تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وأما في الشرائع فيجوز ؛ لأن كل مجتهد فيها مصيب ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلاف أمتي رحمة» (١) ، وسماهم الله تعالى منافقين ، وإن أظهروا الكفر تسمية بما كانوا عليه من قبل ، عن الحسن.

قوله تعالى

(فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [النساء : ٨٩]

ثمرة الآية : تحريم موالاة الكفار ، لكن قد فسرت الموالاة هنا بالمخاللة ، وقيل : لا تخذوا منهم معينا ولا ناصرا ، وتكون كما في آخرها (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) وهي تفيد أنه لا يستعان بالكافر.

وفي صحيح مسلم ما يطابق هذا ، وهو ما روي بالإسناد إلى عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج قبل بدر ، فأدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ، ففرح أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رأوه ، فلما أدركه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جئت لأتبعك ، وأصيب معك ، فقال له عليه‌السلام : «تؤمن بالله ورسوله»؟ قال : لا. قال : «فارجع فلن أستعين بمشرك».

وقالت الأئمة عليهم‌السلام والفقهاء : إن استعان بالمشركين على قتال مشركين آخرين جاز.

قال في (الشفاء) : وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعان بالمشركين يوم حنين ، وكان معه ألفان.

__________________

(١) أخرجه الهندي في منتخبه (٤ / ١٢٧) ، وعزاه لنصر المقدسي في الحجة ، واليهقي في رسالة الأشعرية بغير سند ، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم.

٤٢١

قال الأمير : وظاهر كلام الهادي ، وأحسب أنه قول النفس الزكية : إنه يشترط أن يكون معه طائفة من المؤمنين ، يتمكن بهم من إنفاذ الأحكام على المشركين ، وذهب سائر أهل البيت إلى جواز الاستعانة من غير هذا الشرط ، وقد كان يستعين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنافقين حتى نزل قوله تعالى في سورة التوبة : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وبين تعالى (١) العلة في ترك خروجهم بقوله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) (٢) أي : فسادا ، فدل أنه لا يجوز الاستعانة بمن هذه حاله.

وقد قال علي عليه‌السلام لبعض الخوارج : (ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا).

وحديث صحيح مسلم يحتاج إلى التأويل.

وأما الاستعانة بالمشركين على قتال البغاة فجائز عند الأئمة ، وأبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي (٣) ؛ لأن الجهاد فرض على الجميع ، والمقصود التّقوّي على الأعداء.

وأحد قولي الشافعي : لا يجوز ؛ لأنهم يتشفون.

ودلت الآية على وجوب الهجرة ، وقد فسرت الآية بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، فقيل : إنها محكمة ، وقيل : منسوخة بقوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، وقيل : أراد بالهجرة مخالفة الكفار ، والدخول في الإسلام. عن أبي مسلم.

وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) قال ابن عباس : عن الهجرة ، وقيل : عن الدين ، وقيل : عن النبي وأمره.

__________________

(١) ساقط في (ب).

(٢) بعد قوله تعالى : (ما زادُوكُمْ) نهاية [ب ـ ب].

(٣) وهو المختار للمذهب

٤٢٢

وقوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) قيل : أراد بالأخذ الأسر ، والقتل ظاهر ، لكن يخرج من ذلك من استثنى قتله كالنساء والصبيان ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بامرأة مقتولة فقال : «ما كانت هذه تقاتل» ، وذلك إنكار منه عليه‌السلام على وجه علله بعدم القتال ، فيدخل في هذا النساء والصبيان ، والشيخ الفاني الذي لا رأي له ، والأعمى ، والمقعد ، وأصحاب الصوامع ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول إذا بعث جيشا : «لا تقتلوا أصحاب الصوامع» وأحد قولي الشافعي : يقتل أصحاب الصوامع ، ومن دخل في الذمة ، والتزم الجزية لم يقتل.

قال الحاكم : لأنه غير معرض إذا دخل في ذمتنا ، وقيل : إن أصحاب الجزية منسوخون من الآية ، وقيل : هم مخصوصون ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوصي سراياه بأن الكفار إن امتنعوا من الدخول في الإسلام عرض عليهم أن يسلموا الجزية ، فإن قبلوا كف عنهم.

وقوله تعالى : (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) يعني في الحل أو في الحرم ، هكذا في كتب التفاسير من (الكشاف) و (التهذيب) و (الثعلبي) ، وهذا يطابق قول الشافعي : أن من وجب عليه القتل بحد أو قصاص أو ردة فالتجأ إلى الحرم ، فإنه يقتل فيه ، ومذهبنا وأبي حنيفة : لا يقتل فيه.

قال في شرح الإبانة : من حل دمه بقصاص ، أو بزنى ، أو ردة ، أو كفر أصلي فإنه لا يقتل ، فيه عند الناصر والهادي وأبي حنيفة.

وقال الشافعي : يقتل فيه.

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) وقوله تعالى في سورة العنكبوت : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) وقوله تعالى في سورة آل

٤٢٣

عمران : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) هو خبر في معنى الأمر ، فلعل الجواب أن هذا مخصص لعموم قوله تعالى : (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) يعني : في غير الحرم ، وما في كتب التفسير مطابق لقول الشافعي ، والشافعي يحمل هذه الآيات. [ب] (١).

قوله تعالى

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) [النساء : ٩٠]

ثمرة هذا الكلام الكريم : أن الله سبحانه وتعالى (٢) استثنى من الأخذ والقتل الذين يصلون إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق ، وقد قيل : إنها نزلت في بني مدلج كان بينهم وبين قريش عهد ، فحرم الله من بني مدلج ما حرم من قريش ، عن الحسن (٣).

__________________

(١) بياض في الأصول ، وفي حاشية (ح / ص). (مذهب الشافعي أن من لجأ إلى الحرم من الذين وجبت عليهم الحدود فإن الإمام يأمر بالتطبيق عليه بما يؤدي إلى خروجه ، فإن خرج أقيم عليه الحد في الحل ، وإلا جاز قتله فيه ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه / فالجواب بالتخصيص أيضا فالحرم أمن لمقترف موجب الحد لأنه لا يقام عليه إلا بعد التضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه ، وقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مخصص أيضا لأنه يقول بجواز قتال من قاتل في الحرم والله أعلم. (ح / ص).

(٢) ساقط في (ب).

(٣) زاد المسير (٢ / ١٥٨).

٤٢٤

وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي على أن من لجأ إليهم فله من الجوار مثل الذي لهلال (١).

وعن ابن عباس : أراد بالقوم الذين بينهم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد مناة ، فأراد بالوصول أي : يدخلون في غيرهم ويلحقون بهم ، وهذا مروي عن الحسن والسدي وابن زيد ، وعكرمة (٢) ، وقيل : معنى يصلون أي : ينتسبون ، هذا مروي عن أبي عبيدة.

قال الحاكم : وأنكر ذلك بعض الفقهاء ؛ لأن النسب لا يوجب حقن الدم ، ولهذا قاتل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ومن معه من ينتسب إليهم ، والذي يدل على أن الاتصال لصار بمعنى الانتساب قول الأعشى (٣) :

إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل

وبكر سبتها والأنوف رواغم (٤)

وقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) اختلف في معنى هذا الكلام فقيل : هؤلاء صنف أخر ، أخرجوا من الأخذ والقتل ، وهم قوم حصر تصدورهم أي : ضاقت عن قتال المسلمين ، وعن قتال قومهم ، فهؤلاء لا يتعرض لهم ؛ لأن قد أخرجوا نفوسهم عن المقاتلة وإن كانوا كفارا ، والمعنى قد حصرت صدورهم (٥).

__________________

(١) الطبرسي (٥ / ١٨٦ ـ ١٨٧) ، الكشاف (١ / ١٥٥) ، زاد الكسير (٢ / ١٥٧).

(٢) الكشاف (١ / ١٥٥) ، الطبرسي (٥ / ١٨٧). ، زاد المسير (٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨).

(٣) زاد المسير (٢ / ١٥٧).

(٤) البيت في ديوانه ص (٨١) ، تفسير الطبري (٤ / ١٩٩) ، والقرطبي (٥ / ٣٠٨) ، وينظر زاد المسير (٢ / ١٥٧) ، ومنه مجاز القرآن (١ / ١٣٦) ، غريب القرآن (١٢٣).

(٥) تفسير الطبرسي (٤ / ٥٠٠) ، زاد الكسير (٢ / ١٥٩) الطبرسي (٥ / ١٨٦) وما بعدها) ، القرطبي (٥ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩).

٤٢٥

وفي قراءة يعقوب (حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) بنصب التاء والتنوين ، وهذا مروي عن الحسن والسدي (١) ، إن المستثنى صنفان.

وقيل : أو بمعنى الواو والتقدير : وجاءوكم قد حصرت صدورهم ، وهم الذين (٢) لهم عهد من له ميثاق من المسلمين (٣).

وقال أبو علي : هم فرقة واحدة ، وهم قوم مؤمنون بين كفار أهل عهد ، فبين تعالى أنهم إن أقاموا بين أهل العهد أو جاءوا الرسول ، وقد ضاقت قلوبهم عن قتالكم لإيمانهم ، وضاقت عن قتال قومهم للقرابة والصلة (٤).

وقال أبو مسلم محمد بن بحر : المستثنى فرقتان من المؤمنين لهم عذر في ترك القتال ، ففرقة أرادوا الخروج إلى رسول الله لنصرته فصاروا إلى قوم من الكفار في طريقهم بينكم وبينهم ميثاق ، فلم (٥) يمكنهم الوصول إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقاموا معهم حتى تمكنوا من الوصول إليه.

والفريق الثاني : وصلوا إلى الرسول عليه‌السلام وجاءوا وقد حصرت صدروهم عن القتال للمسلمين لإيمانهم ، وعن القتال للكفار للمخافة على الأموال والذراري ، فمنع الله سبحانه من قتلهم أو (٦) أسرهم.

قال جار الله : يحتمل أن يكون العطف على صفة قوم ، والمعنى : إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم كفوا عن القتال ، ويحتمل

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ١٥٩) ، الطبري (٤ / ٢٠٠) ، الطبرسي (٥ / ١٨٥) ، تفسير ابن كثير (١ / ٨٤٣) ، القرطبي (٥ / ٣٠٨).

(٢) في (أ) : الذي.

(٣) انظر الكشاف (١ / ٥٥٢) ، الخازن (١ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨) ،

(٤) التهذيب للحاكم الجشمي (خ)

(٥) في (ل) : ولم. ونهاسة [٣٤ ب ـ أ]

(٦) في (ل) : وأسرهم.

٤٢٦

أن يكون معطوفا على صلة (الَّذِينَ) ، والمعنى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ، أَوْ) الذين (جاؤُكُمْ) قد (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (١).

قال : والوجه العطف على الصلة لقوله تعالى : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) فجعل تركهم القتال سببا لترك التعرض لهم ، فعلى الوجه الأول الواصل فريقان ، وعلى الثاني الواصل فريق واحد.

وفي قراءة أبي : (جاءوكم) بغير واو عطف ، ويكون بيانا ل (يَصِلُونَ) ، أو بدلا ، أو صفة بعد صفة ، فهذه أقوال في معنى الآية بناء على أنه لا نسخ في الآية ، بل تحمل على من له عهد ، أو على المؤمنين (٢).

وقيل : هي منسوخة بآية السيف (٣) ، وأنكر الأصم النسخ.

وإنما يكون النسخ إذا حملت على كافر لا عهد له ، وإذا حملت الآية على كلام أبي علي وأبي مسلم دلت على أن الجهاد يسقط بالأعذار (٤).

قوله تعالى

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [النساء : ٩١]

المعنى : بيّن الله تعالى طائفة أخرى صفتهم النفاق ، وطلب إرضاء المؤمنين والكفار ليأمنوا الجميع.

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٥١) مع اختلاف بسيط عن ما هنا ، ولعل المؤلف أخذ بالمعنى.

(٢) الكشاف (١ / ٥٥٢) ، القرطبي (٥ / ٣١٠).

(٣) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص (١٤) ، الناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلاكة ص (١١٢) ، نواسخ القرآن ص (١٣٣) ، زاد المسير (٢ / ١٥٩) ، تفسير الطبرسي (٤ / ٢٠١ ـ ٢٠٢) ، تفسير ابن كثير (١ / ٨٤٣) ، الخازن (١ / ٤٠٨).

(٤) نفس المصدر.

٤٢٧

قيل : نزلت في المنافقين (١) ، وقيل : في قوم بني أسد وغطفان ، كانوا إذا وصلوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين ، وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا (٢) ، وقيل : في قوم بني عبد الدار ، كانوا بهذه الصفة (٣).

وقوله تعالى : (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) قيل : الفتنة الشرك أي : كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين قلبوا فيها أشنع قلب ، والركس : الرد على الرأس (٤).

وقوله تعالى : (لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) أي : يعتزلوا قتالكم ، وللآية دلالتان منطوقة ومفهومة :

فالمنطوقة : أنهم إن لم يعتزلوا القتال ، ويكفوا أيديهم جاز أخذهم وقتلهم ، وهذا ظاهر.

والمفهومة : أنهم إن اعتزلوا القتال وكفوا أيديهم لم يقاتلوهم ، وهذا كلام أبي علي ، والأصم ، وقالا : مع آخرين لا نسخ في هذه الآية (٥).

وقال جماعة : إنها منسوخة ، وإنه لم يحارب أهل النفاق (٦).

وقوله تعالى : (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) قيل : يعني في الحل والحرم ، أو

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ١٦٠) ، ابن كثير (١ / ٨٤٤) ، الخازن (١ / ٤٠٨) ، الطبرسي (٥ / ١٨٨) ، الطبري (٤ / ٢٠٢).

(٢) زاد المسير (٢ / ١٦٠) ، الخازن (١ / ٤٠٨) ، الطبرسي (٥ / ١٨٨) ، الطبري (٤ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣).

(٣) زاد المسير (٢ / ١٦٠) ، الخازن (١ / ٤٠٨) ، الطبرسي (٥ / ١٨٨) ، الطبري (٤ / ٢٠٣) وما بعدها.

(٤) الطبرسي (٥ / ١٨٨ ـ ١٨٩) ، الطبري (٤ / ٢٠٤).

(٥) التهذيب للحاكم الجشمي (خ) ، رهن التحقيق)

(٦) نواسخ القرآن ص (١٣٤) هبة الله ص (١١٢) ، زاد المسير (٢ / ١٦١).

٤٢٨

في أي : موضع من الأرض ، وفي ذلك ما تقدم (١) أن هذا يدل على قول الشافعي : إن من التجأ إلى الحرم وعليه قصاص ونحوه قتل.

وفي كلام الأئمة وأبي حنيفة : أنه لا يقتل ، لكن لا يطعم ولا يسقى ولا يبايع.

قوله تعالى

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء : ٩٢]

النزول :

قيل : إنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي لما قتل الحارث بن زيد العامري ، ولم يعلم بإسلامه ، عن مجاهد وعكرمة (٢) والسدي ، وذلك أن عياشا أسلم قبل أن يهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما خاف من أهل مكة إن ظهر إسلامه خرج إلى المدينة وتحصن في أطم من آطامها ، والأطم : الحصن ، فجزعت أمه من إسلامه ، فأمرت إبنيها أبا جهل ، والحارث بن زيد بن أبي أنيسة ، وكانا أخويه لأمه ، وقيل : أبو جهل هو

__________________

(١) تقدم في آخر تفسير قوله تعالى : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية.

(٢) زاد المسير (٢ / ١٦١) ، القرطبي (٥ / ٣١٣) ، الطبري (٤ / ٢٠٥) ، الطبرسي (٥ / ١٩٠ ـ ١٩١) ، الكشاف (١ / ٥٥٢).

٤٢٩

أخوه لأمه ، ثم إنها حلفت لا يظلها سقف ، ولا تذوق طعاما حتى يأتيا به ، فخرجا له فحلفا لا يصيبانه بمكروه ، وفتل أبو جهل منه في الذروة والغارب (١) ، وقال : أليس محمد يحثك على صلة الرحم ، انصرف وبر أمك وأنت على دينك ، فنزل وذهب معهما ، ولما خرجوا من المدينة كتفاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة (٢).

قال جار الله : فقال للحارث : هذا أخي فمن أنت يا حارث؟ لله علي إن وجدتك خاليا أن أقتلك ، وقدما به إلى أمه ، فحلفت لا تحل كتافه أو يرتد.

قيل : وترك مكتوفا في الشمس حتى أعطاهم الذي أرادوا.

وقيل : إن الحارث قال له : إن كان الذي كنت عليه هدى فقد تركته ، وإن كان ضلالة فقد دخلت فيه ، فغضب عياش وحلف إن وجده خاليا ليقتلنه ، ثم إن عياشا أسلم وهاجر إلى المدينة ولقي الحارث وقد أسلم ولم يعلم بإسلامه ، فقتله بظهر قباء ، فأخبر بإسلامه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فنزلت الآية (٣).

__________________

(١) في حاشية الكشاف : وقيل : الذروة أعلى السنام ، والغارب مقدمه ، وهو كناية عن المكر والخديعة ، وأصله أن الرجل إذا أراد إيناس البعير الصعب ليزمه فينقاد له جعل يمر يده عليه ، ويمسح غاربه ، ويفتل وبره حتى يستأنس ، ويضع عليه الزمام.

(٢) عبارة البغوي : وقالت لابنها الحارث وأبي جهل بن هشام ، وهما أخواه لأمه : والله لا يظلني سقف ، ولا أذوق طعاما حضر ، ولا شرابا حتى تأتوا به ، فخرجا في طلبه ، وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة ، وحكى القصة ، وعبارة الكشاف والنيسابوري : فخرج أبو جهل ، ومعه الحارث بن زيد بن أبي أنيسة ، ففي عبارة الكتاب بعض اضطراب. (ح / ص). وستأتي القصة أيضا في العنكبوت في تفسير قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ).

الكتف : شدّ يد الرجل إلى خلفه. والكتاف : الحبل الذي يكتف به.

(٣) الكشاف (١ / ٥٥٢ ـ ٥٥٣).

٤٣٠

وقيل : كان الرجل يسلم من قومه وهم مشركون ، فيغزوهم من جيش المسلمين فيقتل الرجل فيمن يقتل ، فنزلت الآية.

عن عطاء (١) : وقيل : نزلت في أبي الدرداء وذلك أنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له ، فوجد رجلا في غنيمة له فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ، فبدر بضربه ، ثم جاء بغنمه إلى قومه فوجد في نفسه شيئا ، فذكر ذلك للرسول عليه‌السلام فقال : «ألا شققت عن قلبه ، وقد أخبرك بلسانه ولم تصدقه» ، فنزلت الآية ، عن ابن زيد (٢).

المعنى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ، في معنى ذلك أقوال للمفسرين :

الأول : ذكره جار الله أي : ما صح له وما لاق مثل : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ثم قال : (إِلَّا خَطَأً) أي : إلا حال خطائه ، أو إلا قتلا خطأ (٣).

القول الثاني : أن إلا عاطفة ، وليس باستثناء بل هي بمعنى الواو ، والتقدير : وما كان له أن يقتل عمدا ولا خطأ ، ونظيره قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : ولا الذين ظلموا (٤) ، وقال الشاعر :

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروانا

__________________

(١) التهذيب (خ).

(٢) الطبري (٤ / ٢٠٦) ، زاد المسير (٥ / ١٩١) ، ابن كثير (١ / ٨٤٥) ، الخازن (١ / ٤٠٩).

(٣) الكشاف (١ / ٥٥٢).

(٤) فيما ذكر نظر ؛ لأن قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) ليست إلا بمعنى الواو ، بل على أنها للاستثناء ، كأنه قال : إلا الذين ظلموا ، وهم كفار قريش فبقيت لهم الحجة ، وهو أنهم قالوا : صلى محمد إلى الكعبة التي هي متعبدنا ، هكذا ذكر الزمخشري هذا المعنى. (ح / ص).

٤٣١

يعني : ولا دار مروان (١).

القول الثالث : مروي عن أبي هاشم والسدي أن المعنى : ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا وإيمانه باق إلا أن يكون خطأ ، وقيل : المعنى ما كان قتل المؤمن يترك فيه القصاص إلا أن يكون خطأ ، هذا مروي عن الأصم.

وقال علي بن موسى القمي : المعنى ليس له قتل المؤمن إلا أن يتوسمه مشركا في دار الحرب ، وقيل : إن الاستثناء منقطع ، وإن إلا بمعنى لكن ، وقد جاء نحو ذلك في قوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) وليس اللمم بكبيرة ، وقال تعالى في سورة النمل : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) وقال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

والقصاص والدية والكفارة تتعلق بفعل العبد ، وهو تفريق البنية التي يتعقبها زهوق الروح ففي القتل موت ، وقد يكون الموت لا قتل فيه ، وخروج الروح وهو : النّفس المتفرّق في الأعضاء مفوّض إلى الملك ، وقد أعطاهم الله تعالى (٢) آلة يتمكنون بها من إخراج ذلك من بدن الإنسان.

وأما الموت فإن جعل معنى فهو أمر ثالث من فعل الله تعالى ، وهذا

__________________

(١) الظاهر أن جار الخليفة بيان لواحدة المخرجة من دار المنفية ، وإلا دار مروان إخراج بعد أخراج ، ويجوز أن تكون غير صفة ، والمعنى : نفي كل دار متصفة بالمغايرة لدار الخليفة ، إلا دار مروان ، وهذا أظهر ؛ لأن الإستثناءات المتعددة المخرجة من شيء واحد قليلا ما ترد من غير عطف ، وحينئذ لا حجة في البيت ، والله أعلم فليتأمل. اللهم أن يقال قد جعل إلا للعطف ، والبيت حجة فيه فيحقق.

(ح / ص).

(٢) ساقط في (ب).

٤٣٢

قول أبي علي والمنصور بالله ، وإن لم يجعل معنى ، وهذا قول أبي هاشم والأكثر أن المرجع به إلى تفريق البنية فليس بفعل الله تعالى.

ثمرات الآية الكريمة : يظهر في أحكام :

الأول : المنع من قتل المؤمنين عمدا ولا شبهة في ذلك ، إلا فيما دل الدليل على تخصيصه ، نحو قتل التائب قصاصا وحدا. وأما الخطأ فلا وعيد فيه ،

وللخطأ صور منها : ما يرجع إلى القاتل.

ومنها ما يرجع إلى نفس القتل.

ومنها : ما يرجع إلى القصد.

أما ما يرجع إلى القاتل فهو أن يكون صغيرا أو مجنونا فعمده خطأ ، فلا قود عليه وفاقا.

وأما ما يرجع إلى القتل فذلك بأن لا يباشر القتل ، بل يفعل سببه ، نحو أن يحفر في الطريق ، أو يميل جداره فيعنت في الطريق ، فهذا لا قود فيه ، وكذا إذا جنى عليه بما لا يقتل غير قاصد إلى قتله ، فهذا لا قود فيه ، حكى ذلك في (شرح الإبانة) عن الهادي ، والناصر ، والفريقين.

وحكى عن مالك : أنه عمد فيقتص من فاعله ، وكذلك فاعل السبب كالخاطئ وإن قصد القتل ، وإن أثم مع القصد ، نحو أن يحفر في الطريق وما أشبه ذلك.

وأما ما يرجع إلى القصد ، فذلك نحو أن تقصد رمي إنسان (١) فأصاب إنسانا آخر وصيدا فوقع في إنسان ، وقد ادعى في (الشرح) أن هذا إجماع.

__________________

(١) لعله يريد من إنسان مباح الدم ليكون فرقا بينه وبين ما يأتي في كلام الإمام زيد بعده.

٤٣٣

ومن كلام زيد بن علي عليه‌السلام : الخطأ ما أراد القاتل غيره وهو يدخل في هذا ما لو قصد رمي مؤمن ظلما ، فوقع السهم في غيره أنه يكون خطأ.

ويتعلق بهذا فروع ، وهو :

إذا قتل إنسان إنسانا ظنا من القاتل أن المقتول كافرا فبان مسلما ، ففي (الكافي) عن أبي طالب ، وأطلقه في (شرح الإبانة) و (الكشاف) و (التهذيب) : أن ذلك خطأ.

قال في شرح الإبانة : لأن المسلمين قتلوا والد حذيفة بن اليمان حسل بن جابر (١) يوم أحد فأوجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه الدية ، وكذا ما ورد في سبب نزول الآية من حديث عياش ، والحارث ، وهذا أيضا ظاهر كلام الشرح ، وما ورد في حديث عياش ، والحارث كان في دار الإسلام ، لكن قد عرف عياش أصل الكفر ولم يعرف الإيمان (٢) ، ولو ظن أن المرمي قاتل أبيه فرماه فبان غيره ، أو ظنه عبدا فبان حرا.

ففي كتاب (التذكرة) : يقتص في هاتين (٣) ، وفيما لو ظنه كافرا في دار الإسلام ؛ لأن ظنه لا يبيح القتل ، وهذا يحتاج إلى تحقيق خصوصا إذا ظنه قاتل أبيه.

الحكم الثاني : يتعلق بقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ

__________________

(١) وقيل : حسيل ، واسم اليمان حسيل بن جابر ، فاليمان لقب ، وقيل : حسل بكسر الحاء المهملة ، وسكون السين المهملة ، وحسيل : بضم الحاء المهملة تصغيره. جامع الأصول.

(٢) وهذا هو الذي لأجله كان خطأ والله أعلم ، وقد ذكره بعض شيوخ الفقه [وهو القاضي عامر بن محمد الذماري] ووجه به غالبا في الأزهار. (ح / ص).

(٣) يقال : أما في الكافر فلا يقص لقيام الدليل ، وأما فيما ظنه قاتل أبيه فيقص منه على ما خرج له في الأزهار.

٤٣٤

رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وفي هذا الحكم أطراف منها : ما يتعلق بالقاتل ومنها ما يتعلق بالمقتول ، ومنها ما يتعلق بالرقبة المكفر بها.

أما ما يتعلق بالقاتل فالآية عمت ، فدخل في عمومها الصغير ، والمجنون ، والكافر ومن قتل نفسه ، وفاعل السبب والمباشر.

أما الصبي والمجنون ، فقد أخذ الشافعي بالعموم فأوجب عليهما الكفارة ، ومذهبنا وأبي حنيفة : لا كفارة عليهما ، ويخصمها من العموم بأن الكفارة قربة ، وليس من أهل القربة ، ولقوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق» (١).

إن قيل : إن في الخبر «عن النائم حتى يستيقظ» ، ولا خلاف بأن النائم لو انقلب على مؤمن فقتله أن عليه الكفارة ، أجيب : بأنه من جنس المكلفين.

وأما الكافر إذا قتل مؤمنا ، فعموم الآية يقضي بلزوم الكفارة له ، وقد أخذ بذلك (الشافعي) وعندنا و (أبي حنيفة) أن الكافر لا كفارة عليه (٢) ، وتخصيص العموم أنه ليس من أهل العبادة والقربة ، والكفارة عبادة وقربة.

أما إذا قتل إنسان نفسه ، فحكى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عن أئمة العترة و (أبي حنيفة وأصحابه) والخراسانيين من أصحاب الشافعي : أنه لا كفارة (٣) ، ولعل الوجه أن الدية إذا سقطت سقطت الكفارة ، وحكى عن الشافعي لزومها.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (١ / ١١٦ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٥٥ ، ١٥٨) (٦ / / ١٠١) ، (١٤٤) ، والهندي في منتخبه (٢ / ٢٦٠) وغيرهما يطول.

(٢) يعني : لا تصح منه ، على الخلاف في كونهم مخاطبين أم لا. (ح / ص).

(٣) وفي البحر (فرع : العترة ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والخراسانيون من أصحاب الشافعي : ولا كفارة على من قتل نفسه ، الشافعي : بل تلزم في تركته ، قلنا : كالدية.

٤٣٥

وأما فاعل السبب فأوجب الشافعي عليه الكفارة ؛ لأنه قاتل فدخل في العموم.

وأما مذهبنا فظاهر إطلاقهم أنه لا كفارة على فاعل السبب مطلقا ، كحافر بئر في الطريق ، وراش (١) وقائد وسائق ، وهذا قول (أبي حنيفة) ؛ لأنا وجدنا الدية تسقط عنه في حال ، وهو إذا فعل هذا السبب في ملكه ، وكما لا يلزم العاقلة والكفيل بالدية.

قال في (شرح الإبانة) : وكذا من شهد بالقتل خطأ ، والتعليل خفي (٢).

وأما ما يتعلق بالمقتول فقد قيدت الآية بالإيمان وبالخطأ ، وعمومها سواء قتل حرا أو عبدا ذكرا أو أنثى ، وسواء قتل عبد نفسه أو عبد غيره.

وقد قال في شرح الإبانة : تجب الكفارة إن قتل عبد نفسه ، ولو سقطت الدية عند أصحابنا والفريقين ، وعند مالك سقوط الكفارة.

وأما لو كان ذميا فمذهبنا والفريقين لزوم الكفارة لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) والظاهر أن المراد إن كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، والمعنى وهو منهم في الدين ، وهذا ظاهر الآية ، وهو مروي عن ابن عباس ، والزهري ، والشعبي ، وقتادة ، وعامة الأئمة والفقهاء ، وقيل :

__________________

(١) الذي يعمل الأرشية في البئر.

(٢) يجب في المباشرة وما في حكمها ، فالمباشرة ظاهرة ، وما في حكمها سوق الدابة ، وقودها ، وكذا الشهود إذا رجعوا ، وكذا ركوب الدابة ، ذكره في الغيث ، فالشهود إذا رجعوا لأنهم لو اعترفوا بالعمد لزمهم القود ؛ لأنهم ملجئون للحاكم ذكر معناه في الكواكب ، والقاضي عبد الله في الديباج. (ح / ص).

٤٣٦

أنه تعالى أراد به مؤمنا من أهل ذمة (١) ، عن الحسن ، وإبراهيم ، وجابر ، وأبي مسلم.

وأما إذا كان المقتول صبيا أو مجنونا فظاهر مذاهب العلماء وجوب الكفارة ؛ لأنه محكوم له بأحكام الإيمان.

وأما لو ضرب الجنين فخرج ميتا فظاهر مذاهب الأئمة وأبي حنيفة لا كفارة لأنه لا يحكم له بأحكام الإيمان (٢) بدليل أنه لا يغسل ولا يصلى عليه.

وقال الشافعي : تجب الكفارة كالصغير ، وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه في الجنين الكفارة ، فقد تأول على أن المراد به إذا أخرج حيا ثم مات.

وأما التقييد بالخطأ فدلالته المنطوقة لزوم الكفارة على الخاطئ ، وذلك إجماع ، ودلالة المفهوم أن العامد لا شيء عليه ، وهذا هو (٣) قول الهادي في (الأحكام) ، والناصر وأبي حنيفة (٤) وأصحابه.

وقال الهادي في (المنتخب) و (الشافعي) : تجب الكفارة ؛ لأن سبب وجوبها في الخطأ القتل ، وهو حاصل في العمد وزيادة ، ولأنه تعالى أطلق وجوب الكفارة في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).

__________________

(١) وتسلم الدية إلى المسلم من أهله إن وجد ، وإلا فإلى الإمام ، إذ الإمام ولي المسلم ، قيل : ولا وارث له ، وأما على القول الأول فتسلم الدية إلى أولياء المقتول المعاهدين أو الذميين ، والله أعلم.

(٢) في الزهور : لأنه كالعضو.

(٣) ساقط من (ب).

(٤) وهو المختار للمذهب ، إلا أن يكون القاتل أصله ، فإنها تلزمه ولو عمدا ، وكذا في قتل الترس تلزم فيه مع العمد ، وكذا السيد إذا قتل عبده. (ح / ص).

٤٣٧

قال الأولون : يحمل هذا المطلق على المقيد بالخطأ ، والآثار مختلفة ، ففي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خمس لا كفارة فيهن : الشرك بالله ، والعقوق بالوالدين ، وقتل النفس بغير حق ، والبهت على المؤمن ، واليمين الفاجرة» (١) ، فهذا يدل على سقوطها في العمد.

وخبر وائلة بن الأسقع قال : أتينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا له من النار» (٢).

أجاب الأولون أن ذلك على طريق الندب ، والتقرب إلى الله بالعتق لا بكونها كفارة ، إذ لو كانت كفارة لقيدها بالإيمان.

وأما ما يتعلق بالرقبة فقد قيدها الله بالإيمان ، فيدخل في اسم الرقبة الذكر والأنثى ، والخنثى.

وهل يشترط بلوغها أم لا؟ اختلفوا في ذلك ، فالمروي عن ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة : أن البلوغ شرط ، وهذا ظاهر المذهب ، ذكره في (الشرح) ؛ لأن الإيمان الحقيقي إنما يكون في البالغ.

وقال عطاء : يجزئ الصغير.

قال في (التهذيب) : وهو قول جماعة من الفقهاء ، وهكذا اختاره الإمام يحيى بن حمزة ؛ لأن لها حكم الإيمان ، وهذا ظاهر كلام

__________________

(١) أخرجه المتقي الهندي في منتخبه (٦ / ٤٣٦) ، وعزاه لأحمد. يقال : التعلق بظاهر الحديث ساقط من حيث أنه لم يأمر بالعتق ؛ لأنه لا يعتق إلا القاتل ، ومع ذلك لا حجية فيه. (ح / ص).

(٢) أخرجه أبو داود في سننه (ح / ٣٩٦٤) ، والطبراني في الكبير والهندي في منتخبه (٤ / ١٩٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى وأحمد في المسند ، وغيرهم.

٤٣٨

الزمخشري ؛ لأنه قال : المراد كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء.

وعند الحسن : لا يجزئ الصغير (١).

إن قيل : إنه تعالى قد وصف المقتول بالإيمان ، وقد أوجبتم الكفارة في قتل الصغير ، والشافعي أوجبها في الجنين ، فلم يعتبروا الإيمان الحقيقي ، ووصف الله تعالى الرقبة بالإيمان ، واعتبرتم الإيمان الحقيقي : فقلتم : لا يجزئ من الرقاب إلا البالغة.

[قال سيدنا] (٢) لعل الجواب : أن لزومها في قتل الصغير مروي عن علي عليه‌السلام : أن الكفارة تجب في الجنين إذا خرج حيا ثم مات ، ولعل هذا وفاق ، وهل يشترط سلامة الرقبة من العيوب أم لا؟

مذهبنا أن سلامتها في كفارة القتل شرط (٣) ، ويقول : لما اشترط الله تعالى كمال الدين بالإيمان ، فكذا يشترط كمال البدن.

وقال (الشافعي) : يجزي ما كان عيبه لا يضر بالعمل ، كالأعور ، والأصم ، والأجدع ، ومقطوع الأذن ، والمجبوب (٤) ، والخصي ، والصغير ؛ لأن منفعته ترتجى.

وهل يجزئ ولد الزنى أم لا؟ مذهبنا و (أبي حنيفة) و (الشافعي) : أن ذلك جائز ، وقد قال في (الشرح) : لا خلاف فيه الآن ؛ لأنه يطلق عليه اسم الرقبة المؤمنة ، وهو غير مؤاخذ بذنب غيره.

وقال عطاء ، والنخعي ، والشعبي ، والزهري ، والأوزاعي : لا يجزي عتقه في الكفارات.

__________________

(١) في (أ) : الصغيرة.

(٢) ما بين القوسين موجود في بعض النسخ.

(٣) فلا تجزئ المعيبة بأي آفة تنقص القيمة.

(٤) في بعض النسخ (المجنون) وهو خطأ.

٤٣٩

وهل يجزي عتق المدبر في كفارة القتل؟ أما مع إعساره فيجوز ؛ لأنها رقبة مؤمنة يجوز له بيعها للحاجة ، وأما مع يساره فجوزه القاضي زيد مع الكراهة (١) ، لأن الملك باق لمولاه ، ومنعه أبو طالب ؛ لأنه قد تعلق برقبته حق للعبد ، وكان ذلك نقصا.

وأما (أبو حنيفة) فهو يمنع من بيعه فلا يجوز عتقه في الكفارة ، كما قلنا في أم الولد.

تتمة لهذا الحكم

وهو أنه إذا تملك من يعتق عليه للرحامة ونوى بذلك عتقه عن الكفارة فإنه لا يجزيه عندنا و (الشافعي) ؛ والوجه أن الله تعالى قال : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) وهذا لم يحررها ، بل عتق بغير إعتاقه ؛ ولأنه عتق بسبب متقدم فأشبه ما لو اعتق أم الولد. وقال (أبو حنيفة ، وصاحباه) : يجزيه ذلك.

الحكم الثالث

يتعلق بقوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) دل ذلك على لزوم الدية للورثة ؛ لأنهم المراد بالأهل ، وعلى صحة عفو الورثة وأترابهم.

قال جار الله رحمه‌الله : لأنها كالميراث ، يعني سائر تركات الميت في كل شيء فيقضى منها الدين ، وتنفذ الوصية ، فإن لم يكن وارث فلبيت المال (٢).

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا وارث من لا وارث له» (٣).

__________________

(١) وهو المذهب.

(٢) الكشاف (١ / ٥٥٣).

(٣) احتج به الزمخشري في الكشاف (١ / ٥٥٣).

٤٤٠