تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

ميراث الذكر مع أخته أن له الثلثين ولها الثلث (١).

ووجه الاستدلال : أن الله تعالى جعل له مثل نصيب الثنتين من البنات ونصيبهما الثلثان ، فيكون له ثلثان ، وبقي ثلث تأخذه البنت ، وهذا حكم مجمع عليه ويكون (٢).

وجه الاستدلال : أنه أراد تعالى إذا خلف ابنا وبنات قسم بينهم ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، ولم يرد هنا حكم الذكر إذا انفرد ، وحكمه أنه يحوز جميع المال بالإجماع وبالقياس على الأخ من طريق الأولى ، وقد قال تعالى في الأخ : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) [النساء : ١٧٦] ولأن البنت قد زيد لها حال الانفراد مثل نصف ما كان لها حال اجتماعها بالابن ، فيجب أن يزاد للابن حال الانفراد نصف ما كان لها حال اجتماعه بالبنت ، فيحوز جميع المال ؛ ولأن وجود الابن مع البنات له تأثير في إحراز جميع المال فيجب أن يحرزه حال انفراده وإذا تعددوا أيضا بقوا فيه فيقسم بينهم ، فهذا حكم ميراث البنتين مع الانفراد من الإناث ومع اجتماعهم الجميع.

وقوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) هذا تصريح بأن للثلاث من البنات فما فوقهن الثلثين.

وأما حكم البنتين فمسكوت عنه هنا ، وقد اختلف المفسرون ، فقال أبو مسلم : إن في الآية دليلا واضحا على أن للبنتين الثلثين ، لقوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وهو يأخذ الثلثين مع الواحدة ، فدل أن الله

__________________

(١) انظر الفخر الرازي (٣ / ٥١٠ وما بعدها) الكشاف (١ / ٥٠٦) ، وظاهر هذا الكلام يقتضي أن البنتين لا يستحقان الثلثان ، لكن الأمة أجمعت على أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات ، انظر : الطبرسي (م ٢ ج : ٤ ص ٣٤ ـ ٣٥).

(٢) الكشاف (١ / ٥٠٥ ، ٥٠٦) الطبرسي (م ٢ ج ٤ ص ٣٤ ـ ٣٥).

٢٨١

تعالى جعل حظهما الثلثين ، ثم بين تعالى حكم الثلاث لقوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) تكون فوق صلة ، كقوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢] أي : الأعناق (١).

وقال كثير من المفسرين : ميراث الثنتين غير مصرح به في الآية ، لكن يستخرج من ميراث الأختين ، فإن الله تعالى قال في الأخوات : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) [النساء : ١٧٦] وإذا ثبت أن للأختين الثلثين فالبنات أولى (٢) بذلك ، ولحديث سعد بن الربيع ، ويقولون : قد نصت الآية على حكم ما فوق الثنتين من البنات ، وسكتت عن الثنتين ، والأخوات على العكس لتقاس كل صورة على الأخرى ، ولأن للبنت مع الذكر الذي هو أخوها الثلث ، فيلزم أن لا ينقص من الثلث مع أختها (٣).

وقال إبن عباس : أن الثلثين للثلاث فما فوق.

وأما الثنتان فهما كالبنت لظاهر الآية ، لكن أكثر الصحابة على خلافه ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) وهذا بين ، وأجمعو على قيام أولاد الابن مقام أولاد الميت ، وقوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) (٤) وهذا مع الذكر والأنثى والواحد والجماعة ، لكن مع الأنثى الواحدة يبقى السدس فيأخذه الأب بالتعصيب ؛ للسنة الواردة : «ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر (٥)) ،

__________________

(١) انظر الطبرسي (م ٢ ج ٤ (ص) ٣٤ ـ ٣٥) زاد المسير (٢ / ٢٦) القرطبي (٥ / ٦٣) ، (٧ / ٢٧٨) ، الفخر الرازي (٣ / ٥١٠ ـ ٥١١).

(٢) في (ب) : فالبنتان.

(٣) لقرطبي (٥ / ٦٣) ، (٣ / ٣٧٨) ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٧٧).

(٤) بعد لفظ واحد نهاية [٢ ب ـ أ].

(٥) أخرجه البخاري (ح ٦٦٧٣٢ ، ٦٧٣٥ ، ٦٧٣٧ ، ٦٧٤٦٢) ، ومسلم (ج ١٦١٥) وأحمد (٢٨٦٨) ، والطبراني في الكبير (١١ / ١٠٩٠٣) ، (١٠٩٠١) (١٠٩٠٤).

٢٨٢

وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) هذا تصريح بميراث الأم.

وأما ميراث الأب فقيل : إنه مأخوذ من الكتاب ؛ لأنه إذا أخرج الثلث ، وقد علم أن أبويه هما الوارثان له ، علم أن الباقي وهو الثلثان للأب وقيل : بل علم بالسنة والأجماع ، وإنما قيد تعالى بأن للأم الثلث إن لم يكن له ولد ثان يرثه أبواه ؛ ليخرج ما لو شاركهما في الميراث احد الزوجين ، فإن للأم ثلث الباقي ، وهو سدس مع الزوج وربع مع الزوجة ؛ لأن المستحق بعقد النكاح كالمستحق بالوصية ، هذا قول الأكثر وهو مروي عن على عليه‌السلام (١).

وعن ابن عباس : للأم الثلث كاملا (٢) وقد علل العلما بأن للأم ثلث الباقي بأنهما يشبهان الأخ والأخت (٣).

وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) لا إشكال أن الثلاثة يحجبون الأم وأن الواحد لا يحجب (٤).

أما الإثنان فمذهب الأكثر أنهما كالثلاثة في الحجب.

وقال ابن عباس : لا يحجب إلا الثلاثة (٥) ، وقد قال ابن عباس

__________________

(١) ولأن الأب أقوى في الإرث من الأم بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ، ويكون صاحب فرض وعصبة وجامعا بين الأمرين ، فلو ضرب لها الثلث لأدى في حط نصيبه بنصيبها مثال ذلك لو أن امرأة تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث وللأب الباقي حازت الأم سهمها والأب سهما واحدا ، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ، تمت تعليقة بحاشية النسخة (ب).

(٢) تفسير الطبري (م ٣ / ٦٢٠) زاد المسير (٢ / ٢٦ ـ ٢٧).

(٣) الطبري (٣ / ٦١٩).

(٤) انظر الطبري (٣ / ٦١٩ ـ ٦٢٠) زاد المسير (٢ / ٢٦ ـ ٢٧) ، القرطبي (٦٧ ـ ٦٨).

(٥) السنن الكبرى للبيهقي (٦ / ٢٢٧٩ وانظر فتح الغدير (١ / ٣٩٨) ، زاد المسير (٢ / ٢٧) ، الطبري (٣ / ٦٢٠).

٢٨٣

لعثمان : ليس الأخوان أخوة في لسان قومك ، فقال عثمان : إني لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلى وتوارثه الناس ، ومضى في الأمصار (١).

فإن قيل : لم عدل من لفظ الجمع إلى التثنية ، وهلا كان الأمر كما قال ابن عباس فما الذي أوجب مخالفة الظاهر؟ قلنا : في ذلك وجهان (٢) :

الأول : أن الآية أفادت حجب الثلاثة ولم تنف حجب الإثنين ، فحجبا بالاثنين اتباعا لحكم الثلاثة بالإثنين ، كما وجدنا ذلك في صور كثيرة كفرض البنتين والأختين والأخوة لأم.

الوجه الآخر : أن معنى الأخوة يفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية ، ففي ذلك جمع مطلق ، وأيضا لفظ الجمع يطلق على الإثنين ، قال الله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] (٣) وأنشد الأخفش :

لما أتتنا المرأتان بالخبر

فقلن إن الأمر فينا قد شهر

فحملنا على هذا المعنى لاحتماله له ؛ لأنه قول الأكثر وهو مروي عن علي عليه‌السلام ، ومن حكم المسألة أنه لا فرق في الأخوة بين أن يكونوا لأبوين أو لأحدهما ؛ لأن اللفظ مطلق (٤) على ذلك.

قال الحاكم : وهو مجمع عليه وفي (شرح الإبانة) عن الصادق ، والإمامية ، وقول خفي للناصر : أن أولاد الأم لا يحجبون وكذلك الأخوات ، وعند زيد بن علي لا تحجب الأخوات على انفرادهن حتى يكون معهن أخ.

عن ابن عباس : إنما يجحب ثلاثة أخوة ، أو ست أخوات ، قيل : وقد أجمع (٥) التابعون على خلافه ، وإنما قلنا : يحجب أولاد الأم ؛ لأن

__________________

(١) الطبري (٣ / ٦٢٠ خبر ٨٧٣٤).

(٢) الكشاف (١ / ٥٨٠) ، تفسير الخازن (١ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠) ، القرطبي (٥ / ٧٢ ـ ٧٣).

(٣) قد ذكر وجهه في قوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) في المائدة.

(٤) في (ب) : ينطلق.

(٥) في (أ) : اجتمع.

٢٨٤

الاسم ينطلق عليهم ، وقياسا على أولاد الأب ، وإنما قلنا : تحجب الأختان أو الأخوات كما تحجب الأخت مع الأخ ؛ لأن ذلك مروي عن علي عليه‌السلام ، أعني حجب الأخت مع الأخ.

ثم أن مذهب عامة أهل البيت وعامة الصحابة وجمهور فقهاء الأمصار أن الأخوة يحجبون وإن سقطوا من الإرث.

وقال ابن عباس : يرثون ما حجبوا عنه (١) ، قيل : وقد أجمع على خلافه ، وقد قيد الله تعالى في أوّل الكلام بقوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ونسق عليه قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) ظاهره مع أن الأبوين هما الوارثان (٢) ، وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) يعني قسمة التركة بين من تقدم ذكره ، وإنما قدم ذكر الوصية على الدين ، وإن كان مقدما عليها في الإخراج ؛ لأن الوصية لما كانت بغير عوض كان ذلك مظنة للتفريط فيها فأكدت بتقديم ذكرها ، والآية مطلقة لكل دين ولكل وصية لكن خرج ما زاد على الثلث بالاتفاق.

وأما الدّين فلم يفرق بين دين الله تعالى ودين خلقه ، وهذا مذهبنا والشافعي والشافعي (٣).

وقال أبو حنيفة (٤) : إنه يسقط دين الله (٥) إلا أن يوصى ، كان من الثلث ، ولا فرق بين دين الصحة والمرض على قول الأكثر.

__________________

(١) الطبري (٣ / ٦٢٣).

(٢) وإذا كان كذلك فقد حجب الأخوة الأم وهم ساقطون بالأب.

(٣) وروي عن علي عليه‌السلام (الدين قبل الوصية وليس لوارث وصيته) ، والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أي : أنه يبدأ بالدين قبل الوصية ، انظر تفاصيل الموضوع : القرطبي (٧٣ ـ ٧٤).

(٤) وكذا عن مالك ، وأبي عبد الله الداعي ، إلا العشر ، والفطرة فلا تسقط بالموت اتفاقا ، والله أعلم.

(٥) عن الوارث لا عن الميت.

٢٨٥

وقال (أبو حنيفة) : يقدم غرماء الصحة على غرماء المرض. وترتيب الديون يؤخذ من غير هذه الآية الكريمة.

وقوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً).

قال جار الله رحمه‌الله (١) : هذا تأكيد لوجوب الوصية وإمضائها ؛ لأن المعنى آباؤكم وأبناؤكم الذين أوصوا والذين لم يوصوا لا تدرون أي : الصنفين الذين أوصوا ، والذين لم يوصوا أنفع لكم ؛ لأن الموصي عرضكم لنفع الآخرة بإمضاء وصيته والذي (٢) لم يوص عجل لكم نفع الدنيا ، والمعنى أن الموصي الذي عرضكم لثواب الآخرة أنفع ، فعليكم (٣) إمضاء وصيته فيكون هذا تأكيدا لإمضاء الوصية وترغيبا في ذلك ؛ لأن الجملة المعترضة لا بد أن تؤكد ما اعترضت بينه وبينه فهذا أولى من سائر ما ذكر في ذلك ؛ لأن منهم من فسر ذلك بأن الابن إذا كان أرفع درجة في الجنة من الأب ، سال أن يرفع إليه أبوه ، وكذلك الأب ، وقيل : قد فرض الله الفرائض على ما عرف أنه الحكمة (٤).

ولو وكل ذلك إليكم ما عرفتم ، وقيل : لا تدرون بأيهم أنتم أسعد في الدنيا والدين ، فأقسموا على ما بينه لكم ، وهذا مروي عن الحسن (٥).

__________________

(١) أي : صاحب الكشاف.

(٢) في (ب) : والذين لم يوصوا.

(٣) في (أ) : لكم.

(٤) الكشاف (١ / ٥٠٩) مع بعض الاختلاف عن المصدر ، ولعل المؤلف أخذ عنه بالمعنى.

(٥) الطبري (٣ / ٦٢٣ ـ ٦٢٤) ، القرطبي (٥ / ٧٤ ـ ٧٥٢) ، الطبرسي (٢ / ٤ / ٣٧) ، زاد المسير (٢ / ٢٩) ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٧٩) ، البغوي (١ / ٤٠٣) ، أبي عطية (٢ / ١٨) ..

٢٨٦

وقيل : أقرب نفعا في الدين (١) ، عن مجاهد

وقيل : أيهم أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تمنوا موت الموروث ، عن أبي مسلم.

وقيل تربية آبائكم لكم وإنفاقكم عليهم عند الكبر لا تدرون أيهما أنفع ، عن أبي علي (٢).

وقوله تعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) يعني ما جعله لكل واحد من الفرائض المعلومة (٣).

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) إلى آخرها جعل الله تعالى حق الزوج مع حق الزوجة كالذكر من البنين مع الأنثى في المفاضلة ، وهذا على عمومه سواء كان الزوجان صغيرين أو كبيرين ، وسواء حصل دخول أم لا ، وأدخلوا في ذلك المطلقة رجعيا ما دامت في العدة ؛ لأن أحكام الزوجية باقية (٤).

واختلف إذا كان النكاح فاسدا هل تثبت فيه هذه الموارثة أم لا؟ فالذي صحح للمذهب الموارثة إذا كان شبهة نكاح (٥) ؛ لأنه قد ثبت له أحكام (٦).

__________________

(١) القرطبي (٥ / ٧٤ ـ ٧٥٢) ، الطبري (٣ / ٦٢٣ ـ ٦٢٤) ، الطبرسي (٢ / ٤ / ٣٧) ، زاد المسير (٢ / ٢٩) ، تفسير الثعالبي (٢ / ١٧٩) ، البغوي (١ / ٤٠٣) ، أبي عطية (٢ / ١٨) ، تفسير الطبرسي (م ٢ / ج ٤ / ٣٧).

(٢) وهو مروي عن أبي يعلى والقاضي أنظر : زاد المسير (٢ / ٢٩).

(٣) أي : سهاما معلومة مؤقتة بينها الله لهم ، انظر الطبري (٣ / ٦٢٤) ، واللفظ : (فَرِيضَةً) نصب على المصدر المؤكد إذ معنى (يُوصِيكُمُ) يفرض عليكم ، وقيل : هي حال مؤكدة والعامل (يُوصِيكُمُ) ، وهذا ضعيف ، انظر القرطبي (٥ / ٧٥).

(٤) القرطبي (٥ / ٧٥ ـ ٧٦) الطبري (٣ / ٦٢٤). في (ب) : لأن أجكام العدة باقية

(٥) شبهة نكاح مخصوصة لا كل شبهة. (ح / ص).

(٦) انظر حول الموضوع : شافي العليل للنجري بتحقيق أحمد بن علي الشامي (١ / ٤٧٧ ـ ٤٧٨).

٢٨٧

وقوله تعالى

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) [النساء : ١٢]

[ثمرة الآية]

ثمرة هذا أن الأخ الواحد والأخت الواحدة من الأم له السدس ، فإن كان الذي من الأم أكثر من واحد فلهم الثلث يشتركون فيه ، وقد أجمعوا أن المراد بالأخ والأخت هنا من الأم ، ويدل عليه قراءة سعد بن أبي وقاص وأبي (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) من أم (١) ، وقد حمل ذلك على أنه تفسير ، فإن كان الأخوة لأم ذكورا وإناثا كان الثلث بينهم بالسوية عند عامة أهل البيت ، وفقهاء الأمصار ، وهو مروي عن علي ـ عليه‌السلام ـ وأكثر الصحابة لقوله تعالى : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) والشركة تقتضي المساواة (٢).

وعن ابن عباس : أن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الله تعالى قال : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١٧٦] (٣).

قلنا : هذا في الأخوة لأبوين أو لأب فهو مخصوص بالإجماع وبقوله تعالى : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) وقوله تعالى : (يُورَثُ كَلالَةً) القراءة الظاهرة بفتح الراء ، وكَلالَةً منصوب إما لأنه خبر كانَ ، ويُورَثُ

__________________

(١) الطبري (٣ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩) ، القرطبي (٥ / ٧٨» ، الكشاف (١ / ٥١٠).

(٢) القرطبي (٥ / ٧٨) ، الطبرسي (م ٢ ج ٤ (ص) ٤٠ ـ ٤٣) ، الطبري (٣ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩).

(٣) الطبري (٣ / ٦٢٩) ، الطبرسي (٢ / ٤ / ٤١).

٢٨٨

صفة لرَجُلٌ ، أو يجعل خبر كانَ .. يُورَثُ وكَلالَةً حال من الضمير في يُورَثُ ، هذا كلام جار الله رحمه‌الله تعالى (١) وهذا إذا جعل لكلالة للميت.

وقرئ في الآحاد (يُوَرِّثْ كلالة) بتشديد الراء وتخفيفها بناء للفاعل ، وانتصاب (كَلالَةً) على أنه مفعول به أو حال ، وإذا جعلت الكلالة للقرابة فانتصاب (كَلالَةً) على أنه مفعول له ، أي : يورث لأجل الكلالة ، أو يورث غيره لأجلها ، وتكملة هذا بيان الكلالة.

[معنى الكلالة]

واعلم : أن الكلالة في الأصل المصدر لمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من حفى الإعياء ، قال الأعشى (٢) :

فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من وجيّ حتى تلاقى محمدا

ثم استعيرت للقرابة أو للميت ، وقد اختلفوا في الكلالة على أقوال :

الأول : أنه اسم للميت الذي يورث عنه ، وهذا قول الضحاك ، والسدي (٣) ، والمراد : إذا لم يخلف الميت والدا ولا ولدا ؛ أخذا من

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٠٩).

(٢) الكشاف (١ / ٥١٠٨ ، زاد المسير (٢ / ٣٢) ، والبيت من قصيدة للأعشى مطلعها

غتمض عيناك ليلة أرمدا

وعادك ما عاد السليم المسهدا

وهي قصيدة مدح بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في ديوانه (ص) ١٧ بشرح وتعليق د / محمد محمد حسين ، مؤسسة الرسالة ط (٧) ١٤٠٣ ه‍ : ١ / ١٦٨٣ م ، والبيت المذكور في ديوانه هكذا :

فآليت لا رأثي لها من كلالة

ولا من حفى حتى تزور محمدا

وقوله حفي بالرجل تلطف بهو بالغ في إكرامه.

(٣) وأيضا قول ابن عباس وأبو عبيدة في جماعة ، وقال أبو يعلى : الكلالة اسم للميت ولحالة صفته ولذلك انتصب. انظر زاد المسير (٢ / ٣٢).

٢٨٩

قولهم : كلّ نسب فلان إذا ذهب طرفاه ، تشبيها بالسيف كليل الحدين ، وقد سئل الهادي عليه‌السلام عن الكلالة؟ فقال : من لم يترك والدا ولا ولدا ، فجعلها عبارة عن الميت.

القول الثاني : في أن الكلالة اسم للورثة ، واختلفوا ، فقيل : اسم لما عدا الوالد والولد ، وهذا مروي عن أبي بكر ، وعمر ، وابن عباس ، وابن زيد ، وقتادة والزهري ، وابن إسحاق (١) وأجاب الهادي بذلك مرة ، وقيل : إن ذلك مشتق من الإكليل الذي يحيط بجوانب الرأس دون أعلاه وأسفله (٢) ، وصحح هذا الحاكم ، ولهذا قال الشاعر :

ورثتم قناة المجد لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

يعني عن نسب قريب لا بعيد ، وقيل : إنها لما عدا الولد (٣) ، فيدخل الأبوان ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وورّث الأخوة لأم مع الأبوين السدس (٤) ، وقيل : هم الأخوة لأم ، عن عطية (٥) ، وقيل : هي الأخوة لأب ، عن عبيدة بن عمر (٦).

وقال الناصر : هم أقرب الأقربين بالأبوين وهم الأخوة والأخوات ، والأجداد والجدات (٧).

__________________

(١) الطبري (٣ / ٦٢٥) ، زاد المسير (٢ / ٣٢).

(٢) زاد المسير (٢ / ٣٢) ، وصاحب هذا القول هو الحاكم ، ذكره ابن جدير عتة (٣ / ٦٢٥).

(٣) هناك آراء كثيرة حول الموضوع انظر الطبري (٣ / ٦٢٥ وما بعدها).

(٤) الطبري (٣ / ٦٢٥ وما بعدها). زاد المسير (٢ / ٣٠ وما بعدها) ،

(٥) ينظر زاد المسير (٢ / ٣٠ وما بعدها) ، الطبري (٣ / ٦٢٥ وما بعدها).

(٦) تفسير البرهان (خ).

(٧) انظر تفسير المصابيح للشرفي (خ).

٢٩٠

القول الثالث : أنها اسم للمال ، وهذا مروي عن النضر بن شميل (١) ، وقد ذكر الله الكلالة في موضعين ، هذا موضع وتسمى هذه آية الصيف (٢) ، والثاني في ميراث الأخوة لأب وأم وهي قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء : ١٧٦] وهي آية الشتاء.

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) والمعنى : لا يوصي وهو مضار لورثته.

قال جار الله : وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو يوصي بالثلث فما دونه يريد مضارة الورثة لا وجه الله.

وعن قتادة : كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ، فنهي عنه.

وعن الحسن : المضارة في الدين أن يوصي بدين ليس عليه ، يعني يقرّ به.

وقوله تعالى : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أي : يوصيكم الله وصية ويجوز أن يكون منتصبا بمضار ، أي : لا يضار (٣) ما أوصى به الله في الأولد بأن يدعهم عالة بإسرافه في الوصية ، وينصر هذه قراءة الحسن

__________________

(١) النضر بن شميل هو : تلميذ الخليل بن أحمد من أهل اللغة.

(٢) وفي شرح النجري : هي آية الشتاء والآخرى آية الصيف تمت حاشية النسخة (ب) ص (٤ أ).

(٣) في هذا حجة على عدم صحة الوصية مع قصد المضارة. وكذا النذر فلا يصح لأنه يكون حينئذ محظورا ؛ لأن الله تعالى عقبه بالوعيد الشديد.

٢٩١

(غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) بالإضافة ، هذا كلام جار الله رحمه‌الله تعالى (١).

وقد عقب الله تعالى ذكر هذه الفرائض التي حد بالوعد لمن أطاعه والوعيد على المخالفة ، قال الحاكم : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رواية أبي هريرة : «لو أن رجلا عبد الله ستين سنة ثم ختم وصية بضرار لأحبط الضرار عبادته ، ثم أدخله النار» (٢).

تكملة لهذه الجملة

وهي : إذا نكح المريض ثم مات من ذلك المرض ، وكذا المريضة ، فقال عامة الصحابة والفقهاء : هو كالنكاح الصحيح في الصحة ، إلا فيما زاد على مهر المثل فإنه يكون وصية إذا قصد المحاباة ، وأثبتوا الميراث بهذا النكاح وصحح أبو يوسف (٣) النكاح ونفي الموارثة.

وقال ربيعة ، وابن أبي ليلى : الميراث والصداق من الثلث (٤).

__________________

(١) انظر الكشاف ١ / ٥١٠ ، ولفظه (غَيْرَ مُضَارٍّ) حال ، أي : يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته وذلك أن يوصي بزيادة على الثلث ، أو يوصي بالثلث فما دونه ، ونيته مضارّة ورثته ومغاضبتهم لا وجه الله تعالى. وعن قتادة : كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وعن الحسن : المضارة في الدين أن يوصي بدين ليس عليه ومعناه الإقرار (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أي : يوصيكم بذلك وصية ، كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (النساء : ١١) ويجوز أن تكون منصوبة بغير مضار ، أي : لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث أو وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن : «غير مضارّ وصية من الله» بالإضافة).

(٢) الكشاف (١ / ٥١٠) وفيه : ونهى عنه. وفي (ح / ص) هذا حجة في صحة الوصية مع قصد الضرار ، والله أعلم.

(٣) وفي نسخة (وصحح أبو حنيفة) فينظر.

(٤) نفس المصدر (١ / ٥١٠) وفيه : ومعناه الإقرار.

٢٩٢

وقال الحسن البصري والقاسم بن محمد : إذا قصد مضرة الورثة لم يصح النكاح (١).

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : ومالك : يبطل بكل حال ، ولا مهر ، ولا ميراث (٢).

وقال (مالك) : إلا أن يدخل بها فلها المهر من ثلثه ، هذا من مختصر ابن أبي سراقة نقله سليمان بن ناصر.

وأما إذا طلق في حال المرض طلاقا بأئنا فالمذهب انقطاع الموارثة مطلقا لصحة الطلاق. وقال (أبو حنيفة) : لا يرثها.

وأما ميراث الزوجة فإن كان بسؤالهما لم ترثه ، وكذا إن خرجت من العدة.

وقال أحمد وابن أبي ليلى : ترثه ما لم تزوج.

وقال مالك ، والليث : ترثه مطلقا ، ونظروا إلى سد الذرائع فيقع الطلاق وتثبت الموارثة.

وقد روي التوريث عن عمر ، وعثمان ، والنظر على قولنا : هل يكون عاصيا بطلاقها في حال المرض ليقطع ميراثها أم لا (٣).

__________________

(١) نفس المصدر (١ / ٥١٠) ومنه ثم تصحيح بعض الألفاظ.

(٢) أخرجه الحاكم الجشمي في تهذيبه ، واحتج به القرطبي في تفسيره (٥ / ١٨) وينظر (٢ / ٢٧١) وقريب منه خرجه ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة ، كتاب الوصايا باب الحيف في الوصية حديث رقم (٢٧٠٤) (٢ / ٩٠٢).

(٣) الظاهر الإثم والعصيان ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من قطع ميراث وارث) الخبر ، أي : سبب ، وهذا قد سبب فلا وجه للتردد. (ح / ص).

٢٩٣

قوله تعالى

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء ١٥ ـ ١٦]

المعنى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي : النساء اللاتي تربين بالرجال لأن الفاحشة اسم للزنى لزيادته في القبح (١).

وقوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) قيل : أراد الحرائر (٢) ، وقيل : أراد المزوجات ، وقيل : أراد المحصنات دون الأبكار (٣).

وقوله تعالى : (أَرْبَعَةً) يعني أربعة ذكورا ، وقوله : (مِنْكُمْ) يعني من المسلمين ، وهذا وفاق في عدد شهادة الزنى أنهم أربعة ، واتفقوا أن العدد لم ينسخ ولا بد أن يكونوا ذكورا ؛ لأن الآية دلت على ذلك ، وإذا ثبت أن شهادة النساء غير مقبولة في الزنى ثبت في الإرعاء ، وكتاب القاضي إلى القاضي (٤) أن لا يحكم به في الزنى ؛ لأن ما قام مقام غيره لم يعمل به في الشهادة على الزنى ، وكذلك لا بد من العدالة.

وقال (مالك ، وأحد قولي الشافعي) : تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود ، وإذا كمل عدد الأربعة حكم بالشهادة ، وسواء شهدوا مجتمعين

__________________

(١) وقيل : اللاتي يفعلن الزنا أي : يزنين ، والفاحشة فهو قول الجماعة : الزنا ، وقيل : الفاحشة الفعلة القبيحة.

(٢) تفسير الطبري (٤ / ٤٧).

(٣) تفسير الطبري (٣٦٣٤) ، زاد المسير (٢ / ١٦).

(٤) في أ (وكتاب قاض إلى قاض)

٢٩٤

أم مفترقين ؛ لأن الله تعالى علق الحكم بالعدد دون الاجتماع وهذا مذهبنا وهو قول الشافعي.

وقال (أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك) : إذا افترقوا كانوا قذفه ولم يحكم بشهادتهم لأنا لو قلنا : إنهم لا يكونون قذفة مع الافتراق لزم أن لا يثبت حد القذف لأنه يجوز في كل وقت التمام للشهادة ، واشتراط عدد الأربعة في الشهود لا يفترق الحال بين أن يشهدوا على حر أو عبد ، أو على إتيان المرأة في قبلها أو دبرها ، أو إتيان الذكر ؛ لأن ذلك يطلق عليه اسم الفاحشة.

وقوله تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) هذا كان هو الواجب في زنى المرأة أن تحبس وتخلّد في الحبس إلى الموت (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) : قيل : السبيل النكاح لأنهن يعففن به ، وقيل : الحد ؛ لأن آية الحد التي في النور وهي قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] لما نزلت ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عني ، قد جعل الله لهم سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (١).

وقوله تعالى : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي : ملك الموت ، ثم أن الحبس نسخ ، واختلفوا بما نسخ ، فقيل : بآية النور ؛ لأن الكتاب إنما

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٥ / ٣١٣ ، ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣٢٠ ، ٣٢١) ، الرسالة (١٢٩ ، ٢٤٧) ومسلم في صحيحه (٣ / ١٣١٦) كتاب الحدود باب حد الزنا حديث (١٢ / ١٦٩٠) ، وأبو داود (٤ / ٢٠٢) كتاب الحدود باب في الرجم (ح / ٤٤١٥) ، والترمذي (٤ / ٤١) ، حديث (١٤٣٤) ، والدارمي (٢ / ١٨١) ، كتاب الحدود ، وابن أبي شيبة (١٠ / ٨) ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٣٩٨) رقم (١٥١٤) ، وابن حبان (٤٤٠٨ ، ٤٤٠٩ ، ٤٤١٠ ، ٤٤٢٥ الإحسان) ومصادر أخرى عديدة ينظر الناسخ والمنسوخ لعبد الله بن الحسين (بتحقيقنا) (ص) (٨٥).

٢٩٥

ينسخ بالكتاب ، وهذا قول الشافعي ، وهو محكي عن الهادي ، وأخيه عبد الله بن الحسين ، حكى ذلك القاضي عبد الله بن محمد بن أبي النجم في كتابه (التبيان في الناسخ والمنسوخ) (١).

وقال شيوخ المتكلمين وأبو طالب ، والمنصور بالله ، وأصحاب أبي حنيفة : إن الكتاب ينسخ بالسنة إذا كانت متواترة (٢).

وقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) هذا في الرجل والمرأة ؛ لأنه إذا اجتمع (٣) الرجل والمرأة غلّب المذكر ، عن الحسن وعطاء.

وقيل : هذا في البكرين من الرجال والنساء ، عن السدي وابن زيد (٤).

قال ابن عباس : الإيذاء لهما هو التعبير باللسان والضرب بالنعال (٥).

وقال قتادة والسدي ومجاهد : يقال له : ما استحييت من الله ، هتكت حرمته. وترد شهادته (٦).

قال جار الله : ويحتمل أن يكون خطابا للشهود ، وأراد بالإيذاء التهديد لهما بالرفع إلى الإمام ليحدهما ، فإن تابا قبل الرفع فأعرضوا عنهما ولا ترفعوهما (٧).

__________________

(١) انظر التبيان في الناسخ والمنسوخ لابن أبي النجم بتحقيقنا ، وهذا المشهور في علم أصول الفقه وإن كان لنا أي : مخالف حول النسخ عامة من حيث وقوعه في القرآن الكريم.

(٢) انظر نفس المصدر. (وهذا هو المشهور في علم الأصول) (ح / ص).

(٣) في (ب) : جمع.

(٤) زاد المسير (٢ / ٣٥) ، تفسير الطوسي.

(٥) تفسير الطبرس (٤ / ٤٩) ، زاد المسير (٢ / ٣٥) ، القرطبي (٥ / ٨٦).

(٦) القرطبي (٥ / ٨٦).

(٧) الكشاف (١ / ٥١١) مع اختلاف بسيط عن ما هنا ، ولعل المؤلف نقل عنه.

٢٩٦

صح (١) ما قلنا : إن المراد بذلك الزنى ، هو تفسير أكثر أهل العلم ، وما قلنا : إن الآية منسوخة ، هو قول أكثر العلماء والمفسرين (٢).

قال جار الله : ويجوز أن تكون الآية هذه غير منسوخة وإنه تعالى لم يذكر الحد هنا ؛ لأنه قد علم بالكتاب والسنة ، ولكنه تعالى أمر بإمساكهن في البيوت بعد إقامة الحد عليهن صيانة لهن من إعادة الفاحشة بسبب الخروج من البيوت (٣) والتعرض للرجال (٤).

وعن أبي مسلم : لا نسخ ، ولكن نزل قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) في السحاقات (٥) ، ونزل قوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) في اللوّاطين ، ونزل قوله تعالى في النور : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] في الزنّائيين الرجل والمرأة (٦).

وردّ قوله بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» (٧) الخبر.

وبأن الصحابة اختلفوا في حد اللواط ولم يرجع أحد إلى الآية ، ومن قال بالنسخ اختلفوا في كيفيته ، فقال الحسن : كان الواجب الأذى في ابتداء الأمر ، ثم نسخ ذلك بالحبس والآية الآخرى التي فيها الأذى نزلت

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) لمزيد حول الموضوع انظر الناسخ والمنسوخ لعبد الله بن الحسين بتحقيقنا. ص (٨٣ ـ ٨٤).

(٣) في (ب) : البيت.

(٤) الكشاف (١ / ٥١١) مع بعض الاختلاف عما هنا.

(٥) السحاقات : المرأة تقع على المرأة.

(٦) الكشاف (١ / ٥١١) ، تفسير الطبرسي (٤ / ٤٨٩) ، الناسخ والمنسوخ لعبد الله ابن الحسين (بتحقيقنا) ص (٨٣) وما بعدها.

(٧) سبقت الإشارة إلى مصادره.

٢٩٧

من قبل ، ثم أمر الرسول أن تجعل في التلاوة من بعد فنسخ ذلك بالحبس ، ثم نسخ الحبس بالجلد أو الرجم (١).

وقال السدي : الحبس في الثيبين والأذى في البكرين (٢) ، وقيل : كان الحبس للنساء ، والأذى للرجال ، واختلفوا هل الناسخ الكتاب أو السنة؟ والكلام على التغريب مع الجلد سيأتي إن شاء الله تعالى (٣).

قال الحاكم : وإذا حمل الأذى على التغيير والذم فلا نسخ فيه وإن أريد به الضرب بالنعال فهو منسوخ.

وقوله تعالى : (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) هذا يدل على أنه يجب الإعراض عن الأذية لهما بعد التوبة (٤).

قال جار الله ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وكذا يجب الستر عليهما من جهة الشهود إذا تابا (٥).

قال غيره : يستحب لحديث هزّال أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «هلا سترت عليه بثوبك» (٦) إلا أن يعرف أنه لا يرتدع عن الفاحشة إلا برفعه وجب الرفع وعدم الستر.

وأما الحد فمذهبنا أنه لا يسقط بالتوبة (٧) إلا في حد المحارب ،

__________________

(١) انظر الناسيخ والمنسوخ للنحاس ص (٩٣ ـ ٩٦) ، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص (١٢٠) وما بعدها) ، تفسير الطبري (٣ / ٦٣٨ ـ ٦٣٩) ، تفسير الخازن (١ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤)

(٢) زاد المسير (٢ / ٣٥).

(٣) الطبري (٣ / ٣٨ ـ ٦٣٩).

(٤) التهذيب ، تفسير الطبري (٣ / ٦٤٠).

(٥) الكشاف.

(٦) أخرجه الحاكم الجشمي في تهذيبه واحتج به معظم من صنف في التفسير.

(٧) وقيل : إن تاب قبل الرفع سقط ، وإلا فلا. (ح / ص).

٢٩٨

والمرتد ، وقاطع الصلاة لعموم الأدلة ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حد الإمرأة التي اعترفت بالزنى ، وقال : «لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لغفر لهم» (١) وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ، وأحد قولي الشافعي ، وعن الناصر ، وأحد قولي الشافعي : يسقط الحد بالتوبة لهذا الظاهر وهو قوله تعالى : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) ولقوله في سورة المائدة : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) [المائدة : ٣٩].

قلنا : ذلك في أحكام الآخرة ، وقاسوا على توبة المحارب والمرتد.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)

المعنى : أن الله تعالى يقبل توبة عباده ، وذلك واجب على الله تعالى ، فيجب على العباد إسقاط أذاهما ، وهذا من الأدلة على وجوب قبول عذر المعتذر.

قوله تعالى :

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨]

دلت على أن توبة الملجى وهو الذي حضره الموت ، أي : أسباب الموت من معاينة الملائكة لا تقبل لأن «من شرطها بقاء التكليف.

وعن النخعي : تقبل ما لم يؤخذ بكظمه (٢).

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٤ / ٤٣٧ ، ٤٤٠) ، (٤٣٠ ، ٤٣٥) ، وأبو داود في سننه والبيهقي في سننه ، ومسلم في صحيحه. (والمعنى : أنها ندمت وحزنت حزنا وندما لو حزنوا جزأ من حزنها لكفاهم ، على معنى ما قال في ماعز (لو قسمت) وإلا لم يعد مدحا.

(٢) الكظم بالتحريك مجرى نفسه.

٢٩٩

وعن عطاء : ولو قبل موته بفواق فاقة.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (١).

وعن الحسن : أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده ، فقال : «وعزتي لا أغلق عليه (٢) باب التوبة حتى يغرغر» (٣) ، ودل أول الآية وهو قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [النساء : ١٧] (٤) أن التوبة مقبولة من أي : ذنب ولا فرق بين المرتد ، والزنديق ، والقاتل.

__________________

(١) أخرجه الترمذي وقال حسن غريب وابن ماجة في سننه () ، والحاكم في المستدرك (٤ / ٢٥٧) ، وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه أحمد في المسند (٢ / ١٣٢) (٣ / ٤٢٥) عن ابن عمر ، وأيضا مطولا من حديث عبد الرحمن البيلماني ، وقال الهيثمي في المجمع (١٠ / ١٩٧) ورجاله رجال الصحيح عبر عبد الرحمن وهو ثقة ، والطبري في تفسيره (٣ / ٦٤٣) خبر (٨٨٥٨ وما بعده) والقرطبي في تفسيره (٥ / ٩٢).

الغرغرة : تردد الروح في الحلق. ويقال : الراعي يغرغر بصوته ، أي : يردده في حلقه. صحاح.

(٢) في نسخة (لا أغلق عنه).

(٣) احتج به الطبري في تفسيره (٣ / ٦٤٣) والثعالبي في تفسيره (٢ / ١٩٢) ، ومنه المحرر الوجيز (٢ / ٢٤) ، كما احتج به الطبرسي في تفسيره (٤ / ٥١ ـ ٥٢) عن الحسن ، الخازن في تفسيره (١ / ٣٥٥) والقرطبي في تفسيره (٥ / ٩٣).

(٤) قد تقدم في آل عمران قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الآية ، فاشترط العلم عناك لوقوع الصفتين ، وهنا بخلافه. قال الحاكم في تهذيبه «بجهالة) قيل : على جهة المعصية لله ، لأن كل معصية له جهالة عن مجاهد وقتادة والضحاك ، لأن الجهل بعاقبتها يدعو إليها ، وقيل : بحال كحال الجهالة التي يعلم صاحبها ما عليه في فعلها من المضرة ، وقيل : يعلم كنه ما فيه من العقوبة فلم يجهل الذنب ولكن جهل العقوبة عن الكلبي ، والمراد به كل المعاصي ، قال أبو العالية : أجمعت الصحابة أن كل شيء عصيبه ربه فهو جهالة ، وروي نحوه عن قتادة ، وقيل : بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على الباقية عن الزجاج ، وقيل : يجهلون أنها ذنوب إما بتأويل ، أو بترك النظر ، فلا يعلمون أنها معصية عن أبي علي)

٣٠٠