الاستئناف ، بخلاف ما أوجبه من الصوم متتابعا ، فيحقق والله أعلم. (ح / ص).

يقال : التتابع واجب ، ولا يسقط الواجب إلا خشية الضرر ، والله أعلم.

(٢) في (أ) : كفارة الظهار. قال في (ح / ص) : ويحتمل أنه لا يحتاج إلى إذنه. وهو المختار.

٤٤٨

قيل الفقيه علي : أما لو كان قتلها عمدا ، وقلنا : بوجوب الكفارة. منعها ، وكذا إن أفطرت رمضان عمدا منعها.

وكلام الفقيه علي يحتمل في قوله : بمنعها من قضاء الفطر عمدا وفارق هذا ما لو ظاهر العبد ، فإنه لا يمنعه سيده من صوم الكفارة ؛ لأن للزوجة حقا في صومه ليرفع تحريمها.

تكملة لهذه الأحكام

اختلف أهل التفسير في الصوم هل هو يدل على العتق وحده؟ أو عن الدية والعتق حيث تتعذر الدية؟

قال في (التهذيب) : وهو بدل عن الرقبة دون الدية ، عند مجاهد ، والفقهاء.

وقال مسروق عنهما : وليس لهدا الخلاف فائدة تظهر في الحكم ؛ لأنه لو صام ووجد مالا بعد ذلك لزمه تسليم الدية.

وقوله تعالى : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي : قبولا من الله ورحمة.

وقال أبو علي : لأنه عاص في سبب القتل وإن لم يقصد (١) ، لعله يريد أن فعله قبيح ، وقيل : جعله توبة ؛ لأن المؤمن يندم ، ويتمنى أن ذلك لم يكن ، فينزل منزلة التائب ، وقيل : هذا في شبه العمد عند من أثبته وهو عاص فيه.

قوله تعالى

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء : ٩٣]

قال المفسرون : هذه الآية الكريمة قد انطوت على تغليظ الوعيد من جهات :

__________________

(١) هذا لا يأتي على أصل الشيخين ؛ لأنهما يتفقان أنه لا بد من القصد للفعل ، والعلم به.

٤٤٩

منها : كقوله تعالى : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) ، وقوله تعالى : (خالِداً فِيها) ، وقوله تعالى : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) ، وقوله تعالى : (وَلَعَنَهُ) ، وقوله تعالى : (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً) ، وقوله تعالى : (عَظِيماً).

سبب نزولها : في مقيس بن ضبابة (١) ، وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فذكر [ذلك] لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل معه قيس بن هلال الفهري وقال [له] : «قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه ، وإن لم تعلموه فادفعوا إليه ديته» فبلّغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية ، ورجع ومعه الفهري ، فوسوس ، إليه الشيطان أن يقتل الفهري فرماه بصخرة فقتله ، وركب بعيرا ورجع إلى مكة كافرا وأنشأ يقول :

قتلت به فهرا وحملت عقله

سراة بني النجار أرباب فارع

فأدركت ثأري واضطجعت موسدا

وكنت إلى الأوثان أول راجع

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا حرم» فقتل يوم الفتح ، ففيه نزلت الآية (٢).

وقيل : نزلت في المستحل لقتل المؤمن ، وقيل : في كل قاتل للمؤمنين (٣).

وثمراتها : الحكم على قاتل المؤمن عمدا بأنه ارتكب كبيرة توجب تخليده في النار ، واختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته؟ وأكثر العلماء قطعوا بقبول توبته.

__________________

(١) في نسخة (مقيس بن ذبالة) وهو هكذا في تهذيب الحاكم ، وفي البغوي ، وأسبب النزول للواحدي ، والبيضاوي (مقيس بن ضبابة) بالباء الكناني.

(٢) تفسير الطبرسي (٥ / ١٩٤) ، زاد المسير (٢ / ١٦٦) ، الخازن (١ / ٤١١) ، الطبري (٤ / ٢١٩) أسباب النزول للواحدي ص (٩٨) ، الدر المنثور للسيوطي (٢ / ١٩٦) ()

(٣) تهذيب الحاكم الجشمي (خ).

٤٥٠

وعن ابن عباس : لا توبة له (١).

واختلف العلماء في تفسير العمد ، فذهب عامة الأئمة ، وبعض أهل التفسير : أنه ما قصد به إتلاف النفس مباشرة ، سيفا كان ، أو حجرا ، أو عصا.

وقال (أبو حنيفة) : لا عمد إلا بالسيف ، وما في معناه مما يفرق البنية ، أو بالنار ، وهذا مروي عن ابن المسيب ، وطاووس ، وللعمد موجبات كونه كبيرة ، والقصاص ، والدية ، والكفارة على الخلاف ، وحرمان الإرث ، وتفاصيلها خارج من دلالة هذه الآية.

وفي سبب نزول «هذه» (٢) الآية «دلالة» (٣) على أن الحجر كالسيف ؛ لأن في القصة أنه رماه بصخرة.

ويتعلق بالآية أحكام أخروية : وهي : الخلود لفاعل الكبيرة ، وخروجه من الإيمان ، ووجوب دخوله النار ، وعدم الرجاء له ، وموضع ذلك الكتب الكلامية.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا حرم» لعل هذا خاص في هذا القاتل ، فيخصص عموم قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، كما خص قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٥٤) ، الطبرسي (٥ / ١٩٦) قال في (ح / ص) : أي : لا يكاد يوفق لتوبة صحيحة ؛ لأنه أجل من أن يخالف صرائح الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية الصحيحة ، وهو الخبر الكامل ، والعلم العامل ، قال جار الله رحمه‌الله : وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له ، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلا.

(٢) ساقط في (أ).

(٣) ساقط في (ب).

٤٥١

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يرث القاتل ، والكافر المسلم» (١) وهذا قول الأكثر : إن القرآن يخص بإخبار الآحاد خلافا لعيسى بن أبان.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء : ٩٤]

النزول : قيل : نزلت في محلم بن جثامة الليثي (٢) ، وكان في سرية لرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لقي رجلا معه غنيمات له (٣) ، فقال [له] : السلام عليكم ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فبدر إليه فقتله ، وكان بينهما إحنة ، فلما جاء إلى رسول الله جلس بين يديه فقال : «لا غفر الله لك» فما مضت به سابعه (٤) حتى مات ، ودفنوه فلفظته الأرض ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الأرض لتقبل من هو شر منه ، ولكن أراد الله أن يعظم حرمتكم» ، فألقوا عليه الحجارة (٥) ، وقيل : أن مرداس بن نهيك رجلا من أهل فدك أسلم ، ولم

__________________

(١) الأحاديث في ذلك كثيرة ، لمزيد حول الموضوع انظر منتخب كنز العمال (٤ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨).

(٢) محلم بضم الميم ، وفتح الحاء المهملة ، وتشديد اللام المكسورة ، وجثامة : بفتح الجيم ، وتشديد الثاء المثلثة. جامع الأصول.

(٣) هو عامر بن الأضبط الشجعي.

(٤) أي : سبعة أيام.

(٥) الطبرسي (٥ / ١٩٩ ـ ٢٠٠) الطبري (٤ / ٢٢٤) الخازن (١ / ٤١٣) ، ابن كثير (١ / ٨٥١ وما بعدها) ،

٤٥٢

يسلم من قومه غيره ، فغزتهم سرية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مع مرداس غنيمة له ، فلما وردوا عليه كبر ، وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله إسامة بن زيد ، واستاق غنمه ، فأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجد وجدا شديدا فقال : «قتلتموه ، أراده ما معه» ثم قرأ الآية على أسامة ، فقال : يا رسول الله : استغفر لي ، فقال «فكيف بلا إله إلا الله» قال أسامة : فما زال يكررها ، حتى وددت أني لم أكن أسلمت يومئذ ، ثم استغفر لي وقال : «اعتق رقبة قتل» وحين ذلك حلف أسامة لا يقتل رجلا قال : لا إله إلا الله (١) ، وبهذا اعتذر إلى علي عليه‌السلام حين تخلف عنه ، وإن كان عذرا غير مقبول ؛ لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة ، ويكفر يمينه ، قال الحاكم : إلا أن أمير المؤمنين أذن له.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للقاتل : «لم قتلته وقد أسلم»؟ قال : إنما قاله متعوذا ، فقال : «هلا شققت عن قلبه» ، ثم حمل (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ديته إلى أهله ، وقيل : القاتل المقداد.

ثمرة الآية الكريمة : وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة ، (فَتَبَيَّنُوا) بالنون من الثبات ، وهذه قراءة الأكثر وقراءة حمزة والكسائي ، (فتثبتوا) من الثبات.

ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات ، والأخبار ، والأفعال ، من الأحكام ، وسائر الأعمال ، فهذا حكم.

الحكم الثاني

أنه يجب الأخذ بالظاهر فمن أظهر الإسلام ، أو شيئا من شعار

__________________

(١) زاد المسر (٢ / ١٧١ ، الطبرسي (٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦) ، خبر (١٠٢٢٦) الكشاف (١ / ٥٥٥) ، ابم كثير (١٨٥٣).

(٢) وفي نسخة (ثم حمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ديته إلى أهله) أي : أوجبها عليه من ماله.

٤٥٣

الإسلام ، لا يكذب ، بل يقبل منه ، ويدخل في هذا الملحد والمنافق ، وهذا هو مذهبنا والأكثر ، وقد تقدم طرف من ذلك (١) ، فيدخل في هذا قبول توبة المرتد خلافا لأحمد ، وقبول توبة الزنديق ، وهذا قول عامة الأئمة ، وأبي حنيفة ، ومحمد ، والشافعي.

وقال مالك ، وأبو يوسف : لا تقبل ؛ لأن هذا عين مذهبهم ، أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.

وقال المنصور بالله ، والإمام يحيى : إن أظهروا ما يعتادون إخفائه قبلت توبتهم ، وإلا فلا.

قال علي خليل : تقبل توبتهم ، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا ، كما قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنافقين ، وقد أخبره الله تعالى بكفرهم.

وقال أبو مضر : تقبل ما لم يعرف كذبهم ، وهذا الخلاف في الظاهر ، أما عند الله تعالى إذا صدق فهي مقبولة وفاقا.

قال الحاكم : وتدل على أن التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز ، وقد ذكر العلماء صورا في التوصل إلى المباح بالمحظور مختلفة ، ذكرت في غير هذا الموضع ، والحجة هنا من قوله تعالى : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) لكن الذي قصد هنا أخذه محظور ؛ لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال ، فذلك توصل إلى محظور بمحظور (٢).

وقوله تعالى : (لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ)

قرئ (السلم) وهذه قراءة نافع ، وحمزة ، وابن عامر ، بغير ألف وهو الاستسلام ، وقيل : إظهار الإسلام ، وقرأ الباقون (السَّلامَ) بألف وهو : التحية.

__________________

(١) في تفسير قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ).

(٢) فيسقط الاحتجاج.

٤٥٤

وقوله تعالى : (لَسْتَ مُؤْمِناً) القراءة الظاهرة مؤمنا أي : ليس إيمانك حقيقة ، وقرئ في الشاذ : (لَسْتَ مُؤْمَناً) بفتح الميم ، أي : لا نؤمنك بل نخيفك.

وقوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) قيل : أراد النعم والأرزاق ، وقيل : الثواب لمن ترك قتل المؤمن.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) قيل : أراد كنتم كفارا فأنعم الله عليكم بالإسلام ، وقيل : كاتمين دينكم من قومكم فأنعم (الله) (١) عليكم بأن أظهرتم دينكم ، وقيل : كنتم تأمنون من المؤمنين بلا إله إلا الله فمنّ عليكم بقبول توبتكم ، وقيل : بهجرتكم ، وقيل : المعنى كذلك (كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يعني عصمتم دمائكم بالشهادة ، من غير نظر إلى ما في قلوبكم.

وقوله تعالى : (فَتَبَيَّنُوا) قيل : إعادة تأكيد ، وقيل : أراد بهذا تبينوا هذه الفوائد والأحكام.

قوله تعالى

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ٩٥ ـ ٩٦]

النزول

قال في (الكشاف) : عن زيد بن ثابت : كنت إلى جنب رسول

__________________

(١) ساقط في (أ).

٤٥٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغشيته السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، حتى خشيت أن ترضها ، ثم سرّي عنه فقال : «اكتب» فكتبت في كتف (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ).

فقال ابن أم مكتوم وكان أعمى : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ ، فغشيته السكينة كذلك ، ثم قال : «اقرأ يا زيد» فقرأت : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). فقال : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

قال زيد : أنزلها الله : وحدها فألحقتها ، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها ، عند صدع في الكتف (١).

قال في (التهذيب) : روي أنه لما نزل : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) جاء ابن أم مكتوم ، وعبد الله بن جحش فقالا : نحن لا نستطيع فهل من رخصة؟.

قال ابن مكتوم : اللهمّ أنزل عذري ، فنزل : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فوضعت عندها وكان بعد ذلك يغزو ، ويقول : ادفعوا إلي اللواء ، ويقول : أقيموني بين الصفين فإني لا أستطيع أن أفر (٢).

قال الحاكم : فإن قيل : تأخير البيان عن حال الخطاب لا يصح عندكم (٣)؟.

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٥٥) ، زاد المسير (٢ / ١٧٣) ، مسند أحمد (٥ / ١٨٤) ، البخاري (٨ / ١٩٥) ، أبو داود (٣ / ١٧) ، الترمذي (٤ / ١٩٢) ، النسائي (٦ / ٩)

(٢) التهذيب (ح) رهن التحقيق.

(٣) قلنا : أما تأخيره عن وقت الخطاب فلا نمنعه ، وإنما نمنع تأخيره عن وقت الحاجة ، دليله (مِنَ الْفَجْرِ) في آية الصوم ، فإنها إنما نزلت بعد الخطاب بأزمنة ما لم يفهم بعض الصحابة (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ). (ح / ص).

٤٥٦

قلنا : إن ثبت الخبر «هذا» (١) حملناه على النسخ لا على البيان (٢).

ثمرات هذه الآية الكريمة أحكام :

الأول دلالة الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين ، إذ لو كان فرضا من فروض الأعيان كما قاله ابن المسيب. لم يكن للقاعد فضل ، وهاهنا قد جعل له فضل ، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد ، وقال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى).

الحكم الثاني

أن الجهاد يكون بالنفس والمال ، فيجوز للإمام أخذ المال للجهاد ، ولكن ذلك بشرائط قد سبقت.

الحكم الثالث

أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد ؛ لأنه فضله على القاعد مطلقا ، ويؤيد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الجهاد سنام الدين» ، وقد فرع العلماء على هذا : أن رجلا لو وقف ماله على أحسن وجوه البر ، وأوصى أن يصرف في أحسن وجوه البر ، فإنه يصرف في الجهاد ، خلاف ما ذكره أبو علي أنه يصرف في طلب (٣) العلم.

__________________

(١) ساقط في (ب).

(٢) يقال : إن الآية إنما نزلت دفعا لتوهم الوجوب ، وتقريرا للحكم العقلي ، فقد ، وهو غير واجب على الأعمى ونحوه ، إذ هو تكليف ما لا يطاق.

ويمكن أن يقال : فكان يصلح الاعتراض لو اختلف الوقت ، وأما هنا فالوقت واحد فلا تأخير ، وأما الحمل على النسخ فغير مستقيم ؛ إذ لا نسخ للآية ، وأما إذا كان خبرا في معنى الأمر فتأخير البيان إلى وقت الحاجة بعيد ، فيكون هذا من التخصيص بالمتصل كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة (لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها) فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله؟ قال : إلا الأذخر ، ويؤيد ذلك أن غير وقعت في الاستثناء ، والنسخ ينافي الاستثناء لاشتراط التراخي. (ح / ص).

(٣) في نسخة (طلبة العلم).

٤٥٧

الحكم الرابع

الترخيص لأهل الأعذار من الأمراض والزمنى ، وكذلك الأعمى ، والمقعد ، ونحو ذلك.

وقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) روي عن ابن عباس أنه قال : أريد القاعدون عن بدر والخارجون إليها. وعن مقاتل : إلى تبوك (١).

قال جار الله : فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر ، والمجاهد لا يستويان ، فما فائدة الاستواء؟

أجاب : بأن فائدة ذلك بيان التفاوت العظيم ؛ ليرغب القاعد ، وليهتز للجهاد ، ونظيره : (يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما).

وقوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي بنصب غير على الاستثناء من القاعدين ، أو على الحال ، وقرأه الأكثر برفع (غَيْرُ) صفة (الْقاعِدُونَ) ، هاتان قراءاتان ظاهرتان للسبع (٢).

قال جار الله : وقرئ بالجر لغير صفة للمؤمنين ، وأراد بالقاعدين الذين اختاروا القعود للدعة ، ولا عذر لهم.

قال جار الله : لكن قعدوا بإذن الرسول عليه‌السلام ؛ لأن الجهاد فرض كفاية ، قال : والتفضيل بدرجة على القاعدين للضرر ، والتفضيل بالدرجات على القاعدين لغير ضرر بإذنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد صارت الآية صريحة بتفضيل المجاهد على القاعد من غير عذر.

فأما القاعد للعذر من أولي الضرر ، فهل يساوي المجاهد؟ أو

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٥٥).

(٢) الكشاف (١ / ٥٥٦).

٤٥٨

يساوي القاعد من غير عذر؟ والزمخشري ذكر ما تقدم أنه دون المجاهد بدرجة ، وهو لا يساوي من لا عذر له (١).

والحاكم قال : القاعد للضرر يجوز (٢) أن يساوي من لا عذر له ، ويكون فائدة الاستثناء الحث لمن لا عذر له على الجهاد ، ويجوز أن لا يساويه لأجل الاستثناء.

وفي الكشاف : روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» (٣) يعني : الذين صحت نياتهم في الجهاد ، ولكن معهم ما يمنعهم من المسير ، من ضرر أو غيره ، ففي هذا إشارة إلى استواء القاعد للضرر والمجاهد.

وقد ذكر في (شرح مسلم) : أن من عود نفسه شيئا من أوراد الطاعات (٤) ففات للمرض. أثابه الله تعالى بذلك لأجل العزم ، بخلاف الحائض ؛ لأنها لا يجوز لها العزم على فعل الصلاة ، والقراءة حال الحيض.

وقد ذكر الحاكم في قوله تعالى : (دَرَجَةً) وفي قوله : (دَرَجاتٍ) وجوها :

الأول : أنه ذكر في الأول صنفا فذكر درجة. وفي الثاني «ذكر» (٥) أصنافا فذكر درجات ، وذلك للمشاكلة.

__________________

(١) انظر نفس المصدر (١ / ٥٥٦).

(٢) في (ب) : يجوز.

(٣) الكشاف (١ / ٥٥٦)

(٤) في (أ) : الطاعة.

(٥) ما بين القوسين ساقط في (ب) ، ولفظ الحاكم (فإن قيل : لم قال أولا : درجة ، وها هنا درجات؟ قلنا : فيه وجوه ، قيل : ذكر في الأول صنفا واحدا فحسن ذكر درجة واحدة لتشاكل الكلام ، ويقابل المعنى ، وفي الثاني ذكر أصنافا ، فذكر درجات ، ـ

٤٥٩

وقيل : الدرجة أراد بها الغنيمة في الدنيا ، والدرجات أراد في الجنة ، عن أبي علي.

وقيل : درجة على أولي الضرر ، ودرجات على من لا عذر له (١).

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) [النساء ٩٧ ـ ٩٩]

النزول

قيل نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الشرك لقومهم ، والإيمان للمسلمين ليسلموا منهم ، عن أبي علي (٢).

وقيل : نزلت في ناس من مكة تكلموا بالإسلام ، ولم يهاجروا ،

__________________

ـ لأنه يذكر مع كل شيء ما يليق به ، وقيل : الدرجة أولا الفضيلة والكرامة ، والثاني درجات الجنة عن أبي علي ، وقيل : فضل الله على أولي الضرر بدرجة ، وعلى غير أولي الضرر بدرجات ، وقيل : في الدنيا بدرجة وهي الغنيمة ، وفي الآخرة بدرجات الجنة).

(١) وقيل : المراد بالدرجة جنسها الذي يشمل القليل والكثير بالنوع ، وهي الدرجات الرفيعة ، والمنازل الكثيرة الشريفة والمغفرة ، والرحمة. (نيسابوري) وفي البيضاوي ، وجامع البيان : المراد بالدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله ، وبالدرجات منازلهم في الجنة. وفي حاشية جامع البيان : يعني المراد بالدرجة الواحدة بالجنس ، فيدخل تحتها الكثير بالنوع. (ح / ص).

(٢) التهذيب (خ).

٤٦٠