تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

قالت الهدوية : حديث أبي سعيد محمول على أن الحديقة أقل من المهر ، وحديث علي عليه‌السلام محمول على أن الزيادة تبرع منها (١) ، لا أن الزوج امتنع أن يطلقها إلا بالزيادة ، والمؤيد بالله يقيس على سائر عقود المعاوضة.

قال في الكشاف : وروي أن امرأة نشزت ، فرفعت إلى عمر فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ، ثم دعاها ، فقال : كيف وجدت مبيتك؟ فقال : ما بت مذ كنت عنده أقر لعيني منهن ، فقال لزوجها : اخلعها ولو بقرطها ، قال قتادة : يعني بمالها كله.

قيل : وهذا أخذ من تمثيلهم ، وذلك قولهم : خذه ولو بقرطي مارية ، وهي مارية بنت أرقم بن ثعلبة ، وهي جدة عمرو بن هند ، كان لها قرطان من ذهب ، وكان فيهما درتان قيمتهما أربعون ألف دينار.

الحكم الثالث

هل الطلاق على العوض ، وهو الخلع طلاقا فيحسب في عدد الطلاق ، وتثبت فيه السنة والبدعة؟ أم يكون فسخا كالرضاع فلا يكون ذلك؟ فقال أبو العباس ـ تخريجا للهادي عليه‌السلام ، وهو أحد قولي الناصر ـ وأبو حنيفة ، والمنصور بالله ، وأحد قولي الشافعي ـ : إنه طلاق (٢) لدخوله في اسم الطلاق ؛ ولأن الفدية لا تغير حكمه ، ويكشف هذا خبر سعيد بن المسيب «جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلع تطليقة» وعن علي عليه‌السلام «إذا قبل الرجل من امرأته فدية فقد بانت منه بتطليقة ، وروي مثل قولنا عن ابن مسعود ، وعثمان.

__________________

(١) وفي هذا التأويل مخالفة لما خرجه المؤيد بالله للهادي عليه‌السلام ، من عدم جواز الزيادة ، ولو تبرعا

(٢) وهو اختيار الإمام المهدي عليه‌السلام في المتن.

٤١

وقال الباقر ، والصادق ، وأحد قولي الناصر ، وأحد قولي الشافعي ، وهو مروي عن ابن عباس : إنه فسخ ، وتعلقوا بقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ثم إنه تعالى ذكر الخلع عقيبه بقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) ثم قال : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا ، وهذا غير جائز

أجاب الأولون قالوا : إنه تعالى ذكر التطليقتين بقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وأراد بغير عوض ، ثم ذكر التطليقتين بالعوض بقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) فهذا تقسيم في الطلقتين.

ثم ذكر تعالى الثالثة بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) بعد التطليقتين بالعوض أو بغير عوض ، فيقولون : الآية بينت حكم الإفتداء في الطلاق ؛ لا أنه شيء غير الطلاق ، وظاهر إطلاقهم أن هذا الخلاف إذا اقترن بالطلاق عوض سواء جيء بلفظ الطلاق ، أو بلفظ الخلع (١).

قال في شرح الإبانة : من جعله طلاقا جعل عدتها ثلاثة أقراء ، ومن جعله فسخا جعله استبراء ماء بقرء واحد ، وهذا محتمل ، وعموم الآية يقضي بصحة الخلع من غير سلطان كما هو مذهبنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال الحسن ، وابن سيرين : لا يصح إلا بالسلطان.

وقوله تعالى

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٣٠].

__________________

(١) في الغيث ما يفهم ترتب الخلاف على لفظ الخلع ، فيحقق ، والله أعلم ، وهكذا في البيان حيث وقع بلفظ المخالعة ، أو المباراة.

٤٢

النزول

قيل : نزلت هذه الآية في عائشة (١) ، وقيل : في تميمة بنت عبد الرحمن القرظي ، وكانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي (٢) ، ابن عمها ، فطلقها ثلاثا ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزّبير (٣) البصري ، فجاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ، وإن ما معه مثل هدبة الثوب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك ، وكان أبو بكر يسمع ، فلبثت ما شاء الله تعالى ، ثم عادت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : إن زوجي مسّني (٤) ، فقال : كذبت في قولك الأول ، فلا نصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتت أبا بكر فاستأذنت فقال : لا ترجعي إليه ، فلبثت حتى مضى لسبيله ، فأتت عمر فاستأذنت فقال : لئن رجعت إليه لأرجمنك ، فإنه تعالى قد أنزل : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

ولهذه الآية ثمرات ، وهي أحكام :

الأول : أن الزوج يملك بعقد النكاح ثلاث تطليقات ، إذ لو ملك أكثر لكانت الثالثة في جواز الرجعة كالثانية في قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) يعني الطلاق الثالث.

الحكم الثاني : أن الطلاق الثالث يوجب تحريمها حتى تنكح زوجا

__________________

(١) عائشة : هي عائشة بنت عبد الرحمن القرظي ، وإنما الشك من الراوي في الاسم ، هل هي عائشة ، أو تميمة.

(٢) وفي التهذيب للنواوي : رفاعة بن سموأل ، وقيل : رفاعة بن رفاعة.

(٣) عبد الرحمن بن الزبير بن بلطي ، وهو بفتح الزاي ، وكسر الباء. تهذيب ، والخلاصة. وفي نسخة (البصري) وفي نسخة (النصري) و (النضري).

(٤) لفظ الكشاف (إنه قد كان مسني).

٤٣

آخر ، ويطلقها ، وتنقضي عدتها أخذا بقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨] وقوله : (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ). هذا شرط في إباحته ، لا في صحته بإجماع الفقهاء ، ذكر ذلك الحاكم ، وحدود الله هي أوامره ، ونواهيه.

قيل : أراد بالظن العلم ، قال في الكشاف : ذلك وهم من طريق اللفظ ؛ لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن علمت أنه يقوم ، ومن طريق المعنى ؛ لأن الإنسان لا يعلم ما في الغد ، وإنما يظن.

وقوله تعالى : (أَنْ يَتَراجَعا). قال الحاكم : يعني بنكاح جديد بإجماع أهل العلم ، وقوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ). أضاف النكاح إليها ، والنكاح تارة يضاف إلى الزوج ، وتارة يضاف إلى المرأة ، قيل : لكنه مجاز في حق المرأة إن حمل على الوطء ، فلهذا قال سعيد بن المسيب : مجرد العقد يحلها للأول ، وقال الجمهور : لا يحلها إلا الوطء ، لخبر عبد الرحمن بن الزبير ، ويحملونه على المجاز للخبر ، فيكون علم الوطىء من السنة ، وقد ذكره أبو علي ، وقيل : عرف من الكتاب ، وقوله : (تَنْكِحَ) للوطء (١) ، وقوله : (زَوْجاً). للعقد ، والعسيلة : هي لذة الجماع ، مأخوذ من حلاوة العسل ؛ لأن العسل يؤنث ويذكر ، وسواء أنزل أم لا ، وهذا قول الجمهور بأن الختانين إذا التقيا فذلك محلّ للأول.

وعن مالك : العسيلة الإنزال ، وذكر هذا في النهاية عن الحسن ، ويدخل في هذا ما ينطلق عليه الاسم ، وهو أن يقال : سواء نكحت حرا أو عبدا ، بالغا ، أو مراهقا ، مجبوبا أو لا. إذا لم يكن مستأصلا ، ولا بد في البكر من إذهاب عذرتها ، وسواء وطئت طاهرا أو حائضا ، محلة أو محرمة ، طائعة أو مكرهة ، نائمة أو يقظانة ، وكذا لو كان الزوج مكرها ، أو

__________________

(١) حقيقة.

٤٤

استدخلت ذكره وهو نائم ، وهذا مذهب العترة عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال مالك : لا يحلّ إلا وطء مباح ، يخرج وطء الحائض ، والصائمة ، والمحرمة ، ونحو ذلك ، فلو كانت ذمية وتزوجت ذميا لم يحلّلها للمسلم عند مالك (١).

خلافا لأبي حنيفة ، والشافعي ، والخلاف راجع إلى تسمية ذلك نكاحا أم لا.

قال مالك : ولا يحلّ إلا وطء غير البالغ ، وأما الفاسد نصا أو اجتهادا (٢) ، فقال الأخوان ، وأبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي : إنه لا يحلّ ؛ لأنه لا ينطلق عليه اسم النكاح في الشرع لعدم جري العادة به (٣) ، وأحد قولي الشافعي : إنه يحلّ.

وأما إذا شرط التحليل أو أضمره الزوج ففي ذلك خلاف ، فمن رأى أنه ينطلق عليه اسم النكاح ، قال : إنه يحلّ ، ومن رأى أنه منهي عنه من جهة لعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحلل والمحلل له ، وأن النهي يقتضي الفساد قال : إنه لا يحلّ ، لكن أبا حنيفة يقول : سواء أضمر أو شرط فإنه يحلّ ، لكن يكره مع الشرط

وعن مالك ، وسفيان ، والأوزاعي : لا يحلّ في الوجهين.

قال مالك : والعبرة بنية الزوج دون الزوجة ، أضمر أو شرط ، ولا يصح العقد

__________________

(١) لأن أنكحة الكفار عنده باطلة ، ذكره في الصعيتري.

(٢) إجماعا ، أو مختلفا.

(٣) ظاهر هذا التعليل يفهم أن النكاح حقيقة عرفية تعارفها أهل الشرع ، لا حقيقة شرعية ، فلينظر.

٤٥

وفي النهاية عن ابن أبي ليلى : النكاح صحيح ، لكن لا يحلّها ، والمؤيد بالله يقول : إنه يحلّ إن لم يؤقت.

وأبو العباس قال : لا يحلّ إن شرط (١) ، أما مع الإضمار فاتفق السادة أنه يحلّ ، وإن كره للحديث المأثور ، أنه قيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن فلانا قد تزوج فلانة ، وما نراه تزوجها إلا ليحلها؟ فقال : آشهد؟ قالوا : نعم ، قال : آصدق؟ قالوا : نعم ، قال : ذهب الخداع.

وقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها). وكذلك كل فرقة بموت أو فسخ.

الحكم الثالث : أن الزوج الثاني لا يهدم إلا الثلاث دون الواحدة والثنتين أخذا من قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). فأخبر أنه إذا طلقها ثلاثا لم تحل إلا بزوج ، ولم يفصل بين أن تكون قد تزوجت بعد الأولى والثانية أم لا ، وهذا قول عامة أهل البيت عليهم‌السلام ، والشافعي ، وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، وأبي هريرة ، وعمران بن حصين.

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : إذا هدم الثلاث هدم ما دونها ، وهو مروي عن ابن عباس ، وابن عمر ، قلنا : إنه هدم (٢) التحريم ، وهو لا يحصل إلا بها.

__________________

(١) فهو على وجهين أن يقول : إذا أحللتها فلا نكاح ، فهذا كنكاح المتعة ؛ لأنه مؤقت ، فلا يصح ، الوجه الثاني أن يقول : إذا أحللتها طلقتها ، فهذا لا يصح عندنا أيضا ، وهو مفهوم الأزهار ، لأنه قال : أو مضمر التحليل ، وهذا أحد احتمالي أبي طالب ، وهو قول أبي العباس ، والشافعي ، وقالت الحنفية ، والمؤيد بالله ، وأحد احتمالي أبي طالب أنها تحل ، ويجوز ذلك ، وهو بالخيار إن شاء طلق ، وإن شاء أمسك. غيث. وقوي الأخير القاضي عامر ، ولعل التقوية تستقيم فيمن تمترس الشرط وغيره ، والله أعلم. (ح / ص).

(٢) قلنا : إنه هادم للنص. أي : معارض للنص. الذي في البحر ، قلنا : الهدم مخالفة للقياس ، فقرر حيث ورد ، وإذا لم يهدمه يقويه. بل بتوقيف ، ولا يصح القياس إذ لا يؤمن كون الثلاث جزء من العلة. بحر.

٤٦

وقوله تعالى

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [البقرة : ٢٣١].

النزول

قيل : نزلت في ثابت بن يسار الأنصاري ، طلق امرأته حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ، ثم طلقها ، يفعل ذلك حتى مضت تسعة أشهر مضارة لها ، ولم يكن الطلاق محصورا (١) ، فنزلت.

وقوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) [البقرة : ٢٣١] قيل : كان الرجل يطلق أو يعتق ثم يقول : إني كنت لاغيا فنزلت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من طلق لاغيا ، أو أعتق لاغيا فقد جاز عليه).

والمعنى (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : شارفن ، وقاربن ؛ إذ لو انقضى الأجل فلا رجعة له.

وثمرة الآية : جواز الرجعة قبل انقضاء العدة ، واحتج الشافعي بأن السراح من الصرائح بهذه الآية.

قلنا : إنه أراد بالسراح إرسالها وعدم رجعتها ، لا أنه أراد طلاقا آخر ، وقد تقدم في قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أنه أراد بالسراح الطلاق ، وتدل على تحريم المضارة بالرجعة.

قيل : و (المعروف) القيام بأمر الله في حقها ، وعن ابن جرير بالإشهاد على الرجعة دون الوطء ، والتسريح بالمعروف أن لا يراجعها حتى تنقضي عدتها ، بل يترك الضرار.

__________________

(١) أي : محدودا بحد كما سبق في سبب نزول قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).

٤٧

وقوله تعالى

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٣٢].

النزول

قيل : نزلت في معقل بن يسار ، عضل أخته جميلة بنت يسار أن ترجع إلى زوجها الأول ، وهو عاصم بن عدي ، وكانت تحب ذلك ، وكان قد طلقها ، وأراد ردها ، فحلف أخوها لا أردها ، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معقل ، فزوجها ، وكفر عن يمينه ، هذا ما قاله الحسن ، وقتادة.

وقال السدي : نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري ، عضل بنت عم له ، ومنع من المراجعة ، وكانت تحب ذلك.

المعنى : قوله تعالى : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) يعني : انقضت عدتهن (١).

وقوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) قيل : الخطاب عام بمعنى : لا تمنعونهن ظلما عن التزويج ، بل يلزمكم تخليتهن.

وقيل : الخطاب للأولياء ، نهوا عن منعهن من التزويج.

وقيل : خطاب للأزواج ، يعني : إذا طلقها سرا ، فيظهر أنها زوجته كيلا تزوج ، أو لا يراجعها ضرارا فتطول العدة عليها كيلا تزوج (٢).

__________________

(١) وعن الشافعي رحمه‌الله : دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين.

(٢) ومثله في الحاكم ، ولفظ الحاكم ((فَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي : لا تمنعوهن ظلما عن التزويج ، وقيل : خطاب للأزواج يعني إذا طلقها في السر ، ولا يظهر طلاقها كيلا تتزوج غيره عليه فتبقى ـ فيبقين ـ لا ممسكات بإمساك الأزواج ، ولا مخليات تخلية المطلقات ، أو تطول العدة عليها).

٤٨

وعن أبي مسلم : الخطاب للولي والزوج ، والسبب في النزول يدل على أنه خطاب للأولياء ، لكن يلحق غيرهم بهم ، والعضل : المنع ، أنشد الأخفش :

ونحن عضلنا بالرماح نساءنا

وما فيكم عن حرمة هو عاضل

وأنشد أيضا لابن هرمة :

وإن قصائدي لك فاصطنعني

عقائل قد عضلن عن النكاح

أي : لا أمدح غيرك ، والعقيلة : خير مال الرجل ، وأصل العضل الضيق والشدة ، ولهذا يقال : داء عضال إذا اشتد ، وقال عمر : أعضلني أهل الكوفة لا يرضون بأمير ، ولا يرضاهم أمير ، قال أوس بن حجر :

وليس أخوك الدائم العهد بالذي

يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا

ولكنه النائي إذا كنت آمنا

وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

وقال الشافعي رضي الله عنه :

إذا المعضلات تصدينني (١)

كشفت حقائقها بالنظر

وفي أمالي أبي طالب عليه‌السلام : أن هذا البيت لعلي عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (إِذا تَراضَوْا) يعني : الخطّاب والنساء.

وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) قيل : في ذلك تقديم وتأخير ، التقدير : أن ينكحن أزواجهن بالمعروف ، والمعروف : ما يحتاج إليه النكاح من الشروط ، وقيل : بمهر المثل ، وسمي الخطاب بالأزواج ؛ لأنهم كانوا قبل ذلك أزواجا (٢).

__________________

(١) المشهور (تصدين لي)

(٢) الأوضح أن يقال : يستقيم المجاز هنا إما باعتبار ما كانوا عليه ، وإما باعتبار ما يؤولون إليه ، وفي اليسابوري حمله على الثاني. (ح / ص).

٤٩

وقوله تعالى : (ذلِكَ) ولم يقل : ذلكم ، قيل : أراد خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : إن ذا لما كان الكاف يستعمل معه كثيرا صار بمنزلة شيء واحد ، بخلاف قولك : أيها القوم هذا غلامك فلا يجوز. وقيل : إنها للقبيل (١).

وقد اقتطف من هذه الآية ثمرات منها :

النهي عن ضرار المرأة عن التزوج ، سواء كان المضار زوجا ، أو وليا ، أو غيرهما. ومنها : أن رضاء البالغة شرط ، لكن مع الثيوبة ذلك إجماع ، وأما إذا كانت بكرا ، والمزوج غير الأب والجد ، فذلك إجماع أيضا.

وأما الأب والجد ، فمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة : لا بد من رضاها خلافا للشافعي ، والآية واردة في البالغة الثيب ، والشافعي أخذ بالخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها (٢).

قال الشافعي : واستئذانه مستحب لهذا الخبر ، وللأب الإكراه ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرق بينها وبين الثيب ، قلنا : خبر جابر يعارض هذا ، وهو ما

__________________

(١) وفي نسخة (للتقليل).

(٢) لا يخفى ضعف الاستدلال بالحديث على أن للأب أن يكره البكر ، بل هو دال على أن لا بد من أمرها ، وذلك مناف للإكراه ، فتأمل (قاسم بن محمد الكبسي).

يمكن أن يقال : إذا عمل بخبر جابر ، جاء الجمع بين الخبرين لا المعارضة ، لأنه يحمل خبر جابر على أن البكر المذكورة فيه بالغة ، والخبر الأول محمول على أن البكر المرادة فيه بصيغة العموم صغيرة ، والثيب بالغة ، وعلق الحكمان فيه بالثيوبة والبكارة ، بناء على أن الغالب في الثيبات الكبر ، وفي الأبكار الصغر ، بخلاف ما إذا بقي عموم الخبر الأول على ظاهره ، فإنه يبطل خبر جابر ، وإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ، والله أعلم. (ح / ص).

٥٠

رواه جابر (أن رجلا زوج بنته ، وهي بكر من غير أمرها ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففرق بينهما).

وهل في الآية دلالة على اشتراط الولي؟ أو دلالة على أن لها أن تزوج نفسها؟

قلنا : أما اشتراط الولي فقد استدل بهذا أصحاب الشافعي على أن الولي شرط لأن قوله فلا تعضلوهن خطاب للأولياء ، فلو كان للمرأة أن تزوج نفسها لم يكن لعضله فائدة ، فلا ينهى عنه.

وأجاب أصحاب أبي حنيفة : بأن الخطاب إن كان للأزواج فلا دلالة ، وإن كان للأولياء ، أو مشترك الدلالة فالمراد بالعضل المنع.

وأما دلالتها على أن للمرأة أن تزوج نفسها فقد استدل أبو حنيفة على ذلك بأن قال : إن الله تعالى أضاف النكاح إليها ، بقوله : (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) وأضاف الرضاء إليها ، دون الولي بقوله : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) وكذا قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) فأضاف النكاح إليها ، وبقوله تعالى في سورة البقرة : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الأيم أحق بنفسها) وقد أجبنا بأن النكاح يضاف إلى الإمرأة ، وإن كان له شروط آخر فلا دلالة لهم.

وقوله تعالى : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) فإن من المعروف اعتبار شروط النكاح ، وأيضا فالمراد بقوله تعالى (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) هو التعرض للنكاح على الوجه الشرعي ، وأيضا فقد يقال : ناكحة بمعنى منكوحة ، كراحلة بمعنى مرحولة ، وإنما تأولنا بذلك لأنه قد ورد المنع صريحا ، وذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا تنكح المرأة المرأة ، ولا المرأة نفسها) وفي بعض الأخبار (فإن الزانية التي تزوج نفسها) والقياسات الشبهية لا حكم لها مع صريح الأخبار.

٥١

وأما دلالتها على عدم نقصانها من مهر المثل ، فقد قال بعض المفسرين : إن قوله تعالى : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أن ذلك مهر المثل ، وقد قال أبو حنيفة (١) : إن للأولياء الاعتراض عليها ومنعها إن رضيت بأقل من مهر المثل ؛ لأنه ليس من المعروف. وقوى ذلك إمام المذاكرين محمد بن سليمان بن أبي الرجال (٢) ، قال : لأن في ذلك غضاضة (٣) على الأولياء أن تزوج نفسها باليسير ، وعادة أهلها يعقدون بالكثير ، والذي حصله أبو طالب للمذهب ، وهو قول الشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد : أن لها ذلك من غير اعتراض للأولياء ، كبيع سلعتها باليسير (٤).

وقوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) استدل بعض الحنفية بهذا على أن الكافر غير مخاطب بالشرائع ، ورد بأن قيل : المعنى تخصيصهم بالذكر لأنهم أهل الانتفاع ، أو لأنهم أحق

__________________

(١) في بعض النسخ (وقد قال أبو حنيفة بهذا : إن للأولياء).

(٢) هو : محمد بن سليمان بن محمد بن أحمد بن أبي الرجال ، الصعدي الفقيه العلامة ، أحد المذاكرين المجتهدين أخذ عن الفقيه يحي البحيبح ، عاصر الإمام يحي ، ولما وصلت دعوة الإمام يحي إلى صعدة ، قام خطيبا وحث الناس على طاعة الإمام يحي ، وقال : والله ما أعلم من علي عليه‌السلام إلى الآن أعلم منه ، وله مؤلفات منها : الروضة ، وكان يحفظ اللمع غيبا ، وكان زاهدا ورعا ، قال الفقيه يوسف : اطلع بعض تلامذته الفقيه محمد عليه‌السلام حاله وأهله ، فوجدهم في شدة وانقطاع ، فرفع أمرهم إلى صاحب الدولة ، فأرسل إليه بحمل من الطعام ، وطرح على باب داره أياما ، وهو يقول : معاذ الله من ذلك ، ورد الجمال الطعام إلى الأمير ، وله أخوة كلهم علماء ، وسماه السيد صارم الدين إمام المذاكرين ، توفي سنة ٧٣٠ ه‍ وقبره عند جبانة صعدة.

(٣) وقواه في البحر ، وكذا عن القاضي عامر.

(٤) وكلو أبرأت منه. ذكر معناه في البحر. (ح / ص).

٥٢

بالاتعاظ ، ولا دلالة له مع الاحتمال (١) ، وأبو حنيفة يقول : حق الولي ثابت على الصغيرة ، وله اعتراض الكبيرة من التزوج بغير كفىء.

وقوله تعالى

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة : ٢٣٣]

المعنى

قوله تعالى (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) قال الأصم : أراد الوالدات المطلقات ؛ لأنه تعالى لما بين افتراق الزوجين بالطلاق ـ بين حكم الأولاد الصغار ، وبين حكم الرضاع ، ومدته ، وما يحتاج إليه من التربية ، وعن أبي علي : هو عام في جميع الزوجات. وقوله تعالى : (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) قيل : هو على ظاهره خبر ، وتقديره : حق الوالدات أن يرضعن.

وقيل : لفظه [لفظ] (٢) الخبر ، والمراد به الأمر ، وأريد تأكيد الأمر ، وجعل تعالى الأمر للوالدات ، وذلك على أحد وجهين إما أن يكون أمر ندب ، وإما أن يكون أمر وجوب ، وذلك حيث لا يقبل الولد إلا ثدي أمه ، أو لا يوجد له ظئر ، وإلا فالوجوب (٣) على الأب أن يتخذ له ظئرا.

__________________

(١) وفي نسخة (مع الإجمال).

(٢) ما بين القوسين ثابت في بعض النسخ ، وساقط في بعض.

(٣) في نسخة ب (وإلا فالواجب على الأب).

٥٣

وقوله تعالى (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) هذا تأكيد للحولين ، مثل قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) [البقرة : ١٩٦] لئلا يظن التساهل ، وأنه أراد أكثر الحولين ، فعبر بالحولين ، كقولك : أقمت عند فلان حولين كاملين ولم تستكملهما.

ثم اختلف العلماء ، فقال سفيان ، وابن جريج ، وغيرهما : هذا لكل مولود ، أن له في الرضاع حولين ، إلا أن يتراضيا بأقل من ذلك ، وهو رواية عن ابن عباس.

وقال ابن عباس في الرواية الظاهرة : ليس ذلك لكل مولود ، ولكن إن ولدت لستة أشهر فحولين ، وإن ولدت لسبعة فثلاثة وعشرين [شهرا] وإن ولدت لتسعة أشهر فأحدا وعشرين [شهرا] يطلب بذلك تكملة ثلاثين شهرا ، في الحمل والفصال. وقيل : إنما ذكر الحولين لبيان اللبن الذي يحرم إن حصل الرضاع من الراضع في الحولين حرم وإلا فلا ، وروي هذا عن علي عليه‌السلام ، وابن مسعود ، وابن عباس (١) ، وابن عمر ، وعلقمة ، والشعبي ، والزهري.

وقوله (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) هذا بيان لمن توجه عليه الحكم ، وعن قتادة ، والربيع : فرض الله حولين كاملين ، ثم أنزل الرخصة بعد ذلك ، فقال : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) يعني : أن هذا منتهى الرضاعة ، وليس فيما دون ذلك وقت محدود ، وإنما هو على قدر صلاح الصبي.

وقيل : اللام في قوله : (لِمَنْ أَرادَ) متعلقة ب (يُرْضِعْنَ) أي : يرضعن لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد ، بأن يتخذ له ظئرا ، إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه ، فذلك مندوب لها ، ولا تجبر عليه

وقوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) يعني : الطعام ، والإدام ،

__________________

(١) في القول غير الأشهر. (ح / ص).

٥٤

والكسوة (بِالْمَعْرُوفِ) أي : على قدر الإيسار والإعسار ، وإنما قال تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) ولم يقل : وعلى الوالد ، قال الزمخشري : ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم ؛ لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينتسبون إليهم ، لا إلى الأمهات ، وأنشد للمأمون بن الرشيد (١) :

لا تزرين فتى من أن يكون له

أم من الروم أو سوداء دعجاء (٢)

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللأبناء آباء

وقد تضمنت هذه الجملة أحكاما هي ثمرات الآية الكريمة :

الأول : وجوب إرضاع الأولاد مدة الرضاع ، فمنتهاها الحولان ، ويجوز الاقتصار على حسب الصلاح ، ثم إن الوجوب على المولود له وهو الأب دون الأم ، إلا أن لا يقبل إلا ثديها ، أو لا توجد ظئر سواها.

الثاني : أن الرضاع متى وجد في الحولين حرّم ؛ لأن الآية قد فسرت بذلك.

وروي ذلك عن علي عليه‌السلام ، وغيره ، وهو لا يقوله عليه‌السلام إلا توقيفا ؛ لخصوصيته بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعصمته.

الثالث : جواز أخذ الرزق ، وهو الأجرة في مقابلة الرضاعة ؛ لأنه تعالى عقب ذلك بالرضاعة ، لكن إن حملت الآية على أن ذلك بعد الطلاق البائن فهو إجماع ، وإن حملت على العموم من غير فرق فهذه مسألة خلافية ، هل يجوز أن يستأجر الزوجة على إرضاع ولده منها أم لا؟ منع ذلك أبو حنيفة ، والوافي ، والقاضي زيد ، قال الوافي : وكذا لا يجوز استجار

أمة الزوجة ، وكذا المطلقة رجعيا في عدتها.

__________________

(١) القائل بعض الشعراء.

(٢) وفي بعض النسخ (... أو سوداء عجماء)

.

٥٥

وقال المؤيد بالله : والشافعي ، وحكاه أبو طالب عن الهادي عليه‌السلام ـ إن ذلك جائز ، وعلل المنع بأن ذلك يؤدي إلى أنها تستحق عوضين لمنافعها بالزوجية ، وبالرضاع ، وهذه العلة يلزم منها المنع من جواز إجارتها على إرضاع ولده من غيرها ، وعلى الخبز والطبيخ ، وقد ذكر ذلك في بعض كتب الحنفية. وقيل : هذا جائز وفاقا. وحجة من أجاز عموم الأدلة ، وقوله تعالى في سورة الطلاق : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [الطلاق : ٦] وهذه الآية.

والمانعون يقولون : ذلك في المطلقات (١).

وقوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) قيل : أراد نفقة الزوجية ، ونفقة العدة ، وقيل : أجرة الرضاع ؛ لأنه رتبه عليه.

ثم إنه يتفرع على هذا الحكم فائدة ، وهي جواز استئجار الظئر بنفقتها ، وكسوتها ، فجوز ذلك أبو حنيفة في الظئر خاصا بهذه الآية. وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والقاضي زيد للمذهب : لا بد أن تكون الأجرة معلومة ، وهو قول الناصر ، ويقولون : أراد نفقة الزوجية ، والعدة بقوله : (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) أو أن ذلك كان مقدرا ، وأجازه مالك في الظئر ، وفي غيرها.

واختلف المحصلون في جواز أخذ الأجرة على إرضاع اللباء ، فجوزه أبو جعفر ، ومنعه ابن أصفهان (٢) ؛ لأنه لا يعيش إلا به ، فتعين

__________________

(١) لعله يريد البائن ، وكأنهم يقولون : لا نفقة للبائن في العدة. تمت. أبو حنيفة يقول بوجوب النفقة في المطلقة بائنا ، وأظن أصحابنا كذلك ، فليحقق. (ح / ص).

(٢) ابن أصفهان هو : علي بن أصفهان بن علي الديلمي الزيدي ، الشيخ العلامة ، كان من أصحاب الناصر ، كان هذا الشيخ من أهل العلم الغزير ، والمقالات في الفقه ، ونقل المذهب والتخريجات ، وكان من الزهد والورع على حد عظيم ، قال المنصور بالله : من ورعه أنه هاجر إلى خراسان لفتوى أفتى بها أبو مضر : أنه يجوز مهادنة الباطنية.

٥٦

عليها (١) ، فلا تأخذ عوضه ، وهو المفهوم من كلام اللمع.

وقوله تعالى : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) بيان أن ذلك الإنفاق بالمعروف ، وأنه على قدر اليسار والإعسار.

وقوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قرئ (لا تضارُّ) بالرفع عطفا على (لا تُكَلَّفُ) فيكون خبرا ، وهو يحتمل البناء للفاعل ، وأنها الضارة لغيرها ، والبناء للمفعول بمعنى : أن الغير ضر الوالدة ، وهذه قراءة ظاهرة ، ويكون الأصل على البناء للفاعل ، (تضارر) بكسر الراء ، وعلى الثاني (تضارر) بفتحها ، وقرأ أكثر القراء (لا تُضَارَّ) بالفتح على النهي ، وأصله (لا تضارر) فأدغمت ، وفتحت للخفة ، وفيها قراءة آحادية ، قرأ الحسن بالكسر ، (لا تضارِّ) على النهي ، وهو محتمل للبنائين أيضا ، وقرئ (لا تضاررْ) بالجزم ، وفتح الراء الأولى ، وكسرها ، وقرئ بسكون الراء مع التشديد والتخفيف ، والمعنى : لا تضارر الأم زوجها وتعنفه بطلب ما ليس بعدل في الرزق والكسوة ، أو تشغل قلبه بالتفريط في الولد ، أو تقول له بعد إلقائها الولد : اطلب له ظئرا ، وما أشبه ذلك ، أو لا يحصل ضرر على الأم من الأب ، فلا يضر مولود له ، وهو الأب (بِوَلَدِهِ) أي بسبب ولده ، فلا يمنعها شيئا مما يجب من الرزق ، ولا يأخذه منها ، وهي تريد إرضاعه ، ولا يكرهها على الإرضاع ، وهكذا يقدر المعنيين إن بني للمفعول.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون (تُضَارَّ) بمعنى : تضر الولد ، فتسيء غذاءه ، أو تدعه ، وكذلك الأب لا يضر بالولد.

قال في التهذيب وغيره : وتكون الباء زائدة.

وقوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) يعني : من الرزق ، والكسوة

__________________

(١) وهو المختار ، ولذا قال في الأزهار : ولها طلب الأجرة لغير أيام اللباء. (ح / ص).

٥٧

للأم. وقيل : من ترك المضارة ، والأول هو الظاهر ، ولكن اختلف أهل التفسير في تفسير الوارث من المراد به؟ فقيل : أراد وارث الأب ، وهو هذا المولود ، فعليه رزق الأم وكسوتها ، كما كان على والده إن كان له مال ، وإلا أجبرت الأم ، ولا يجبر على نفقة الصبي غير الأبوين ، وهذا قول مالك ، والشافعي.

وقيل : أراد وارث الصبي ، والمعنى : أن مؤنة هذا المولود على وارثه ، الذي لو مات لورثه ، فيجب على الوارث مثل الذي كان على والد المولود ، لكن اختلفوا فمذهب أهل البيت عليهم‌السلام : أيّ وارث كان ، وإن كثروا كان ذلك على قدر الإرث ، وهذا قول قتادة ، والحسن بن صالح ، وابن أبي ليلى ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، ذكر ذلك في الثعلبي ، وهذا إذا لم يكن للصبي مال

وقال أبو حنيفة : المراد من كان ذا رحم محرم كالأخ ، والعم ، لا ابن العم ، وهذا قول أبي يوسف ، ومحمد. وقيل : إنما تجب المؤنة إذا لم يكن له مال على عصبة الولد من الرجال ، دون النساء ، كالأخ والعم ، دون الأخ من الأم ، ونحوه ، وهذا قول عمر ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسفيان ، وإبراهيم.

وقيل : أراد وعلى وارث الأب إذا مات من كسوة الأم ونفقتها مثل الذي كان على الميت ، وهذا قول قبيصة بن ذؤيب.

قال الحاكم : والأصح وارث الولد (١).

وقيل : أراد ب (الْوارِثِ) الباقي من أبويه ، وهذا مروي عن سفيان وغيره ، لأنه قد يعبر عنه بالوارث ، ولهذا جاء في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (اللهم أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا).

__________________

(١) وهذا هو المختار للمذهب كما تقدم.

٥٨

ولهذه الجملة ثمرات منها : تحريم المضارة المذكورة في الإنفاق ، وفيما يتعلق بالولد ، وأن للأم حقا في إرضاع الولد ، إلا أن تكره لم تجبر على ذلك ، حيث لا يتضرر الصبي ، ومنها لزوم الأب مؤنة الصبي لما يتعلق بنفسه ، ولما يحتاج من أجرة الظئر ، ولا فرق بين أن يكون الأب مسلما ، أو كافرا لعموم الآية ، ولكن إن كان الصبي فقيرا فلا إشكال في ذلك ، وإن كان غنيا فمذهب الهادي عليه‌السلام : تجب مؤنته على أبيه ما دام صغيرا ، لقوله تعالى : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) وإذا أنفق من مال ولده فقد ضره ، لقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ولم يفصل بين أن يكون للصبي مال أم لا.

ولقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فلو لا أن النفقة لازمة له لم يخش الإملاق ، وللخبر الوارد فيمن قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : معي دينار ، فقال : أنفقه على نفسك) إلى أن قال : (أنفقه على ولدك) (١). وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : إذا كان الولد غنيا فلا شيء في مال أبيه ، وهذا قول الأكثر ، وصحح للناصر ، وتخص العمومات المذكورة بالقياس على البالغ ، ولا يصح القياس على الزوجة (٢) ؛ لأن الأب لو كان معسرا [ولا يمكنه التكسب] (٣) والصبي موسرا لسقطت على الأب ، ولأن نفقة الولد لو قسناها على نفقة الزوجة لم يسقط ذلك بالبلوغ ، فإن النفقة بعد بلوغ الصبي في ماله إجماعا.

ومنها : نفقة القريب المعسر ، فإنها تجب على قريبه الموسر ، وهذا

__________________

(١) ولعل سقوط وجوب الإنفاق على الوارث غير الأب في حق الصبي الغني مخصوص بالإجماع. والله أعلم. (ح / ص).

(٢) قوي للقائلين بأن الصبي إذا كان موسرا فلا شيء في مال الأب ، إذا قال الأولون : يقاس الولد على الزوجة في وجوب النفقة مع الاعسار ، وعدم إمكان التكسب.

(٣) ما بين القوسين ثابت في بعض النسخ.

٥٩

مذهبنا ، ودليل ذلك قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) فجاء بالألف واللام ، وهما للاستغراق ، فعم كل وارث ، وفي ذلك خلاف مالك ، والشافعي أن النفقة لا تجب لما عدا الآباء والأبناء.

وقال أبو حنيفة في نفقة الأقارب : يشترط مع الفقر أن يكون المنفق عليه ذا رحم محرم ، أو صغيرا أو أنثى ، أو عاجزا عن التكسب ، لأنها وجبت لدفع الضرر.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) إن قلتم : إنه عام لزم أن تنفق الزوجة على زوجها ، والمعتق على العتيق؟ قلنا : خرج ذلك بالإجماع.

فإن قيل : إن أبا حنيفة قال في معسر له خال وابن عم موسران : إن النفقة على الخال ، وليس هو بوارث ، وإن الوارث الموسر لا يأخذ إلا بعض المال ، حيث معه معسر في درجته ، وقد صححتم أن النفقة جميعها عليه (١) ، خلاف قول المنتخب.

قلنا : أما نحن فنقول : ليس المعتبر تحقيق الإرث ، فإن من الجائز موت المنفق قبل المنفق عليه ، وإنما المعتبر أن يكون هو في الحال وارثا لو مات المعسر.

فإن قيل : إذا عللتم بهذا لزم أن تستوي النفقة على الموسرين ، وإن اختلف ميراثهم ، قلنا : النفقة على قدر الإرث ، إلا أن يحصل معنى المضارة ؛ لأنها وجبت للمواساة ، ودفع المضارة.

ولو قلنا : إن الموسر لا ينفق إلا بقدر إرثه ، فحاجة المواساة ، ودفع المضارة وجهه باق.

__________________

(١) وهذا هو المذهب.

٦٠