تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وأما إذا قلنا : إن الجماعة واجبة فهذا الأمر يكون للوجوب بالجماعة جملة ، وقد قال الحاكم : إن الآية تدل على وجوب الجماعة ؛ لأن الواجب لا يترك للمسنون ، يعني : لو كانت سنة لم تترك المتابعة للإمام ، وهي واجبة.

ثم إن في المسألة أطرافا من الخلاف :

الأول : هل هذه الصلاة ثابتة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا؟

فقال الأكثر : إنها ثابتة ، وإن قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) ليس بشرط بقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ولأن الأئمة نواب عن رسول الله ، ولأن الأئمة والخلفاء قد فعلوا ذلك بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلوا كما رأيتموني أصلي».

وقال أبو يوسف : في أحد الروايتين إنها مختصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتمسك بقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) ويقول اختصت بهذه الصفة لمكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلهذا أمّ الطائفتين ، فلو كان الإمام غير النبي عليه‌السلام صلت كل طائفة بإمام ؛ لأنه لا يكون فيه ما في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا أخذ بدليل الخطاب ؛ لأنه تعالى قال : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) فمفهومه أما إذا لم تكن فيهم لم ينقسموا على هذه الصفة.

وعن المزني : أنها نسخت وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال في (النهاية) : وذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر إلى وقت الأمن كما فعل عليه‌السلام يوم الخندق.

وقال الجمهور : إنما أخر عليه‌السلام يوم الخندق ؛ لأن صلاة الخوف لم تكن نزلت ، وإن تأخيرها منسوخ بها.

قال في (الانتصار) : لا فرق بين الخوف في الجهاد الواجب ،

٤٨١

والمستحب ، والمباح وهو الدفع عن المال (١) في جواز صلاة الخوف ، ويكره أن تصلى بأقل من ثلاثة ، وأن يكون الحرس أقل من ثلاثة ؛ لأن الطائفة أقلها الثلاثة.

الطرف الثاني : هل السفر شرط أم لا؟

ففي (شرح الإبانة) عن القاسم و (المنتخب) : أن السفر شرط لقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ).

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وزيد ، وأطلقه في (شرح الإبانة) : إن السفر غير شرط لعموم قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ).

قلنا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعلها إلا حال السفر (٢).

قالوا : وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين وصلى أربعا ، فدل أنه مقيم (٣).

قلنا : لما صلت كل طائفة ركعتين دل ذلك على السفر.

__________________

(١) أما إذا أباحه مالكه فلا يجوز الدفع إلا بعد الرجوع عن الإباحة ، وأما قبل الإباحة ، أو بعد الرجوع فهو منكر يجب دفعه فتحقق العبارة كيف تتصور ، وكذلك المباح ، ولعله يتصور إذا كان الذي يريد إهلاك المال غير مكلف من صبي ، أو مجنون ، أو حيوان ، أو نار ، وهو لا يجحف بصاحبه ، وقلنا : إضاعة المال غير محرمة ، فليتأمل ذلك والله أعلم. (ح / ص).

(٢) أما أنه لم يقمها إلا في السفر فلا تقوم به حجة ، إلا أن يكون عرض له خوف في الحضر وتركها استقام. فينظر.

(٣) ليس في الحديث أنها صلت كل طائفة ، بل صلى بكل طائفة ، ولا دلالة فيه على السفر ، بل فيه دلالة على الحضر ، كدلالة (صلى بكل طائفة ركعة) على السفر ، وفي التحقيق : لا دلالة على حضر ولا سفر ، بعد تقرر أنه صلى مرتين بالطائفتين ، وهو محتمل فيحقق.

٤٨٢

وأما كونه عليه‌السلام صلى أربعا فيحتمل أنه صلى مرتين ، وكان ذلك جائزا أول الإسلام ثم نسخ (١).

الطرف الثالث : أنها لا تصلى عندنا إلا في آخر الوقت ؛ لأنها بدل ، فأشبهت العدة بالأشهر فإنها تكون عند الأياس من الحيض.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وهو مروي عن المؤيد بالله : تجوز في أول الوقت لعموم الآية (٢) ، وشرطها : أن يكون محقا ؛ لأنه إذا كان مبطلا فهو مأمور بترك الباطل ، وبتركه يكون آمنا.

وكذلك أن يكون مطلوبا ، قال (أبو طالب ، والمنصور بالله) : إلا أن يخشى الكر ؛ لأنه يدخل في حكم الخائفين.

الحكم الثاني في أخذ السلاح هل ذلك للوجوب أم للندب؟

فمذهبنا ، وأبي حنيفة : أن ذلك للاستحباب ؛ لأن الأمر أمر تأديب ؛ لأنه قرنه بالأمتعة ، وله أن يحفط متاعه ، ويسلط عليه (٣).

وقال الناصر ، والشافعي : وهو ظاهر قول القاسم : إن ذلك واجب ؛ لظاهر الأمر ، وأجمعوا أن ذلك ليس بشرط لصحة الصلاة.

وقال داود : إنه شرط.

__________________

(١) في البحر ما لفظه (قلت : وقياس المذهب أنها إن أمكنت فرادى كاملة وجب ترك الجماعة إيثارا للأصلية على البدلية). وضعف ؛ إذ يلزم أن لا تصح بحال ، قال في المعيار : لأنها إذا أمكنت جماعة أمكنت فرادى ، لعله يقال : إن هذه واردة بالنص ، وهو فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلاف القياس ، فيقر حيث وردت كنظائرها ، ولا يجرى بها مجرى القياس. والله أعلم (ح / ص).

(٢) لعموم الأدلة.

(٣) وأما العدو فليس له تسليطه عليه إذا كان يتقوى به ، أو يحصل بأخذه وهن ، ونحو ذلك. (ح / ص).

٤٨٣

الحكم الثالث في كيفية هذه الصلاة :

وفي ذلك أقوال للعلماء :

الأول : أن كل طائفة تصلي ركعة واحدة فقط ، وتسلم ولا شيء عليها غير ذلك ، والإمام يصلي ركعتين بكل طائفة ركعة.

قال الحاكم : وهو مذهب جابر ، ومجاهد ، ورواه في (النهاية) عن الثوري وابن عباس ، وتمسكوا من الآية بقوله تعالى : (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) فجعلهم يخرجون من الصلاة عقيب السجود ، وورد في هذا ما رواه في سنن أبي داود ، عن حذيفة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا ، قال في السنن : وكذا رواه أبو هريرة ، وابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

القول الثاني : أنه يصلي بكل طائفة ركعتين يصلى مرتين ، وهذا مروي عن الحسن ، ويكون تقدير الآية : فإذا سجدوا ، أي : إذا صلوا وأتموا ركعتين ، وورد بهذا ما رواه في السنن عن أبي بكرة ، وجابر بن عبد الله أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين.

قال أبو داود : وفي المغرب يصلي بكل طائفة ثلاث ركعات.

القول الثالث : مذهبنا ، والناصر في أحد قوليه ، ومالك : إن طائفة تصف مع الإمام ، والأخرى بإزاء العدو ، فإذا صلى الإمام بالطائفة التي صفت معه ركعة انتظر قائما ، وأتموا لأنفسهم ، فإذا فرغوا صفوا بإزاء العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلت ركعة مع الإمام ، فإذا تشهد الإمام وسلم قاموا فأتموا لأنفسهم ، عندنا ، ومالك.

وقال الشافعي : يقف الإمام منتظرا لهم في التشهد حتى يتموا لأنفسهم ، ثم يسلم بهم ، وتقدير الآية على هذا : (فَإِذا سَجَدُوا) أي : إذا

٤٨٤

فرغوا من الصلاة (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي : بإزاء العدو (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) وهي التي كانت بإزاء العدو ، ولم تدخل في الصلاة.

وورد في هذا من جهة السنة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى على هذه الصفة بغزوة ذات الرقاع ، لكن فيه روايتان :

هل يسلم قبل تمامهم؟ أو أتوا بالركعة الثانية وسلم بهم ، هذا في الطائفة الثانية.

القول الرابع : قول (أبي حنيفة) : إنه يصلى بالطائفة الأولى ركعة ، ثم تقدم إلى موضع الحرس ، ويأتون فيصلي بهم الثانية ، ويقفون معه حتى يسلم ، ثم تنصرف إلى وجاه العدو ثم تتم الطائفة الأولى صلاتها ، فإذا سلموا صفوا بإزاء العدو ، وأتمت الطائفة الثانية ، وتقدير الآية على هذا أن قوله تعالى : (فَإِذا سَجَدُوا) يحمل على حقيقة السجود ، وأن الطائفة الأولى إذا سجدت خرجت إلى إزاء العدو ، ثم جاءت الطائفة الأخرى.

وورد من جهة السنة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى على هذه الصفة ، وقيل : إن الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام ركعة وسلم قاموا فأتموا لأنفسهم ، ثم صفوا بإزاء العدو ، ثم أتمت الأولى بنفسها ، وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى هكذا.

القول الخامس : وهو رواية لأبي يوسف ، وابن أبي ليلى : أنه يجعل الناس صفين ويركع بهم جميعا ، ويسجد بالصف الأول ، فإذا رفعوا رؤوسهم سجد الصف الآخر ، ثم تقدموا إلى الصف الأول ، وتأخر الأول فيركع بهم جميعا ، ويسجد (١) بالصف الأول الذي كان ثانيا ، وقد روي

__________________

(١) يعني السجدتين.

٤٨٥

أنه عليه‌السلام صلى هكذا بعسفان (١) ، وهذا إن كان العدو مواجها للقبلة ، وإن كان العدو في غير جهة القبلة فكما قلنا ، وهكذا عن الصادق والباقر وأحد قولي الناصر.

قال في مهذب ش : إن شاء صلى هكذا وإن شاء صلى بكل طائفة ركعتين أحدهما نفلا للإمام (٢) ، وثم أقوال أخر.

قال في (الانتصار) : قد انتهى الخلاف إلى ستة عشرة صورة (٣).

قال في النهاية : وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة بفعل المكلف ما أحب منها ، وقيل : إن الاختلاف بحسب اختلاف المواطن (٤).

الحكم الرابع

أن الآية قد دلت على جواز ترك وجوب متابعة الإمام للخوف ،

__________________

(١) ولفظ الحديث (عن جابر رضي الله عنه قال : شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الخوف فصففنا صفين ، صف خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبرنا جميعا ، ثم ركع وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه) فذكر الحديث ، وفي رواية (ثم سجد وسجد معه الصف الأول ، فلما قاموا سجد الصف الثاني ، ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني) فذكر مثله ، ولأبي داود عن أبي عياش الزرقي مثله ، وزاد أنها كانت بعسفان. (ح / ص).

(٢) وذلك لأنه يصح على أصلهم أن يصلي المفترض خلف المتنفل.

(٣) عن ابن العربي شارح الترمذي : جاءت صلاة الخوف على أربع وعشرين مرة ، وللنووي في شرح مسلم مثله ، ولم يبينها في شرح الترمذي ، وزاد وجها آخر ، لكن يمكن تداخلها ، قال صاحب الهدي : أصولها ست صفات من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما عداه اختلاف من الرواة. (ح / ص).

(٤) ترك في النسخة (أ) بياضا مقداره أربع كلمات.

٤٨٦

فيجوز لسائر الضرورات ، وذلك إذا خشي أن يسبقه الحدث (١) ، أو اشتد الزحام فلم يمكنه السجود ، وهذه المسألة فيها تفصيل في كتب الفقه.

قال الحاكم : ودلت الآية على وجوب التعديل على الإمام بين الناس وعلى وجوب الحذر من المشركين (٢).

قوله تعالى

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣]

المعنى : قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) يعني : صلاة الخوف.

وقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) اختلف المفسرون في ماهية هذا الذكر ، فقيل : أراد بالذكر الصلاة ويكون المعنى :

__________________

(١) هذا يأتي على قول المؤيد بالله ، والشافعي ، كما ذكره في البحر ، في باب الجماعة ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، والباقر ، ومحمد بن منصور ، واختاره الإمام. من خط الإمام شرف الدين.

(٢) لفظ الحاكم في التهذيب (وتدل الآية على جواز ترك المأموم متابعة الإمام عند الخوف ، وإذا جاز للخوف وضرورته جاز أيضا للضرورة إذا سبقه الحدث ، ومن اشتدت الزحمة عليه فلم يمكنه السجود ، وتدل على وجوب التعديل على الإمام بين الناس ، فتدل على التعديل في سائر الأشياء أيضا ، وتدل على أن الجماعة فرض لأنه لا يجوز ترك الفرض لمكان السنة ، وتدل على أن تأخير الصلاة عن الوقت لا يجوز ، ولو جاز لجاز عند الخوف ، وتدل على وجوب الحذر من العدو ، وتدل على أن أفعال العباد فعلهم إذ لو كان خلقه لما صح قوله (فَيَمِيلُونَ) ولكان يجب أخذ الحذر من فعله ، ويستحيل الحذر من الله تعالى ، وإذا كان ذلك كذلك ثبت أن ذلك فعلهم ليصح الحذر منه ، ولذلك وبخهم وأوعدهم

٤٨٧

فإذا أردتم قضاء هذه الصلاة فصلوها قياما مسايفين ، وقعودا جاثين على الركب مرامين (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) مثخنين بالجراح.

وقيل : أراد تعالى فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر الله مهللين ، مسبحين ، مكبرين ، داعين بالنصر في جميع أحوالكم (١) ، وهذا مروي عن الحسن وابن عباس ، والأصم ، وقيل : فاذكروه بتوحيده.

قال القاضي : والأول يبعد (٢) ؛ لأنه يصير كأنه قيل إذا قضيتم الصلاة فصلوا.

وقوله تعالى : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) اختلفوا في ذلك ، فقيل : أراد بالطمأنينة الرجوع إلى الوطن (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : صلوها تماما ، عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وقيل : أراد بالطمأنينة زوال الخوف والمرض والقتال ، (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بتمام ركوعها وسجودها ، عن السدي ، وابن زيد ، وقيل : المراد إذا أمنتم فاقضوا ما فعلتم من الصلاة حال المسايفة.

وهذا على قول الشافعي : من وجوب الصلاة بالإيماء ، والقضاء.

وأما عند أبي حنيفة ، فعنده أنه معذور من صلاة المسايفة إلى أن يطمئن.

وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قيل : أراد فرضا موقتا ، عن الأخفش ، وأبي مسلم

ثمرات هذه الآية : تظهر في أحكام :

الأول : أن الصلاة حال المسايفة واجبة على ما يمكن ، وهذا إذا

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٦١)

(٢) قال في (ح / ص) : (لا وجه لاعتراض القاضي مع التأويل بقوله : فإذا أردتم قضاء الصلاة فصلوا).

٤٨٨

حملت على أن المراد بالذكر الصلاة ، وهذا مذهبنا ، والشافعي ، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة البقرة : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

وقال (أبو حنيفة) : يعذر في تركها كما تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق. قلنا : لم تكن شرعت.

وعن أبي سعيد الخدري : نزل قوله : (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) بعد الخندق.

وأما صلاته عليه‌السلام بذات الرقاع ، وهو قبل الخندق فلم تكن حال المسايفة.

فإن صلاها حال المسايفة ثم أمن ، فقال الشافعي : يجب القضاء ؛ محتجا بقوله تعالى : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ذكر معناه في (الكافي) ، وعندنا : إن قدر على الإيماء فلا قضاء عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم» ويحمل قوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) على غير القضاء.

أما لو لم يتمكن إلا من الذكر وفعله ، فقال المنصور بالله ، والأمير الحسين : لا قضاء عليه أيضا ؛ للخبر ، وهو قوله : «فأتوا به ما استطعتم».

وقال القاضي زيد ، وابن أبي الفوارس ، وأبو جعفر : يجب القضاء ؛ لأن هذا لا يطلق عليه اسم الصلاة (١) ، وإن حمل الذكر على الدعاء والتكبير والتهليل ، فذلك أمر ندب ، وخص هذه الحال لأنه جدير بأن يلتجئ إلى الله فيه ، وقد ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يستجاب الدعاء عند ملاقاة الجيوش) وإن حمل على أنه أراد به المعرفة بالقلب ، واعتقاد التوحيد ، فهو واجب في جميع الأحوال إلا على من غلب على عقله.

__________________

(١) فلم يأت بشىء مما يطلق عليه اسم الصلاة.

٤٨٩

الحكم الثاني وجوب الصلاة

لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً) أي : فرضا لازما ، وذلك جلي ، لكن دلالتها مجملة.

الحكم الثالث

أن لها أوقاتا مؤقتة بوقت له أول وآخر ، وهذا متفق عليه ، لكن دلالة الوقت من الآية مجملة ، وبيانها من جهة السنة ، قول كحديث جبريل (١) ، وفعل ما عرف من أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي ذلك فروع ، واختلاف بين العلماء.

قال الأمير عز الدين محمد بن الهادي : وما حكى من الخلاف في دخول وقت المغرب ، وأن مذهبنا برؤية كوكب ، وعند الفقهاء بسقوط قرصة الشمس.

وروي هذا في (الكافي) عن زيد ، وأحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى وأحد الروايتين عن الناصر ، فهذا خلاف في العبارة يرجع إلى معنى واحد ، فإنا قد جربنا ورأينا تواري القرصة (٢) من البلاد المرتفعة لا تكون إلا مع رؤية الكواكب الليلية ، فتكون النجوم علما للوقت في المكان (٣) الذي لا يرى قرصة الشمس فيه ، وهو عند الغروب (٤).

__________________

(١) هذا بيان قبل ورود الإجمال ؛ لأن نزول جبريل في مكة ، وهذه الآية نزلت في المدينة ، وقد قال أهل الأصول : إن مثل هذا يجوز ، ولكن لا يوصف البيان بكونه بيانا إلا بعد ورود المجمل. (ح / ص).

(٢) في (أ) : القرصة.

(٣) ساقط في (ب).

(٤) وسيأتي لهذا مزيد تمام واحتجاج في قوله تعالى في سورة الأنعام : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً)

٤٩٠

قوله تعالى

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) [النساء : ١٠٤]

قيل : إن هذا نزل في بدر الصغرى وقد كانوا تواكلوا لما أصابتهم (١) الجراح.

ثمرة ذلك :

وجوب الجهاد (٢) ، وأنه لا يسقط بما حصل من المضرة من الجراح ونحوه ، وأن التجلد وطلب ما يقوي لازم ، وما يحصل بها الوهن لا يجوز فعله ، وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما) وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) فجعل هذا سببا باعثا على الجهاد ، هذا معنى كلام الحاكم (٣) ، ونظير هذا لو صلي لطلب الثواب ، أو السلامة

__________________

(١) في (ب) : أصابهم.

(٢) ابتداء الآية أوجب طلبهم من غير تقدم سبب. حاكم (ح / ص).

(٣) ولفظ الحاكم في التهذيب (وَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا أيها المؤمنون ، وتجبنوا عن جهاد عدوكم من الكفار بما نالكم (وَلا تَحْزَنُوا) أي لا تغتموا بما لحقكم من الهزيمة ، وظهور أعدائكم ، وقيل : لا تضعفوا بما نالكم من الجراح ، وتحزنوا على ما نالكم من المصائب بقتل الإخوان ، وقيل : (لا تَهِنُوا) بما نالكم من الهزيمة ، (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الغنيمة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) يعني : الظاهرين الغالبين عليهم في العاقبة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : معناه الإيمان يوجب تلك الحال التي وصفت ، يعني من كان مؤمنا فلا يهن ولا يحزن ، وقيل : إن كنتم مصدقين بوعد الله ، ووعد رسوله بالنصر لكم ، وقيل : معناه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، لأنهم لو لم يكونوا مؤمنين ما كانوا غالبين.

٤٩١

من العقاب (١) ، وقد ذكر في ذلك خلاف ، فعن المنصور بالله : يجزي ذلك ، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد بن حنش.

وعن أبي مضر : لا يجزي ؛ لأنه لم ينو الوجه المشروع الواجب له (٢).

قوله تعالى

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ١٠٥ ـ ١٠٦]

النزول :

قال جار الله : روي أن طعمة (٣) بن أبيرق أحد بني ظفر سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمير رجل من اليهود ، والتمس الدرع عند طعمة فلم يوجد ، وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه ، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها ، فقال : دفعها إلي طعمة ، وشهد له ناس من اليهود ، فقال : بنو ظفر انطلقوا بنا إلى رسول الله فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إن لم يجادل هلك وافتضح ، وبرئ

__________________

(١) وفي الغيث في التوبة ما لفظه (فأما لو ندم وعزم خوفا من عذاب الله ، قال مولانا عليه‌السلام ، فكلام المعتزلة يقضي بأن ذلك ليس بتوبة ، قال والأقرب عندي أنهتوبة ، وقوي (ذكر في أول كتاب الجنائز)

(٢) يقال : لا ينافيه إذا قصدوا شيئا من الأغراض الدنيوية ، كالغنيمة ونحوها. وقع وسع في ذلك شيخنا السيد محمد بن عز الدين رحمه في ذلك في شرح التكملة. (ح / ص).

(٣) في الحاكم : طعيمة.

٤٩٢

اليهودي ، فهم رسول الله أن يفعل ، ويعاقب اليهودي ، وقيل : هم أن يقطع يده فنزلت (١).

وروي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ، ونقب حائطا بمكة ليسرق [أهله] فسقط الحائط عليه فقتله (٢).

قال في (التهذيب) : وقيل : إن الدرع كانت وديعة عند طعمة فجحدها ، ولم تكن عليه بينة ، فجادل عنه قومه وأثنوا عليه ، فقبل رسول الله ، وهم بالدفع عنه فنزلت الآية.

وعن قتادة بن النعمان : قال : كان أهل بيت منّا (٣) يقال لهم : بنو أبيرق بشر وبشير ، ومبشر ، وكان بشر منافقا شاعرا يهجو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنقب بيت رفاعة بن زيد ، وأخذ منه متاعا ، ولما اتهم به رمى به لبيد بن سهل ، وكان مسلما صالحا فاخترط لبيد سيفه وقال : والله لتبينن بأني برئ من هذه السرقة أو ليخالطنكم هذا السيف ، فقالوا : إليك عنا ما أنت بصاحبها ، فلما نزل القرآن بخيانة بشر لحق بالمشركين (٤).

المسمى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) قيل : بالحق الذي يجب

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٦١).

(٢) الكشاف (١ / ٥٦١).

(٣) في نسخة (كان أهل بيت منافقة)

(٤) وجه اتصال هذه الآية بما قبلها : قيل : إنه لما بين لما بين الأحكام والشرائع في السورة عقبها بأن جميع ذلك أنزله بالحق ، وقيل : لما تقدم ذكر المنافقين والكافرين ، وأمر بمجانبتهم عقب ذلك بذكر الخائنين ، وأمر بمجانبتهم ، وقيل : إنه بتصل بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) وقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ (لا يُؤْمِنُونَ) حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ثم قال : كيف تركوا حكمك ، وقد نزلنا عليك الكتاب لتحكم بينهم بحكمه ، وقيل : يتصل بقوله (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) هم فئة تجادل ، وفئة تميل عليها ، فنهي عن الدفع إلى غير ذلك التهذيب للحاكم. (ح / ص).

٤٩٣

لله على عباده ، وقيل : مبينا للحق ، وهو الحلال والحرام ، وما يجب ، وما لا يجب (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) قال جار الله : بما عرفك وأوحى إليك (١).

وعن عمر رضي الله عنه : لا يقولن أحدكم : قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي : لأجل الخائنين الخاصمين مخاصما ، والمعنى : تخاصم اليهود لأجل بني ظفر (٣).

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أي : اطلب منه المغفرة مما هممت به من قطع اليهودي ، عن ابن عباس.

وقيل : من جدالك عن طعمة ، عن مقاتل ، وكان هذا ذنبا صغيرا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : الاستغفار لمن جادل عن الخائنين.

ثمرة هذه الآية : وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل ، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص ، وقد أكد ذلك بقوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ، وبقوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وقرأ عبد الله جادلتم عنه أي : عن طعمة ، وكذلك أكده بقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) لأن ذلك عائد إلى حديث طعمة ، وقيل : نزل (٤) : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) في عبد الله بن أبي ، وإفكه على عائشة ، وكذلك قوله تعالى : (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) يعني : من بني ظفر ، وقيل : نزلت

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٦١) ز

(٢) الكشاف (١ / ٥٦١).

(٣) الكشاف (١ / ٥٦١).

(٤) في (ب) : نزلت.

٤٩٤

في وفد ثقيف ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرهم على دينهم سنة ، وقيل : في الذين هموا بقتله من المنافقين ، ويدل حديث عمر أن هذه العبارة وهي (بِما أَراكَ اللهُ) تختص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدل على أن من همّ بمعصية كان عاصيا (١) لذلك وجب الاستغفار ، ويدل تقييده بالنهي عن الجدال للّذين يختانون أنفسهم على إباحة المجادلة بالحق.

قوله تعالى

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ١١٤]

قيل : هذا راجع إلى من تقدم من أصحاب طعمة الذين ذبوا عنه ، أو من المنافقين ، أو من وفد ثقيف ، وقيل : يرجع إلى الناس عموما.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) قيل : أراد بها الصدقة الواجبة ، والمعروف التطوع ، وقيل : المعروف هو أبواب البر ، سمي معروفا لاعتراف العقول بها ، وقد دلت الآية على الترغيب بالأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس ، وقد أكد الله تعالى الترغيب بقوله : (عَظِيماً) وأن النية فيه شرط لنيل الثواب ، لقوله تعالى : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

__________________

(١) هذا بناء على أن الهم ذنب ، وقد قالوا : إن الهم فيما لا يشارك العزم المعزوم لا يكتب حتى يفعل هذا في الشر ، وفي الخير يكتب حسنة ، فإذا فعلها كتبت عشرا ، وقد ذكر شيئ من هذا في قوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فيحقق .. وهذا أيضا على رأي بعض المعتزلة ، وأما عند الهادي وغيره من أهل البيت فيشارك فيستقيم ما هنا.

٤٩٥

قوله تعالى

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥]

الآية دلت على أن مشاقة الرسول كبيرة ، وقد تبلغ إلى الكفر ، ودلت على أن الجهل عذر (١) بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ، ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة ، وأنه دليل كالكتاب والسنة ، لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيا لا آحاديا.

وقد اختلف في نزولها ، فقيل : إنها نزلت في شان ابن أبيرق ، وردته ، وموته على كفره ، وقيل : في قوم نزلوا المدينة ، ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين.

قوله تعالى

(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩]

في هذا دلالة على قبح هاتين الخصلتين ؛ لأنه قد قرنهما بما سبق من الخلال القبيحة وهي الضلال والتمنية بأنه يغفر للعاصين من غير توبة ، أو بطول الآمال.

ومعنى قوله : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي : ليقطعن آذان الأنعام ، وذلك فعلهم بالبحائر ، كانوا يشقون آذانها إذا ولدت خمس أبطن ، وجاء الخامس ذكرا ، ويحرمون على أنفسهم الانتفاع بها (٢).

__________________

(١) يقال هذا قبل التمكن من السؤال ، لا بعده فلا عذر.

(٢) والذي في الكشاف مثل هذا ، والذي سيأتي في الثمرات في تفسير قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) في سورة المائدة يخالف هذا في بعض وجوهه. فيحقق. (ح / ص).

٤٩٦

ومعنى قوله : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) قال جار الله : هو فقؤ عين الحامي ، وإعفاؤه من الركوب ، وقيل : الخصاء وهو محرم في بني آدم.

وأما في البهائم فمباح عند عامة العلماء (١).

وعند أبي حنيفة : يكره شراء الخصيان ، وإمساكهم ، واستخدامهم ؛ لأن ذلك يدعو إلى خصيهم.

وعن ابن مسعود : هو الوشم ، وقد ورد في الحديث : «لعن الله الواشرات والمتنمصات ، والمستوشمات المغيرات لخلق الله».

واعلم : أن ظاهر مذهب الأئمة أن هذه الأمور من الوشم ، والنمص ، والوشر محرم مطلقا ؛ لأنه قال : (المغيرات خلق الله).

وقال الإمام يحيى بن حمزة : هذا في ذات الرّيبة إذا فعلن ذلك للمحظور.

وأما إذا فعلته المرأة تحسنا (٢) لزوجها فجائز.

وقيل. وقد أشار إلى هذا النووي في شرح مسلم ، والرافعي في العزيز : وكذلك ثقب الأذن للأقراط ، وقد ذكر ثقب الآذان أبو مضر أنه يجوز.

ويلحق بالوشر ونحوه ما يفعل في الخد من الشرط للزينة.

وأما جعل الشاة مقابلة ، أو مدابرة ، أو شرقاء ، أو خرقا بما يفعل في أذنها فلا يبعد كراهة ذلك (٣) ، وقد ورد النهي عن التضحية بهذه.

وقال بعض المفسرين : معنى تغيير خلق الله أي : تغيير ما خلق الله

__________________

(١) الكشاف (١٥٦٤ ـ ٥٦٥).

(٢) وفي نسخة (تحسينا).

(٣) ولا يبعد أن يكون مراده بها الحظر. (ح / ص).

٤٩٧

لأجله من التحليل والتحريم ، فيدخل تغيير كل محرم بإباحته ، وكل محلل بتحريمه ، وهذا مروي عن أبي مسلم ، فيدخل في هذا النهي عن تحريم الحلال ، وقد ذكر الحاكم ، والزمخشري : أن من حرم المباح كان آثما.

قوله تعالى

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧]

النزول :

قيل : نزلت في شأن أم بحر (١) ، مات عنها زوجها أوس بن الصامت ، وعصبته رجلان من الأنصار ، فأخذا المال ، فأخبرت بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت ، وقيل : كان الرجل في الجاهلية يضم إليه اليتيمة هي ومالها ، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال ، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها.

وقوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) معطوف على اليتامى ، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمر ، دون الأطفال والنساء.

وعن البراء بن عازب : آخر آية نزلت : (وَيَسْتَفْتُونَكَ) وآخر سورة نزلت براءة ، والمعنى : يسئلونك أيها الرسول عن اليتامى ما الواجب لهم؟

__________________

(١) تقدم في تفسير قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) أن زوجة أوس بن الصامت اسمها أم كجة ، ومثله هنا وفيما تقدم في البغوي ، ولم يذكر أم بحر. فينظر. تمت في البغوي : (هذه الآية في بنات أم كجة وميراثهن ، وقد مضت القصة في أول السورة في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية. (ح / ص).

٤٩٨

فقال تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) أي : يبين لكم ، وقوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي : ويبين ما يتلى عليكم في الكتاب في أمر اليتامى ، وهو قوله في النساء : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] فالتييين من الله تعالى ومن المتلو ، وقيل : المعنى ويسألونك عما يتلى عليهم.

قال جار الله (١) ويجوز أن يكون قوله : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) جملة معترضة ، وأن (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مبتدأ خبره (فِي الْكِتابِ) ، وأراد اللوح المحفوظ ، وذلك تعظيما للمتلو ، ويجوز أن يكون قسما أي : يفتيكم ، وأقسم بما يتلى في الكتاب ، والإضافة في (يَتامَى النِّساءِ) بمعنى : من ، مثل سحق عمامة (٢).

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) قيل : هو معطوف على (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) والمعنى : يفتيكم في (يَتامَى النِّساءِ) وفي (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) وفي (وَأَنْ تَقُومُوا) فيكون محله الجر ، ويجوز أن يكون محله النصب ، بمعنى : ويأمركم أن تقوموا ، ويجوز أن يكون خطابا للأوصياء أو للأئمة.

وقوله : (ما كُتِبَ لَهُنَ) فيه أقوال للمفسرين :

الأول : أن المراد ما فرض الله لهن من الميراث ؛ لأنهم كانوا لا يورثوهن ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومجاهد وإبراهيم ، وابن زيد

وقيل : ما كتب لهن من الصداق عن عائشة ؛ لأنهم كانوا لا يوفون لليتامى اللائي يكون عليهن صداقا ، وهذا قول أبي علي ، وقيل : المهر

__________________

(١) في الكشاف : ويجوز أن يكون (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مبتدأ و (فِي الْكِتابِ) خبره على أنها حملة معترضة بإلخ .. والمؤلف أخذ المعنى.

(٢) الكشاف (١ / ٥٦٧).

٤٩٩

والنفقة ، وقيل : الذي كتب الله لهن من النكاح في قوله تعالى في سورة النور : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢]

وقوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) يحتمل أن المعنى : ترغبون بأن تنكحونهن لجمالهن ، وهذا مروي ابن عباس ، وعبيدة ، ويحتمل : وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن ، وهذا مروي عن الحسن ، وعائشة.

قال جار الله : وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر فإن كانت جميلة غنية قال : زوّجها غيرك ، والتمس لها من هو خير منك ، وإن كانت دميمة ولا مال لها قال : تزوجها فأنت أحق بها (١).

ولهذه الآية ثمرات هي أحكام :

الأول : أنها دالة على جواز نكاح الصغيرة ؛ لأن اليتيم : الصغير الذي لم يبلغ ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يتم بعد حلم».

وعن الأصم : أراد البوالغ قبل التزوج ، وسماهن باليتيم لقرب عهدهن باليتم ، والأول أظهر ؛ لأنه الحقيقة.

قالوا : قد يطلق اسم اليتيم على البالغة ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تستأمر اليتيمة» والاستئمار لا يكون إلا من البالغة ، روي الحديث في (النهاية) ، وقد ورد قول الشاعر :

إن القبور تنكح الأيامى

النسوة الأرامل اليتامى

فسمي البالغات يتامى ؛ لانفرادهن عن الأزواج ، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له : يتيم ، يقال : درة يتيمة ، وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء :

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٦٧).

٥٠٠