تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

قوله تعالى

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء : ٦٤]

ثمرة الآية : أن هؤلاء المنافقين لو استغفروا الله من نفاقهم وكراهتهم لحكم رسول الله ، وجاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تائبين معتذرين ، وتشفعوا به إلى الله لتاب عليهم ، دل ذلك على أن توبة المنافق مقبولة كغيره ، أما في الباطن فهي مقبولة عند الله وفاقا.

وأما في الظاهر فظاهر الآية قبولها ؛ لأنه جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستغفرا لهم وشافعا ، وهذا قول عامة الأئمة وأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال مالك والجصاص : إنها لا تقبل من الباطنية ونحوهم.

وقال المنصور بالله ، والإمام يحي : إن ظهروا شبههم وما يعتادون كتمه (١) دل ذلك على صدق توبتهم فتقبل ، وإلا فلا.

ودلت الآية على أن من تكررت منه المعصية والتوبة صحت توبته ، لقوله تعالى : (تَوَّاباً) وذلك ينبي عن التكرار ، وقد قيل : أن الآية نزلت في شأن هؤلاء الذين كرهوا المحاكمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : إن قوما من المنافقين أرادوا مكيدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه جبريل فأخبره بذلك.

__________________

(١) سيأتي لهذا زيادة تحقيق إن شاء الله تعالى في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

٤٠١

قوله تعالى

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥]

النزول :

قيل : نزلت في شأن المنافق واليهودي اللذين تحاكما إلى رسول الله ، ولم يرض المنافق بحكم رسول الله ، وقيل : نزلت في الزبير ، والأنصاري اللذين تشاجرا في شراج من الحرة (١).

وفي الكشاف : في الزبير وحاطب ابن أبي بلتعة (٢) اختصما في شراج (٣) من الحرة كان يسقيان به النخيل ، فقال : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك.

وروي : (فإذا رويت فأرسل الماء إلى جارك) ، فغضب حاطب وقال : لأن كان ابن عمتك (٤).

وروي : لا يمنعك أن تحكم بيننا بالحق وإن كان ابن عمتك ، فتغير

__________________

(١) تفسير الطبرسي ، والشرج بكسر الشين جمع شرج : ميل الماء من الحرة إلى السهل ، والحرة موضع معروف ، أرض ذات حجارة سود نخرة كأنما أحرقت بالنار.

(٢) قيل : هذا سهو ، فإن حاطب أجل من أن يصدر منه مثل هذا الكلام ، ويغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه كان بدريا ، وكان حليفا للزبير ، وهو حاطب بن راشد اللخمي ، فلا خلاف إذا أنه لم يكن أنصاريا ، ورواية البخاري ومسلم أن الذي خاصم الزبير رجل من الأنصار.

(٣) في الصحاح : الشرح بالإسكان مسيل ماء من الحرة إلى السهل ، والجمع شراج ، وشروج. (ح / ص)

(٤) الكشاف (١ / ٥٣٩) ، البخاري (٥ / ٢٦) ، مسلم (٤ / ١٨٣٠) ، زاد المسير (٢ / ١٢٣).

٤٠٢

وجه رسول الله ثم قال : «إسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يصل الجدر (١) ، واستوف حقك ، ثم أرسل إلى جارك» كان قد أمر بما فيه السعة فلما احفظ (٢) رسول الله استوعب للرجل حقه في صريح الحكم ، ثم خرجا فمرا على المقداد وعنده يهودي ، فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وأيم الله لقد أذنبنا مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة وقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا ، فبلغ القتلى سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله يعلم مني الصدق لو أمرني محمدا أن أقتل نفسي لقتلتها.

وروي أنه قال ذلك ثابت ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي».

دلت الآية على أن من لم يرض بحكم الرسول لم يكن مؤمنا ، وقوله تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) أي : شكا ؛ لأن الشاك في ضيق من أمره.

وقوله : (وَيُسَلِّمُوا) ينقادوا ، وقوله : (تَسْلِيماً) كقوله : (وَيُسَلِّمُوا) ، ويستوي ظاهرهم وباطنهم ، ويدل على أن للأعلى في الأراضي أن يحبس الماء حتى يصل الجدار ، وأنه مقدم على الأسفل ، ويدل على أن للأسفل

__________________

(١) في الغيث : في غريب القرآن والحديث ما لفظه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للزبير : احبس الماء حتى يبلغ الجدر) الجدر هاهنا : المسناة ، وهي للأرض كالجدار ، وقيل : الجدر الجدار ، وقيل : أصل الجدار ، ورواه بعضهم حتى يبلغ الجدر ، وهي جمع جدار ، وبعضهم يرويه : الجذر بالذال المعجمة ، يريد مبلغ تمام الشرب من جذر الحساب ، والجذر بفتح الجيم وكسرها ، وبالذال المعجمة أصل كل شيء ، والمحفوظ بالدال المهملة ، والله أعلم. (ح / ص).

(٢) أي : أغضب يقال : أحفظه أي : أغضبه

٤٠٣

حقا بعد الأعلى ، لكن لأهل الفقه كلام في هذه المسألة تقتضيه الأدلة ، وهو أن أصل النهر لم يشتركوا فيه على أمر واحد بأن يحيوه معا إذا اقتسموه ، وأن الأعلى له ما تعتاد الأرض من الري ، وأن الأسفل يثبت حقه في الفضلة.

إن قلنا : إن الماء حق لا ملك ؛ إذ لو كان ملكا فللأعلى أن يصرفه عنه ، وإن استغنى ، وهذه مسألة خلاف بين الفقهاء ، وقيل : يثبت حق الأسفل إن أحيا بإذن صاحب الأعلى ، وفيها زيادات في كتب الفقه.

قوله تعالى

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦]

قيل : نزلت في المنافقين الذين تقدم ذكرهم ، وأراد حقيقة القتل والحروج من الديار لو كتب عليهم ذلك ما فعلوه ، وقيل : أراد التعرض للقتل بالجهاد وأراد الهجرة بالخروج من الديار لو أمر المنافقون كما أمر المؤمنون ما فعلوه ، وقيل : نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وأصحابه أي : لو كتب على المسلمين ذلك (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم هؤلاء النفر ، وقد استخرج أبو مضر أن التوعد بالإخراج من الوطن يبيح ما يبيحه القتل من كونه تعالى قرن الإخراج من الديار بالقتل ، والمأخذ من هذا محتمل ؛ لأن صريح اللفظ لا يقتضيه بوضعه ولا بفحواه وإشارته ولا بمعناه ومعقوله.

ووجه ثان : أن هذا لا يستقيم في الإكراه على المحظور لأنه يجب عليه الهجرة إذا حمل على فعل محظور أو ترك واجب (١) ، وقد قال المؤيد بالله : من أكره على تسليم الوديعة ظلما لم يبال بماله وحاله.

__________________

(١) بالإجماع ، بخلاف الوعيد بالقتل ، أو قطع العضو فيجوز له ترك كل واجب ، وفعل كل محظور إلا الزنا ، وإيلام الآدمي ، وسبه. والله أعلم.

٤٠٤

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) [النساء : ٧١]

فقوله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) قيل : أراد أخذ السلاح ؛ سمى به لأنه يتقى به ، وقيل : أراد احذورا عدوكم ، دلت على وجب الجهاد ، وهو ينقسم إلى فرض عين وهو دفع الكفار ، وفرض كفاية وهو قصدهم ، ودلت على استعمال الحذر ، وهو الحزم من العدو وترك التفريط ، وكذلك ما يحذر به وهو استعمال السلاح على احد التفسيرين ، فتكون الرياضة بالمسابقة ، والرهان في الخيل من أعمال الجهاد ، وقوله تعالى : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) أي : جماعة بعد جماعة ، وسرية بعد سرية (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي : مجتمعين.

قال الحاكم : واتفق العلماء أن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام.

قوله تعالى

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [النساء : ٧٢]

معناه : ليثبطن غيره كما كان المنافقون يثبطون غيرهم ، وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أبي ، وهو الذي ثبط الناس يوم أحد (١) ، وقيل : معناه ليتراخى عن الجهاد ، ولا يبادر إليه بل يتثاقل ، وقد قرئ في الشاذ : لَيُبْطِئَنَّ بالتخفيف (٢) ، وقد قيل : نزلت في المنافقين لكونهم ثبطوا غيرهم ، وهذا مروي عن الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن زيد ، والأصم ، وأبي علي (٣) ، وقيل : نزلت في المؤمنين ؛ لأنه ابتدأ فقال :

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ١٣٠).

(٢) زاد المسير (٢ / ١٣٠).

(٣) تفسير الطبرسي (٥ / ١٥٦).

٤٠٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال : (وَإِنَّ مِنْكُمْ) وقد قال تعالى في المنافقين : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ).

قال الحاكم : والتقدير على القول الأول : (وَإِنَّ مِنْكُمْ) على زعمه (١) في الظاهر أو في حكم الشرع.

ثمرة ذلك : تأكيد وجوب الجهاد وتحريم التثبيط عنه ، وهذا من المعاداة باللسان وقد قال أهل المذهب : من عادى الإمام بلسانه من غير أن يقاتله فسق.

قوله تعالى :

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [النساء : ٧٤]

هذا تأكيد لوجوب الجهاد ، واختلف من أراد ، فقيل : المنافقين الذين ثبطوا غيرهم ، فيكون وعظا لهم بأن يبدلوا التثبيط بالجهاد ، ومعنى (يَشْرُونَ) أي : يشترون.

وقيل : هذا خطاب للمؤمنين ، ومعنى (يَشْرُونَ) أي : يبيعون. عن الأصم ، وأبي علي ، وأبي مسلم.

قوله تعالى

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) [النساء : ٧٥]

قوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) هم الذين أسلموا بمكة ، وصدهم المشركون

__________________

(١) على زعمه : فتح الزاي لغة الحجاز ، وضمها لغة بني أسد ، وكسرها لغة قيس ، وتميم ، على رواية الكسائي ، والفراء ، (شمس العلوم).

٤٠٦

عن الهجرة ، والمعنى : في سبيل الله ، وفي خلاص المستضعفين ، أو يكون المعنى : بيان الأخص من سبيل الله وهو خلاص المستضعفين.

وثمرة ذلك : تأكيد لزوم الجهاد لأنه تعالى وبخ على تركه ، وتدل الآية على لزوم استنقاذ المسلم من أيدي الكفار ، ويأتي مثل هذا استنقاذه من كل مضرة من ظالم ولص وغير ذلك ، ووجه مأخذ ذلك ـ أنه تعالى جعل ذلك كالعلم للانقطاع إليه ، وتدل على ان حكم الولدان حكم الآباء ؛ لأن الظاهر أنه أراد الصغار.

قال جار الله : ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر ، وبالولدان العبيد والإماء ، يقال لهما : وليد ووليدة (١).

وتدل الآية على أن للداعي حقا عند الله تعالى ؛ لأنه جعل ذلك اختصاصا لنصرته ، وتدل على لزوم الهجرة من الكفار ، وأن المؤمن لا يذل نفسه بجعل نفسه مستضعفا ؛ لأنه تعالى أوجب المقاتلة لزوال الغلبة عليهم ، وفي الآيات هذه تأكيدات متتابعة على لزوم الجهاد.

قوله تعالى

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧]

ثمرة الآية : أن الجهاد كان غير واجب ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة فلما هاجر إذن له في الجهاد.

وأما الصلاة والزكاة (٢) فكانتا واجبتين في مكة ، واختلفوا في الذين

__________________

(١) الكشاف (١٥٤٣)

(٢) أما الزكاة فإنما فرضت في المدينة ، وسيأتي في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أن الزكاة فرضت في المدينة. (ح / ص).

٤٠٧

نزلت فيهم ، فقيل : نزلت في جماعة من المؤمنين ، استأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القتال وهم بمكة فلم يأذن لهم ، فلما كتب عليهم القتال وهم بالمدينة قال فريق منهم : ما حكى الله ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة والسدي (١) ، وقيل : نزلت في اليهود.

عن مجاهد : وقيل : نزلت في المنافقين. عن أبي علي.

قوله تعالى

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨]

روي أن اليهود لعنت تشاءمت برسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : منذ دخل المدينة نقصت ثمارنا ، وغلت أسعارنا ، فرد الله عليهم وقال : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يبسط الأرزاق ويقبض على حسب المصالح ، ثم قال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) أي : من نعمة (فَمِنَ اللهِ) تفضلا منه (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي : بلية أو مصيبة (فَمِنْ نَفْسِكَ) لأنك السبب فيها بما كسبت يداك (٢).

وعن عائشة : «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها ، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر» وقد قال العلماء : إن ذلك يكون لذنب ، وقد يكون ابتلاء.

وثمرة الآية : الرد للتطاير والتشاؤم ، وقد وردت أخبار تؤلت على أن الله تعالى يفعل المضار ابتلاء للثبت من غيره ، وإلا فلا تأثير لذلك كما لا تأثير للنجوم عند نزول المطر ، وإن فعل الله تعالى ذلك عند مطالع النجوم المخصوصة.

__________________

(١) الطبرسي (٥ / ١٦٣) ، الطبري (٤ /) ، زاد المسير (٢ / ١٣٤).

(٢) أخرجه صاحب الكشاف (١ / ٥٤٦) الطبرلسي في تفسيره (٥ / ١٦٨).

٤٠٨

قوله تعالى

(فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء : ٨٠]

في الآية تقدير أي : ومن تولى فأعرض عنه ، قيل : هذا منسوخ بآية السيف ، وقيل : لا نسخ فيه (١).

قوله تعالى

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢]

قال الحاكم : في هذا دلالة على وجوب النظر ، وبطلان التقليد (٢) ، وهذه المسألة فيها تفصيل في كتب الكلام.

قوله تعالى

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) [النساء : ٨٣]

قيل : في سبب نزولها أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا معرفة لهم بالأمور كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله ، من أمن ، أو سلامة ، أو خوف أذاعوه ، وكانت إذا عتهم مفسدة ، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى أولي الأمر ، وهم كبار الصحابة الذين لهم خبرة بأحوال الحروب وتدبيرها لعرفوه بفطنتهم واستنباطهم.

وقيل : كانوا يسمعون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولي الأمر أنهم يأمنون من بعض الأعداء ، ويخافون من بعضهم ، فينشرون ذلك ، فيعود مفسدة ببلوغه إلى الأعداء (٣) ، وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين أخبارا من

__________________

(١) حيث أريد أعرض عنهم إذلالا لهم ، يعني : لا تواسيهم ، كما سبق قريبا ، وإن كان بمعنى ترك القتال فهي غير منسوخة.

(٢) الكشاف (١ / ٥٤٧ ـ ٥٤٨).

(٣) نفس المصدر.

٤٠٩

السرايا من غير علم ، فيذيعونها فتحصل مفسدة ، وقيل : إنها نزلت في المنافقين ؛ لأنهم كانوا يظهرون أسرار رسول الله ، ويبادرون بأخبار السرايا فيذيعونها ، وقيل : إنه عليه‌السلام لما اعتزل نساءه أذاع ناس أنه عليه‌السلام طلقهن (١).

وثمرة ذلك : أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين ، وأن إذاعته قبيحة ، وأنه لا يخبر بما لا يعرف صحته ، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا ، وتدل على صحته الاجتهاد والقياس لأنه استنباط.

قوله تعالى

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ٨٤]

ثمرته : وجوب الجهاد ، ووجوب الحث عليه والتحريض (٢).

قوله تعالى

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) [النساء : ٨٥] (٣)

اختلف المفسرون ما أراد بالشفاعة (٤) ، فقيل : الشفاعة الحسنة ما

__________________

(١) مسلك (٢ / ١١٠٥) ، زاد المسير (٢ / ١٤٥).

(٢) مع قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

(٣) (كِفْلٌ مِنْها) أي : نصيب من وزرها مساولها في القدر ، والكفل والصغر ، قال تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي : مثلين ذكره في شمس العلوم ، وفي الصراط المستقيم : (إنما قال في الحسنة نصيب لإطلاقه على القليل والكثير ، وفي السيئة (كِفْلٌ) لأنه إنما يقال في المثل ، وفي الرديء ، وأما قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يكفلان لكم العذاب. اه (ح / ص).

(٤) الكشاف (١ / ٥٤٩) ، والطبرسي (٥ / ١٧٨) الخازن (١ / ٤٠٤) ، القرطبي (٥ / ٢٩٥) ، زاد المسير (٢ / ١٥٠ ـ ١٥١)

٤١٠

يجلب بها نفع بها لمسلم ، أو يدفع بها عنه شرا ، وابتغى بها وجه الله ، ولم يؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز لا في حد يلزم ، ولا حق واجب عليه (١) ، والشفاعة السيئة خلاف ذلك.

وروي عن مسروق أنه شفع فأهدى إليه المشفوع له جارية ، فغضب وردها ، وقال : لو علمت ما في قلبك لم أتكلم في حاجتك ، ولا أتكلم فيما بقي منها ، ولعل هذا تحرج منه ، وإلا فقبول المجازاة على الإحسان جائز.

واعلم : أن الشفاعة داخلة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد يكون الأمر واجبا ، وقد يكون مندوبا ، فهكذا الشفاعة ، وفيها ترغيبات.

وقد أفرد الحاكم في (السفينة) بابا في الترغيب فيها ، وروى فيها أخبارا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : الشفاعة الدعاء بالخير والسرور (٢).

وروي في سبب في نزولها أن اليهود والمنافقين كانوا يدعون على النبي عليه‌السلام بالهلاك ، وكانوا إذا دخلوا يقولون : السام عليك ، والسام هو الموت.

وروى (في الكشاف) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له ، وقال له الملك : ولك مثل ذلك» (٣) فذلك النصيب ، والدعوة على المسلم بضد ذلك ، وهذا المعنى هو ثمرة الآية من طلب النفع ، ودفع المضرة ، والدعاء للمسلم.

__________________

(١) لعله يأتي في مثل حقوق الله تعالى كالزكاة ، ونحوها ، والله أعلم ـ وفي النيسابوري ما لفظه : ولا في إبطال حق من الحقوق. (ح / ص).

(٢) الكشاف : (١ / ٥٤٩)

(٣) ومثله الطبرسي (١ / ١٨٧) ، وانظر تخريج الكشاف.

٤١١

قوله تعالى :

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء : ٨٦]

النزول : قيل : نزلت الآية في قوم بخلوا بالسلام ، وقد اختلف المفسرون ما المراد بالتحية في الآية؟ فقال الأكثر : إن المراد السلام ، وهو أحد معاني التحية (١) في اللغة ، قال الشاعر :

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل

وقيل : المراد بها الدعاء ، وقيل : الهبة ، والظاهر هو الأول وقد أفادت أن المسلم إذا قال : السلام عليك ؛ أن تقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

والمثل أن يقول : وعليك ، أو تقول مثل كلامه.

قال جار الله وغيره : وفي الحديث : (أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلام عليكم ، فقال : وعليكم السلام ورحمة الله ، وقال آخر : السلام عليكم ورحمة الله ، فقال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، فقال آخر : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليك ، فقال الرجب تقصيتني ، فأين ما قال الله تعالى؟ وتلا هذه الآية ، فقال عليه‌السلام : «إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله».

هذا هو الظاهر في رواية رواها في السنن عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السلام عليك ، فرد وقال : عشرا ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله ، فرد وقال : عشرين ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه وقال : ثلاثين).

وفي رواية (فجاء آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ،

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٤٩)

٤١٢

ومغفرته ، فقال : أربعون ، وقال : هكذا يكون الفضل ، وقد سمع (عشر) و (عشرون) و (ثلاثون) بالرفع.

وقال النووي في الأذكار : وفي كتاب ابن السني ، بإسناد ضعيف عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان رجل يمر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرعى دواب أصحابه فيقول : السلام عليك يا رسول الله فيقول له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه» فقيل : يا رسول الله تسلم على هذا سلاما ما تسلمه على أحد من أصحابك ، فقال : «وما يمنعني من ذلك ، وهو ينصرف بأجر بضعة عشر رجلا» وهذا الإطلاق يقتضي أن المسلّم عليهم يردون جميعا ، لكن ذلك مخصص بالخبر المرفوع إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم) فصار الابتداء سنة على الكفاية ، والرد فرضا على الكفاية.

قال جار الله : ولا يرد السلام في الخطبة ، وقراءة القرآن جهرا ، ورواية الحديث ، وعند مذاكرة العلم ، والأذان والإقامة.

وعن أبي يوسف : لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج ، والمغني ، والقاضي لحاجته ، ومطيّر الحمام ، والعاري من غير عذر ، ومن سلم على سامع الخطبة ، فإن جعلنا الكلام حال الخطبة محظورا لم يستحق جوابا.

وإن قلنا : إنه مكروه ، قال النووي : اختلف أصحاب الشافعي فقيل : لا يرد لتقصيره ، وقيل : يرد واحد لا أكثر.

وفي الكافي : لا يرد السلام عند الهادي ، والناصر ، ويجب رده عند القاسم ، ومن سلم على المؤذن فقال : أهل المذهب كأن له أن يرد ، وجاز أن يؤخر.

قال الفقيه بدر الدين محمد بن سليمان : إلا أن يخشى فوت المسلم

٤١٣

تعين الرد (١) ، فصار الابتداء سنة لأخبار وردت نحو (افشوا السلام) وهو أمر ندب وفاقا ، والرد واجب لقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

وهذه السنة أفضل من الواجب في هذا المكان ؛ لأخبار ، نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» وقد عليهم‌السلام ذلك بعض السادة المتأخرين (٢) بأن السنة هنا كانت أفضل لأنها مسببة للرد.

ثم اختلف المفسرون هل الآية عامة أم خاصة؟.

فعن عطاء : أن هذا في أهل الإسلام خاصة ، وهذا هو الظاهر من أقوال كثيرين من العلماء.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تبتدئ اليهودي بالسلام فإن بدأك فقل : وعليك».

قال جار الله : وقد رخص بعض العلماء في أن نبتدئ أهل الذمة بالسلام ، إذا دعت إلى ذلك حاجة تحوج إليهم.

وعن النخعي وأبي حنيفة : لا يبدأ الذمي بسلام في كتاب ولا غيره.

قال أبو يوسف : وإذا دخلت عليهم فقل : (السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى).

وقيل : هذا عام ، عن ابن عباس ، وفتادة ، وابن زيد ، وقيل : في أهل الإسلام بتحية بأحسن ، وفي غيرهم برد مثل تحيته ، عن الحسن (٣).

__________________

(١) هذا بناء على ثبوت حقه فقط. (ح / ص).

(٢) لعله السيد الأفضل حمزة بن أبي القاسم الآتي ذكره في تفسير قوله تعالى في سورة المائدة (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) الآية.

(٣) ولعله أخذ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فقل : وعليك).

٤١٤

وقد حكى النووي في ابتدائهم بالسلام ثلاثة أقوال :

فقول : أكثر أصحاب الشافعي : إنه محرم ، وقال بعضهم : إنه مكروه ، وقال بعضهم : إنه جائز.

قال أبو سعيد من أصحاب الشافعي : إذا أراد تحية فعلها بغير السلام ، بأن يقول : أنعم الله صباحك.

قال النووي : هذا لا بأس به إذا احتاج إليه ، يقول : صبحت بالخير ، وبالسعادة ، أو بالعافية ونحو ذلك.

فأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار أن لا يقول شيئا ؛ لأن ذلك بسط له ، وإيناس وإظهار لوده ، ونحن مأمورون بالإغلاظ عليهم.

فإن سلم على ذمي ظنه مسلما فبان ذميا ، قال ابن سعد المتولي (١) : استحب أن يسترد سلامه فيقول : رد علي سلامي ، والغرض أن يوحشه ، وقد فعله ابن عمر.

وقال مالك : لا يسترده ، واختاره ابن المغازلي المالكي.

فرع

إذا مر على مسلمين وذميين. قال النووي : فالسنة أن يسلم عليهم ، ويقصد المسلمين ، وفي الحديث (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين ، وعبدة الأوثان ، واليهود فسلم عليهم).

قال البخاري : ولا يسلم على مبتدع ، ولا على من اقترف ذنبا عظيما ، ولا يرد عليه ، وذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن كلام من تخلف عن غزوة تبوك.

__________________

(١) في الطبقات : (الأسنوي هو سعد بغير ياء ، واسمه عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري المتولي ، قال ابن خلكان : ولم أقف على المعنى الذي سمي به المتولي. (ح / ص).

٤١٥

قال كعب بن مالك وهو من الذين تخلفوا : فكنت آتي رسول الله وأسلم عليه ، فأقول : هل حرك شفته برد السلام أم لا؟

قال النواوي : فإن اضطر إلى السلام بأن دخل عليهم ، وخاف إن ترك السلام حصول مفسدة دينية أو دنيوية فإنه يسلم.

قال أبو بكر بن العربي : قال العلماء : يسلم ، وينوي أن السلام أسم من أسماء الله تعالى ، والمعنى : الله عليكم رقيب.

قال النواوي : والسنة أن يسلم على الصبيان ، وفي الصحيحين (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بصبيان فسلم عليهم).

قال : وأما النساء الأجنبيات التي يخاف الإنسان معها الافتتان فلا يسلم عليهن ، ولا يجوز لها أن تسلم عليه ، ولا أن ترد.

قال أبو سعد : وإذا مر على جماعة كره أن يخص بالسلام البعض ، لأن ذلك يوحش الباقين ، والقصد به الإيناس.

قال النووي : فإن ظن المار أنه لا يرد عليه‌السلام إن سلم ، إما لتكرار المرور عليه ، أو لغير ذلك ، فينبغي أن يسلم ، ولا يتركه لهذا الظن ؛ لأنه مأمور بالسلام ، وقد يخطئ الظن.

قال : وما قاله من لا تحقيق له : إن سلام المار سبب لحصول الإثم ، فذلك جهالة ؛ لأن المأمورات الشرعية لا تسقط بمثل هذه الخيالات.

قال : ويستحب للذي يسلم ولم يرد عليه أن يبريه ؛ لأنه حق لآدمي.

قال : ويستحب له أن يقول بعبارة لطيفة : رد السلام ؛ ليسقط عنك الفرض.

٤١٦

فرع

إذا سلم صبي ففي وجوب الرد عليه وجهان لأصحاب الشافعي ، صحح النواوي وجوب الرد لعموم الآية (١).

قال : ولو سلم بالغ على جماعة فيهم صبيان وكبار ، فرد الصبيان فهل يسقط ذلك الرد على البالغين أم لا؟ وجهان : فقال القاضي حسين ، والمتولي : لا يسقط ؛ لأنه ليس من أهل الفرض.

وقال أبو بكر الشاشي : يسقط ، كما يسقط أذانه الأذان عن الرجال ، يعني على مذهبهم (٢).

قال النواوي : ومن سلم على مشتغل بالبول ، والجماع ، والأكل ، حيث اللقمة في فيه ، والنائم ومن به النعاس ، والمصلي ، والمؤذن ، والمقيم ، ومن كان في حمام (٣) لم يستحق جوابا (٤).

أما لو لم تكن اللقمة في فيه أو كان مشتغلا بالبيع ، فالمشروع السلام ، ويجب الجواب.

قال : وأما السلام على المشتغل بقراءة القرآن ، فقال الواحدي : الأولى ترك السلام عليه ، فإن سلم كفاه الرد بالإشارة.

قال النواوي : فيه نظر ، والظاهر أنه يسلم عليه ، ويجب الرد باللفظ.

قال : ويكره أن يسلم على الملبي ، فإن سلم رد السلام باللفظ ، نص عليه الشافعي ، وأصحابه.

قال : ويحرم على المصلي أن يجيب من سلم عليه ، ويستحب أن

__________________

(١) الأذكار ص (٣٤١)

(٢) نفسه ص ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ز

(٣) نفسه

(٤) نفسه ص ٣٣٤

٤١٧

يرد السلام بالإشارة ، وإن رد بعد الصلاة باللفظ فلا بأس ، ويكره من المشتغل بقضاء الحاجة ، ولا يكره من المؤذن (١).

قال الماوردي : وإذا مر في الأسواق والشوارع المطروقة كثيرا لم يسلم على جميع من لقي ؛ لأن ذلك يشغل عن كلامهم ، ويخرج به عن العرف ، وإنما يسلم لأحد أمرين : إما لاكتساب ودا ، أو استدفاع مكروه ، يعني في البعض الذي يسلم عليه (٢).

قال النووي : فإن التقى رجلان فسلم كل واحد منهما على صاحبه ، في حالة صار كل واحد منهما مبتدئا فيجب الرد (٣).

قال المتولي ، والواحدي : إذا نادى إنسان إنسانا من خلف ستر أو حائط ، أو كتب كتابا ، أو أرسل رسولا بالسلام ، وجب الرد.

وفي الصحيحين : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعائشة : «هذا جبريل يقرئك السلام» ، فقالت : وعليه‌السلام ورحمة الله وبركاته (٤).

ويستحب أن يسلم على المبلغ ، فيقول : وعليك وعليه‌السلام ، وقد فعله عليه‌السلام (٥).

قال المتولي : وإذا سلم على أصم لا يسمع فينبغي أن يلفظ السلام ، ويشير باليد ؛ ليحصل الإفهام ؛ ويستحق الجواب ، وكذا لو سلم عليه أصم

__________________

(١) الأذكار ص (٣٤١).

(٢) نفسه ص (٣٤٧ ـ ٣٤٨).

(٣) والصحيح أنه لا يجب ، وأنهما يتساقطان لاستواء الحقين ، اللهم أن يقال : الحق فيه لآدمي مشوب بحق الله تعالى ، لكن قولهم : يستحب أن يبرئه لأنه حق لآدمي ينافي الاستدراك. والله أعلم. (ح / ص).

(٤) نفسه : (٣٣٤)

(٥) نفسه (٣٣٥)

٤١٨

رد باللسان مع الإشارة ، ويسقط عن الأخرس إذا أشار ؛ لأن الإشارة منه قائمة مقام النطق ، وإذا سلم عليه أخرس بالإشارة لزم جوابه (١).

قال أصحاب الشافعي : ويلزم أن يكون الجواب على الفور ، فإن أخره أثم ، ولم يعد جوابا ، ولا بد من إسماع المسلم عليه ، وإلا لم يعد سلاما فيستحب رفع الصوت حتى يسمعه المسلّم عليه سماعا محققا ، إلا إذا سلم على أيقاظ عندهم نيام ، فالسنة أن يخفض صوته خفضا يسمعه اليقظان ، ولا يوقظ النائم (٢).

ويكره السلام بالإشارة لما جاء في الترمذي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ليس منا من تشبه بغيرنا ، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى ؛ فإن تسليم اليهود بالإشارة بالأصابع ، وتسليم النصارى بالإشارة بالكف» وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار بالسلام ، فهو محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة.

وذكر الطحاوي : أن المستحب رد السلام على الطهارة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تيمم ، ثم رد السلام ، وقال : «كرهت أن أذكر الله إلا علي طهر) أو قال : «على طهارة».

قيل : وفي كتاب الناسخ والمنسوخ من الحديث أن هذه الكراهة منسوخة.

وعن أبي يوسف : من قال لآخر : أقرئ فلانا السلام. وجب عليه أن يفعل ، وفي السلام فروع وآداب استخراجها من جهة السنة الشريفة.

وأما من حمل التحية على الهبة ؛ فاستدل بظاهر الآية على أن المجازاة في الهبة واجبة ، وهذا قد ذكره الإمام أبو طالب ، خلافا للمؤيد بالله ، لكن حمل التحية على الهبة غريب (٣).

__________________

(١) نفسه (٣٣٥).

(٢) أخرجه النووي في الأذكار ص (٣٣٣ ح ٦٢٤).

(٣) ومن حملها على الدعاء ما يقول في الرد ، لعله يقول : يدعو له. والله أعلم.

٤١٩

قوله تعالى

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) [النساء : ٨٨]

النزول

قيل : نزلت في قوم أظهروا الإسلام نفاقا ، ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ، فاختلف المسلمون في قتالهم. عن الحسن ومجاهد (١).

وقيل : في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين ، عن ابن عباس وقتادة.

وقيل : في الذين تخلفوا عن رسول الله يوم أحد.

و (قالُوا : لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) ، فاختلف أصحاب رسول الله فيهم ، عن زيد بن ثابت (٢).

وقيل : في قوم هاجروا مع الرسول عليه‌السلام ثم ارتدوا ، واستأذنوا في الرجوع إلى مكة لبضائع لهم (٣).

وقيل : في قوم أسلموا بمكة ، ولم يهاجروا مع الرسول بدليل (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا) [النساء : ٨٩] وقيل : في العرنيين الذين أخذوا السرح ، وقتلوا يسارا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمرة الآية : تحريم الاختلاف في شأن المنافقين ؛ لأنه استفهام أريد به الإنكار.

قال الحاكم : وكذا تحريم الاختلاف في التوحيد والعدل ؛ لأن الحق فيه واحد.

__________________

(١) واد المسير (٢ / ١٥٤.) ، الكشاف (١٥٥٠)

(٢) المسند (٥ / ١٨٤) ، البخاري (٨ / ١١٣) ، مسلم (٤ / ٢١٤٢) ، الكشاف (١ / ٥٥٠) ، زاد المسير (٢ / ١٥٣)

(٣) الكشاف ١ (/ ٥٥٠) ، زاد المسير (٢ / ١٥٣ ـ ١٥٤).

٤٢٠