تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

حجتنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بشاهد ويمين ، وقال : أمرني جبريل أن أقضي بشاهد ويمين ، وهو إجماع الصحابة من الخلفاء الأربعة ، وابن عباس ، وجابر ، وأبي بن كعب (١) ، وسعد بن عبادة ، وأبي هريرة ، والمغيرة ، ولا يقال : إن هذا نسخ ؛ لأنا لم نفهم نفي الزيادة (٢) ، فكانت هذه الزيادة كزيادة الحكم بالنكول والإقرار ، وعلم القاضي ، وسبيلها سبيل قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ١٤٥] وقد حرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل ذي ناب من السباع ، ولم يكن نسخا (٣) ، وقد زعم بعض الحنفية أنها قطعية ، وأن الحاكم لو حكم بذلك نقض حكمه.

وقوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) قراءة الأكثر (أَنْ تَضِلَّ) بفتح الألف (فَتُذَكِّرَ) بفتح الراء ، والمعنى التعليل ، أي : بسبب أن تضل

__________________

(١) أبي بن كعب هو : أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن معاوية بن عمرو بن مالك بن نجار الأنصاري الخزرجي ، أبو المنذر ، سيد القراء ، ويكنى ابا الطفيل أيضا من فضلاء الصحابة ، وعلمائهم ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ عليه القرآن ، رواه المرشد بالله ، اختلف في سنة موته اختلافا كثيرا ، قيل : سنة تسع عشرة ، وقيل : سنة ٢٢ ، وقيل : غير ذلك ، هو مذكور في مواضع منها في الطهارة خلافا لبعض الأنصار.

(٢) أي : لم نفهم نفي الزيادة من الأمر. يقال : قد فهم النفي ولكن السنة تثبت عدم العمل بالمفهوم.

(٣) يمكن أن يقال : ولا سواء ؛ إذ تحتمل هذه أنه لم يكن أوحي إليه في ذلك الوقت تحريم غير ما ذكر ، والله أعلم. (ح / ص).

وفي حاشية النسخة ب (وأيضا فإن قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) بمعنى اطلبوا شهيدين من رجالكم ، فيكون غير الشهيدين ، والرجل والمرأة غير مطلوب ، وذلك لا يقضي بعدم إجزاء شهادة رجل ويمين ، بل غايته عدم إيجاب طلبهما ، والله أعلم.

١٤١

وقراءة حمزة (إن تضل) بكسر الألف ، فيجعلها شرطية (فتذكرُّ) برفع الراء.

وقرئ للسبع (فتذّكّر) بالتشديد والتخفيف.

والمعنى : تعرّفها ، وتزيل النسيان عنها ، وعن سفيان بن عيينة : المعنى بجعلهما كذكر. وقال الزمخشري : إنه من بدع التفاسير.

وقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) في ذلك ثلاثة أقوال للمفسرين :

الأول : إذا دعوا لتحملها ، وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلا للمشارف منزلة الكائن ، وهذا مروي عن قتادة ، والربيع.

والثاني : إذا ما دعوا لتأديتها ، وهذا مروي عن مجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، واختاره القاضي.

والثالث : لإثباتها وإقامتها ، فحمله على الأمرين ، وهذا مروي عن ابن عباس والحسن ، وقد ذكره القاسم عليه‌السلام.

وقيل : في سبب نزولها : ما رواه قتادة (كان الرجل يطوف في الحواء (١) العظيم فيه القوم ، فلا يتبعه أحد منهم فنزلت).

فإن حملت الآية على التحمل فقيل : هذا أمر ندب.

قال في الثعلبي : وهو مروي عن عطاء ، وعطية (٢) ، والحسن.

__________________

(١) الحواء ـ بالمد ـ هي البيوت المجتمعة من الوبر. ضياء.

(٢) عطية هو : عطية بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد النجراني ، الزيدي ، الشيخ العلامة ، صاحب المذاكرة في الفقه ، قال في المستطاب : وله تفسير جليل جدا ، جمع فيه علوم الزيدية ، عاصر الشيخ المهدي أحمد بن الحسين ، ونقد عليه المعونة التي يأخذها من الناس.

مولده سنة ٦٠٣ ه‍ وتوفي بعد العشاء الآخرة ليلة الأحد لتسع خلون من جمادى الآخرة سنة ٦٦٥ ه‍.

١٤٢

وقيل : أمر إيجاب. وقيل : إباحة.

حقق للمذهب أنه ندب ، إلا أن يخشى ذهاب حق الغير وجب على الكفاية ، ويتعين عليه إن لم يوجد سواه ، وأما إذا حملناه على الأداء فواجب ، ويتعين إن لم يوجد غير هذين الشاهدين.

وقوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) المعنى : لا تملوا ، قال في الكشاف : كنى عن الكسل بالسآمة ؛ لأن الكسل صفة المنافق (١).

ومنه الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقول المؤمن كسلت» قال : ويجوز أن يراد إذا كثرت المداينة لم يسأم من الكتابة.

وقوله تعالى : (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) يعني سواء قلّ الحق أو كثر ، وهذا هو الظاهر.

قال الزمخشري : ويجوز أن يرجع إلى الكتاب ، يعني : تكتبوه مختصرا أو مشبعا.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) المعنى : ذلكم الكتاب بالدين (أَقْسَطُ) يعني : أعدل عند الله ؛ لأنه أمر به.

وقوله تعالى : (وَأَقْوَمُ) يعني : أصوب ، وقوله تعالى : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي : أقرب إلى نفي الشك.

دل هذا على استحباب كتب ما يخشى وقوع الشك فيه ، من علم أو نحوه ، وقد يجب إذا خشي ضياع ما يجب ، وقد ذكر الحاكم فصلا في السفينة في الكتابة ، قال : فمنهم من كره كتابة العلم ، ومنهم من حضّ (٢) ، وهو الصحيح

__________________

(١) لقوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى).

(٢) أي : حث عليه.

١٤٣

ودلت الآية على أنه لا يشهد مع الريب ، وإنما تكون الشهادة مع العلم.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) يعني : يدا بيد ، فيرخص في ترك الكتابة لعدم الضرر.

وقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) يعني : في ترك الكتابة ، أو في أموالكم وتجارتكم.

وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) قال الضحاك : هذا أمر إيجاب ، وهي عزيمة من الله ، ولو على باقة بقل.

قال في الثعلبي : وهو اختيار محمد بن جرير. الباقة : الحزمة.

وقال الحسن ، وعامة العلماء من الأئمة عليهم‌السلام ، والفقهاء : هو أمر ندب.

وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) يجوز أنه عم المبايعة الحاضرة ، والتي بالدين بالإشهاد ، ويجوز أنه أراد الحاضرة ، ولكن رخص في ترك الكتابة في الحاضرة.

وقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) القراءة الظاهرة بفتح الراء والتشديد ، وهو يحتمل البناء للفاعل ، وأن الضرار من الشاهد بالتحريف ، والتغيير ، وترك الإجابة ، وأصله : يضارر براءين ، الأولى مكسورة ، ولكن أدغم أحد الحرفين في الآخر ، وفتح للتخفيف ، وهذه قراءة عمر بالكسر والإظهار.

ويحتمل البناء للمفعول ، والمعنى : النهي لنا عن أن نضر الشاهد والكاتب ، بأن يمنعا من أشغالهما ويعجلا.

قال الزمخشري : أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشاهد مؤنة مسيرة من بلد إلى بلد ، وأصله (يضارر) بفتح الراء الأولى ،

١٤٤

والإظهار ، وهي قراءة ابن عباس ، ولكن أدغمنا إحداهما في الأخرى ، وقراءة الحسن (ولا يضارِّ) بالكسر والإدغام ، وقرأه أبو جعفر مجزوما ، ومخففا براء واحدة.

قال في الثعلبي : كان الكاتب والشاهد يدعيان ، وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : اطلب غيرنا ، فيقول الطالب : إن الله قد أمركما ، وقال : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) فأنزل الله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).

وثمرة ذلك : النهي عما ذكر ، وفي الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أكرموا الشهود فإن الله عزوجل يستخرج بهم الحقوق ، ويدفع بهم الظلم».

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) يعني : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) الضرار المذكور (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).

وقيل : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) شيئا مما نهيتم عنه (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أراد بالفسوق الخروج من أمر الله وطاعته (١) ، والكبر يحتاج إلى دليل قطعي.

قوله تعالى

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٣]

المعنى : أن الله تعالى لما بين ما يكون وثيقة للمال المداين به ، وهو الكتابة والإشهاد ـ بيّن الحال الذي يتعذر فيها ذلك ، وهو حال السفر ؛

__________________

(١) أي : معناه اللغوي. وقوله (والكبر) أي : كونه معصية كبيرة.

١٤٥

لأنه في الغالب يتعذر الكاتب والشاهد ، فأمر أن يستوثق بالرهن ، وهو أمر ندب وإرشاد ، كما قيل في الكتابة.

والقراءة الظاهرة (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) على أنها للواحد ، وهو هكذا في المصحف.

وفي قراءة ابن عباس ، ومجاهد ، وأبي بن كعب ولم تجدوا [كتابا] قالوا : لأنه ربما وجد الكاتب ولم يجد آلة الكتابة ، من القرطاس والقلم ، وقراءة الضحاك (كتّابا) على جمع الكاتب ، والسفر ليس بشرط في صحة الرهن ، وإنما قيد الرهن به لأنه مظنة إعواز الكاتب والشاهد ، هذا مذهب جلة العلماء من الأئمة ، والفقهاء كأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال مجاهد ، والضحاك ، وداود : لا يصح الرهن إلا في السفر.

قلنا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رهن درعه من أبي شحمة اليهودي في الحضر ، [قال سيدنا] (١) : سمعته في الشفاء (شحمة) بالشين المعجمة.

وقال في الانتصار بالسين المهملة.

وقوله تعالى : (مَقْبُوضَةٌ) اختلف العلماء ، هل القبض شرط في صحة الرهن أم لا؟ فالذي حصله السادة للمذهب ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي أن القبض شرط ؛ لأن الله تعالى وصف الرهن بالقبض بقوله تعالى : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) (٢).

وقال الناصر ، ومالك ، وأبو ثور : القبض غير شرط ، وإنما ذكر لأن الاستيثاق إنما يحصل به ، فكما أن السفر غير شرط على الصحيح فكذا القبض.

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من بعض النسخ. وفي بعض النسخ [قال سيدنا نجم الدين ، كعبة المسترشدين يوسف بن أحمد بن عثمان أعاد الله من بركاته آمين].

(٢) اعلم أنه لا يؤخذ من ظاهر الآية من مفهوم الصفة أن القبض من ماهية عقد الرهن ، وإنما يؤخذ منه أنه مضمون بعد القبض. (ح / ص).

١٤٦

قالوا : والآية حجة لنا ، ولأنه تعالى قال : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) وهذا لفظ نكرة فكأنه قال : فبعض الرهان مقبوضة ، فجوز في بعضها أن لا يكون مقبوضا ، فلو كان القبض شرطا في كل رهن لعرفه بالألف واللام ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢] فوصف القتل الذي تجب فيه الكفارة بالخطأ ، وقد وجبت الكفارة في العمد على أحد القولين ، وقد تقدم الخلاف في مفهوم الصفة ، هل يدل التقييد بالصفة على قصر الحكم أم لا؟

واختلف من شرط القبض في رهن المشاع ، ورهن الأرض دون شجرها ، وعكسه الأرض دون زرعها ، وعكسه ، فالهادي في المنتخب ، والشافعي قالوا : استدامة القبض غير شرط ، والأحكام ، وأبو حنيفة قالوا : هو شرط فمنعوا ذلك (١).

وإذا شرط القبض لم يصح رهن الدين (٢) ، ولا رهن المصحف (٣) ، ذكره في النهاية ، عن الشافعي ، وجوز مالك رهن المصحف ، ولا يقرأ فيه المرتهن ، قال : وعند بعض أهل الظاهر : لا يجوز الرهن إلا مع عدم الكاتب.

وقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) المعنى : فإن أمن صاحب الحق من هو عليه ، وحسن ظنه به ، فلا حرج عليه في ترك الإشهاد والكتابة ، والرهن ، وهذا دليل أن الكتابة والإشهاد والرهن الأمر به على طريق الندب والإرشاد ، وهذا هو الذي صححه القاضي.

__________________

(١) وهو المذهب.

(٢) ممن هو عليه. (ح / ص).

(٣) كأن الشافعية يمنعون من حبسه على هذا. (ح / ص).

١٤٧

وقيل : هذا ناسخ لوجوب الإشهاد والكتابة.

وقوله تعالى : (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) قيل : هذا خطاب لمن عليه الدين ، وسماه أمانة وكان مضمونا ، وذلك لترك الكتابة والإشهاد ، وائتمان صاحب الحق له ، وهذا هو الظاهر ، وهو الذي صححه الحاكم.

وقيل : إن هذا خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال ، وأنه أمانة في يده ، وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها ، فعند زيد بن علي عليه‌السلام ، والقاسمية ، والحنفية ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، وعمر ، وابن عمر ، وشريح : أنه مضمون على اختلاف بينهم ، وقال الناصر ، والشافعي : إنه أمانة لا يضمن.

واحتجوا بقوله تعالى : (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) وجعلوا ذلك خطابا للمرتهن ، وأن الله تعالى سماه أمانة ، قلنا : الخطاب لصاحب الدين ؛ لأن سياق الآية يقضي بذلك ، ويجب ضمان الرهن لحديث الذي رهن فرسا فنفق ، أي : هلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمرتهن : (ذهب حقك).

وقوله تعالى : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) يعني : يحذر مخالفة ما أمر به تعالى من أداء الأمانة.

تنبيه

هذا دليل على أن على المدين أن يقصد صاحب الدين بحقه إذا مضت مدة الأجل ، وذلك جلي مع المطالبة ، أما مع عدم المطالبة فقيل : إذا ثبت بالرضاء لم يلزمه حتى يطالب (١) ؛ لأن صاحب الدين قد أسقط حقه من التسليم ، فلا يبطل الإسقاط إلا بالطلب.

__________________

(١) وهذا هو الذي اختاره الإمام المهدي في مختصره. (ح / ص).

١٤٨

وقوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) هذا خطاب للشهود ، والمعنى : لا يكتمها عند أن يطلب صاحبها تأديتها ، ويحتاج إلى ذلك.

وأضاف تعالى الإثم إلى القلب ، والجملة هي الآثمة ، قال الزمخشري : لأمور :

الأول : أن كتمها هو أن يضمرها ، ولا يتكلم بها ، فكان إثمه بإضمار القلب ، فأسند إليه ؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يفعل بها أبلغ ، ولهذا إذا أرادوا التأكيد قالوا : هذا مما أبصرته عيني ، وسمعته أذني ، وعرفه قلبي.

الثاني : أن القلب رئيس الأعضاء ، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قال : فقد تمكن في الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه.

الثالث : أن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ؛ لأن الإيمان والكفر من أفعال القلوب (١) ، فإذا جعل الكتمان من آثام القلب فقد شهد له أنه من معظم الذنوب.

وعن ابن عباس «أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لقوله تعالى : (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [المائدة : ٧٢] وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «كاتم الشهادة كشاهد الزور».

__________________

(١) لأن أكثر الناس يشترطون أنه لا بد أن يصحب الفعل الإعتقاد .. وظاهر كلام أهل المذهب أن فعل ما يوجب الكفر من قول أو فعل ـ يوجب الكفر وإن لم يعتقد معناه ـ يفهم وقوع الكفر بغير فعل القلب. والله أعلم فينظر. (ح / ص).

١٤٩

قوله تعالى

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٨٤]

قيل : هذا خطاب خاص في الشهادة ، عن ابن عباس وجماعة.

وقال مقاتل ، والواقدي : هي في موالاة الكفار ، يعني : وإن تخفوا الموالاة أو تبدوها.

وقيل : إنها عامة في كل شيء من الأحكام التي يجب إظهارها إذا أخفاها ، والتي يجب كتمها إذا أظهرها ، وأما الوساوس وحديث النفس ، فقيل : إنه داخل ، ولكنه منسوخ بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وضعف بأنه غير مقدور له ، وتكليف ما ليس في الوسع لا يجوز (١).

وقيل : إن قوما توهموا أنهم يؤاخذون بالخواطر التي لا تدخل تحت فدرتهم ، فأنزل الله تعالى الآية الثانية ، وهي قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) بيانا لهذا.

وعن عبد الله بن عمر : أنه تلاها فقال : «لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن» ثم بكى حتى سمع نشيجه ، فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، لقد وجد المسلمون منها مثل ما وجد ، فنزل قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

وقال الأصم والقاضي : ما يظهرون من المعاصي ، وما يخفون منها (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أراد : يغفر للتائب ، ويعذب المصر.

__________________

(١) يعني : فليس بمكلف به ، فلا نسخ فيه حينئذ. (ح / ص).

١٥٠

قوله تعالى

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦]

في الكلام حذف إما (وقالوا) : حكاية عن الرسول والمؤمنين ، وإما (قولوا) : أمر بالدعاء.

واختلف في معنى النسيان هنا والخطأ ، فقيل : أراد بالنسيان الترك ، كقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] و [قيل] : أراد بالخطأ فعل الخطيئة.

وقيل : الظاهر خلاف هذا ، وأنه أراد بالنسيان السهو ، وبالخطأ ما لا يتعمد.

فإن قيل : إنهم غير مؤاخذين بذلك. قيل : في ذلك وجهان :

الأول : إنما ذكرهما ، وأراد ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف : ٦٣] والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يفعل الوسوسة التي هي سبب النسيان.

الثاني : أنه يجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء طلبا لاستدامته ، وإظهارا للنعمة فيه.

إن قيل : إذا كان الدعاء بعدم المؤاخذة على الترك للواجب ، والفعل للمعصية ، فقد دعا أن يفعل له تعالى خلاف ما وعد العاصي به من العذاب ، فلعل جوابه أن في ذلك تقديرا ، ومعناه : لا تعذبنا ، ويسر لنا ما يسقط العذاب ، من التوبة ؛ لأن أحد لا ينكر على رجل عاص يتضرع إلى ربه ، ويقول للعاصي : أنت عاص بدعائك.

فإن قيل : إذا كان الله تعالى لا بد له من فعل ما هو المصلحة ، دعا أو لم يدع فما فائدة الدعاء؟

١٥١

وهذا السؤال قد ذكر الغزالي معناه ، وأجاب : بأن في الدعاء إظهار الافتقار إلى الله تعالى ، فهو بنفسه عبادة لما فيه من الخضوع ، والمسكنة لله تعالى ، ولا يمتنع الدعاء أن يكون سببا لحصول المصلحة التي يستحق بها المغفرة.

قوله تعالى

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [البقرة : ٢٨٦]

لا يقال : من حمل نفسه ما لا يطيق ، لا يلزمه شيء.

قيل : قد ورد الدليل بلزوم الكفارة (١) ، وهي مما يطيقها ، والدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا نذر في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين) قيل : أراد ما يثقل وإن كان في قدرة الداعي.

وقيل : أراد من العذاب.

تم ما نقل من سورة البقرة ،

والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) وفي البيان ما لفظه (من نذر بفعل ما يعلم أنه لا يقدر عليه كألف حجة مثلا ، أو نحوها ، أو أحرم بألف حجة ، ذكره في اللمع ، فعليه كفارة يمين ؛ لأنه عاص بذلك. (ح / ص).

١٥٢

تفسير

سورة آل عمران

١٥٣
١٥٤

سورة آل عمران (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) [آل عمران : ٣ ـ ٤]

قال جار الله ـ رحمه‌الله تعالى ـ : من قال : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا جعله للعموم (٢) ، ومن ثمّ قال لقوم موسى وعيسى ، هذا معنى كلامه.

قوله تعالى

(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) [آل عمران : ١٤]

عدها من متاع الحياة الدنيا ، وهذا حيث لم تعد للجهاد في سبيل الله ، والمسومة : هي المعلمة. وقيل : المطهمة ، وهي التامة الخلق ، وقيل : المرعية.

أما لو أعدت للجهاد ، فذلك من أعمال الآخرة.

نكتة من الثعلبي : بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (لما أراد الله تعالى أن يخلق الخيل ، قال للريح الجنوب : إني سأخلق منك خلقا فأجعله عزا لأوليائي ، ومذلة على أعدائي ، وجمالا لأهل طاعتي ، فقالت الريح : اخلق فقبض منها قبضة فخلق فرسا ، فقال : جعلتك عربيا ، وجعلت الخير معقودا بناصيتك ، والغنائم مجموعة على ظهرك ، عطفت

__________________

(١) وفيها ست وخمسون آية.

(٢) يقال : هو للعموم ؛ إذ فيه ما يثير دفائن العقول على النظر والتفكر.

١٥٥

عليك صاحبك ، وجعلتك تطيرين بلا جناح ، فأنت للطلب ، وأنت للهرب ، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبحونني ، ويحمدونني ، ويهللونني ، ويكبروني ، فتسبحن إذا سبحوا ، وتهللن إذا هللوا ، وتكبرن إذا كبروا) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما من تسبيحة ، وتحميدة ، وتكبيرة يذكرها ، ويكبرها صاحبها فتسمعها فرسه إلا فتجيبه بمثلها).

ثم قال : (لما سمعت الملائكة عليهم‌السلام صفة الفرس ، وعاينوا خلقها ، قالوا : ربنا نحن ملائكتك نسبحك ، ونحمدك ، فماذا لنا؟ فخلق الله لهم خيلا بلقا أعناقها كأعناق البخت (١) ، فلما أرسل الفرس إلى الأرض ، واستوت قدماه على الأرض صهل فقال : بوركت من دابة ، أذل الله بصهيلك المشركين ، أذل به أعناقهم ، وأملى به آذانهم ، وأرعب به قلوبهم ، فلما عرض الله تعالى على آدم كل شيء قال له : اختر من خلقي ما شئت فاختار الفرس ، فقال له : اخترت عزك وعز ولدك ، خالدا ما خلدوا ، باقيا ما بقوا ، بركتي عليك وعليهم ، ما خلقت خلقا أحب إلي منك ومنه) تم الخبر.

وفيه دلالة على كراهة وجاء الخيل ؛ لأنه يذهب الصهيل الذي يحصل به الإرهاب ، وقد ذكر ذلك الشيخ أبو جعفر ، ويأتي على قياسه استحباب ما يرهب من الطبول والبوقات ، ونحو ذلك.

وفي الثعلبي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة).

وعن أنس : «لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد النساء من الخيل».

__________________

(١) البخت ـ بصم الباء ، وإسكان الخاء ـ اسم للإبل الخراسانية ، والنسبة إليها.

١٥٦

وفيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما من فرس عربي إلا يؤذن له عند كل فجر بدعوة اللهم من خولتني من بني آدم وجعلتني له فاجعلني أحب أهله وماله إليه ـ أو من أحب أهله وماله إليه).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ارتبطوا الخيل ، وامسحوا بنواصيها ، وقلدوها ، ولا تقلدوها الأوتار ، وعليكم بكل كميت أغر محجل ، أو أشقر أغر محجل ، أو أدهم أغر محجل).

وعن أبي هريرة قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكره الشكال من الخيل. قال أبو عبد الرحمن : الشكال الذي يكون له ثلاث قوائم محجلة ، وأخرى مطلقة ، أو تكون الثلاث مطلقة ، والرجل محجلة ، وليس يكون الشكال إلا في الرجل ، ولا يكون في اليد.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اليمن والشؤم في ثلاثة : المرأة ، والفرس ، والدار) (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الخيل ثلاثة ، لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الخيل ثلاثة : فرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان) ولهذه الأخبار تتمات ، ولها تأويلات.

قوله تعالى

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) [آل عمران : ١٦] (٢)

قال الحاكم : في الآية دلالة أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته ، وما تقرب به إلى الله تعالى ثم يدعو.

__________________

(١) فيمن المرأة خفة مهرها ، ويسر نكاحها ، وحسن خلقها ، ويمن المسكن : سعته ، وحسن جوار أهله ، ويمن الفرس : تذلله ، وحسن خلقه ، وشؤمه : صعوبته.

(٢) محل (الَّذِينَ) نصب على المدح ، أو رفع ، ويجوز الجر صفة للمتقين ، أو للعباد ، والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها. كشاف.

١٥٧

[حديث أصحاب الغار]

وقد روي في صحيح البخاري ، ومسلم حديث أصحاب الغار : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم ، حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل ، فسدت عليهم الغار ، فقالوا : إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم ، فقال رجل منهم : اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ، ولا مالا ـ وفي مسلم ـ قال أحدهم : اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ، وامرأتي ، ولي صبية صغار أرعى عليهم ، فإذا أرحت عليهم حلبت ، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بنيّ ، وإنه نأى بي ذات يوم الشجر ، فلم آت حتى أمسيت ، فوجدتهما قد ناما ، فحلبت كما كنت أحلب ، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما ، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما ، والصبية يتضاغون عند قدمي ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منه فرجة ، نرى منها السماء ، ففرج الله منها فرجة ، فرأوا منها السماء.

وقال الآخر : اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار ، فتعبت حتى جمعت مائة دينار ، فجئتها بها ، فلما وقعت بين رجليها ، قالت : يا عبد الله اتق الله ، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه ، فقمت عنها ، وتركت لها الدنانير ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ، ففرج لهم.

وقال الآخر : اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز ، فلما قضى عمله ، قال : اعطني حقي ، فعرضت عليه فرقه ، فرغب عنه ، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاتها ، فجاءني وقال : اتق الله ولا تظلمني

١٥٨

حقي ، فقلت : اذهب إلى تلك البقر ورعاتها فخذها ، فقال : اتق الله ولا تستهزئ بي ، فقلت : إني لا أستهزئ بك ، خذ ذلك البقر ورعاءها ، فأخذه فذهب به ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك الكريم فافرج لنا ما بقي ، ففرج الله ما بقي) وفي رواية (فخرجوا من الغار يمشون).

قال النواوي : عن القاضي حسين من أصحاب الشافعي وغيره : إنه يستحب لمن وقع في شدة أن يدعو بصالح عمله ، واستدلوا بهذا الحديث (١) ، وقد صوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هؤلاء ، في هذا ترك الافتقار إلى الله تعالى

قوله تعالى

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧]

هذا دليل أن السّحر يختص بفضيلة ، قيل : لأن الإنسان عنده يكون أبعد من الشواغل فيتفكر ، ويحاسب نفسه ، ويتلافى ما فرط بالاستغفار.

وقيل : إنما خصه بالذكر ؛ لأن العبد يكون فيه قد فارق طيب المضجع ، ولذة الفراش ، وهجر صاحبته ، وعبد الله.

وقيل : لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل ، فيحسن طلب الحاجة ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] (٢).

وعن الحسن كانوا يصلون أول الليل ، حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار (٣).

__________________

(١) سيأتي للنواوي في قوله في آخر النساء : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) الآية أن هذا ينافي الإفتقار فلعل ما هنا لك اختياره ، وما هنا اختيار القاضي حسين. (ح / ص).

(٢) (يَرْفَعُهُ) أي : يرفع الكلم الطيب ، على أحد الوجوه ، وكذا في البغوي : الرافع العمل الصالح.

(٣) هذا نهارهم ، وهذا ليلهم. (ح / ص).

١٥٩

وعن قتادة : أراد بالاستغفار الصلاة.

وعن أنس بن مالك : أراد السائلين المغفرة.

وقيل : المصلون صلاة الصبح في جماعة.

وقيل : بدأوا بالصلاة إلى وقت السحر ، ثم استغفروا ، عن الحسن.

وروي في السنن ، والترمذي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أقرب ما يكون الرب (١) من العبد في جوف الليل الآخر).

قال النواوي : السحر هو السدس الأخير.

وفي الثعلبي : روي أن داود عليه‌السلام سأل جبريل عليه‌السلام : أيّ الليل أفضل؟ قال : لا أدري ، إلا أن العرش يهتز في السحر.

وعن سفيان الثوري (إن لله تعال ريحا يقال لها : الصّبحة ، تهب في الأسحار ، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار) وقال لقمان لابنه : يا بني لا يكون الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم.

وسمع رجل عبد الله بن مسعود في اسحر ، وهو في ناحية المسجد ، وهو يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي.

قوله تعالى

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨]

فيها دلالة على فضل علم التوحيد ، ومن أجل ذلك كان لهذه الآية من الفضل ما ليس لغيرها (٢).

__________________

(١) أي : إجابة الرب.

(٢) وفي الكشاف ما لفظه (شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، بشهادة الشاهد في البيان والكشف ، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك واحتجاجهم عليه) وكذلك ما بعده في الكشاف مثله بلفظه.

١٦٠