تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

فعلى هذا يكون التقدير : فإن لم تجدوا ماء ويكون عاما ، وقيل : الجزاء هو جواز التيمم لمن عدم الماء راجع إلى الثلاثة المتأخرين لا إلى المرضى ، ويكون التقدير : إن كنتم مرضى فتيمموا ، وإن كنتم على سفر أو غيره فلم تجدوا ماء فتيمموا ، ويكون المراد أن المرض يضر إمساس الماء لصاحبه كالجدري والقروح والجروح ونحو ذلك ، وهذا قول عامة العلماء من الآئمة والفقهاء ، خلافا للحسن ، وعطاء ، فقالا : إن المريض الواجد للماء لا يتيمم وإن هلك ؛ لقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) وهذا واجد.

قلنا : إنا نقدر في الآية تقدير الخشية أي : وإن كنتم مرضى فخشيتم الماء ، وإنما قدرنا ذلك لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقوله تعالى في سورة النساء : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ولحديث عمرو بن العاص أنه قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يتيمم ، وقال : سمعت الله تعالى يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وأقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ولحديث صاحب الشجة وهو ما روى جابر قال : «كنا في سرية فأصاب رجلا منا شجة في رأسه ، ثم احتلم فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات ، فلما أخبر عليه‌السلام بذلك فقال : «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا ، فإنما شفا العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، أو يعصب على جرحه بخرقة ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده» ، فدل

__________________

(١) سبق تخريجه. وفي نسخة (إني سمعت الله يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

٣٨١

الخبر أنه (١) يتيمم للخشية مع وجود الماء ، فحملنا الآية على تقدير الخشية في المرضى (٢) ، لكن هذا الخبر يدل أنه يجمع بين التيمم والغسل (٣) ، كما قال الشافعي والمنصور بالله ، ويدل على أنه يمسح على الجبائر ، وقد ذكرنا المخرج عن ذلك (٤).

فإن خشي المريض الضرر فقط جاز له التيمم عند عامة الأئمة وأبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي ؛ لعموم قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) وأحد قولي الشافعي : لا يجوز إلا لخشية التلف ، ولا يلزم إذا لم يخش إلا مجرد التألم أن يجوز له التيمم ؛ لأنه مريض ، أو لم يخش مضرة ولا تألما ، فإن التيمم لا يجوز ؛ لأن المضرة مقيسة على التلف إذ كل واحد مضرة ؛ لا أنه يجوز لمجرد المرض.

وعن المنصور بالله : جوازه لمجرد التألم ، وأدخل ذلك في المضرة.

وقوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) تعلق (أبو حنيفة) في رواية ، وزفر : أن عادم الماء في الحضر لا يتيمم ولا يصلي حتى يتمكن من الماء.

قلنا : لا يصح التعلق بذلك ؛ لأن قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) يرجع إلى الجمل المتقدمة ، وهي المرض ، والسفر ، والجائي من الغائط ، والملامس.

وقوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) كناية عن الحدث ، وقوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قيل : هذا كناية عن الجماع ، وهذا

__________________

(١) في نسخة (ويعصب على جرحه) وفي أبالتخيير ، وفي شرح التجريد (أو يعصب على جرحه) بالتخيير

(٢) ولا يستقيم إلا عليه ، وعليه المذهب. (ح / ص).

(٣) هذا بناء على أن الرواية (ويعصب) وليست بالتخيير.

(٤) قد تقدم هذا في سورة البقرة في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

٣٨٢

مروي عن علي عليه‌السلام وابن عباس ، والحسن ومجاهد ، وقتادة ، وأبي علي.

وقيل : هو كناية عن اللمس باليد عن ابن مسعود ، وابن عمر ، والشعبي ، والنخعي ، وعطاء ، لكن ابن مسعود ، وابن عمر لم يجوزا للجنب التيمم.

قال الحاكم : وقد زال خلافهما وفي انتقاض الوضوء بالملامسة أقوال :

الأول : إجماع أهل البيت أن الملامسة لا تنقض ، وذلك قول طائفة من الصحابة.

الثاني : ينقض إذا مس بشرة الرجل بشرة المرأة بيد أو بغيرها ، وهذا قول ابن مسعود ، والزهري ، وربيعة.

الثالث : ينقض اللمس باليد لا بغيرها ، وهذا قول الأوزاعي.

الرابع : قول مالك والليث وأحمد وإسحاق : ينقض إن لكن لشهوة لا لغيرها.

الخامس : قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف : ينقض إن لمس الفرج هذا إذا لم يكن ثم حائل ، ومع الحائل لا ينقض عند الأكثر ، وعن الليث ، وربيعة : ينقض ، قال مالك : إن كان رقيقا ، وللشافعي قولان في لمس الصغيرة والعجوز والمحرم وكذا في الملموس قولان (١) :

لكن الوجود في حق المريض أنه لا يضره استعماله لضعف حركته ،

__________________

(١) قال في خاشية النسخة (ب) : هذا منقول من قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) إلو قوله : بعد ذلك يرجع إلى الجمل المتقدمة وهي المرض والسفر والجائي من الغائط. وقد أصلحنا اللفظ عليه ، حتى يستقيم الكلام.

٣٨٣

فإن ضره أو لم يتمكن لعدم حركته فهو غير واجد ، والعدم في المسافر : بعد الماء عنه ، وخصه بالذكر لأنه الذي يعدم في الغالب وجمع بين هاتين الرخصتين وبين السببين الموجبين ؛ لأنه تعالى أفرد المرضى وأهل السفر لكثرة ذلك فبين الرخصة.

ثم بين تعالى السببين الموجبين عموما لبعد الماء ، أو تعذر الوصول إليه لخوف عدو أو سبع ، أو خشية مضرة ، ولعموم الأخبار نحو قوله عليه‌السلام : «الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء».

لكن يتعلق بذكر الوجود فروع.

منها : ـ أنه لا يطلق عليه أنه غير واحد إلا بعد الطلب.

ومنها : في قدر المسافة التي يسمى فيها واجد ، وفي ذلك تقديرات أهل الفقه هل بالميل ، أو بإدراكه في الوقت ، أو لوجوده في موارد البلد ، ومرجع الخلاف إلى إطلاق اسم الوجود على من.

ومنها : إذا وهب له ثمن الماء هل يلزمه قبوله؟

قلنا : قال الناصر ، ومالك ، وأحد قولي الشافعي : يجب قبوله لأنه واجد من حيث أن واجد المثمن ، وعند القاسمية وأبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي : لا يلزم ؛ لأن المنة من جملة المضار ، فلما أبيح التيمم للمضرة فكذا هنا وهبة نفس الماء لا مضرة فيها ، فإن قدرت المضرة بلحوق المنة لم يلزم القبول ، وجاز التيمم ، وهو المذهب.

ومنها : إذا طلب منه فوق ثمن المثل ، وهو لا يجحف بحاله فهل يجب عليه ؛ لأنه يطلق عليه اسم الوجود أم لا؟

فمذهب القاسم ، ويحيى ، والناصر عليهم‌السلام أنه يجب عليه ذلك ؛ لأنه يطلق عليه اسم الوجود ، كما لو كان الماء معه وقيمته فيها كثيرة.

٣٨٤

وقالت الفقهاء والمنصور بالله : لا يجب كما إذا خشي الإجحاف ؛ لأن في ذلك مضرة.

ومنها : إذا كان ناسيا للماء وتيمم ، فهل تيممه صحيح فلا إعادة عليه؟ أم عليه الإعادة؟

تحصيل السادة والناصر وأبي حنيفة : أنه يصح ، وشبهوه بالعادم لأنه لا يكلف ما لا يعلم.

وقال المؤيد بالله ، وأبو يوسف ، والشافعي : إنه يعيد ؛ لأن الوضوء واجب عليه فلا يسقط بالنسيان ، كالركوع والسجود ، وستر العورة.

الحكم الخامس

يتعلق بقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) في ذلك فروع :

الأول : ما هو الصعيد؟

فقال الزجاج : إنه وجه الأرض ، ترابا كان أو غيره ، ولو كان صخرا لا تراب عليه ، وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك.

وقال عامة الأئمة والشافعي : لا يجوز بما لا يعلق باليدين ؛ لوجهين :

الأول : أنه قد روي عن علي عليه‌السلام وابن عباس : أن الصعيد هو التراب وذلك حجة ؛ لأنهما إن قالا ذلك لغة فهما إمامان من أئمتها ، وإن قالا ذلك شرعا كان أولى.

الثاني : أنه تعالى قد قال في سورة المائدة : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ومن للتبعيض. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التراب كافيك».

قالوا : إن من تكون مشتركة للتبعيض ، والابتداء ، وبيان الجنس ، وهي هاهنا لبيان الجنس بدليل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تيمم فضرب على الحائط مرتين ، ضربة للوجه وضربة لليدين ، وقد قال عليه‌السلام : «جعلت لي الأرض لي

٣٨٥

مسجدا ، وترابها طهورا» (١) وهذا من خصائص هذه الأمة وقولكم : الصعيد التراب فلا يتيمم بغيره استدلال بدليل الخطاب.

قلنا : إذا ثبت أن الصعيد هو التراب احتاج غيره إلى دليل ، مع أنا نقول به (٢).

وقال الثوري والأوزاعي : الصعيد : الأرض وما يتصعد على وجه الأرض.

الفرع الثاني في تفسير الطيّب

فقال الأكثر : هو أن لا يكون نحسا ؛ لأن النحس لا يطلق عليه اسم الطيب ، وجوزه الأوزاعي ، وكذلك الذي لا ينبت لا يطلق عليه اسم الطيب ؛ لقوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) وقد فسر بعضهم الطيب في الآية به.

الحكم السادس

يتعلق بقوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) والكلام في أمرين وهما : بيان المسح ، وبيان الممسوح :

أما بيان المسح ففي ذلك أقوال :

الأول : أن الواجب ضربتان ، ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام وجابر ، وابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، وأبي علي ، وهذا قول عامة الأئمة وأبي حنيفة ، والشافعي ؛ لأن المسح مطلق في الآية.

__________________

(١) مع أنه يمكن أن يكون هذا الحديث حجة على المخالف فإنه يذكر الرواية ، ولا يحذف (ترابها) وهو نص في المقصود.

(٢) أي : نقول بدليل الخطاب ، لكن هذا هنا مفهوم لقب فلا يعمل به ، فالجواب هو الأول ، أذ مفهوم اللقب غير معمول به ، فكان الأنسب حذف مع أنا نقول به.

٣٨٦

وجاء في حديث أسلع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا أسلع ، قم فتيمم صعيدا طيبا ضربتين ، ضربة لوجهك ، وضربة لذراعيك ، ظاهرهما وباطنهما» وكذلك غيره من الأخبار.

وقال سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ، وإسحق ، وأحمد : ضربة واحدة لهما.

وروي أن الشافعي كان يذهب إلى هذا ، وهذا مروي عن الصادق والإمامية ؛ لإطلاق الآية.

وعن ابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح : ضربتان ، كل ضربة للعضوين معا.

وعن ابن سيرين : ثلاث ضربات ، ضربة للوجه وضربة للكفين ، وضربة للذراعين.

وعن القاسم عليه‌السلام : ثلاث ضربات : ضربة للوجه ، وضربة لليد اليمنى وضربة لليد اليسرى.

قال بعض أصحاب الشافعي : لا عبرة بالعدد ، والواجب أن يجعل على يديه من التراب ما يكفي الوجه واليدين.

وأما قدر الممسوح فثلاثة أقوال :

الأول : إلى المرفقين كالوضوء ، وهذا مروي عن ابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، وأكثر الأئمة ، والفقهاء ؛ للأخبار المصرحة بذلك ، فكانت مبينة للآية.

وقال الناصر : وقول للقاسم ، ورواية لمالك ، والإمامية إلى الرسغين ؛ لأنه الذي يقطع منه السارق ، فحمل مطلق الآية على ذلك ، وهو مروي عن عمار ، ومكحول.

٣٨٧

وقال الزهري : إلى الآباط ، وظاهر مذهب الأئمة ، وعامة الفقهاء وجوب استيعاب الممسوح.

قال في (التهذيب) : لأبي حنيفة روايتان في وجوب الاستيعاب ، ولل : شافعي قولان.

أما التخليل وإيصال باطن الأنف ونحو ذلك فخارج بالإجماع (١).

قوله تعالى

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء : ٤٦]

دل هذا على قبح تحريف الحق ، وأنهم قد حرفوا وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ما أريد بالتحريف.

فعن ابن عباس : أنها نزلت في ناس من اليهود ، وكانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسألونه ويخبرهم ، فإذا انصرفوا حرفوا كلامه (٢) ، وقيل :

يحرفون لفظ التوراة وذلك نحو تحريفهم اسمر ربعة (٣) ، ووضعوا بدله آدم طوال ، ونحو تحريفهم الرجم ، بوضعهم الحد بدله (٤).

قال الحاكم : الأكثر من شيوخنا حملوه على تحريف التأويل لامتناع

__________________

(١) قال في الأثمار : ثم مسح الوجه مستكملا كالوضوء ، فيدخل في ذلك وجوب تخليل اللحية ، والعنفقة ، والشارب ، وفي الغيث : قال في الكافي : لا خلاف أن تخليل اللحية بالتراب غير واجب ، وإنما أراد الهادي عليه‌السلام المبالغة لا الوجوب ، قال مولانا عليه‌السلام : الظاهر من كلام الهادي عليه‌السلام الوجوب ، ولا نسلم ثبوت الإجماع. (ح / ص).

(٢) تفسير الطبرسي (٥ / ١١٨ ـ ١١٩) ، القرطبي (٥ / ٢٤٣) ، زاد المسير (٢ / ٩٩).

(٣) الربعة : مربوع الخلق لا طويل ولا قصير ذكره في شمس العلوم في مفتوح الفاء ساكن العين.

(٤) تفسير الطبرسي (٥ / ١١٨ ـ ١١٩) ، القرطبي (٥ / ٢٤٣) ، زاد المسير (٢ / ٩٩).

٣٨٨

التواطئ في التحريف على ما تواتر نقلة. قال : وفي ذلك نظر ، وأبو علي حمله على التحريف على عوامهم بسوء التأويل.

وقوله : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) قال : غير مجاب.

وعن ابن عباس ، وابن زيد : هو دعاء كقولهم : اسمع لا سمعت (١) ، فأرادوا الدعاء عليه بالصمم ، عن أبي مسلم وأبي علي ، ويحتمل غير مسمع مكروها ، فهو كلام ذو وجهين.

وكذلك قولهم : (وَراعِنا) يحتمل : انتظرنا نكلمك ، ويحتمل : أنها للسب في لغتهم فأرادوا سبّه.

قال الحاكم : دل ذلك أن كل لفظ يوهم معنى فاسدأ ، فإنه لا يجوز إطلاقه وإن كان يحتمل معنى صحيحا.

قال في (مهذب) الشافعي و (الشفاء) و (الانتصار) : من أجاز نكاح الكتابيات فذلك قبل التحريف ، فأما الآن فقد بدلوا وحرفوا فلا يجوز.

إن قيل : التحريف منهم ثابت وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلالة هذه الآية سؤال (٢)؟

قوله تعالى

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) [النساء : ٥٢]

دلت الآية على جواز لعن الكفار جملة (٣) وجواز لعن من لعنه الله.

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ١٠٠).

(٢) لعله يقال في الجواب : الحكم للتحريف وقته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعده ، والله أعلم. (ح / ص).

(٣) أراد بقوله (جملة) أي : جملة الكفار ، لأنه ورد في (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) ، وآمنوا بالجبت والطاغوت ، لكن بالقياس في غيرهم لعدم الفارق ، والله أعلم ، ومعه القياس من الأدلة.

٣٨٩

فأما آحاد الكفار الذين لم يخبر الله تعالى بأنهم من أهل النار فهل يجوز لعنه؟ هذه الآية لا تدل على ذلك ، وظاهر أقوال العلماء الجواز ، وكأنه مشروط بأن لا يتوب.

وعن الغزالي : لا يجوز لعن كافر معين ؛ لأنه يجوز عليه التوبة ، ولا يدري بما يختم له ، إلا من علم أنه مات على الكفر ، كفرعون وهامان ، وأبي لهب ، وأبي جهل (١).

وروي في الأذكار عن بعض العلماء أن من لعن شيئا لا يستحق اللعن فإنه يبادر ويقول : إلا أن لا يستحق اللعن (٢).

قوله تعالى

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : ٥٨]

النزول :

قيل نزلت في ولاة الأمر ، عن زيد بن أسلم ، ومكحول.

وقيل : في أمراء السرايا وقيل : في اليهود ، وما وجدوا في كتابهم من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، وقيل : في عثمان بن [أبي] (٤) طلحة بن شيبة ، وهو

__________________

(١) قد تقدم مثل هذا في البقرة في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) الآية ، وفي قوله تعالى في آل عمران : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) الآية.

(٢) الأذكار للنووي ط (٣) ١٤٠٦ ه‍ :: / ١٩٨٦ ن ص (٤٧٧).

(٣) الكشاف (١ / ٥٣٥) ، زاد المسير (٢ / ١١٤) ، تفسير الطبرسي (٥ / ١٣٦ ـ ١٣٧).

(٤) عثمان بن طلحة ـ هكذا في الأصل ، وهو أخو شيبة ، وليس ابنه ، فلما هاجر طلحة دفع مفتاح الكعبة إلى أخيه شيبة ، هذا الذي ذكره الواحدي ، وفي الروايات أن شيبة أخو عثمان ، وليس أبا لطلحة ؛ لأن طلحة هو ابن أبي طلحة ، واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى ، بن عثمان بن عبد الدار ، بن قصي. جامع الأصول بالمعنى. وفي الكشاف شيبة أخو عثمان ، وفي البغوي ، والنيسابوري.

٣٩٠

من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح ، وأبى أن يدفع المفتاح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه ، فلوى علي رضي الله عنه يده فأخذه منه (١) ، وفتح ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلى ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ، ويجعل له السقاية والسدانة ، فنزلت ، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ، ويعتذر إليه ، فقال عثمان لعلي : أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال : لقد أنزل الله في شأنك قرآنا ، وقرأ عليه الآية ، فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فنزل جبريل فأخبر الرسول بأن السدانة في أولاد عثمان أبدا ، فهي باقية لهم إلى الآن ، وهذا هو الظاهر (٢).

قال الحاكم : وحملها على الحقوق المالية أظهر لقوله : (إِلى أَهْلِها) والعبادات وإن صح كونها أمانة فيبعد دخولها في الظاهر ، وصححه القاضي للسبب المذكور المروي (٣).

__________________

(١) فإن قلت : كيف لوى علي عليه‌السلام يده ، وهو على السطح ، وقد أغلق الباب؟ قلت :

فيه روايتان ، إحداهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاه فنزل ، ثم امتنع على المفتاح فلوى علي عليه‌السلام يده. الثانية : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمل عليا عليه‌السلام على كتفه حتى صعد إليه ، ولوى يده ، وأخذ المفتاح ، وفي هذه الرواية أن عليا عليه‌السلام قال : لقد خيل لي أني لو أردت لبلغت السماء. حاشية الكشاف ، وفي هذا معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفضيلة كبرى لأمير المؤمنين عليه‌السلام. (ح / ص).

(٢) الكشاف (١ / ٣٥٣) ، الطبرسي (٧ / ١٣٦ ـ ١٣٧) ، زاد المسير (٢ / ١١٤).

(٣) ولفظ الحاكم في التهذيب : (تدل الآية على وجوب اداء الأمانات ، وظاهر الكلام يوجب الحقوق المالية لقوله (إِلى أَهْلِها) والعبادات وإن صح كونها أمانة فيتعذر دخولها في الظاهر لقوله (إِلى أَهْلِها) والسبب المروي في مفتاح البيت يدل عليه ، عن القاضي).

٣٩١

وقد قال بعضهم : هذا خطاب لكل مكلف في أداء ما أمر به من العبادات.

ثمرة الآية : أحكام :

الأول : وجوب أداء كل أمانة إلى أهلها ، لكن الأداء يختلف تارة بأن يوصلها إلى صاحبها كالعارية ، وذلك لأنه محسن ، وتارة يمكن صاحبها منها ولا يجب عليه إيصالها وذلك كالوديعة والرد ، والتمكين يطلق عليه الأداء ، وعموم هذا أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الأمانة مؤمنا أو كافرا ، وقد أطلقت الأمانة هنا على ما يستحقه الغير ، أو يستحق حقا فيه وإن لم يكن وديعة ولا عارية ، كما ورد في مفتاح الكعبة فتدخل الديون ونحوها.

وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم فتح مكة : «كل دم أو مأثرة حق فإنه تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداه إلى البر والفاجر».

ويتعلق هذا فرع

وهو أن كافرا إذا وقف في دار الإسلام بأمان ، ثم انقضى زمان أمانه ، أو نبذ الإمام إليه العهد لخوف منه ونحو ذلك ، وله أموال في دار الإسلام هل تدخل في الأمانة فيجب ردها إليه أم لا؟

قلنا : عموم الآية وجوب ذلك ، وفي كلام الأئمة ما يشير إلى هذا فإنهم

قالوا : إذا دخل عبد الكافر دار الإسلام بأمان ، وكان بأذن سيده ، ثم أسلم فإنه يباع ، ويرد ثمنه وما في يده لسيده.

وقالوا في أموال الملاحدة : إذا وجدنا لهم صحيفة تغسل ويرد الرق ، وقيل : المراد إذا كان في دارنا ودخل بأمان والأمان باق.

الحكم الثاني

يتعلق بقوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وهذا خطاب للأئمة ، وأهل الولاية ، وقوله : (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) يدل أن الحاكم

٣٩٢

لا بد أن يكون له طريق إلى معرفة العدل من الجور ، وهل طريقة الاجتهاد أو التقليد هذه خلافية بين الأئمة والفقهاء ، وقد استدل بعضهم بهذا الآية أنه لا بد أن يكون مجتهدا ، حكى ذلك الحاكم ، واشتراط الاجتهاد من هذه الآية ليس بواضح وإذا حكم بالبيع وبالنكاح مع كذب الشهود فأبو حنيفة قال : ذلك حكم في الباطن وأكثر الأئمة والشافعي قالوا : ليس بحكم في الباطن وهو أقرب إلى الآية ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار» وإذا حكم القاضي بالبيع بشهادة الزور فالمبيع على ملك المدعى عليه قبل الحكم وباقي شروط القاضي وأحكام القضاء مأخذها من غير هذه الآية.

الحكم الثالث

يؤخذ مما روي في سببها أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى ركعتين في الكعبة ، دل ذلك على جواز الصلاة فيها ، وهو قول الأكثر.

وقال أبو ثور : لا يصلي فرضا ولا نفلا.

وقال مالك : يصلي فيها النفل دون الفرض.

قال الحاكم : وقوله تعالى (بِالْعَدْلِ) يدل على أن غرض الحاكم يجب أن يكون العدل ، فيدل من هذا الوجه أنه لا يجوز له أخذ الأجرة والرشوة ، ومأخذ هذا من ما ذكر خفي (١).

__________________

(١) ولعله يريد بالمأخذ أن قبوله الرشوة ونحوها ربما يتداعى ، ويحصل فيه الاسترسال ، فيحمله ذلك إلى الحيف والميل ، وتطلب الوجوه التي لا ينبغي تطلبها من تعلب ونحوه ، والله أعلم. (ح / ص).

٣٩٣

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩]

النزول :

قيل : نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي (١) وقد بعثه رسول الله في سرية (٢) ، وقيل : نزلت في خالد بن الوليد وقد بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سرية وفيهم عمار إلى قوم فهربوا غير رجل واحد كان قد أسلم ، فأتى عمارا فأمنه ، وكان من خالد أنه أصبح على القوم وأخذ ذلك الرجل وماله ، فتنازع خالد ، وعمار فأتيا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجار من أجار عمار ، ونهى أن يجار على أمير بغير أذنه (٣).

__________________

(١) السهمي : بفتح السين ، وسكون الهاء نسبة الى قرية تسمى سهمة ، وفي جامع الأصول (السهمي) بفتح السين منسوب إلى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بطن من قريش ، لكن الضبط في النسخ بضم السين ، وسكون الهاء. (ح / ص).

(٢) تفسير ابن كثير (١ / ٨١٧) ، زاد المسير (٢ / ١١٥) ، صحيح البخاري (٨ / ١٩٠) ، مسلم (٣ / ١٤٦٥) ، أحمد (٢ / ٦٢٢) ، البخاري أيضا (١٣ / ١٠٩) ، مسلم (٣ / ١٤٦٩).

(٣) وفي الحاكم ما لفظه (قيل : نزلت الآية في عبد الله بن حذافة السهمي بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سرية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وروي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث خالد بن الوليد في سرية ، وفيهم عمار ، فلما دنوا منهم هربوا غير رجل كان قد اسلم فأتى العسكر ، واستأمن عمارا فأمنه عمار ، وأمره أن يقيم ، وأصبح خالد مغعيرا على القوم ، واخذ ذلك الرجل وماله ، فقال عمار : خل سبيله ، فإنه مسلم ، وقد أمنته ، فقال خالد : أنت تجير علي وأنا الأمير وجرى بينهما كلام ، وانصرفوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بالقصة ، فأجاز أمان عمار ، ونهى أن يجير أحد على أمير بغير إذنه ، واستب عمار وخالد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (كف عن عمار من يسب عمارا يسبه الله ، ومن يبغض عمارا يبغضه الله) فقام عمار ، وتبعه خالد ، وسأله أن يرضى عنه فرضي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية).

٣٩٤

وثمرة هذه الآية : وجوب طاعة الله تعالى بامتثال أوامره ، وطاعة الرسول كذلك ، ووجوب طاعة أولي الأمر ، وقد اختلف من هم؟ فقيل : الخلفاء الراشدين الأربعة.

وروي في (الثعلبي) خبرا مسندا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الخلافة بعدي في أمتي في أربعة في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم» وهذا محكي عن أبي بكر الوراق.

وقال عكرمة : أولي الأمر أريد به أبو بكر ، وعمر ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١) و «إن لي وزيرين في الأرض ووزيرين في السماء فبالسماء جبريل وميكائيل وبالأرض أبو بكر وعمر ، هما عندي بمنزلة الرأس من الجسد» وقد مثلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأنبياء ، فمثل أبا بكر بإبراهيم وعيسى ، ومثل عمر بنوح وموسى ، وذلك في حديث المفاداة ، هذا ما ذكره الثعلبي.

وقال عطاء : هم المهاجرون والأنصار ، التابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآية.

__________________

(١) قال ابن حجر في التلخيص في حديث عكرمة هذا (اقتدوا باللذين من بعدي) : هذا من حديث عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، عن حذيفة ، قال : أعله أبو حاتم وأخرجه الثعلبي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ، وقال : لا أصل له من حديث مالك ، وقال البزار ، وابن حزم : لا يصح ؛ لأنه عن عبد الملك بن عمير ، عن مولى ربعي ، ورواه وكيع عن سالم المرادي ، عمر عمر بن مرة ، عن ربعين عن رجل من أصحاب حذيفة عن حذيفة ، وتبين أن عبد الملك سمعه من ربعي ، وأن ربعيا لم يسمعه من حذيفة. أه كلامه فاعرف ما قيل فيه ، وأما الأول فقال الغزالي في كتاب سر العالمين : وتمسكت البكرية في إمامة أبي بكر بقوله (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ) ولم يذكر لهم حجة على إمامته سواها ، وسوى أنه صلى بالناس في مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو كان لذلك الحديث حجة لذكره ، وهو من أئمتهم في الفنون.

٣٩٥

وقال بكر بن عبد الله المزني : هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».

وقوله عليه‌السلام : «مثل أصحابي في الناس كالملح في الطعام فإذا ذهب الملح فسد الطعام» ، وقيل : أمراء السرايا (١) ؛ لأن الآية نزلت في ذلك ، وقيل : العلماء ، وهذا مروي عن جابر ، وابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وعطاء ، وأبي العالية ، والضحاك ، واختاره القاضي ؛ لأن كلامهم حجة ؛ ولأن قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) وهذا يليق بالعلماء ، وقيل : هم أهل العقل والرأي ، الذين يدبرون أمور الناس ، وقيل : الأئمة.

قال الزمخشري : والمراد أمراء الحق لا أمراء الجور ؛ لأنه تعالى لما أمر ولاة الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، وأن يحكموا بالعدل أمر الناس أن يطيعوهم ، وأمراء الجور لا يؤدون الأمانة ، ولا يحكمون بعدل ، ولا يردون شيئا إلى كتاب ، ولا سنة ، إنما يتبعون شهواتهم ، فهم منسلخون عن صفات أولي الأمر عند الله ورسوله ، وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة (٢).

قال الحاكم : وفي ذلك دليل على ثبوت الأدلة من الكتاب ، والسنة ، والإجماع والقياس ؛ لأنهم لو لم يتنازعوا لم يجب الرد إلى الله ورسوله ، فدل على أن الإجماع حجة ، ودل على القياس والاستنباط ؛ لأن الحكم قد لا يكون منصوصا عليه عند التنازع ، وهو نظير خبر معاذ حين بعثه إلى اليمن ، وقال : «بم تقضي ..» إلى آخره.

__________________

(١) سبق التوضيح ، وانظر الكشاف (١ / ٥٣٥).

(٢) الكشاف (١ / ٥٣٥).

٣٩٦

يقال : وفي الآية دلالة على جواز الاختلاف ، ووجوب الانصاف (١) وقبول الحجة ؛ لأنه تعالى أمرهم عند التنازع إلى الرجوع إلى الدليل ، ولم يحكم بالخطأ عند تنازعهم.

قوله تعالى

(يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ٦٠]

النزول

قال جار الله : روي أن بشرا المنافق خاصم يهوديا ، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، فتحاكما إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقضى لليهودي فلم يرض المنافق ، وقال : تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب ، فأخبر اليهودي عمر ، فقال للمنافق : أهكذا؟ فقال : نعم ، فقال عمر مكانكما حتى أخرج ، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ، يعني حتى مات ، ثم قال عمر : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت.

وقال جبريل : إن عمر قد فرق بين الحق والباطل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت الفاروق».

وقيل : تخاصم رجلان فقال أحدهما : انطلق إلى رسول الله ، فقال الآخر : بل ننطلق إلى دين بني فلان.

وقوله تعالى : (إِلَى الطَّاغُوتِ) قيل : هو كاهن يحاكم إليه اليهودي والمنافق ، وقيل : كعب بن الأشرف ، وسماه الله بذلك لإفراطه في

__________________

(١) لا دلالة على جوازه في الآية ، فليتأمل.

٣٩٧

الطغيان ، أو على التشبيه بالشيطان بالتسمية باسمه ، أو جعل اختيار الحكم إلى غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحاكما إلى الشيطان (١).

قيل : وإنما صد المنافق عن التحاكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع علمه أنه لا يحكم إلا بالحق ؛ لشدة عداوته للرسول عليه‌السلام ، أو علم ان الحق عليه وأن الرسول عليه‌السلام لا يقبل الرشوة ولا يحكم إلا بالحق.

وثمرة الآية : وجوب الرضاء بقضاء الله سبحانه ، والرضاء بما شرعه ، وتدل على أن إرادة القبيح محرمة لذلك ذم عليها ، وتدل على أنه لا يجوز التحاكم إلى غير شريعة الإسلام (٢).

قال الحاكم : وتدل على أن من لم يرضى بحكمه يكفر ، وما ورد في فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر لا قصاص فيه ولا دية (٣) هاهنا.

فرع

وهو أن يقال إذا تحاكم رجلان في أمر فرضي أحدهما بحكم المسلمين ، وأبى الثاني ، وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة فإنه يكفر ؛ لأن في ذلك رضاء بشعار الكفرة.

وفرع آخر

وهو إذا طلب الخصمان أو أحدهما التحاكم إلى حاكم المنع ، ولم

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٣٦) ، زاد المسير (٢ / ١٢٠).

(٢) سيأتي التوضيح أكثر في سورة المائدة في قوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ).

(٣) التهذيب (خ) وفي هذه القضية إشكال من وجهين : أحدهما : أنه حد ولم يأمر رسول الله. الثاني : انه لم يثبت مع أنه أثنى على عمر في قعله فينظرز وفي تقرير لما ففعله عمر حجة في سقوط ضمان من هدر دمه واله أعلم ، حاشية النسخة ([) ص (٢٣ ب).

٣٩٨

يحصل الرضاء بحاكم الشرع ، هل يكون ذلك كفرا أم لا؟ وهل يكفر من انتصب لحكم المنع أم لا؟ وهل يجوز لمن كان محقا في دعواه أن يطلب إلى حاكم المنع إذا كان لا يحصل له الحق مع حاكم الشرع؟ توصلا إلى أخذ المباح بهذه الطريقة؟

هذه فروع لم أتجاسر على أن أقطع فيها بجواب (١) ، وقد أمر بعض الأئمة المتأخرين (٢) بالمرافعة إلى حاكم المنع ليتوصل به إلى أخذ بعض حصون الظلمة.

قوله تعالى

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء : ٦٢ ـ ٦٣]

هذا متصل بما قبله أي : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكراهة للمحاكمة إلى رسول الله وهذا تهديد.

__________________

(١) لعل الجواب أن يقال : إن أعتقد شيئا من ذلك أو أعتقد حقيته كفر ، وإن لم يحصل شيء من الأمرين كانت معصية محتملة ، وسيأتي في تفسير قوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) الآية ما يرشد إلى الجواب عن بعض ما تررد فيه رحمه‌الله. ويمكن أن يقال : للإنسان أن يتوصل إلى أخذ الحق بذلك ، كالاستعانة بالظلمة على أخذ الحق ، وتنفيذ الأحكام الشرعية ، وإنما الإشكال لو أعتقد صحة ذلك وبطلان غيره ، والله أعلم. ويقال عليه : قد أوهم حقيقته هنا بخلاف المستعين فلا إيهام ، والله أعلم فليحقق ، يقال على هذا : لا بد من رفع التهمة بالرضاء به واعتقاد كونه حقا.

(٢) هو الإمام علي بن علي أخذ تعز ظفار بحكم المنع ، والإمام الناصر أخذ ذهبان بحكم المنع. (ح / ص).

٣٩٩

وثمرة الآية : قبح الرياء ، والنفاق ، واليمين الكاذبة ، والعذر الكاذب ؛ لأنهم اعتذروا ما طلبوا المحاكمة إلى غير رسول الله إلا إحسانا وذلك بالتوفيق بين الخصمين ، وذلك كذب.

وقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال الحاكم : قيل : هذا منسوخ ، يعني : بآية السيف وقيل : إنه ثابت.

وبيان ذلك : أن قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) إن فسر بأن المراد أعرض عنهم إذلالا لهم بمعنى : لا تؤنسهم ، فهذا ثابت لا نسخ فيه (١) وإن حمل على أن المراد لا تعاقبهم بقتل ولا بغيره ، فهذا محل الخلاف ، فقيل : منسوخ بآية السيف ، وقيل : بل ذلك باق ولا نسخ فيه ، وأنه لا يعاقبهم لمصلحة في إبقائهم ، وأنهم لا يزادون على الموعظة والنصيحة.

وقوله تعالى : (قَوْلاً بَلِيغاً) قال الحسن : يتوعدهم بالقتل إن أظهروا ، وقيل : يبالغ في النصيحة مبالغة تؤثر في نفوسهم ، وقيل : عظهم جهرا في الملأ ، وقل لهم سرا قولا بليغا ، وهو المراد بقوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) عن الضحاك (٢).

ودلت الآية على لزوم الوعظ والمبالغة فيهم.

وأما معاملة المنافق بمعاملة الكفار من القتل ونحوه ، فإن قلنا : إن فيها نسخا عومل بالقتل كالكافر غير المنافق.

وإن قلنا : لا نسخ فيها ، وأن المراد ترك العقوبة كان هذا الحكم مختصا بكفر النفاق ، وهذا هو الظاهر من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المنافقين ، وهو الأظهر من كلام المفسرين.

__________________

(١) وهذا هو الوجه الذي ينبغي اعتماده.

(٢) الكشاف (١ / ٥٣٧).

٤٠٠