تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولا استأصل الله نجران وأهله ، حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم) هكذا رواه الزمخشري رحمه‌الله ، وهذا محتمل.

ومنها : جواز التغليظ في المباهلة ، بخروج الأولاد والأهل ، ويحتمل أن يأتي مثل هذا في اليمين بالله تعالى إن جوزنا التغليظ بشيء من المكان (١) والزمان ، وإن منعنا هناك منعنا هنا ؛ لأن من كان ذا مروءة احتمل الحق ، ولا يجمع أولاده ونساءه عند تحليفه.

ومنها : فضيلة على ، وفاطمة ، والحسنين ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عليا كنفسه ، والحسنين ابنين له.

ولأبي حنيفة روايتان ، إذا أوصى لبني فلان هل يدخل أولاد البنات أو لا؟ وظاهر المذهب أنهم لا يدخلون ، وأن تسمية أولاد البنات بنين مجاز ، وكان هذا خاصا ، ولهذا ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كل بني أنثى ينتمون إلى آبائهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما).

وقوله تعالى في سورة الأحزاب : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠] لا يناقض هذا لوجهين :

الأول : أنه نفى الأبوة للبالغين ، وكانا طفلين يومئذ.

والثاني : أنه قال : (مِنْ رِجالِكُمْ) فأضاف إليهم لا إليه ، أو أراد هنا أبا حقيقيا (٢) ، وتسميته بالابن مجاز.

ومنها : استحباب التأمين لمن سمع الدعاء.

__________________

(١) هو المختار حيث رآه الحاكم ، ذكره في البحر ، واحتج من جوزه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من حلف على منبري هذا) الخبر ، ولتحليف علي عليه‌السلام ، وابن عباس من أراد التغليظ عليه على المنبر ، ذكره في البحر أيضا. (ح / ص).

(٢) وهو الأقرب ، لهذا الاعتبار.

١٨١

ومنها : جواز المصالحة بمال من الكفار ، وقدره على رأي الإمام.

ومنها : جواز المحاجة في أمر الدين.

قوله تعالى

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧١]

قيل : نزلت في أهل الكتاب ، كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونبوته ، وكانوا يلبسون على الناس.

وفيها دلالة على قبح كتمان الحق ، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه ، والفتيا ، والشهادة ، وعلى قبح التلبيس ، فيجب حل الشبهة وإبطالها.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران : ٧٧]

النزول

قيل : نزلت في أبي رافع ، ولبابة بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، حرفوا التوراة ، وبدلوا صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذوا الرشوة على ذلك.

وقيل : جاءت جماعة من اليهود إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين ، فقال لهم : تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا : نعم ، قال : لقد هممت أن أميركم وأكسوكم ، فحرمكم الله تعالى خيرا كثيرا ، فقالوا : لعله شبه علينا ، فرويدا حتى نلقاه ، فانطلقوا ، وكتبوا صفة

١٨٢

غير صفته ، ثم رجعوا إليه ، وقالوا : لقد غلطنا (١) ، وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ، ففرح ، ومارهم (٢).

وعن الأشعث بن قيس قال : «نزلت فيّ ، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (شاهداك أو يمينه) فقلت : إذا يحلف ولا يبالي ، فقال : (من حلف على يمين يستحق بها مالا ، هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان).

وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق ، فحلف لقد أعطي بها ما لم يعطه وروى الزمخشري أن نزولها في أهل الكتاب.

المعنى : (يَشْتَرُونَ) أي : يستبدلون ، وقوله تعالى : (بِعَهْدِ اللهِ) أي : بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم ، وبما حلفوا به من قولهم : والله لنؤمنن به ، ولننصرنه.

وقوله تعالى : (ثَمَناً قَلِيلاً) متاع الدنيا من الترؤس ، والارتشاء ، ونحو ذلك.

وقوله تعالى : (لا خَلاقَ لَهُمْ) أي : لا نصيب لهم من النعيم.

وقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أي : بما يأمرهم.

وقوله تعالى : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) مجاز عن الاستهانة بهم.

وثمرة الآية : أن من نقض عهد الله لغرض دنيوي ، أو حلف كاذبا (٣) ، فإنه قد ارتكب كبيرة.

__________________

(١) وفي نسخة ب (وقالوا : لقد غلطنا ، وقالوا : ليس هو بالنعت).

(٢) أي : أعطاهم الميرة ، وهي الطعام.

(٣) هذا يحتمل أنه في سبب خاص ، هو تكذيبهم الأنبياء ، بعد حلفهم ، ويكون دليلا على أن الغموس كبيرة ، ويؤيد ذلك المفهوم ما قد ورد من الخبر ، ولكنه عندنا آحادي.

١٨٣

قوله تعالى

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران : ٧٩]

الرباني : منسوب إلى الرب ، وهو الشديد التمسك بدين الله ، وطاعته).

وعن محمد بن الحنفية عليه‌السلام أنه قال حين مات ابن عباس : «اليوم مات رباني هذه الأمة».

وعن الحسن : (رَبَّانِيِّينَ) فقهاء علماء. وقيل : علماء معلمين.

وكانوا يقولون : الشارع الرباني ، العالم ، العامل ، المعلم.

ثمرة ذلك : جواز هذه النسبة ، والترغيب في الأمر بالخيرات.

قوله تعالى

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران : ٨٥]

النزول

روي عن ابن عباس أن أهل الكتاب لما اختصموا في أمر إبراهيم عليه‌السلام ، وزعمت كل فرقة أنها على دينه ، فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «كل الفريقين بريء من دينه فغضبوا ، وقالوا : لا نرضى بحكمك ، ولا نأخذ بدينك» فنزلت.

وعن عكرمة : أن قوما من المشركين قالوا : نحن المسلمون فنزل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] فقعدوا عنه ، فنزل : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً).

ثمرة ذلك : أن من عدل عن دين الإسلام هلك.

قال الحاكم : والعدول عنه يكون بالردة ، والزيادة والنقصان

١٨٤

والتقصير فيلزم أن من كره حكم الشريعة ، واختار حكم المنع أن يكون مرتكبا لكبيرة.

قوله تعالى (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران : ٨٦ ـ ٨٩]

النزول

قيل : نزلت في أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بعثته ، ثم كفروا بعد البعثة حسدا ، وبغيا ، عن الحسن ، وأبي علي ، وأبي مسلم.

وقيل : نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة منهم طعمة بن أبيرق ، ووحوح بن الأسلت ، والحارث بن سويد بن الصامت.

المعنى قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) هذا استفهام ، والمراد به الجحد ، أي : لا يهدي ، ونظيره قوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) [التوبة : ٧] أي : لا يكون ، وكقول الشاعر (١) :

كيف نومي على الفراش ولما

يشمل الشام غارة شعواء

وقوله : (يَهْدِي) بمعنى : نثيب ؛ لأن الهدى بمعنى الثواب ، كقوله

__________________

(١) الشاعر : هو قيس بن الرقيات

١٨٥

تعالى : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وقيل : المعنى كيف يهديهم ، أي : كيف يزيدهم (١) ، أو كيف يحكم برشدهم.

وقوله تعالى : (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) أي تقدير ذلك وجوه :

أحدها : أن التقدير كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق ، وبعد أن جاءهم البينات ، على الحذف ، هذا عن أبي مسلم.

الثاني : أن في إيمانهم معنى الفعل ، فكأنه قال بعد أن آمنوا ، وشهدوا.

الثالث : أن الواو للحال ، بإضمار قد ، فالمعنى : كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق.

الرابع : أن التقدير : كيف يهدي الله قوما شهدوا أن الرسول حق ، وجاءهم البينات ، ثم كفروا بعد إيمانهم ، على التقديم والتأخير.

وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) قيل : نزلت في الحارث بن سويد ، حين ندم على ردته ، وأرسل إلى قومه : سلوا هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجلاس (٢) بالآية ، فأقبل إلى المدينة ، وتاب ، وقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توبته ، يروي الجلّاس بالتشديد والتخفيف.

وقيل : نزلت في رجل تنصر ، ولحق بالروم.

وثمرة الآية : جواز لعن الكفار ، وسواء كان الكافر معينا ، أو غير معين (٣) ، على ظاهر الأدلة ، وقد قال النواوي : ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام ، وأشار الغزالي على تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على

__________________

(١) أي : يزيدهم هدى.

(٢) الجلاس ـ بالجيم المضمومة ، واللام المخففة ، ذكره ابن ماكولا.

(٣) لأنه إذا جاز لعن المعين ، فغير المعين أولى بالجواز.

١٨٦

الكفر ، كأبي لهب ، وأبي جهل ، وفرعون ، وهامان ، وأشباههم ، قال : لأنه لا يدرى بما يختم له به (١).

وأما الذين لعنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأعيانهم ، فيجوز أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم موتهم على الكفر.

وأما ما ورد في الترمذي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ، والفاحش ، ولا البذيء) قيل : اللعان : مثل الضّرّاب للمبالغة ، فالمعنى : لا يعتاد اللعن ، حتى يكثر منه. هذا حكم.

ومن ثمراتها : صحة التوبة من الكافر ، والعاصي بالردة ، وغيرها ، وذلك إجماع ، إلا توبة المرتد ففيها خلاف شاذ ، فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذه الآية وغيرها.

وعند أحمد بن حنبل : لا تقبل توبته ، رواه عنه في شرح الإبانة.

قيل : وهو غلط لهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة النساء : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا) [النساء : ١٣٧] فأثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان ، ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضا ، عند جمهور العلماء ، لعموم قوله تعالى في سورة الأنفال : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

وقال إسحاق بن راهوية : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك.

__________________

(١) قد تقدم أكثر من هذا في البقرة في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الآية (١٦١). وفي سورة النساء (٥٢) في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً).

١٨٧

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) [آل عمران : ٩٠]

النزول

قيل : نزلت الآية في اليهود ، والمعنى : أن الذين كفروا بعيسى عليه‌السلام والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، أو بعد ما كانوا مؤمنين به قبل مبعثه (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بإصرارهم على ذلك ، وشدة طغيانهم ، وعداوتهم.

وقيل : نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، وازديادهم الكفر بأن قالوا : نقيم بمكة ، نتربص بمحمد ريب المنون ، وإن أردنا الرجعة نافقنا بإظهار التوبة.

وقيل : في الكفار ؛ لأنهم أقروا بأن الله خالقهم ، ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم.

إن قال قائل : ظاهر الآية أن توبة المرتد غير مقبولة ، فما هو الذي يصرف عن الظاهر؟

قلنا : الآية المتقدمة ، وسائر الآيات الدالة على التوبة ، والآثار المعلومة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول توبة كثير من المرتدين ، ولأن قبول التوبة إذا جاءت على وجهها من الواجبات على الله تعالى بالأدلة العقلية ، فأوجب ذلك صرفها عن الظاهر ، ولها تأويلات :

الأول : عن أبي العالية : أن المراد لا تقبل توبتهم عن سائر الذنوب مع إقامتهم على الكفر.

الثاني : عن ابن عباس : أنها وردت في فرقة ارتدت ، ثم عزمت على إظهار الإسلام تورية ، فأطلع الله تعالى رسوله على سرهم.

١٨٨

الثالث : أن المراد لن تقبل توبتهم إذا كفروا بعد ذلك ؛ لأنهم أحبطوها بالكفر ، عن أبي علي ، والقاضي ، وحكاه في الثعلبي عن ابن عباس ، وأبي العالية (١).

الرابع : أن المراد إذا تابوا عند حضور الموت ، وقد قال تعالى في سورة النساء : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨] وهذا يروى عن الحسن ، وقتادة ، وعطاء.

الخامس : عن مجاهد : لا تقبل بعد الموت.

السادس : للزمخشري ، قال : كنى بعدم قبول التوبة ، عن الموت على الكفر ، والفائدة في هذه الكناية التغليظ في شأن أولئك الفريق ، وإظهار الأياس لهم من التوبة (٢).

قوله تعالى

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران : ٩٢]

اختلف المفسرون : هل هذه الآية واردة في الزكاة؟ أو في غيرها؟.

فقال الأكثر : إنها واردة في الزكاة ، وهي كقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧].

وقال مجاهد : إنها واردة في غير الزكاة ، وهي منسوخة بآية الزكاة ، وقد دلت على وجوب إنفاق شيء من المال ، وأن يكون من المحبوب.

قيل : البر : الجنة. وقيل : الثواب. وقيل : الطاعة والتقوى.

__________________

(١) وهو تأويل بعيد.

(٢) فقد كنى عن عدم القبول بعدم الحصول.

١٨٩

وقيل : المراد لن تكونوا أبرارا صالحين أتقياء ، (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

وقوله : (مِمَّا تُحِبُّونَ) قيل : أراد من المال ؛ لأن المال كله محبوب.

وقيل : ينفق من الأحب ، ولا ينفق من الأدون ، كقوله تعالى : (الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) ، وقيل : مما يشتهون.

وقيل : مما تحبون إمساكه ، وقد رغبت الآية كثيرا من الناس إلى الإنفاق ، قال جار الله رحمه‌الله : كان كثير من السلف رحمهم‌الله تعالى إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.

وروي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إليّ بيرحاء ـ قيل : هذا الصواب أن هذه اللفظة بالمد (١).

وقيل : بيرحى. بالقصر ، يريد بذلك أرضا كانت له ـ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بخ بخ ، ذلك (٢) مال رابح ، أو رايح ، أي : «يروح ثوابه إليك ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في (٣) أقاربه.

وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد ، فكأن زيدا وجد في نفسه (٤) ، وقال : إنما أردت أن أتصدق به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما إن الله قد قبلها منك».

__________________

(١) بيرحاء : بفتح الباء وكسرها ، وبفتح الراء وضمها ، والمد فيهما ، وبفتحهما والقصر ، وهو اسم مال وموضع في المدينة ، وقال الزمخشري في الفائق : إنها فيعلا من البرح ، وهي الأرض الفضاء من البراح ، وقيل : هي منسوبة إلى امرأة حفرت لها ، اسمها حاء ، فركبت مزجا.

(٢) في نسخة (ذاك مال رابح).

(٣) في نسخة (فقسمها أبو طلحة بين أقاربه).

(٤) لأن أسامة بن زيد ولده ، فكأنه تخوف أن لا يكون رسول الله قد قبلها منه ، وإلا فلماذا أعطاها ابنه.

١٩٠

وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء (١) ، يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما جاءته أعجبته ، فقال : إن الله تعالى يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فأعتقها.

ونزل بأبي ذر ضيف ، فقال للراعي : ائتني بخير إبلي ، فجاء بناقة مهزولة ، فقال : خنتني ، قال : وجدت خير الإبل فحلها ، فذكرت يوم حاجتك إليه ، فقال : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي.

قال في الثعلبي : وروي أن الربيع بن خثيم جاءه سائل في ليلة باردة ، فخرج إليه فرآه كأنه مقرور ، فقال : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فنزع برنسا له فأعطاه إياه.

وروي أنه وقف على باب الربيع بن خثيم سائل ، فقال : أطعموه سكرا ، فقيل : ما يصنع بالسكر ، نطعمه خبزا أنفع له ، فقال : ويحكم أطعموه سكرا ، فإن الربيع يحب السكر.

قوله تعالى

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران : ٩٣ ـ ٩٥]

النزول

قيل : لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لليهود والنصارى : أنا على ملة إبراهيم ،

__________________

(١) بالجيم ، قرية بفارس.

١٩١

قالوا : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها (١)؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (كان ذلك حلالا لإبراهيم ، فنحن نحله) ، فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا نحرمه فإنه كان محرما على نوح ، وإبراهيم ، وهلم جرا ، حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم.

وقيل : إنه عليه‌السلام حاجهم بالتوراة فلم يجسروا على إخراجها لعلمهم بصدق خبره.

المعنى : (كُلُّ الطَّعامِ) قيل : أراد كل المأكولات على عمومه.

وقيل : أراد الطيب من الطعام.

وقوله تعالى : (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : حلالا لبني يعقوب.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) قيل : حرم العروق ، ولحوم الإبل ، عن ابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وجماعة ، وقيل : العروق ، عن مجاهد ، والضحاك.

وقيل : حرم الكبد ، والكليتين ، والشحم ، إلا ما على الظهور ، عن عكرمة.

وقيل : حرم لحوم الأنعام.

وقيل : حرم لحوم الإبل وألبانها.

واختلف ما سبب تحريمه ، فقيل : أصابه عرق النساء ، فنذر إن شفاه الله تعالى أن يحرم العروق ، وأحب الطعام إليه ، وهو لحوم الإبل ، وهذا مري عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل ، وهو قول أبي علي.

وعن ابن عباس : «أن عصابة من اليهود جاءوا إلى نبي الله

__________________

(١) منصوب بفعل محذوف تقديره : وتشرب ألبانها.

١٩٢

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم أخبرنا أيّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه ، قبل أن تنزل التوراة؟ فقال : أنشدكم الله هل تعلمون أن يعقوب عليه‌السلام مرض مرضا شديدا ، وطال سقمه ، فنذر إن عافاه الله تعالى من سقمه ليحرم أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب ذلك إليه لحوم الإبل وألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم ، فقال ابن عباس : فلما حرمه يعقوب على نفسه ، قال اليهود : حرمناه على أنفسنا ؛ لأن يعقوب حرمه على نفسه.

وعن الحسن «حرم يعقوب على نفسه لحم الجزور ، تعبدا لله تعالى ، وسأل أن يجيز ذلك ، فحرمه الله تعالى على ولده ، قبل أن تنزل التوراة.

واختلف في المحرم على بني إسرائيل ، بعد نزول التوراة ، فقيل : حرم الله عليهم بعد نزولها ما حرم قبل نزولها على إسرائيل ، فحرموه على أنفسهم اقتداء به ، وهذا مروي عن السدي (١).

وقيل : حرّم عليهم بتحريم يعقوب ، فإنه نذر أن لا يأكله هو وولده ، ولم يكن محرما في التوراة عن عطاء.

وقيل : لم يحرّم في التوراة ، وإنما حرم عليهم بعد ذلك لظلمهم وكفرهم ، وكانت بنوا إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرّم عليهم طعام طيب ، أو صبّ عليهم رجز ، وهو الموت عن الكلبي.

دليله قوله تعالى في سورة النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ

__________________

(١) وهذا وما قبله وما بعده مثله في التهذيب ، ولفظه في هذه الفقرة : (فقيل : إنه تعالى حرم عليهم ما كانوا يحرمونه قبل نزولها اقتداء بنبيهم يعقوب عن السدي).

١٩٣

ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام : ١٤٦] وقيل : لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم ، ولا حرمه الله تعالى ، وأنما هو شيء حرموه على أنفسهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله تعالى.

واختلف في تحريم يعقوب عليه‌السلام ذلك على نفسه ، فقيل : بوحي من الله تعالى ، وقيل : باجتهاد ، وقيل : بالنذر.

وقيل : إن ذلك كما يفعل المستظهر على نفسه من الزهاد.

وقيل : أشارت عليه الأطباء باجتنابه لذلك ففعل ، وذلك بإذن من الله تعالى فهو كتحريم الله ابتداء.

ثمرة الآية :

أن يقال فيها دلالة أن المطاعم كلها حلال ؛ لأنها حلال لبني إسرائيل ، إلا الذي حرم إسرائيل على نفسه فيحرم علينا ، لأن شرائع من قبلنا تلزمنا ، ما لم تنسخ عنا ، ويجاب : بأنه قد ورد الناسخ لهذه الشريعة بما ورد في شريعتنا من تحليل الأنعام وألبانها.

فإن قيل : في هذا دليل على أن ما حرم الإنسان على نفسه ، أو على ولده حرم ، قلنا : ذلك في شريعة يعقوب لا في شريعتنا فلا يحرم لقوله تعالى في سورة المائدة : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] (١) وقوله تعالى في سورة التحريم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١].

ويدل على استحباب النذر عند نزول البلاوي ، وهو ثابت في شريعتنا ، وعليه قوله تعالى في سورة الدهر : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان : ٧] ونحو ذلك.

__________________

(١) يقال : هذا نهي عن التحريم فن أين أنه لا يقع إذا فعل فينظر.

١٩٤

قال في الثعلبي : عن الضحاك ، قال : نذر يعقوب إن وهب الله له اثني عشر ولدا ، وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم ، فتلقاه ملك من الملائكة ، فقال : يا يعقوب أنت رجل قوي ، فهل لك في معالجة؟ فتعالجا فلم يصرع أحدهما صاحبه ، ثم غمز الملك غمزة فعرض له عرق النساء.

وروي : فغمزه في فخذه وقال : أما أني لو شئت أن أصرعك لفعلت ، ولكن جعل الله هذه الغمزة مخرجا لك من نذرك.

قال : وروي أنه لما أتى بيت المقدس أراد ذبح ولده ونسي قول الملك ، فأتاه الملك وذكره ، وقيل : أراد يعقوب بيت المقدس فلقيه ملك ، فظن يعقوب أنه لص ، فعالجه أن يصرعه ، فغمز الملك في فخذ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه ، فهاج به عرق النساء ، ولقي من ذلك شدة وبلاء ، وكان لا ينام الليل ، ويبيت وله صياح فحلف يعقوب لئن شفاه الله تعالى لا آكل عرقا ، ولا طعاما فيه عرق ، فحرمها على نفسه ، فجعل بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ، ويخرجونها من اللحم.

قال في الثعلبي بالإسناد إلى أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في عرق النساء : يؤخذ إلية كبش عربي ، لا صغير ولا كبير ، فتقطع صغارا فتخرج إهالته فتقسم ثلاثة أقسام ، ويشرب كلّ يوم قسم على ريق النفس (١) ، قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة فبرئوا بإذن الله عزوجل.

قال : وعن شعبة أنه قال : حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النساء ، أقسم لك بالله (٢) الأعلى لأن لم ينته دبيبك لأكوينك

__________________

(١) هكذا في بعض النسخ ، وفي النجري بهذا اللفظ ، وفي بعض النسخ (ويشرب كل يوم على ريق النفس ثلاثا).

(٢) في شرح آيات النجري (أقسم بالمليك الأعلى).

١٩٥

بنار ، ولأحلقنك بموسى ، قال شعبة : قد جربته ، تقوله وتمسح ذلك الموضع.

وفي كتاب الخواص أنه إن ضمد على عرق النساء بالحلف سكن ضرباته ، وإن طلي بالحرمل على عرق النساء نفعه ، وفي أدوية محمد بن زكريا : أنه إن استنقع في بول الغنم لعرق النساء ، والفالج ، واللقوة أبرأه.

قوله تعالى

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧]

النزول

قيل : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنها مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة ، وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وبين صدق المسلمين ، وأن فيها آيات ، ليست في بيت المقدس ، ففيها مقام إبراهيم ، (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، ولله على الناس حجه ، هذا عن مجاهد.

وقيل : لما نزل قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] قالت اليهود : نحن مسلمون ، فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين ، فأبوا» عن عكرمة.

المعنى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) قيل : المراد وضع للعبادة ، وقيل : للبركة ، وقيل : للقبلة ، وقيل : للحج ، والأول مروي عن علي عليه‌السلام ، والحسن ، والفراء ، وإلا فقد وضع قبله بيوت ، وصحح هذا ؛ لأنه أضافه إلى الناس ، وذلك يقتضي الشركة في حكم.

١٩٦

وعن أبي ذر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن أول مسجد وضع للناس ، فقال : المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس ، وسئل كم بينهما؟ فقال : أربعون سنة.

وقيل : هو أول بيت وضع على وجه الماء ، عند خلق السموات والأرض ، خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ، فدحيت الأرض تحته.

وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت ، فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وهو زبدة بيضاء إلى آخر الخبر.

واختلفوا من أول بناه؟ فقيل : إبراهيم عليه‌السلام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له : الضراح (١) ، وهو البيت المعمور ، فرفع في وقت الطوفان إلى السماء الرابعة ، تطوف به الملائكة ، فبناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم ، فبنته العمالقة ، وهم أولاد عليق بن سام بن نوح ، ثم هدم ، فبناه قريش.

وعن ابن عباس هو أول بيت حج بعد الطوفان.

وقيل : أول بيت ظهر على وجه الماء بعد أن خلق الله السموات والأرض.

وقيل : خلقه الله على وجه الماء ، وكان زبدة بيضاء عن مجاهد ، وقتادة ، والسدي

وقيل : أنزل مع آدم ليطوف به.

وقوله تعالى : (وُضِعَ لِلنَّاسِ) والواضع له الله تعالى ، وقد قرئ في الآحاد (وَضَعَ) على البناء للفاعل ، والمعنى : جعله الله متعبدا ، وقوله

__________________

(١) بالضاد المعجمة. صحاح.

١٩٧

تعالى : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) بكة ومكة لغتان ، وقيل : مكة البلد ، وبكة : موضع المسجد ، واشتقاقها من بكّه إذا زحمه لازدحام الناس (١).

وقيل : تبكّ أعناق الجبابرة ، أي : تدقها ، لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى (٢).

وقوله تعالى : (مُبارَكاً) أي : كثير البركات ، لما يحصل لمن حجه وطافه من الثواب ، وتكفير الذنوب ، وقيل : مباركا لدوام العبادة حتى يحكى أن الطواف لا ينقطع به. وقيل : : لمضاعفة الثواب.

وقوله تعالى : (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) قيل : لأنهم بحجه والصلاة إليه يكونون مهتدين.

وقيل : قبلة ومطافا ، وقيل : دلالة على الله لما جعل فيه من الأمن حتى يجتمع الصيد والكلب ، وتأمن الطيور.

وقوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ثم بين الآيات فقال : (مَقامُ إِبْراهِيمَ).

__________________

(١) قال في الحاكم مثله ((لَلَّذِي بِبَكَّةَ) قيل : بكة هي مكة عن الضحاك والمؤرخ ومجاهد وأبي مسلم ، والعرب تبدل الباء ميما يقال : سبد رأسه وسمده ، وقيل : مكة الحرم كله ، ودخل فيها البيوت ، وبكة المسجد عن ابن شهاب وضمرة بن ربيعة ، وقيل : بكة اسم للبلد ، ومكة موضع البيت والمطاف وعليه الأكثر قال أبو عبيدة : بكة بطن مكة).

(٢) في تفسير الحاكم ما لفظه (البيت واحد البيوت ، لأنه يبيت فيه الإنسان ، والبيت عيال الرجل لأنه يبيت عندهم ، والبك الزحمة بكه يبكه بكا إذا زحمه ، وتباك القوم إذا ازدحموا ، وسمي مكة بكة لأنه مزدحم الناس للطواف ، وقيل : البكة ـ دق العنق ، وسمي مكة بذلك لأنها تبك اعناق الجبابرة ، وإذا ظلموا فيها لم يمهلوا ، وقيل : سميت مكة لقلة مائها يقال : مكّ الفصيل ضرع امه إذا مص كلما فيه من اللبن).

١٩٨

قال جار الله رضي الله عنه : وإنما بين الجماعة بالواحد لوجوه :

الأول : أن الواحد مقام آيات هنا لقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، ونبوة إبراهيم عليه‌السلام ، وذلك تأثير قدمه في حجر صلد ، كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠].

الثاني : اشتماله على آيات ؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون آيات سائر الأنبياء آية ، وحفظه مع كثرة أعدائه آية.

الثالث : أن الآيات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نوع من الجمع ، ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ، ويطوى ذكر غيرهما ، دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قال : فيه آيات بينات ، مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، وكثير سواهما ، ونحوه في طي الذكر قول جرير :

كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من مواليها (١)

فلم يذكر الثالث ؛ لأنه هجاهم.

ومنه قوله عليه‌السلام : (حبب الي من دنياكم ثلاث ، الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة) فقوله : (وقرة عيني في الصلاة) ابتداء كلام ، ليس بمعطوف على الأولين ، وذلك لأنه ليس من شأنه أن يذكر شيئا من الدنيا فاستأنف الأهم.

قيل : سئل الفقيه حسام الدين ، حاتم بن منصور عن الحديث ، فأجاب : بأن من بمعنى في ، وقد جاءت كذلك ، نحو قوله تعالى : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] أي : في الأرض ، لكنه يقال : فقد حبب إليه أكثر من ذلك ، نحو الصوم ، والجهاد ، ونحو ذلك من الطاعات.

__________________

(١) ولم يذكر الثالث ، وهو الصميم منهم ؛ لأنه كان يهجوهم ، فكره ذكر الخالص منهم. (ح / ص).

١٩٩

والآيات فيه كثيرة ، مقام إبراهيم ، والأمن لمن دخله ، وامحاق الجمار مع كثرة الرمي ، وامتناع الطير من العلو على البيت ، وتعجيل العقوبة لمن هتك حرمته ، وهلاك أصحاب الفيل ، واستشفاء المريض به.

وكان سبب أثر قدمي إبراهيم عليه‌السلام أنه لما ارتفع بنيان الكعبة ، وضعف عن حمل الحجارة وضع هذا الحجر وقام عليه فغاصت قدماه.

وقيل : جاء زائرا من الشام إلى مكة ، فقالت له امرأة إسماعيل عليه‌السلام : انزل حتى نغسل رأسك ، وجاءته بهذا الحجر ، فوضع قدميه عليه ، فغاصت قدماه.

وقرأ ابن عباس ، وأبي ، ومجاهد : آية بينة على التوحيد.

وقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) هو كقوله تعالى في سورة العنكبوت (١) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].

وذلك بدعوة إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب ، وعن عمر بن الخطاب : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه.

وقيل : آمنا من النار ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة) وهما مقبرتا مكة والمدينة.

__________________

(١) في بعض النسخ (في سورة القصص) وهو سهو فالذي في سورة القصص (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [القصص : ٥٧].

٢٠٠