تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

منهم قيس بن الفاكهة بن المغيرة ، وأضمروا الشرك ثم خرجوا إلى بدر لقتال المسلمين ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غرّ هؤلاء دينهم ، فقتلوا يوم بدر.

قيل : فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، فقال بعض المسلمين : كان هؤلاء أصحابنا أسلموا ، وأكرهوا على الخروج.

وقيل : نزلت في أناس من مكة تخلفوا عن الهجرة ، ثم استثنى الله تعالى من لحقه الضعف عن الهجرة (١).

وعن ابن عباس : كنت أنا وأبي وأمي من الذين (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ، وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) ، وكنت غلاما صغيرا (٢).

وقوله تعالى : (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي : حال ظلم أنفسهم لم يتعقب الظلم توبة ، فيقبضوا حال التوبة ، والمعنى بالتوفي قبض أرواحهم عند الموت ، عن أبي علي وغيره.

وقيل (٣) : أراد ملك الموت ، وقيل : هو وغيره.

قالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ؟ أي : قال الملائكة لهم سؤال توبيخ وتقريع ، أي : لم تكونوا على شيء من أمر دينكم ؛ لذلك تركتم الهجرة فأجابوا بقولهم : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : في حكم أهل الشرك فلم نقدر على الهجرة ، فأكذبهم الله ، وأجابتهم الملائكة بقوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها).

ثمرة الآية : وجوب الهجرة من دار الكفر ، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح ، ولذلك قال تعالى في سورة الأنفال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ١٧٧) ، الطبري (٤ / ٣٣٦)

(٢) الطبري (٤ / ٢٣٧) ، خبر رقم ١٠٢٧٢.

(٣) في (أ) : قيل.

٤٦١

يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قيل : وتستحب بعد الفتح ، والصحيح عدم النسخ.

وقوله عليه‌السلام : «لا هجرة بعد الفتح» (١) معناه من مكة.

قال جار الله : وهذا يدل أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب [والعوائق] ، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله حقت عليه الهجرة.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبرا منالأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد» (٢).

وروي أن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة ، فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لا أهتدي الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجهين به إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم (٣).

قال في (التهذيب) : عن القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام : إذا ظهر القبيح في دار ولا يمكنه الأمر بالمعروف ، فالهجرة واجبة (٤).

وهذا بناء على أن الدور ثلاث : دار الإسلام ، ودار فسق ، ودار حرب.

وهذا التقسيم هو مذهب الهادي ، والقاسم ، وحكاه بن أبي النجم

__________________

(١) أخرجه مسلم عن هائشة ، وأحمد في المسند ، والترمذي ، وغيرهم ، كما أورد الهندي في أكثر من موضع من كتابه منتخب كنز العمال (٦ / ٥٩٤ ، ٥٩٣) ، (٤ / ٢٨٨) ، (١ / ٦٠٥) ، (٥٢٢).

(٢) الكشاف (١ / ٥٥٧)

(٣) الكشاف (٥٥٧)

(٤) ولفظ التهذيب (وعن القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام (إذا ظهر الفسق في دار ، ولا يمكنه الأمر بالمعروف فالهجرة واجبة).

٤٦٢

في كتاب (الهجرة والدور) عن المنصور بالله ، وجعفر بن مبشر ، وأبي علي ، وذهب الأخوان ، وعامة الفقهاء ، وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق.

واعلم : أن من حمل على فعل معصية (١) أو ترك واجب غير الأمر والنهي لزمته الهجرة وفاقا ، وكذا إذا طلبه الإمام (٢) وإن لم يكن أي ذلك فالمذهب وجوب الهجرة مع حضور الشروط المعتبرة.

وقد قال المنصور بالله : إن من سكن دار الحرب مستحلا كفر ؛ لأن ذلك رد لصريح القرآن ، وأحتج بهذه الآية.

وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد [المحلي] عن الهادي عليه‌السلام والقاسم ، والمنصور بالله : التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم ، وفي مهذب المنصور بالله : يكفر إذا جاورهم سنة.

قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى حاكيا عن المنصور بالله : إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل ؛ لأن ذلك منه إظهار للكفر على نفسه ، والحكم بالتكفير محتمل هنا.

الحكم الثاني

أن المستضعفين لا حرج عليهم كما روي في سبب نزولها.

قال الحاكم : وإنما ذكر الولدان ؛ لأن الواجب إخراجهم ليلحقهم حكم الإسلام (٣).

__________________

(١) في (ب) : المعصية.

(٢) هذا إذا قلنا بعموم ولايته.

(٣) ولفظ التهذيب (، وإنما ذكر الولدان ، لأن الواجب إخراجهم إذا لحقهم حكم الإسلام ، فمن يخرجهم كمن يخرجهم بنفسه).

٤٦٣

قال الحاكم : وهكذا كل واجب يسقط بالعجز عنه كالهجرة (١).

ولفظ عسى من الله تعالى بمعنى الوجوب (٢) ؛ لأنه لا يجوز عليه الشك فهي وعد منه تعالى ، وهو لا يخلف وعده جل وعلا ، وإنما استثنى تعالى الولدان وإن كانوا غير داخلين في التكليف بيانا لعدم حيلتهم ، والهجرة إنما تجب على من له حيلة.

قيل : ويحتمل أنه أراد المراهقين ، ويحتمل إنما أراد العبيد والإماء المكلفين.

قوله تعالى

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠]

النزول

قيل لما مات ضمرة بن جندب الذي خرج من مكة ، وقد حملوه على سرير ، وكان قد قال : أن لي مالا يبلغني (٣) المدينة ، فمات بالتنعيم (٤) ،

__________________

(١) ولفظ التهذيب (تدل الآية على أن من لم يجد مخلصا كان معذورا في ترك الهجرة ، وتدل على أن كل عبادة عجز عنها فهو معذور في تركها لأن سبيلها سبيل الهجرة).

(٢) وفي الكشاف ما لفظه (فإن قلت : لم قيل (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع؟ قلت : للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عني ، فكيف بغيره).

(٣) في (ب) : ما يبلغني.

(٤) التنعيم : موضع في الحل بين مر وشرف ، بينه وبين مكة فرسخان ، ومن هذا الموضع يحرم من أراد العمرة من أهل مكة.

٤٦٤

وقيل : بعد أن خرج من الحرم (١) قال المسلمون في المدينة (٢) حين بلغ خبره : لو بلغ المدينة لكان أتم أجرا ، وقال المشركون : ما أدرك ما طلب ، فنزلت الآية (٣).

وقوله : (مُراغَماً) أي : مكانا يرغم عدوه ، والإرغام : مصيره في الرغام ، وهو التراب يقال : رغم أنف فلان ، عبارة عن ذله ، وكأن أنفه صار في الرغام.

وقوله : (وَسَعَةً) أي : رزقا وغناء ، أو مكان يتسع فيه الرزق ، أو مكانا يغضب فيه عدوه.

وثمرة الآية : أن من خرج إلى الهجرة ومات في الطريق ، فقد وجب أجره على الله تعالى.

قال الحاكم : لكن اختلف العلماء ، فقيل : أجر قصده ، وقيل : أجر عمله دون أجر الهجرة ، وقيل : بل له أجر المهاجر ، وهو ظاهر ما في سبب الآية.

قال الحاكم : وقد استدل بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق ، قال : وهو بعيد ؛ لأن المراد بالآية أجر الثواب.

قال جار الله (٤) حكاية عن المفسرين : إن كل هجرة لغرض ديني من

__________________

(١) تفسير الثعالبي (٢ / ٢٨٩) ، زاد المسير (٢ / ١٨٠) ، تفسير الطبري (٤ / ٢٤٠) ، وما بعدها ، تفسير ابن كثير (١ / ٨٦٠) ، الخازن (١ / ٤١٨) ، الكشاف (١ / ٥٥٧).

(٢) في (ب) : بالمدينة.

(٣) تفسير الخازن (١ / ٤١٧) ، الكشاف (١٥٥٧ ـ ٥٥٨) ولفظ الكشاف (وفي الكشاف ما لفظه (وروى في قصة جندب بن ضمرة : أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : لو توفي بالمدينة لكان أتم أجرا ، وقال المشركون وهم يضحكون : ما أدرك هذا ما طلب ، فنزلت).

(٤) الكشاف (١ / ٥٥٨).

٤٦٥

طلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة ، أو قناعة وزهدا [في الدنيا] أو ابتغاء رزق طيب ، فهي هجرة إلى الله [ورسوله] ، فأدركه الموت (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ (عَلَى اللهِ) (١).

وفي كلام جار الله عند كلامه على هذه الآية : اللهمّ ، إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير ، ودرك المرجو من فضلك والمبتغى من رحمتك ، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك ، يا واسع المغفرة (٢).

وكلام جار الله رحمه‌الله بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله ، وقد ذكر في البخاري ومسلم حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانسد عليهم بصخرة ، وصوبهم رسول الله ، وقد دعا كل واحد منهم بصالح عمله وانفرجت عنهم الصخرة (٣).

قال النووي : وقد يقال في هذا ترك الافتقار (٤) إلى الله تعالى.

وقد اقتضت الآية الكريمة لزوم الهجرة ، ولو ببذل مال كالحج ، وفي حديث الذي حمل من مكة على سرير ، وقد قال : احملوني فإني لست من المستضعفين ، إشارة إلى أنها تجب الهجرة إذا تمكن من الركوب ولو

__________________

(١) ما بين () ساقط في (أ). ولفظ الكشاف (وقالوا : كل هجرة لغرض ديني ـ من طلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا في الدنيا ، أو ابتغاء رزق طيب ـ فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه ، فأجره واقع على الله.

(٢) الكشاف (١ / ٥٥٧) بلفظه.

(٣) قد تقدمت هذه القصة في قوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) في أول آل عمران.

(٤) الافتقار المطلق ، ومطلوب الدعاء الافتقار ، لكن ذكر النبي هذا الحديث ثناء عليهم ، فهو دليل على تصويبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلهم. (من الأذكار) (ح / ص).

٤٦٦

مضطجعا في المحمل ؛ لأنه حمل على سرير ، وقد يذكر المتأخرون في الحج أن الصحيح الذي يلزمه الحج أن يمكنه الثبات على المحمل (١) قاعدا لا مضطجعا ؛ لأن أحدا لا يعجز من ذلك فيحتمل أن يسوّى بين المسألتين ، وأنه يجب الحج ولو مضطجعا ، وأن يسوي بينهما في أنهما لا يجبان مع الاضطجاع ، وفعل ضمرة على سبيل التشدد ، ويحتمل أن يفرق بينهما ، وتجعل الهجرة أغلظ ؛ لأن فعل المحظور وهو الإقامة أغلظ من ترك الواجب ، وهذا يحتاج إلى تحقيق.

قوله تعالى

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) [النساء : ١٠١]

النزول :

قيل : نزلت هذه الآية في صلاة السفر ، وقيل : في صلاة الخوف.

وعن الأصم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ببطن نخله فبرز لحاجة ، فأتاه مشرك يريد الفتك به ، وقال : يا محمد أرني سيفك ، فأعطاه سيفه فهزه وقال : ما يمنعني منك؟ قال : «الله تعالى» فشام (٢) السيف ، فانصرف ونزل فيها :

(اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ).

ثمرة الآية ؛ أحكام : الأول : جواز القصر في السفر ، لكن اختلف

__________________

(١) المحمل : بفتح الميم الأول ، وكسر الثاني ، أو على العكس : الهودج الكبير الحجاجي ، وفي الصحاح : محمل كمجلس ، ولم يذكر غيره. (ح / ص).

(٢) شام السيف : يعني أغمده ، ويقال : شمت السيف أي : أغمدته ، وشمت السيف سللته ، فهو من الأضداد. (ح / ص). يقال : لا ملائمة بين الآية ، وبين ما رواه الأصم. (ح / ص).

٤٦٧

العلماء ما المراد بالقصر في هذه الآية؟ فقيل : هذا قصر الصلاة من أربع إلى اثنتين ، وهذا مروي عن مجاهد والأصم ، وأبي علي ، وجماعة من المفسرين.

قال (الحاكم) (١) : وهو قول الفقهاء وهو الصحيح (٢) ، وقيل : أراد بالقصر إلى ركعة ، عن جابر بن عبد الله وهو غريب.

وقيل : القصر في حدود الصلاة وذلك بالإيماء في صلاة المسايفة ، عن ابن عباس ، وطاووس ، قال طاووس : لأنه يجوز في صلاة الخوف من المشي وغيره ما يفسد في صلاة الأمن.

وقيل : عدم التطويل في القراءة.

وقيل : أراد بالقصر أن يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما.

قال الحاكم : الصحيح الأول.

وقالت القاسمية : المراد بالقصر في الآية قصر الصفة ، بمعنى أن المأموم يقصر إتمامه فيأتم بركعة ، ويصلي منفردا في ركعة.

الحكم الثاني

إذا حمل على قصر العدد ، وأن الرباعية تكون ركعتين فما حكم هذا القصر؟

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) وعن بعض المحققين أنها دالة على صلاة الخوف ، ولا يحسن الاحتجاج بها على صلاة القصر لوجهين ، أحدهما : أنه شرط الخوف ، وهو غير شرط فيها ، والثاني : أنه قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ) والقصر عندنا واجب ، وقد ابتدأ البخاري باب صلاة الخوف بهذه الآية ، وإن كان فيها قصر قدر ، وصفة ، ذكر معناه يحي بن حميد.

(ح / ص).

٤٦٨

قلنا : في هذا مذاهب أربعة :

الأول : قول الناصر ، والشافعي. أن القصر رخصة ، والإتمام أفضل.

الثاني : مذهب القاسم ، والهادي ، وزيد بن علي ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وأحمد بن عيسى ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة وأصحابه ، أنه حتم (١).

الثالث : حكاه في النهاية عن مالك ، وقال : إنه أشهر الروايات ، أن القصر سنة غير حتم.

الرابع : حكاه في النهاية عن بعض أصحاب الشافعي. أنه مخير كالخيار في الكفارات ، وأنهما أعني القصر والتمام واجبان.

بيان متعلق هذه المذاهب :

يعلق أهل القول الأول : بقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز ، لا فيما هو فرض ، نحو : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) و (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

إن قيل : قد يستعمل ذلك في الواجب مثل : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز (٢).

ومن جهة السنة ، ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة ، قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، قصرت ، وأتممت ، وصمت ، وأفطرت ،

__________________

(١) وهو المذهب.

(٢) وقد مر في قوله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) جواب ، وتوجيه حسن.

٤٦٩

فقال : «أحسنت يا عائشة» وما عاب علي ، وكان عثمان رضي الله يقصر ويتم هكذا ، روي في الكشاف (١).

قال في (شرح الإبانة) : وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في بعض أسفاره يصلي أربعا ، وتارة ركعتين ، ومن جهة المعنى أن المعقول والمفهوم من لفظ القصر إنما هو رخصة لأجل مشقة المسافر ، كما رخص له في الإفطار ، ولهذا أن يعلي بن أمية (٢) لما قال لعمر : ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟

والله تعالى يقول : (إِنْ خِفْتُمْ)؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «تلك صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته».

تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا : حملنا لفظ الجناح على الفرض ، وإن كان مجازا ، لما روي عن عباس قال : «فرض رسول الله في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين :.

وعن عمر : «صلاة الجمعة ركعتان ، وصلاة السفر ركعتان تماما ، غير قصر على لسان نبيكم (٣).

وعن الباقر : نزلت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين ركعتين ، إلا المغرب ، فزاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الظهر ، والعصر ، والعشاء ، وأقر للمسافر ، وكانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أسفاره ركعتين ، وأقام بمكة ثمانية عشر يوما يقصر ، ويقول : «أتموا يا أهل مكة ، فإنا قوم سفر».

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٥٨ ـ ٥٥٩).

(٢) هكذا في جامع الأصول ، وفي نسخة (بن منبه) ايضا وهي أمه ، ولم يذكر الذهبي غير هذا القول ، وفي البحر (بن منبه) ينسب تارة إلى أمه منبه ، وتارة إلى أبيه أمية ، ذكره الذهبي.

(٣) الكشاف (١٥٥٩).

٤٧٠

وعن الشعبي : «من أتم الصلاة في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم».

وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى ، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود ، وقال : صليت خلف رسول الله ركعتين ، وخلف أبي بكر ركعتين ، وخلف عمر ركعتين ، ثم تفرقت بكم الطرق ، وددت أن لي من هذه الأربع ركعتين منفصلتين ، فاعتذر عثمان بضرب من الأعذار ، منها : أنه قد تأهل ، وقيل : أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة ، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص ، فيكون قولنا : قصرت الصلاة مجازا ؛ لأنها تامة إذا نقص من الأربع (١) ، ويقولون : هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل (٢).

ومتعلق أهل القول الثالث والرابع : الجمع بين الروايات ، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين ، فكان واجبا مخيرا ، ومن قال : إنه سنة فلأن المشهور عنه عليه‌السلام القصر في الأسفار.

الحكم الثالث :

في حد السفر الذي يقصر فيه ؛ لأن الله تعالى لم يبين قدره ، بل علق بالضرب في الأرض وهو السفر ، فظاهرها كل سفر ، فأخذ داود وأصحابه بهذا ؛ لإطلاق اسم السفر على القليل والكثير ، وأيضا تعلقوا بقوله تعالى في سورة البقرة : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، فأباح الله تعالى الفطر في كل سفر ، وما أبيح فيه الفطر قصرت فيه الصلاة إجماعا.

وقال أكثر العلماء : دون البريد خارج بالإجماع ، وقد انقرض خلاف

__________________

(١) وفي نسخة (إذ لا نقص من الأربع)

(٢) من قوله لا جناح.

٤٧١

داود لأن المعنى المعقول من السفر ما يلحق معه المشقة غالبا ، وذلك لا يحصل في القليل ، ولما روى أنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يقصر إذا سافر إلى قباء.

واختلف عامة العلماء من الصحابة ، والأئمة ، والفقهاء في مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة على أقوال :

الأول : قول القاسم ، والهادي ، وأحمد بن عيسى ، وهو رواية عن الباقر والصادق ، وإليه ذهب المنصور بالله : إن ذلك بريد ؛ لأنه يطلق عليه اسم السفر الذي يلحق معها المشقة غالبا ، وذلك هو المعقول من المعنى في السفر ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسافر المرأة بريدا إلا ومعها زوج أو ذو محرم» فعلق الحكم ببريد ، وإذا ثبت ذلك في سفر المرأة تعلق بالقصر والإفطار ، إذ لا أحد يفصل بينهما ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقصر في خروجه من مكة إلى عرفات ، وذلك أربعة فراسخ ، لكن يقال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان سفره من المدينة ، ولهذا قصر في مكة (١).

__________________

(١) لا يرد هذا الإشكال الذي أورده المصنف رحمه‌الله ، لأن جميع من معه في عرفات قصروا الصلاة ، ومعلوم أن بعضهم من أهل مكة ، ولم يقل لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أتموا) كما كان يقول في مكة (أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر) فدل هذا على أن مسافة القصر هي من مكة إلى عرفات ، وهي تقارب الثمانية عشر كيلو مترا. ويدل على هذا ما ذكره أبو داود في سننه فقال : باب القصر لأهل مكة ، حدثنا النفيلي ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : حدثني حارثة بن وهب الخزاعي ، وكانت أمه تحت عمر ، فولدت له عبد الله بن عمر ، قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا ، فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع ، قال أبو داود : حارثة من خزاعة ، ودارهم بمكة ، حارثة بن وهب ، أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه. وقد أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه ، ولفظه في مسلم حدثنا يحي بن يحي ، وقتيبة بن سعيد ، قال يحي : أخبرنا إسحاق عن حارثة بن وهب ، قال : صليت مع رسول الله بمنى .. وأكثر ركعتين) (ح / ص).

٤٧٢

قال في (النهاية) : وعن عمر بن الخطاب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقصر في نحو سبعة عشر ميلا ، رواه مسلم.

وقال زيد ، ومحمد بن عبد الله ، والناصر ، وأبو عبد الله الداعي ، والأخوان والحنفية ، مسيرة ثلاثة أيام.

قال في النهاية : وذلك مروي عن ابن مسعود ، وعثمان بسير الإبل ، ومشي الأقدام على القصد ، واحتجوا بقوله : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام فما فوقها إلا مع ذي محرم».

قالوا : فمفهوم الخطاب أن دون الثلاث يجوز السفر من غير محرم ، ولأهل القول الأول أن يقولوا : صريح الخبر يبطل دليل الخطاب (١).

وقال مالك ، والشافعي ، ورواية عن الباقر ، وأحمد : مسافة ذلك ستة عشر فرسخا وهو أربعة برد.

قال في (النهاية) : وهو مروي عن ابن عمر ، وابن عباس.

قال في (شرح الإبانة) : واحتجوا بما في حديث ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأهل مكة : «لا تقصروا في أقل من أربعة برد» وذلك من مكة إلى عسفان.

قال في البخاري : وكان ابن عباس وابن عمر يقصران ويفطران في أربعة برد.

وفيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسير يوم وليلة ، وليس معها حرمة بالغة».

__________________

(١) يعني : أنه تعارض صريح الخبر الأول ، وهو (لا تسافر المرأة بريدا إلا ومعها زوج أو ذو رحم محرم) ومفهوم خبر الثلاثة الأيام أنها تسافر البريد والبريدين بغير زوج أو محرم ، لكن صريح الخبر الأول مقدم على مفهوم الخبر الثاني ، كما هو القاعدة في أصول الفقه.

٤٧٣

وعن أبي يوسف ، ومحمد : يومين وأكثر الثالث ، وقدّر أبو حنيفة الثلاث بأربع وعشرين فرسخا. والمؤيد بالله بأحد وعشرين فرسخا ، وعن أبي طالب : ثمانية عشر فرسخا.

تفريع على هذا الحكم

وذلك أنه يستوي السفر في البر والبحر ؛ لأن السفر في البحر داخل في الظواهر ، وهو إجماع ، لكن كم قدر المسافر في البحر؟

فقيل : يقدّر لو كان ظهر الماء أرضا (١).

وعن بعض فقهاء المؤيد بالله : يعتبر ثلاث أيام من سير السفن ، ويأتي على قول الهادي أربعة أسباع يوم ، ولعل الأول أظهر هذا فرع.

الفرع الثاني : أنه يستوي سفر الطاعة والمعصية ، وهذا مذهب القاسم والهادي ، والحنفية ؛ لأنه يطلق عليه اسم السفر ، فثبت للعاصي سفره حكم المسافر.

وقال الناصر ، والشافعي ، ومالك : لا يجوز الرخصة في سفر المعصية ، لقوله تعالى في سورة البقرة وفي غيرها (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وكذا سائر الرخص.

أجاب الأولون : بأن القصر حتم ، وبأن المراد بالباغي في أكله لا في سفره.

وقال أحمد : إنما يقصر في سفر الطاعة ، كالجهاد والحج ؛ لأن قصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان في سفر طاعة ، روي ذلك في (النهاية).

الفرع الثالث : في الحالة التي يصير عندها مسافرا يجوز له القصر والفطر ، فعند الهادي ، والناصر : أنه لا يقصر حتى يخرج من ساحة البلد ؛

__________________

(١) وهو المذهب.

٤٧٤

لأنه تعد من البلد ، وقدره الهادي بميل أو نحوه ، وقال : إن ذلك مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وزيد بن علي : متى خرج من العمران ؛ لأنه يطلق عليه اسم المسافر ، وهذا رواية عن مالك ، ورواية ثانية عنه أنه لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يخرج منها نحو ثلاثة أميال ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج من المدينة فرسخا قصر ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا ، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين.

وعن مجاهد : إن سافر نهارا لم يقصر حتى يمسي ، وإن سافر ليلا لم يقصر حتى يصبح ، وأبطل بالخبر.

وعن عطاء : إذا نوى السفر جاز ، وأبطل أيضا بالخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يقصر حتى يسير فرسخا.

الحكم الرابع

في اشتراط الخوف للقصر ، وقد اختلف العلماء في ذلك ، ومنشأ الخلاف قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فمذهب القاسم ، والهادي والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وعامة العلماء ، أن الخوف غير شرط في القصر.

أما القاسم ، والهادي فلأنهما يقولان : ذكر الخوف لقصر الصفة ، وإن الآية واردة في صلاة الخوف ، فيجعلون الخوف شرطا لما وردت الآية فيه.

قالوا : ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصر بذي الحليفة وهو آمن ، وقصر بمكة وهو آمن.

وعن علي عليه‌السلام : (كنا نصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أسفاره ركعتين ركعتين خائفا كان أو آمنا).

٤٧٥

وأما الشافعي فيقول : إن ذلك منسوخ ويقول : إن حديث يعلى بن أمية حين قال لعمر : ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «تلك صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته» [مبين لذلك] (١)

قال المؤيد بالله : وقول الناصر (٢) قد سبقه الإجماع.

وفي قراءة عبد الله ، وليست بمشهورة (أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا) وليس فيها (إِنْ خِفْتُمْ) ، ويكون قوله : (أَنْ يَفْتِنَكُمُ) مفعولا له ؛ أي : إن كرهتم أن يفتنكم (الَّذِينَ كَفَرُوا) (٣) ، والمراد بالفتنة القتال.

الحكم الخامس

إذا نوى الإقامة بموضع مدة ، هل إقامته تخرجه عن حكم المسافر أم لا؟

فمذهب أهل البيت عليهم‌السلام أنه يقصر إلا أن ينوي الإقامة عشرة أيام في أي موضع من بر أو بحر ، مدينة أو جزيرة ، دار إسلام ، أو دار حرب.

__________________

(١) ما بين القوسين ثابت في بعض النسخ ، ومظنن به في بعض. وفي بعضها ساقط ، قال في (ح / ص). بناء على أن ما بين القوسين ساقط : (يقال : أين خبر إن؟ ذكر في شرح القاضي زيد ما لفظه : لا يصح أن قبولها لا يجب عليه ، وهو إذا خاف على نفسه ردها ، على أن قوله (فاقبلوا صدقته) أمر ، والأمر يقتضي الوجوب ، فلعل خبرها ساقط ، وتقديره (لا يصح) إذ معنى أنه ساقط ، أي : محذوف.

(٢) لم يتقدم للناصر هنا قول ، ولعله ما يروى عنه في كتب الفروع من أنه يشترط في جواز القصر الخوف ، كما قال في البيان ، قال الناصر : ولا يجوز القصر إلا مع الخوف ، قال المؤيد بالله : وهو خلاف الإجماع. (ح / ص).

(٣) ساقط في (أ).

٤٧٦

ويحتجون بما روي عن علي عليه‌السلام أنه قال : (يتم الذي يقيم عشرا) والمقادير لا تكون عن اجتهاد (١) ، وهذا مروي عن ابن عباس.

وعن أبي حنيفة : خمسة عشرة يوما.

وعن الشافعي ، ومالك : أربعة أيام كوامل.

قال في (النهاية) : قد روي في الاختلاف في هذه المسألة نحو من أحد عشر قولا.

واعلم : أن هذا مسكوت عنه في الآية ، وهو قدر الزمان الذي يخرج «به» (٢) الإنسان عن سمة المسافر إذا أقام فيه ، ولا مدخل للقياس في المقادير ، وأهل البيت عليهم‌السلام تمسكوا بالخبر ، عن علي عليه‌السلام : (ولم يفصل بين مكان ومكان).

والشافعي ، ومالك تمسكا بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل للمهاجر إقامة ثلاثة أيام بمكة بعد قضاء نسكه ، فدل أن الإقامة ثلاثة أيام لا تسلب من اسم المسافر.

وأبو حنيفة تمسك بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام بمكة نحوا من خمسة عشر يوما يقصر ، وضعف الاحتجاج بهذا بأن ذلك يحتمل أنه كان غير عازم على إقامتها ، وقد وردت أخبار حكاها في السنن ففي خبر : (أقام ثمانية عشر يوما يقصر) وفي خبر (سبعة عشر يوما) وفي خبر (تسعة عشر يوما) (٣).

الحكم السادس

إذا كان ينوي المسير في كل يوم إلى أي وقت يقصر ثم يسلب حكم المسافر ، وهذا أيضا مسكوت عنه في الآية ، فمذهبنا يقصر إلى تمام شهر ؛ لأنه مروي عن علي عليه‌السلام.

__________________

(١) يريد أن كلام أمير المؤمنين توقيف ، وليس اجتهادا.

(٢) ساقط في (ب).

(٣) أراد بهذه الأخبار تضعيف تحديده بالخمسة عشر يوما.

٤٧٧

وقال (أبو حنيفة) : يقصر أبدا ؛ لأن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر ، وقصر أنس بنيسابور سنة (١).

قلنا : لعلهما كان يترددان في جهات الناحية.

وقال الشافعي في قول : القصر ثمانية عشر يوما ، أو سبعة عشر يوما ، ثم يتم ، كما قصر عليه‌السلام في مكة ، وفي قول : أربعة أيام.

قلنا : في رواية جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر.

قوله تعالى

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [النساء : ١٠٢]

النزول

عن ابن عباس ، وجابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بأصحابه الظهر ، ورأى المشركون ذلك ، فندموا ألا كانوا أوقعوا بهم.

وروي أن بعضهم قال لبعض : دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم ، يعني : صلاة العصر ، فإذا رأيتموهم قاموا إليها

__________________

(١) يقال : صورة فعل لا يدرى على أي وجه وقع ، ومن شرط التأسي معرفة الوجه ، وإن سلم ففعل الصحابي ليس بحجة.

٤٧٨

فشدوا واقتلوهم ، فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أسرارهم ونزل جبريل عليه‌السلام بصلاة الخوف ، ويقال : إنه كان سبب إسلام خالد بن الوليد.

ونزل رفع الجناح في وضع الأسلحة في عبد الرحمن بن عوف ، ومن خرج في تلك الوقعة ، وقيل : في الرسول عليه‌السلام (١) لما وضع السلاح.

المعنى من هذه الآية

قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) أي : كنت يا محمد في الضاربين في الأرض : الخائفين.

وقوله تعالى : (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) قيل : أراد صليت بهم جماعة.

وعن الحسن : أقمت لهم الصلاة بحدودها.

وقوله تعالى : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) يعني تقوم طائفة معك في الصلاة ، وفي ذلك حذف تقديره ، وطائفة بوجاه العدو ، لأن جعلهم طائفتين لهذا المعنى (٢).

وقوله تعالى : (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) اختلف المفسرون من المأمور بأخذ السلاح ، فقيل : هم الطائفة الذين يواجهون العدو ، عن ابن عباس : وهذا ظاهر (٣).

وقيل : بل هم الطائفة المصلون ، وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر ، والسيف ، ونحو ذلك.

__________________

(١) في نسخة (وقيل : في رسول الله لما وضع السلاح).

(٢) يستدل بقوله : (طائِفَةٌ) على أنه لا يشترط تساوي العددين في الفريقين ، لكن لا بد في التي تحرس من كونها بحيث يحصل الثقة بها. شرح بلوغ المرام

(٣) أي : لا حرج فيه.

٤٧٩

وقيل : للطائفتين معا ، وهو قول القاسم.

وقوله تعالى : (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) اختلفوا ما أراد تعالى بالسجود ، فقيل : أراد السجود حقيقة ، وهذا قول (أبي حنيفة) إن الطائفة الأولى إذا سجدت وقامت من السجود ، مالت إلى مواجهة العدو.

وقيل : أراد بالسجود جملة الصلاة ، وهذا مذهبنا ومالك ، يعني : إذا فرغت الطائفة التي صلت مع الإمام ركعة ، وقامت بعد السجود أتمت الركعة الثانية منفردة. خرجت (١) إلى مواجهة العدو ، وجاءت الطائفة الثانية التي لم تدخل في الصلاة فتدخل في الصلاة مع الإمام.

وينصر هذا قوله تعالى : (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) ثم أمر تعالى بالحذر وأخذ السلاح ، ثم رخص تعالى بوضع السلاح مع الحذر لمن له عذر من مطر أو مرض.

ثمرات الآية الكريمة أحكام :

الأول : أن صلاة الخوف مشروعة ، وهل هذا الأمر للوجوب أو للندب؟

الأكثر من العلماء : أن هذا للندب ؛ لأن الجماعة سنة في حق المختار ، فكيف في حق المضطر.

قال الناصر : والصلاة على هذه الصفة لا تجب ، فلو صلى الإمام بطائفة ، وأمر رجلا آخر أن يصلي بعد ذلك بالطائفة الأخرى جاز.

قال في مهذب الشافعي : لكن هذه الصلاة أفضل ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلها.

__________________

(١) جواب إذا فرغت.

٤٨٠