تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

ملكها من وجه محظور ، كهدية العمال ، وإن كان الذي يسلم لأجله مباحا ، فهذا يحتمل أن يقال : هو كالأجرة في الأجارات الفاسدة.

قوله تعالى

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣]

قيل : نزلت في فقراء المهاجرين لم يكن لهم مسكن ، ولا عشائر في المدينة ، كانوا يلزمون المسجد ، ويتعلمون القرآن ، ويصومون ، ويخرجون في كل سرية ، وهم أصحاب الصفة (١).

والتقدير : اجعلوا صدقاتكم للفقراء ، أو يكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : صدقاتكم للفقراء.

وقوله تعالى : (أُحْصِرُوا) أي : منعهم الجهاد من الضرب في الأرض للتكسب.

ثمرة هذه الآية : الحث على اختيار المصرف ، وأنه ينظر في وجوه الخير ، من شدة الفقر ، والاشتغال بالطاعة ، والعجز عن التصرف ، والتعفف عن السؤال ، وظهور سيماء الخير ، فهذه خصال مرجحة ، ومزايا (٢) يتفاوت بها الفضل في الثواب.

وقوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي :

__________________

(١) أصحاب الصفة : قال في الكشاف : (وقيل هم أصحاب الصفة ، وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن له مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد ـ وهي سقيفته ـ يتعلمون القرآن بالليل ، ويرضخون النوى بالنهار. وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى).

(٢) في نسخة (ومراتب)

١٢١

الجاهل بحالهم ، أخذ من هذا أنه يستحب إظهار نعم الله تعالى ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه).

وقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) دل ذلك على أن ترك السؤال فضيلة.

واختلف ما هو المنفي عنهم؟ فقيل : نفي السؤال إلحافا ، وغير إلحاف ، لأنه قد قال : (مِنَ التَّعَفُّفِ) وقيل : المنفي الإلحاف ، وهو الإلحاح ، وهو الملازمة حتى يعطى.

قوله تعالى

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٢٧٤]

النزول

قيل : نزلت في علي عليه‌السلام ، كان معه أربعة دراهم فأنفقها على هذه الصّفة (١) ، عن ابن عباس.

وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حين تصدق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية.

وقيل : نزلت في علف الخيل وارتباطها.

ثمرتها : جواز التصدق بجميع ما يملكه الإنسان ؛ لأنه تعالى عم

__________________

(١) ومثله في الكشاف ولفظه (وعن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في عليّ رضي الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية) وكذلك الرواية التي في أبي بكر ذكرها أيضا في الكشاف.

١٢٢

الأموال ، ولكن هذا إذا وثق من نفسه بالعفة عن التكفف والصبر ، وأن الصدقة لا تختص بوقت دون وقت.

قال الحاكم : واختلف هل الأفضل الفعل على هذه الصفة أم لا؟.

فقيل : هذا أفضل لمطابقة هذه الصفة.

وقيل : كان يعمل بهذا حتى نزل فرض الزكاة في براءة ، عن ابن عباس.

وقيل : الأفضل في التطوع الإخفاء ، وفي الفرض الإظهار كما تقدم (١).

قوله تعالى

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٧٥]

ثمرة الآية الكريمة : الدلالة على تحريم الربا ، وأنه من الكبائر ، وتحريمه معلوم من الدين ضرورة ، فمن استحله كفر ، ومن فعله غير مستحل فسق ، ولكن هذا في الربا المجمع عليه ، كالزيادة في الدين لأجل النظرة ، وبيع درهم بدرهمين نسيئة ، فأما إن كان مختلفا فيه ، فلا يكون مستحله كافرا ، ويكون فاعله غير مستحل عاصيا (٢).

__________________

(١) عند تفسير قوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ).

(٢) إذا فعله جرأة ، بأن يكون مذهبه تحريمه ، أو مقلدا لمن يقول بتحريمه إذا كان ممن يعرف التقليد ، ومن يقلد. (ح / ص).

١٢٣

قال الحاكم : واختلفوا ، فقيل : البيع والربا مبين غير مجمل ؛ لأنه كان معروفا لهم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وقيل : بل هما مجملان محتاجان إلى بيان ، وقد بين ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك مروي عن الشافعي.

وقيل : الربا يحتاج إلى بيان دون البيع ، وهذا قول أكثر العلماء ، واختاره الشيخ أبو عبد الله ، وقاضي القضاة ، وصححه الحاكم ؛ لأن الصحابة لما اختلفت في مسائل الربا ، كابن عباس وغيره ، رجعت إلى الآثار ، ولأن الربا له شرائط غير مذكورة في الآية.

وقد تضمنت الآيات المذكورة هنا في الربا ثمانية عشر وجها من الزجر :

الأول : أن الله تعالى جعل لهم يوم القيامة علامة يعرفون بها ، وهي أنهم حين يخرجون من قبورهم (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) ، فيكون صاحب الربا به خبل ، وتساقط ، وضرب بالأرض ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأكثر المفسرين.

وقيل :٨// لا يمكنه يقوم بحجته كالمصروع.

وقيل : الذين يخرجون من الأجداث يوفضون (١) إلا أكلة الربا ، إنهم ينهضون ويسقطون ، وإنما قال تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) فخص الأكل لأنه معظم المنفعة ، وإلا فالوعيد في الأكل والتصرف (٢).

__________________

(١) أي : يسرعون. إلا أكله الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين ؛ لأنهم أكلوا الربا ، فأربها الله في بطونهم حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإيفاض. (ح / ص).

(٢) وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهده ، وقال : هم سواء» رواه مسلم ، والبخاري ، ونحوه من حديث أبي جحيفة. بلوغ المرام ، وهو لنا سماع. (ح / ص).

١٢٤

واختلف في الخبط المضاف إلى الشيطان فقال أبو علي : هذا تمثيل بحال من تغلب عليه السوداء فتضعف نفسه ، ويلح عليه الشيطان بالإغواء ، فيقع صرعه في تلك الحال من الله تعالى ، أو من فعل المصروع ، ونسب إلى الشيطان مجازا ؛ لأن الصرع يحصل عند وسوسته.

وقال الزمخشري : تخبط الشيطان من زعمات العرب ، والخبط : +

+الضرب على غير استواء ، فورد على ما كانوا يعتقدون ، قال : ومن زعماتهم أن الجن تمسه فيختلط عقله ، قال : ولهم في الجن قصص وعجائب ، إنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات.

وقال أبو بكر الإخشيد ، وأبو الهذيل (١) : يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان ، بأن يمكنه الله تعالى من ذلك في بعض الناس دون بعض ، قالا : لأنه ظاهر القرآن ، ولا مانع في العقل منه ، وصحح الحاكم الأول.

قال : لأنه لا يقدر على غير الوسوسة ، ولذلك حكى الله تعالى عنه : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] ولو قدر على ذلك تخبط جميع المؤمنين مع شدة عداوته لهم ، ولكان يقدر على اغتصاب أموالهم ، وفساد أحوالهم ، وإفشاء أسرارهم ، وإفساد عقولهم ، ولكانوا يزيلون عقول العلماء والأولياء ، وهذا ظاهر الفساد ، على أن المروي أن فيهم من الضعف ما لا يقدرون على شيء من ذلك.

__________________

(١) محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول البغدادي ، أبو الهذيل العلاف شيخ البصرة ، من المعتزلة ، سمي بالعلاف لأن داره بالبصرة عند سوق العلف ، ولد سنة ١٣١ ه‍ أخذ الكلام عن حميد الطويل ، وعثمان عن واصل ، وروى الحديث عن محمد بن طلحة ، وأخذ عنه الكلام أبو يعقوب الشحام ، وليس بذاك في الرواية ، قال ابن خلكان : له مجالس ومناظرات ، وهو من موالي عبد القيس ، حسن الجدل ، قوي الحجة ، كثير الاستعمال للأدلة الالتزامية ، قال الحاكم : أسلم على يده سبعة آلاف نفس ، توفي بسر من رأى سنة ٢٣٥ ه‍ على الأصح ، وقيل غير ذلك.

١٢٥

الزاجر الثاني : قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي : ذلك التخبط عند خروجهم من قبورهم ، بسبب أنهم (قالُوا : إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) وأرادوا أن التراضي حاصل في البابين ، فإذا جازت الزيادة في أحدهما جازت في الآخر.

قال الزمخشري : وإنما قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ولم يعكسوا ، فيقولوا : إنما الربا مثل البيع ، لأن الكلام في الربا لا في البيع ، قال : لأن ذلك جيء به على وجه المبالغة ، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا.

الزاجر الثالث : أن الله تعالى رد عليهم فقال تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وبين تعالى أن القياس يهدمه النص.

الزاجر الرابع : قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) أراد بالموعظة التذكير والتخويف ، وذكر فعل الموعظة ولم يقل : فمن جاءته ؛ لأن تأنيثه غير حقيقي ، ولأنها في معنى الوعظ.

وقراءة الحسن : فمن جاءته موعظة وقوله تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي : لا يؤاخذ بالماضي ؛ لأنه أخذه قبل نزول التحريم ، فلا يجب رده ، وهذا عن السدي ، وقال الأصم : (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي : يغفر ذنوبه السالفة.

وقوله تعالى : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قيل : ليس لأحد فيما أخذه قبل ذلك شيء ، وإنما هو شيء بينه وبين الله تعالى ، عن أبي مسلم ، وقال القاضي : بمعنى أنه لا يعلم أهو من أهل الجنة ، أو من أهل النار إلا الله تعالى.

وقيل : فيما يأمره وينهاه.

وقيل : في المغفرة وعدمها.

وقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) هذا خامس.

١٢٦

وقوله تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) سادس.

وقوله تعالى

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة : ٢٧٦]

محق الربا بأن تذهب بركته ، ويهلك المال الذي يدخل فيه الربا ، قال في الثعلبي : وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أن الربا وإن ٨/٨ كثر فعاقبته إلى قل) وعن ابن عباس (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) يعني : لا يقبل منه صدقة ، ولا جهادا ، ولا حجا.

وروي في الشفاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (كل ربا وإن كثر فعاقبته إلى قل) قال الأمير رحمه‌الله تعالى : «وقد شاهدنا ذلك وعايناه في أعمارنا في قوم كثير فعلوه ، فأعقبهم وذراريهم الفقر ، وقلة ذات اليد ، حتى إن بعضهم مات جوعا ، مع أنه كان ذا يسار عظيم ، وربا كثير ، وهذا سابع.

وقيل : يمحقه في الآخرة ، فلا ينتفع به أهله.

وقوله تعالى : (كَفَّارٍ) أي : جاحد لله ولرسوله ، وما أنزل عليه من تحريم الربا. وهذا زاجر ثامن.

وقوله تعالى : (أَثِيمٍ) فاعل للإثم ، وقد قرنه بالربا ، وهذا زاجر تاسع.

والمحبة : إرادة التعظيم والإثابة ، فيعني أن الله تعالى لا يحب ذلك.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٨ ـ ٢٧٩]

١٢٧

النزول

قيل : نزلت في العباس ، وعثمان بن عفان (١) ، وكانا أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ قبضا بعضا ، وزادا في الباقي ، وهذا مروي عن عطاء ، وعكرمة.

وقيل : نزلت في العباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع (٢) ربا العباس» عن السدي.

وقيل : نزلت في أربعة أخوة من ثقيف ، كانوا يداينون بني المغيرة فأربوا ، فلما جاء الإسلام اختصموا إلى عتاب بن أسيد ، وهو أمير مكة ، فكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية ، فتابوا ، ورضوا برؤوس أموالهم.

وقد دلت الآية أن ما بقي من الربا يجب تركه ، وتدل على أن المحرم من العقود حكمه بعد الإسلام مخالف لحكمه قبل ذلك (٣).

__________________

(١) عثمان بن عفان هو : عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، القرشي ، الأموي ، المكي ، أسلم بعد نيف وثلاثين رجلا ، وتزوج رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهاجر بها إلى الحبشة ، وهو أول من هاجر إليها ، فلما ماتت رقية زوجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم كلثوم ابنته ، ثم بويع له بعد خلافة عمر بن الخطاب ، وفتح أيام خلافته مدنا كثيرة أولها الاسكندرية إلى ساحل الأردن ، ونحوها ، ثم حصلت أحداث أعظمها استبقاء مروان لديه ، ونفي أبي ذر إلى الربذة ، واستدعاء ابن مسعود وحبسه ونحو ذلك ، وكان كلفا بقرابته ، وهم قرابة سوء ، فتجمعت جموع من قبائل شتى ، وبلدان شاسعة ، عجر أهل المدينة عن دفعهم ، فحصروه أربعين يوما ثم قتلوه يوم الجمعة لعشر خلت من ذي الحجة ، وكانت فتنة في الإسلام عظيمة ، ولم تنغلق إلى يوم القيامة ، وبويع بعده لأمير المؤمنين كما سيأتي.

(٢) في نسخة (وضع) وفي رواية (وأول ربا أضع ربا عمي العباس).

(٣) وفي نسخة (المحرم من العقود ما كان حكمه بعد الإسلام مخالفا) الخ. وما أثبتناه ما في أ ، وب.

١٢٨

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : صدقوا الله ورسوله فيما جاءهم به ، فجعل الخطاب للمصدقين المنتفعين بالإسلام ، وهذا عاشر.

وقوله : (اتَّقُوا اللهَ) حادي عشر.

وقوله : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) ثاني عشر.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إن صح إيمانكم ، وهذا ثالث عشر.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي : لم تتركوا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ) رابع عشر. (وَرَسُولِهِ) خامس عشر.

وجاء بالحرب منكرا ، ليدل على عظمه ، أي : حرب ، أيّ حرب ، ولم يقل : حرب الله ورسوله. وهذا سادس عشر.

واختلفوا في تأويل الآية ، فقيل : أراد بالحرب أنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، وهذا إذا كان مستحلا ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والربيع.

قال أبو القاسم البلخي : وكذا إن أطبق أهل القرية على إظهار الربا ، حاربهم الإمام ، وإن كانوا غير مستحلين ، بخلاف فعل الواحد ، فإنه لا يقتل.

وقيل : ذلك يوم القيامة ، وأنه يقال له يوم القيامة : خذ سلاحك للحرب.

وقيل : حرب الله النار ، وحرب رسوله السيف.

وقيل : هو مبالغة في التهديد دون نفس الحرب ، هذه الأقوال من التهذيب.

وقوله : (وَإِنْ تُبْتُمْ) من الكفر ، وقيل : من أخذ ما بقي من الربا ، وهذا سابع عشر.

وقوله تعالى : (لا تَظْلِمُونَ) يعني : بطلب الزيادة على رأس المال ، وهذا ثامن عشر من الزواجر.

١٢٩

وقد علق تعالى أخذ رأس المال بالتوبة ، يعني : فأما إذا لم تحصل توبتهم من الكفر فما لهم فيء.

وقوله تعالى

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨٠]

قيل : لما نزلت الآية التي قبلها ، ورضي أهل الدين الذين من ثقيف برأس المال ، شكا بنوا المغيرة العسرة ، وقالوا : أخروا لنا إلى أن تدرك الغلة ، فأبوا. فنزلت.

ثمرة الآية : أن المعسر ينظر ، لكن قال شريح ، وإبراهيم : هذا في الربا خاصة ، وعن ابن عباس ، وو الحسن ، والضحاك : في كل دين ، وهو قول أكثر العلماء ، ويدل أن مع معرفة الإعسار لا يجب حبس ، ولا مطالبة ، فإن طالب صاحب الحق كان مسيئا يجب عليه الاعتذار.

وتدل الآية : على أنه لا يلازمه ، وهذا قول الشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وصححه القاضي زيد للمذهب ؛ لأن وجوب الإنظار ينفي الملازمة.

وقال أبو حنيفة : للغريم أن يلازمه ، لخبر زياد بن حبيب ، عن أبيه ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغريم ، فقال : (الزمه) ولم يسأل هل معه شيء.

لعل الجواب أن يقال : قد عرف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه متمرد ، ومعه ما يقضي ، ويستدل بالآية باعتبار آخر وهو أن يقال : ليس إنظار المعسر إلا عدم ملازمته

وتدل الآية على أن الغريم المعسر لا يواجر ، وهذا هو الذي حصله أبو طالب ليحي عليه‌السلام ، وهو قول أبي حنيفة ، والمنصور بالله ، ومالك ، والشافعي للآية ، وقال أحمد ، وإسحاق ، والليث ، والزهري ، وعبد الله

١٣٠

بن الحسن : إنه يواجر ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي إن كان موسرا ، فإن كان معسرا استسعى العبد) فلعل ذلك خاص في العتق.

قال الحاكم : والإعسار إما بالفقر ، وإما بتعذر بيع السلعة.

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي : تصدقوا على المعسر خير لكم من الإنظار ، وقيل : من الأخذ ، وقد استدل أن الصدقة بالدين على غير من هو عليه لا تصح ، والاستدلال من الآية خفي.

وقيل : أراد بالصدقة الإنظار ؛ لأنه قد ورد [عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] «أن من أخر عن غريمه فله كل يوم صدقة» وقد وردت آثار كثيرة في الترغيب في إنظار المعسر.

خبر من الثعلبي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (من أنظر معسرا ، أو وضع له أظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من أحب أن تستجاب دعوته ، وتكشف كربته فلييسر على المعسر)

قوله تعالى

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١) [البقرة : ٢٨١]

عن ابن عباس : «أن هذه آخر آية نزل بها جبريل عليه‌السلام ، وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدها إحدى وعشرين ليلة ، وقيل : إحدى وثمانين ليلة ، وقيل : سبعة أيام» (٢).

__________________

(١) وهذه الآية أيضا من الزواجر ، ووضعها هنا من المؤكدات.

(٢) وقيل : ثلاث ساعات. كشاف.

١٣١

والمعنى : اتقوه بالطاعة فيما أمركم ، والبعد عما نهاكم عنه ، مما تقدم ، ويدخل في ذلك حدوده كلها من الربا وغيره ، وهاهنا فرعان (١) :

[الفرع] الأول

في الربا بين الله وعبده ، في الربا بين الله وعبده ، وبين السيد وعبده ، وقد اختلف في ذلك ، فظاهر المذهب المنع من ذلك (٢) ، وهو محكي عن مالك ، وأحد قولي المؤيد بالله.

وأحد قولي المؤيد بالله ، وهو الذي حكاه في شرح الإبانة عن السادة والفريقين أنه جائز.

وجه القول الأول : عموم قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا).

ولأن العبد وإن كان عليه دين لا يملك.

حجتهم ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (لا ربا بين العبد وربه) (٣).

الفرع الثاني

في الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب ، فالذي حصله أبو طالب للهادي عليه‌السلام : أنه لا يجوز لعموم الأدلة ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي يوسف.

وقال الناصر ، وأبو حنيفة ، ومحمد : إنه جائز.

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب».

وقال في الشرح : المراد النهي عن الربا فيها ، وإنما خصها لإزالة الشبهة ، وحملناه على هذا وإن كان مجازا ليوافق الأدلة.

__________________

(١) الفرعان من الآية الأولى ، لا من هذه الآية.

(٢) لأنه وإن أخذ ماله بماله ، فقد دخل فيما صورته صورة المحضور (حص) وقيل : التقدير أن العبد وإن كان عليه دين فهو وكيل للسيد ، فالربا بين السيد وغرماء العبد. والله أعلم (حص).

(٣) هذا هو وجه القول الثاني.

١٣٢

قالوا : وكذا بين حربيين أسلما ولم يهاجرا ، وعللوا : بأن لنا أن نتوصل إلى استباحة أموالهم كما يشترى الولد من الوالد.

قلنا : قد ورد النهي عن بيع جثة الكافر إذا قتل منهم.

قال في الانتصار : ولم يبح الربا في شريعة من الشرائع.

قال في شرح الإبانة : وإذا تبايع أهل الذمة على وجه لا يسوغه الإسلام حملناهم على موافقة شرع الإسلام عند الجميع ، إلا في الخمر والخنزير فلا نعترضهم ؛ لأنه جائز فيما بينهم.

تكملة لهذا

اعلم أن الربا هو الزيادة ، فلو أنه ازداد في ثمن المبيع لأجل النسأ ، فقال القاسم ، والهادي ، والناصر ، وزين العابدين : يحرم لقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا) ومعناه حاصل هنا.

وقال زيد بن علي ، والمؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : إنه يجوز لقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

قلنا : اجتمع حاظر ومبيح ، فالحاظر أولى (١) ، على أن البيع يجمع الذي فيه الربا وغيره ، فيكون عاما ، وتخصيصه بقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا).

__________________

(١) فإن قيل : لهم أن يقولوا : لا نسلم أولوية الحاظر هنا ؛ لأنه مترتب على كون بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسأ ربا ، وذلك محل النزاع ، فلا يسمى ربا ، كما لا يسمى بيع الشيء بأكثر من سعر يومه ربا ، وكذا حيث عزم على أن لا يبيعه إلا بأكثر من سعر يومه تعجيلا وتأجيلا فليس بربا ، فاتضح أن ليس كل زيادة ربا ، فيحقق ، نعم : لو احتج المؤيد بالله ومن معه بنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قرض يجلب منفعة لكان أرجح وأوضح ، ولم يبعد. والله أعلم. (ح / ص).

١٣٣

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٢]

هذه الآية قد تضمنت أوامر من الله تعالى ، وسنبين هل هي للوجوب؟ أو للندب؟

منها الكتابة : فإنه تعالى أمر بها بقوله : (فَاكْتُبُوهُ) وقد اختلفوا في حكم الكتابة ، فعن أبي سعيد الخدري ، والحسن ، وعليه أكثر المفسرين : أن هذا الأمر للندب والإرشاد ؛ ليكون أبعد من النسيان والجحود ؛ لا أنه على طريق الوجوب ؛ لأن له إن سقط حقه فضلا عن ترك الكتابة.

وقال الربيع ، وكعب : إن الكتابة واجبة ، وقال الشعبي : كان الرهن والكتابة والإشهاد واجبا ، فنسخ ذلك بقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣]

١٣٤

وقوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) أي : داين بعضكم بعضا ، أي : عامله بدين معطيا أو آخذا ، وظاهره العموم ، وهي دالة على إباحة ذلك ؛ لأنه تعالى لما حرم الربا أباح المعاملة بالدين.

وقال ابن عباس : المراد به السلم ، وعنه «أشهد أن الله أباح السلم المضمون في كتابه ، وأنزل فيه أطول آية».

وقوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) دلالة أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالسنة والشهر ، ونحو ذلك لا إذا قال : إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو مجيء الحاج ، فإن ذلك لا يصح ، وفي ذلك دلالة على أنه لا يطالب قبل حلول الأجل ، لو لا ذلك لم يفد الأجل ، وهذا إجماع فيما عدا القرض ونحوه (١).

وقوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) هذه صفة للكاتب ، وهو أن يكون موثوقا به ، لا يحرف بزيادة ولا نقصان.

قال الزمخشري : وإنما يحصل العدل إذا كان ديّنا فقيها ، عالما بالشروط ، وهذا أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن يكون بهذه الصفة.

وقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) هذا أمر ثان للكاتب بالكتابة ، وقد اختلف في ذلك ، فقال الشعبي ، وجماعة من المفسرين : إن ذلك واجب على الكفاية كالجهاد ، وصححه الحاكم.

وقال السدي : يجب عليه في حال فراغه.

وقيل : ذلك على جهة الندب.

وقيل : نسخها قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) هذه الأقوال من التهذيب.

__________________

(١) قوله (ونحوه) أروش الجنايات.

١٣٥

وقياس كلام أهل المذهب : وجوب ذلك إذا خشي ذهاب المال ، لعدم الكتابة ، ويكون ذلك فرضا على الكفاية.

وقوله تعالى : (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) فيه وجهان :

الأول : أن المعنى مثل ما علمه الله تعالى كتابة الوثائق ، يعني : لا يبدل ولا يغير.

وقيل : المعنى : ان يكتب ؛ لأن الله علمه ، كقوله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧] والمعنى : انفع غيرك بالكتابة كما نفعك الله بالتعلم لها.

وقوله تعالى : (فَلْيَكْتُبْ) هذا تأكيد للأمر بالكتابة ، وذلك لأن الكتاب على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فيهم قلة ، فلذلك أكد الأمر.

وقوله تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) هذا أمر ثالث بأن الذي عليه الحق يملل ، أي : يلقي ، والإملاء والإملال : لغتان بمعنى ، وقد ورد بهما القرآن ، قال تعالى : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) [الفرقان : ٥] فأمر تعالى بأن الذي عليه الحق يقر.

ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) يعني : فلا يبخس منه شيئا ، وهذا الأمر للوجوب ، والبخس : النقص.

قال الحاكم : ولا خلاف في وجوب الإقرار ، والإشهاد قدر ما يثبت به الحق ، لا أكثر من ذلك.

تنبيه

إذا أدان رجل غيره دينا ، أو باع منه مبيعا بدين ، أو نحو ذلك ، وأراد إثبات ذلك عند الحاكم ليستقر ماله ، فادعى على صاحبه ذلك الدين هل يجيبه بقوله : لا أعلم ذلك. أو ذلك ليس بصحيح؟ كان مخلا بما يجب عليه من الإملال ، ومرتكبا لمحظور وهو الكذب بنفيه للدين ، أو بنفيه

١٣٦

لعلمه به ، وهذه عادة كثير من المتداعيين عند الحكام ، أو يقر مع حضور الشهود ، وشهادتهم فهل إقراره يؤثر في بطلان الشهادة ، فيكون الحكم بالإقرار؟ أو لا يؤثر فيكون الحكم بالشهادة والإقرار؟ ولعل هذا ـ والله أعلم ـ كما ذكروا في الحدود ، وأن الشهادة إذا تمت فأقر المدعى عليه فإنه يحد عند الشافعي ، وذلك لأن الإقرار معاضد ، فإذا كان يحد عند عدم المعارضة ، فعند المعاضدة أولى ، ولكن أصل الشافعي أنه يكفي الإقرار مرة واحدة.

وقال أبو حنيفة : إن الشهادة تبطل مع الإقرار (١) ، فيكون الحكم هنا بالإقرار ، وقد ذكره المنصور بالله ، وأبو جعفر للهادي ، وللناصر ، أما لو فرضنا أن إقراره لا يحكم به ، كأن يكون محجورا عليه صحت الشهادة ؛ لأنها تشهد على غيره ، فلو أن المدعى عليه أجاب المدعي بقوله : ثبّت دعواك ، فهذا ليس بجواب ، وقد يعتاد الجواب بذلك في بعض النواحي ، ويجعل بمثابة قوله : لا أعلم.

وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) دل هذا على أن إقرار السفيه والضعيف لا يعمل به ، ودل على أن ولي هؤلاء الثلاثة يعمل بإقراره ، وأن الشهادة عليه تصح ، هذا إن جعلنا الضمير في وليه يرجع إلى الثلاثة المذكورين ، وهم السفيه ، والضعيف ، وغير المستطيع ، وهذا هو الظاهر ، وهو مروي عن الضحاك ، وابن زيد ، وذكره عن أبي العباس في الشرح (٢).

__________________

(١) أي : لا يستند الحكم إليها ، بل إلى الإقرار ، وإلا فهو في الحقيقة مؤكد للشهادة فليتأمل.

(٢) هو شرح القاضي زيد ، وقد سبق التنويه أن كلما ورد الشرح ، فالمراد به شرح القاضي زيد.

١٣٧

وقال ابن عباس ، والربيع ، ومقاتل : أراد ولي الحق ، وهو صاحبه ؛ لأنه أعم بدينه ، فيملي بالحق.

وقد اختلف أهل التفسير هل الثلاثة ترجع إلى معنى واحد؟ أو لكل لفظ معنى؟ فقيل : بل هي متغايرة ، فالسفيه المجنون ، والضعيف الصغير ، والذي لا يستطيع الأخرس ونحوه ، ويدخل في كل واحد من هو بمعناه.

وقيل : السفيه : المبذر ، والضعيف : الصبي ، ومن لا يستطيع : المجنون. وهذا مروي عن القاضي ، وصححه الحاكم ، ومنهم من فسر السفيه بالصغير ، ومنهم من فسر الضعيف بالشيخ الكبير الذي أصابه الخرف.

قال في التهذيب : وإذا حجر على السفيه لم يصح إقراره عند الشافعي ، ويصح عند أبي حنيفة ، قال : وفي الآية دلالة على وجوب نصب الولاة والحكام ، من حيث لا يتم أمر السفيه والضعيف إلا بهم.

والزمخشري (١) قال : (سَفِيهاً) محجورا عليه لتبذيره ، وجهله بالتصرف ، وضعيفا : صبيا ، أو شيخا مختلا ، (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ) لعي به أو خرس.

وقال في الشفاء : السفيه : نقيض الحليم ، الذي يجهل قدر المال ، والضعيف : ناقص العقل ، وجعل إقرار الولي عليهم يصح.

إن قيل : ما الفائدة في إقراره على قول من قال : إنه صاحب الحق ، وما تحقيق مذهبنا في هذه المسألة؟.

__________________

(١) لفظ الزمخشري في الكشاف (سَفِيهاً) محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف (أَوْ ضَعِيفاً) صبيا أو شيخا مختلا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) الذي يلي أمره من وصيّ إن كان سفيها أو صبيا ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى : (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) فيه أنه غير مستطيع ولكن بغيره ، وهو الذي يترجم عنه).

١٣٨

قال سيدنا : ولعله يقال ـ والله أعلم ـ أمر بأن لا يحيف في دعواه ، ويتجارى على العدوان في الدعوى ، وإن كان لا يتم له ذلك إلا بشهادة أو يمين رد ، أو نكول من الذي عليه الحق ، وهذا ثابت ، وإن كان الذي عليه الحق كاملا (١) ، لكن إذا كان ضعيفا فذلك مظنة أن يزيد في الدعوى ، وإن قيل : إنه إذا أراد بالولي ، ولي من عليه الحق ، فإقرار الولي لا يصححه أهل (٢) المذهب. سؤال [يقال : يصح حيث أقر بقبض أو تأجيل دين ونحو ذلك] (٣)

وقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) وهذا أمر بالإشهاد على المكتوب ، وهو أمر ندب وإرشاد ، كالأمر بالكتابة.

وقوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) بيان لصفة الشاهد المقبول ، فيخرج الصبي ؛ لأنه ليس من الرجال ، وهذا هو تحصيل أبي العباس ، وأبي طالب ، وهو قول الناصر ، وأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، وهو ظاهر قول الهادي عليه‌السلام : تقبل شهادة الصبيان في الشجاج على بعضهم بعضا ما لم يتفرقوا ؛ لأنهم يخرجون إلى الصحارى لتعلم الرمي ونحو ذلك ، وفي اشتراط البلوغ حرج ، ويخرج العبد على قول أبي حنيفة ، والشافعي ، ورواية للقاسم ، وهذا مروي عن ابن عباس.

__________________

(١) يعني غير سفيه ، ولا ضعيف.

(٢) صوابه (بعضهم) على أنه نقض.

(٣) في الأصل بياض قدر سطر. وما بين الأقواس تصحيح للنقص من حاشية نسخة الأصل.

وتمامه في حاشية النسخة ب (لعله يقال : يحمل ذلك على ما يصح فيه الإقرار ، مثل أن يقر بأنه باع عن الصبي ، أو اشترى له كذا بكذا ، ونحو ذلك مما يصح فيه الإقرار من الأولياء ، وما عدا ذلك خرج بدليله. والله أعلم. (ح / ص).

١٣٩

والمروي عن علي عليه‌السلام ، وأنس ، وشريح قبول شهادته ، فهذه طائفة من الصحابة ، وطائفة من الأئمة ، وهم الهادي ، والناصر ، ورواية للقاسم ، وتصحيح السادة ، صحة شهادته إلا لمولاه ، والى هذا ذهب أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود.

وقال الشعبي ، والنخعي : تقبل فيما قل ، لا في الكثير ، ويخرج الفاسق ، والجارّ (١) والدافع بقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) وكذا العدو ، والمتهم.

وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) هذا الشرط خرج على العادة ، أن النساء لا يستشهدن مع وجود الرجال ، وإلا فقد أجمع العلماء أن قبول المرأتين مع الرجل غير مشروط بعدم الرجال ، وهذه الصفة معتبرة فيما ذكر من المداينة ، أما في الحدود ونحوها فلا تقبل شهادة النساء ، وفيما لا يطلع عليه الرجال تقبل شهادتهن على الانفراد (٢) ، ومأخذ ذلك من غير هذه الآية.

واستدل من منع الحكم بشاهد ويمين بهذه الآية ، وهذا قول زيد بن علي عليه‌السلام ، وأبي حنيفة ، قالوا : لأنه تعالى قصر ذلك على رجلين (٣) ، أو على رجل وامرأتين ، والزيادة على ما ذكر نسخ للقرآن بخبر الآحاد (٤).

وقال الهادي ، والناصر ، والباقر ، والصادق ، والشافعي ، ومالك : إنه يحكم به ، لكن شرط الناصر عدالة المدعي ، والشافعي قال : في الأموال ، أو فيما يؤول إلى مال كالرهن.

__________________

(١) أي : الجارّ لنفسه منفعة.

(٢) يعني عن الرجال ، ولا تقبل أيضا مع الإجتماع إلا مع جهل تقدم غيرها ، وعلى سبيل المفاجأة ، أو جهل التحريم ، ولا تقبل شهادة الرجال في ذلك.

(٣) يقال : من أين أخذ القصر على أصلهم؟ ينظر هل يؤخذ من كونه بصدد تقسيم الشهادة المقبولة ، فلو كان غيرها مقبولا لذكره ، والله أعلم. (ح / ص).

(٤) سلمنا أنه نسخ ، وهو للمفهوم ، وهو ظني ، فلم ينسخ به القطعي.

١٤٠