تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

وثمرة هذه الآية

أن المرأة إذا نشزت أو خاف زوجها ذلك قيل : علم (١) وقيل : ظن (٢) ، وقيل : علم بقرائن الأحوال المؤدية لذلك جاز لزوجها هجرها ، وضربها ووعظها ، لكن يتعلق هذا تنبيهان :

[تعريف النشوز]

الأول : في بيان النشوز ما هو؟

فقال ابن عباس : هو عصيانها الزوج ، وهكذا عن عطاء والسدي وابن زيد ، وقيل : استعلاؤهن على الأزواج والبغض لهم (٣) ، وقيل : الاستخفاف بحقه (٤) ، وقيل : هو ان لا تجيبه إلى فراشه ، وتخرج بغير إذنه ، وتدخل منزله من يكره ، هذا كلام المفسرين.

قال أهل المذهب : من النشوز أن تقول : لا أبر لك قسما ، ولا أطأ لك فراشا ، ولا أطيع لك أمرا ، وكلامهم يرجع إلى معنى التنبيه.

الثاني : يتعلق بقوله تعالى : (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) اتفق كلام المفسرين على أن المراد الترتيب ، وهو أن يقدم الوعظ ، وذلك بمعنى أنه يخوفهن وعيد الله ، ويعرفهن ما أوجب الله من طاعة الأزواج بالوجه الجميل ، فإن لم يؤثر ذلك هجرها ، ولم توقت الآية مدة الهجر.

وفي (الشفاء) : يحتمل أن لا يهجر فوق ثلاث للخبر ، ويحتمل جواز

__________________

(١) أي : أنه بمعنى الظن لما يبدو من دلائل النثور ، قاله الفراء ، زاد المسير (٢ / ٧٥) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٩٥).

(٢) تفسير الطبري (٤ / ٦٤ برقم ٩٣٣٦ ، ٩٣٣٧ ، ٩٣٣٨).

(٣) تفسير الطبري (٤ / ٦٤) ، زاد المسير (٢ / ٧٥).

(٤) تفسير الطبري (٤ / ٦٤ برقم ٩٣٣٨).

٣٦١

الزيادة ؛ لأنه عليه‌السلام ـ هجر نسائه شهرا (١) ، قيل : يهجرها عن الكلام ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ، والسدي (٢).

وقيل : هجر الجماع (٣) ، عن سعيد بن جبير (٤).

وقيل هجر المضاجعة ، عن مجاهد ، والشعبي ، وإبراهيم.

وقيل : يرقد عندها ويوليها ظهره ، ولا يكلمها (٥).

قال جار الله : ومن تفسير بعض الثقلاء فأكرهوهن على الجماع ، واربطوهن بالهجار ، وهو الحبل ، من هجر البعير إذا شده بالهجار ، وهو العقال (٦).

وقال الحاكم : هذا تعسف لا يجوز أن يحمل كلامه تعالى عليه (٧) ، وقيل : المراد بالمضاجع البيوت (٨) ، وقيل : لا يجمعهما ثوب ، وهو عبارة عن ترك الجماع (٩) ، فإن لم يؤثر ذلك ضربها ، قيل : ضربا غير مبرح فلا يشين ولا يخدش جلدا ولا يكسر عظما ، ويجتنب الوجه (١٠).

قال الحاكم : ولا خلاف أن هذا الضرب لا يكون مبرحا (١١).

__________________

(١) الشفاء.

(٢) تفسير الطبري (٤ / ٦٦ برقم ٩٣٥٢ ، ٩٣٥٣) ، زاد المسير (٢ / ٧٦)

(٣) في (أ) : المضاجعة.

(٤) تفسير الطبري (٤ / ٦٦) ، الكشاف (١ / ٥٢٤) ، زاد المسير (٢ / ٧٦).

(٥) الطبري (٤ / ٦٦) ، زاد المسير (٢ / ٧٦).

(٦) الكشاف (١ / ٥٢٤ ـ ٥٢٦٩).

(٧) التهذيب للحاكم.

(٨) الكشاف (١ / ٥٢٤).

(٩) زاد المسير (٢ / ٧٦).

(١٠) تفسير الطبري (٤ / ٦٩).

(١١) التهذيب.

٣٦٢

قال جار الله : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علق سوطك حيث يراه أهلك» (١) والمعنى : اجعل نفسك بجيث يهابك أهلك ، ولا تغفل عن تخويفهم.

وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها (٢) ، والمجشب : عود ينشرن عليه الثياب ، ويروى للزبير أبيات منها (٣) :

ولو لا بنوها حولها لخبطتها

كخبطة فروج (٤) ولم أتلعثم

أي : لم أتوقف ، وهكذا سائر المنكرات تبدأ بالقول والعظة ، ثم باليد والضرب ، وكذا من له حق على غيره فامتنع ، فإنه يتوصل إليه بالأسهل فالأسهل.

وقوله تعالى

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) [النساء : ٣٤]

يعني : فإن رجعن عن النشوز فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ ، وتوبوا عليهن ، واعلموا أن قدرته عليكم أعظم ، وأنكم تعصونه

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٢٥).

(٢) نفسه (١ / ٥٢٥).

(٣) الشطر الأول من البيت في الكشاف (١٥٢٥).

(٤) الفروج : كتنور بفتح الخاء ، وضم العين (الراء) واحد الفراريج ، وهي الصغار من أولاد الدجاج.

٣٦٣

مع علو شأنه ، فتتوبون فيتوب عليكم (١).

وروي أن أبا مسعود الأنصاري (٢) رفع سوطه ليضرب عبده فبصر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، فقال أبا مسعود : الله أقدر عليك منك عليه ، فرمى بالسوط وأعتق الغلام (٤).

وعن سفيان بن عيينة : لا تكلفوهن الحب (٥).

وقال القاضي : إذا استقام ظاهرها فلا تعتلوا بما في باطنها ، وفي هذا دلالة على قبول توبة المعتذر (٦).

__________________

(١) وفي الحاكم مثله ، ولفظه («فَلا تَبْغُوا) لا تطلبوا (عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) قيل : عملا بالباطل ، وتجنبا للذنوب ، وقيل : سبيلا إلى ما لا يحل لكم منهن مما أبيح عند النشوز عن أبي علي ، وقيل : سبيلا للضرب والهجران عن أبي مسلم ، وقيل : لا تكلفوهن الحب عن سفيان بن عيينة ، وقيل : إذا استقام ظاهرها فلا يتعللن عليها بنا في باطنها ، ذكره القاضي (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) يعني تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو ايديكم ، فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء ، وهو متعال إن يكلف إلا الحق ، وقيل : هو مع علوه وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون ، فكذلك لا تكلفوهن ما لا يطقن ، وقيل : إنه تعالى قادر إن ظلمتوهن أن يعاقبكم ، ويأخذ بحقهن عن أبي مسلم ، وقيل : هو مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ كل من عصاه ، وإذا تاب غفر له ، فأنتم أولى بذلك ، فإذا رجعت المرأة إلى طاعتكم فلا تعاقبوها ، ولا تؤاخذوها بكل شيء عن الأصم ، وقيل : هو مع علوه حكم بالإقتصار على الظاهر ، والزوج أولى بذلك ، فإذا صلح ظاهرها كفى عند القاضي).

(٢) ساقط في (ب).

(٣) في (أ) : بعد الصلاة على النبي وآله ما لفظه : فقال أبا مسعود.

(٤) الكشاف (١ / ٥٢٥).

(٥) زاد المسير (٢ / ٧٦) ، وأتبعه بقول : لأن قلبها ليس في يدها.

(٦) قاله أبو سليمان الدمشقي ، انظر زاد المسير (٢٧٧) ، تفسير الطبري (٤ / ٧٣) ، الخازن (١ / ٣٧٢).

٣٦٤

قوله تعالى

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) [النساء : ٣٥]

ثمرة الآية : جواز بعث الحكمين عند التباس الظالم من الزوجين والمسيء ، وقوله تعالى : (خِفْتُمْ) قيلك علمتم (١) ، وقيل : خشيتم (٢).

قال أبو علي : هذا خطاب للمؤمنين (٣).

وعن القاضي : هو للإمام لأنه لا يبعث إلا الإمام أو القاضي من جهته.

قال في (التهذيب) : والولي والمعنى شقاقا بينهما والإضافة (٤) مجاز ، وقوله تعالى : (بَيْنِهِما) أي : بين الزوجين ولم يتقدم ذكرهما ، ولكن تقدم ما يدل عليه وهو قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).

وقوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) الضمير في قوله : إن يريدا للحكمين.

وفي قوله (٥) : (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) للزوجين أي : إن صدقت نية الحكمين وفق الله بين الزوجين ، وقيل : الضمير للحكمين ، بمعنى : إن

__________________

(١) الطبري (٤ / ٧٣) ، زاد المسير (٢ / ٧٧) ، القرطبي (٥ / ١٧٤) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٩٦).

(٢) الطبرسي (٥ / ٩٦ ـ ٩٧) ، زاد المسير (٢ / ٧٧) ، الطبري (٤ / ٧٣).

(٣) الطبرسي (٥ / ٩٦ ـ ٩٧) ، زاد المسير (٢ / ٧٧) ، الطبري (٤ / ٧٣).

(٤) قوله : (شِقاقَ بَيْنِهِما) أضيف الشقاق إلى الظرف على طريق الاتساع لأن المصدر لا يضاف إلا إلى الفاعل والمفعول.

(٥) في (ب) : وقوله.

٣٦٥

قصدا الصلاح وفق الله بينهما باجتماع قولهما ، وقيل : الضميران للزوجين ، وقد أمر الله تعالى أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها ، وإنما اشترط ذلك لأنهما أعرف بأحوالهما ، وأكثر اطلاعا على أسرارهما.

قال في (النهاية) : فإن لم يوجد في أهلهما فمن سائر الناس ، ويشترط في الحكمين أن يكونا عدلين (١) ليوثق بهما ، ويكونا من أهل الرأي.

قال في (الشفاء) : ولا بد أن يكونا من أهل العلم الذين يصلحون للحكومة فيسبرا (٢) حال الزوجين في المحبة والبغاضة والنشوز ، فإن رأيا الإصلاح أولا لزم حكمهما (٣).

قال في (النهاية) : وفاقا ، وإن اختلف رأي الحكمين لم ينفذ قولهما.

قال في (النهاية) : وفاقا وإن رأيا الصلاح في الفراق فهل لهما أن يطلقا من غير توكيل أم لا؟

اختلف المفسرون ، فقال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد : ليس لهما ذلك إلا بالتوكيل (٤).

قال الأمير الحسين : وهو المفهوم من الآية لأنه ذكر الصلح دون الفرقة ، وهو قول القاسمية ، ولا أعلم قائلا من أئمتنا بخلافه ، وهذا قول

__________________

(١) ليس في الآية ما يدل على اشتراه بل ربما دلت على عدمه من جهة قوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) إذ العدل لا يريد إلا اصلاح والله أعلم. حاشية النسخة (ب) ص (١٧ ب).

(٢) أي : يختبرا.

(٣) الكشاف (١ / ٥٢٥) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٩٧) ، الطبري (٤ / ٧٣ ـ ٧٤).

(٤) الكشاف (١ / ٥٢٥) ، الطبرسي (٥ / ٩٧) ، الطبري (٤ / ٧٣ ـ ٧٤).

٣٦٦

(أبي حنيفة) وأحد قولي الشافعي (١) ، وقيل : بل للحكمين ذلك ، والتحكيم كالتوكيل ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام وعثمان ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير والشعبي ، والسدي ، وإبراهيم ، وشريح ، وهذا مذهب مالك وأصحابه ، حكاه في (النهاية).

قال في الكشاف : عن عبيدة السليماني (٢) قال : شهدت عليا ـ عليه‌السلام (٣) ـ وقد جاءته امرأة وزوجها ومع كل واحد منهما فئام (٤) من الناس ، فأخرج [هؤلاء حكما وهؤلاء حكما] (٥) ، فقال علي عليه‌السلام : أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، فقال الزوج : أما الفرقة ، فقال علي عليه‌السلام : [كذبت] والله لا نبرح حتى ترضى بكتاب الله تعالى لك وعليك ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعليّ (٦).

قال الحاكم : وفي الآية دلالة على أن كل من خاف فرقة وفتنة جاز بعث الحكمين ، وقد استدل بها أمير المؤمنين على الخوارج فيما فعل من التحكيم.

__________________

(١) في أصولي : وهذا قوله (ح) و (ش) وما أثبتناه من تعليق لأحد الذاكرين في النسخة (ب).

(٢) كثيرا ما يتكرر ذكره ، وهو منسوب إلى قرية تسمى سلمية ، وفي المؤتلف والمختلف قال أهلا لحديث يقولون : السلماني بالفتح وهو خطأ ولكنه بتسكين اللام منسوب إلى قبيلة تسكى سلم. خاشية النسخة (ب) ص (١٨ أ).

(٣) في حاشية (أ) ورد إضافة إلى ذلك اللفظ : رضي الله عنه.

(٤) الفئام : الجماعة. ولا واحد له من لفظه وهو مهموز.

(٥) ما بين [] ورد في أصول : فأخرج كل حكما ، وما أثبتناه من مصدر المؤلف (الكشاف).

(٦) الكشاف (١ / ٥٢٥) ، واحتج به الطبري في تفسيره (٤ / ٧٤ برقم ٩٤٠٨) ، والقرطبي (٥ / ١٧٧).

٣٦٧

قال مشايخ المعتزلة : لأن المصاحف لما رفعت وظهرت الفرقة في عسكره ، وخاف على نفسه جازت له المحاكمة بل وجبت ، ولهذا صالح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية ، وعلى هذا يحمل صلح الحسن عليه‌السلام (١).

قوله تعالى

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء : ٣٦]

ثمرة الآية : وجوب العبادة لله تعالى مع الإخلاص ، وأن لمن ذكر الله حقا الأجر ، وقوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) قيل : الذي له قرابة في النسب (٢) (وَالْجارِ الْجُنُبِ) الذي لا قرابة له ، وقيل : ذي القربى الملاصق (٣) والجار الجنب : الذي ليس بملاصق ، وقيل : الجار الجنب : الغريب ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما.

قال في (التهذيب) : وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الجيران ثلاثة : جار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق

__________________

(١) الحاكم في التهذيب بهذا اللفظ ، وزاد الحاكم (وعلى هذا يحمل صلح الحسن عليه‌السلام ، فإنه لما طعن واستأمن صاحب جيشه عبيد الله بن عباس ، وتفرقت الكلمة في عسكره رأى الصلاح في الصلح ، فهذا كله باب واحد في مراعات المصلحة ، وتدل على أن كل من يريد الخير وينويه فالله تعالى يوفقه للصواب والحق فلذلك قال تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وفي الحاكم بدلا من (مشائخ المعتزلة) مشائخنا.

(٢) تفسير الطبري (٥ / ٩٨) ، زاد المسير (٢ / ٧٩) ، تفسير الطبري (٤ / ٨٠).

(٣) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٨ ـ ٩٩).

٣٦٨

الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق الجوار : المشرك من أهل الكتاب» (١) وهذه دلالة جملية وحقوق هؤلاء مختلفة.

وقوله تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) قيل : هو الرفيق في السفر عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك ، والأصم (٢) : والإحسان إليه بالمواساة وحسن العشرة.

وقيل : هو الزوجة ، عن عبد الله ، وابن أبي ليلى ، وإبراهيم (٣) : والإحسان إليه بحسن العشرة وإيتاء ما يجب من النفقة ، وقيل : المنقطع إليك رجاء خيرك ، عن ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد (٤). وقيل : الجار الذي يخدمك (٥) ، وقيل : جار البيت قريبا في النسب أو بعيدا ، عن أبي علي ، وأبي مسلم.

وقيل : محمول على جميع ذلك ؛ لأنه لا تنافي بينها (٦) فيدخل من التأمت بينك أنت وإياه أدنى صحبة ، فيدخل من شاركك في تعلم علم أو حرفة ، أو قعد إلى جنبك في مجلس أو مسجد (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر ، والإحسان إلى إيواؤه ومعاونته ، وإعطاء حقه (٧) ، وقيل : الضيف (٨) ، عن

__________________

(١) أخرجه الحاكم في التهذيب (١) ، واحتج به الطبرسي في تفسيره (٥ / ٩٩).

(٢) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٩) ، زاد المسير (٢ / ٨٠).

(٣) زاد المسير (٢ / ٨٠) ، قاله علي وابن مسعود والحسن وإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى.

(٤) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٩) ، زاد المسير (٥ / ٨٠).

(٥) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٩) ، زاد المسير (٥ / ٨٠).

(٦) في (أ) : بينها.

(٧) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٩) ، الطبري (٤ / ٨٥) ، الكشاف (١ / ٥٢٦).

(٨) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٩) ، الطبري (٤ / ٨٦) ، الكشاف (١٥٢٦).

٣٦٩

قتادة ، والضحاك (١).

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني العبيد والإماء ، وقيل : كل حيوان مملوك والإحسان إليهم الإنفاق عليهم وأن لا يكلفوا إلا ما يسهل (٢).

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) دلت الآية على قبح ذلك فالمختال قيل : الصّلف التّيّاه ، وقيل : الذي لا يألف الناس لكونه يرى لنفسه الفضل عليهم ، والمفتخر من يفتخر على عباد الله بماله وحاله ، والآية تدل على قبحه إذا تطاول به على غيره ، ولهذا قال عليه‌السلام :

__________________

(١) ومثل هذا كله في التهذيب للحاكم ولفظه («وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي احسنوا إلى الجيران الذين هم اقرباؤكم في النسب ، وقيل : الملاصق لداركم ، والجنب : من بين داركم وداره دور ، (وَالْجارِ الْجُنُبِ) قيل : الغريب عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد قالوا : (الْجارِ ذِي الْقُرْبى) القريب في النسب ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الجيران ثلاثة ، جار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة ، وحق الإسلام ، وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق الجوار المشرك من أهل الكتاب) والجنب قيل : البعيد منك نسبا ، وقيل : البعيد منك دارا ، والإحسان اليهم بالمواساة والنصرة وحسن العشرة ، وكف الأذى عنهم (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) أي احسنوا اليه قيل : هو الرفيق في السفر عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك والأصم والإحسان اليه بالمواساة وحسن العشرة ، وقيل : هو الزوجة عن عبد الله ، وابن أبي ليلى ، وابراهيم ، والإحسان اليه : حسن العشرة ، وايتاء ما يجب من النفقة وغيرها ، وقيل : المنقطع اليك رجاء خيرك عن ابن عباس بخلاف ، وابن جريج ، وابن زيد ، وقيل : هو الجار الذي يخدمك ، وقيل : هو جار البيت قريبا كان في النسب أو بعيدا عن أبي علي ، وأبي مسلم ، وقيل : هو محمول على كل ذلك إذ لا تنافي ، وهو الوجه (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي : صاحب الطريق قيل : هو المسافر عن مجاهد ، والربيع ، والإحسان اليه ايواؤه ومعونته واعطاء حقه ، وقيل : الضيف عن قتادة ، والضحاك).

(٢) تفسير الطبري (٤ / ٨٦) ، زاد المسير (٢ / ٨٠).

٣٧٠

«أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١).

قوله تعالى

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٣٧]

هذا صفة لقوله تعالى : (مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) أو بدل منه ، قيل : نزلت في اليهود بخلوا بما أعطوا من الرزق ، ونفروا الأنصار من إنفاق أموالهم ، وكتموا ما علموا من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وقيل : نزلت لمن كان بهذه الصفة (٣) ، والمراد بالبخل عن الواجب والكتم لنعمة الله تعالى عليه مما أتاه من المال ، وقيل : كتم العلم (٤).

والثمرة من ذلك : الدلالة على قبح ذلك.

قوله تعالى

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١]

قيل : هو النبي المبعوث إلى كل أمة ، عن ابن جريج ، والسدي.

وأما غير النبي قال الحاكم : فذلك موقوف على السمع ، وظاهر الآية

__________________

(١) أخرجه من حديث الترمذي (٥ / ٢٨٨ ح ٣١٤٨) وص (٥٤٨ ح ٣٦١٥) ، وأو نعيم في دلائل النبوة ص (٢٨) ، وأحمد في المسند (١ / ٤٦٤ ح ٢٥٤٢) ، (٣ / ٣٦٧ ح ١٠٦٠٤) ، وابن كثير في البداية والنهاية (١ / ١٩٧) (٤ / ٤٦١ ح ٣) من كتاب الفضائل وبدون ولا فخر ، أخرجه مسلم (٢ / ٢١٠) ، وأحمد في المسند (٣ / ٣٦٣ ح ١٠٥٨٩)

(٢) زاد المسير (٢ / ٨١) ، الطبري (٤ / ٨٨) ، تفسير الطبرسي (٥ / ١٠١).

(٣) تفسير الطبرسي (٥ / ١٠١).

(٤) نفسه (٥ / ١٠١).

٣٧١

لا يدل عليه ، ولا حجة في ذلك للإمامية أنه لا بد في كل زمن من معصوم ؛ إذ العصمة غير شرط في الشهادة ، ويجوز أن يتأول بالملائكة وبالمؤمنين.

وعند أبي علي لا بد لكل دهر من قوم يقومون بالحق.

وقال الحاكم : ليس ذلك لازم (١).

قوله تعالى

(وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢]

اختلف المفسرون في معنى ذلك ، فعن عطاء أنه متصل بما قبله (٢)

__________________

(١) ومثله في التهذيب للحاكم ولفظه (وتدل على أن في كل أمة شهيدا يشهد عليهم ، ثم ذلك الشهيد يكون نبيا ، أو غير نبي يقف على دليل سمعي ، لأن الظاهر لا يدل عليه ، وكلا الوجهين يجوز عقلا ، ولا حجة فيه للإمامية أنه لا بد في كل لا زمان من معصوم ، لأنه ليس من شرط الشهادة العصمة ، ولو تأوله متأول على الملائكة ، أو على المؤمنين لم يبعد ، وإنما حملنا (بك) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإشارة اليه ، على أن عند أبي علي لا بد في كل عصر من قوم يقومون بالحق ، وإن كان ذلك عندنا ليس بشرط).

(٢) ومثله في التهذيب للحاكم ولفظه («وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) قيل : إنه يتصل بما قبله أي ودوا لو تسوى بهم الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بعثته عن عطاء ، وقيل : بل هو كلام مستأنف يعني : لا يكتمون الله يوم القيامة شيئا ، لأن ما عملوه لا يخفى على الله تعالى فكيف يكتمونه عن أبي علي ، وقيل : لا يكتمون لأن جوارحهم تشهد عليهم وتنطق بأعمالهم ، وقيل : لا يكتمون شيئا في الدنيا ، لأنه تعالى مطلع عليهم عن أبي علي ، ويقال : كيف التلفيق بين هذه الآية وبين قوله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)؟ قلنا : فيه أربعة أقوال ـ الأول ـ أن في الآخرة مواطن ومقامات ، ففي موطن لا تسمع إلا همسا ، وفي موطن يكذبون ، ويقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وفي موضع يعترفون ويسألون الرجعة عن الحسن. الثاني ـ ولا يكتمون داخل في التمني بعد ما نطق جوارحهم لفضيحتهم عن ابن عباس. الثالث ـ لا يعتد بكتمانهم لأنه ظاهر عند الله تعالى. الرابع ـ أنهم لم يقصدوا الكتمان وإنما اخبروا على حسب ما توهموا تقديره : والله ما كنا مشركين عند انفسنا بل كنا مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن).

٣٧٢

أي : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) بأن يدفنوا ولم يكتموا أمر النبي عليه‌السلام فيدل على تحريم كتم الشرائع ، وقيل : هو مستأنف ، يعني لا يكتمون يوم القيامة شيئا لأن ذلك لا يخفى على الله ، عن أبي علي (١).

وقيل : ودّوا أنهم لم يكتموا يوم القيامة ؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم (٢).

إن قيل : فقوله تعالى في سورة الأنعام : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الانعام : ٢٣] أخبر الله بأنه يكتمون.

فجواب ذلك : أن يوم القيامة مواطن كثيرة يكتمون في بعضها ، وفي بعضها لا يكتمون ، وجواب آخر أن ذلك داخل في التمني ، أي : ودوا أنهم لم يكتموا بعد أن شهدت عليهم جوارحهم ، وأما قبل ذلك فقد كتموا.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) [النساء : ٤٣]

النزول

قيل : نزلت في قوم من الصحابة كانوا يشربون الخمر وهي حلال في صدر الإسلام ، فيصلون سكارى فلا يدرون ما يقولون ، وكم صلوا ،

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ٧٨) ، تفسير الطبرسي (٥ / ١٠٨).

(٢) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٩) ، الطبري (٤ / ٨٦) ، الكشاف (١٥٢٦).

٣٧٣

فنزلت (١) ، وقيل : صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا ، فدعى نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كانت مباحة ، فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا (٢) وجاء وقت صلاة المغرب قدم أحدهم يصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، فنزلت (٣) ، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر ، وعلموا ما يقولون ، ثم نزل تحريمها.

وقيل : أنه سكر النعاس وغلبة النوم ، عن الضحاك ، واستدل عليه بقوله عليه‌السلام : «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري» (٤).

__________________

(١) تفسير الطبري (٤ / ٩٨).

(٢) ثمل بالكسر ثملا إذا أخذ فيه الشراب فهو ثمل أي : نشوان تمت صحاح.

(٣) تفسير الطبري (٤ / ٩٨) وفي التهذيب للحاكم ما لفظه (قيل : أول الآية نزلت في ناس من الصحابة كانوا يشربون الخمر ، ويشهدون الصلاة ، وهم سكارى ، فلا يدرون كم صلوا ، وما يقولون في صلاتهم فنزلت الآية ، فكانوا يجتنبون الخمر في أوقات صلاتهم حتى نزلت تحريم الخمر في سورة المائدة ، وقيل : نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر فاجتمع ناس في دار عبد الرحمن فشربوا فصلى بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، في (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، فنزلت الآية ذكره الأصم ، وذكر أن عمر قال عند ذلك : اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال فأنزل فيها أمرك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية في المائدة ، وعن زيد بن حبيب أن رجالا من الأنصار كانت أثوابهم في المسجد فيصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ، ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فنزل قوله (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) الآية ، وعن ابراهيم نزلت الآية في قوم من الصحابة أصابهم جراح ، وعن عائشة أنها نزلت في قوم من الصحابة أعوزهم الماء في السفر ، وروي عنها قالت : كنت في سفر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحل عقدي فأخبرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمر بالتماسه فلم يوجد ، فأناخ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأناخ الناس فباتوا ليلتهم تلك فقال الناس : حبست عائشة الناس ، وعاتبني ابو بكر ، فلما أسفر الصبح لم يجد الناس الماء فنزلت آية التيمم ، ووجدنا العقد).

(٤) أخرجه واحتج به الطبرسي في تفسيره (٥ / ١١٢).

٣٧٤

وقد روي أن الهادي عليه‌السلام سئل عن الآية فقال : أراد سكر النوم وسبب ذلك أن المسلمين كانوا يرجعون من أعمالهم وقد أصابهم الجهد (١) فإذا انتظروا العشاء مالت رءوسهم ، وصلوا مع رسول الله عليه‌السلام يختلط عليهم كثير من أعمالهم فنهوا عن الصلاة على هذه الحال.

وظاهر الحكايات هذه أن الخمر كانت مباحة أول الإسلام وإن أسكرت.

وعن (المؤيد بالله) : أن السكر ما أبيح في شريعة من الشرائع ، وأن المعنى : مقاربين للسكر.

قال الحاكم : قيل الخطاب قبل السكر وكأنهم منعوا مما يؤدي إلى السكر ، وقيل : نهوا قبل أن يختل العقل اختلالا يؤثر في الأمر والنهي ، وقيل : سكارى بأعمال الدنيا.

وقوله تعالى : (وَلا جُنُباً) قيل : نزلت في رجال من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا يجدون ممرا إلا في المسجد.

عن زيد بن حبيب (٢) : وقيل نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح ، عن إبراهيم (٣).

وقالت عائشة : نزلت في قوم من الصحابة أعوزهم الماء في السفر.

وهذه الآية الكريمة يستثمر منها أحكام :

الأول : النهي عن مقاربة الصلاة في حال السكر.

__________________

(١) الجهد : بالضم : الوسع والطاقة ، وبالفتح : المشقة. نهاية.

(٢) تفسير ابن كثير (١ / ٧٩١).

(٣) زاد المسير (٢ / ٩١)

٣٧٥

واختلفوا ما أريد بالصلاة فقيل : نفس الصلاة ، وسبب النزول يدل على هذا ، وهو مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن زيد ، وأبي مسلم ، وقيل : أراد مكان الصلاة ، وهو المساجد كقوله : (وَصَلَواتٌ) أي : مواضع الصلاة ، عن عبد الله ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك ، وعكرمة ، وعطاء ، والنخعي ، والحسن (١) : هذا خلاف المفسرين ، وقد اختلف الفقهاء أيضا فذهب عامة أهل البيت إلى أن المراد الصلاة نفسها لأنه تعالى قال : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) والفعل يتعلق بالصلاة ، ولأنه الحقيقة ، والحمل على موضع الصلاة مجاز ، ولأن النزول كان لأجل الصلاة ، وقد استدل على بن موسى القمي على أن في الصلاة قراءة بقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) خلاف الأصم ، وهذا قول (أبي حنيفة وأصحابه ، ومالك وأصحابه) (٢) ، وحكاه عنهم في النهاية.

وقال الشافعي : المراد مواضع الصلاة وهي المساجد ، ولأجل هذا جوز للجنب العبور في المسجد ، واحتج بأن القرب الحقيقي يكون إلى الأماكن لا إلى الأفعال.

قلنا : قد صار في عرف الشرع حقيقة في الأفعال ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ وَلا تَقْرَبُوهُنَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ).

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سُكارى) الظاهر أن المراد (٣) سكر الخمر ، وعلى ذلك نزلت الآية ، وقيل : سكر النوم كما تقدم ، وقيل : بأعمال الدنيا.

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ٩٠ ـ ٩١).

(٢) في (أ) : وهذا قول : ح وص وك وص.

(٣) في (أ) : أنه أراد.

٣٧٦

الحكم الثاني

يتعلق بقوله تعالى : (وَلا جُنُباً) أفاد تحريم الصلاة حال الجنابة وهو مجمع عليه.

قال المؤيد بالله : وحكاه عن عامة العلماء وكذلك أبعاض الصلاة كسجود التلاوة وغيرها.

وروي عن مالك والوافي : أنه يسجد للتلاوة الجنب وكذا الحائض ؛ لأن النهي إنما وقع في الصلاة.

وقال المنصور بالله : أما للشكر فيسجد مع الحدث لا سجود التلاوة ، والشافعي حمل لفظ الصلاة على مكانها. قال : دلت الآية على تحريم دخول المسجد للجنب.

قلنا : التحريم مأخوذ من السنة ، وقد وردت أخبار منها :

حديث أم سلمة قالت : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرصة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته : «إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض» (١) وهذا عام.

أما تناول الشيء باليد ، والدخول بإحدى الرجلين فجائز ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعائشة حين أمرها أن تناوله الخمرة (٢) من المسجد ، فقالت : إني حائض فقال : «ليس حيضك في يدك» (٣).

__________________

(١) أخرجه. ابن ماجة في سننه والمتقي الهنجدي في منتخبه (٣ / ٤٠٧) عن أم سلمة.

(٢) الحمرة : سجادة صغيرة منسوجة بسعف النخل. شمس العلوم. قال الزركشي في التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح : الخمرة : بخاء معجمة مضمومة ـ الحصير الصغير من سعف النخل بقدر ما يوضع عليه الوجه والكفان ، فإن زاد على ذلك فهو حصير. (ح / ص).

(٣) أخرجه أخرجه مسلم في صحيحه (ح / ٢٩٨) كتاب الحيض باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وظهارة سؤرهاب إلخ.

واحتج به ابن كثير في تفسيره (١ / ٧٩٢) ، وغيره من المفسرين.

٣٧٧

قال في (الكشاف) : ولم يرخص عليه‌السلام لجنب يمر في المسجد أو يجلس فيه إلا لعلي رضي الله عنه (١).

وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بسد الخوخات بفتح الخاء التي إلى المسجد إلا خوخة بيته وبيت علي وفاطمة (٢).

سمعت من شيخي شرف الدين [حسن النحوي] (٣) رحمه‌الله خبرا يرويه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو : (لا يحل المسجد لجنب إلا لمحمد وآله علي ، وفاطمة والحسن ، والحسين).

قال : توهم بعض السادة جواز ذلك لآل محمد وهو باطل ؛ لأنه ـ عليه‌السلام ـ بين من أراد فقال : «علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين».

ويتفرع على هذا الحكم دخول الكافر المسجد ، فعند الهادي والناصر ومالك : ينفون من كل مسجد ، وذكر هذا أليق بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) واستيفاء الكلام عليه عند ذكر ذلك.

وأجاز (٤) داود وأصحابه دخول المسجد مطلقا ولم يجعلوا في الآية دلالة على تحريم ذلك.

الحكم الثالث

يتعلق بقوله تعالى : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ففي هذا دليل أن عابر السبيل له رخصة فعلى قول أهل المذهب والحنفية : الرخصة هي جواز الصلاة

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٢٩).

(٢) انظر : الدر المنثور (٧ / ٦٤٢) ، الترمذي (٥ / ٥٩ ح ٣٧٣٢) ، خصائص النسائيي ضمن السنن (٥ / ١١٩ ح ٨٤٢٧) حلية الأولياء (٤ / ١٥٣) ، مسند أحمد (٢ / ١٠٤ ح ٤٧٨١) ، أسد الغابة (٣ / ٣٢١) رقم (٣٠٦٤) الخوخة : هي ما بين دارين أو بيتين ، شمس العلوم.

(٣) ما بين القوسين في بعض النسخ حاشية.

(٤) في (أ) : واختار.

٣٧٨

من الجنب إذا كان مسافرا ، وعدم الماء ـ إما بالتيمم إن وجد التراب ، أو بغيره إن عدمه ، والشافعي يقول : الرخصة جواز عبور الحنب في المسجد ؛ لأنه جمل ذكر الصلاة هنا على المكان.

قلنا : ولو حمل على ذلك ، فالمراد إذا عبر المسجد لطلب الماء ، كما ورد في سبب نزول الآية أن أبواب دور قوم من الأنصار كانت في المسجد ، ولا يجدون الماء إلا بالعبور في المسجد ، وكذا لو كان الماء في المسجد ، وكذا لو أجنب (١) في المسجد لكن يتيم للمرور عند أهل المذهب ، وهذا بناء على أن التيمم لا يرفع الحدث ، وهو قول عامة العلماء.

وقال داود وبعض أصحاب مالك : إنه يرفعه.

قال في (الشرح) : عن داود يغتسل إذا وجد الماء ، ويلحق بعابر السبيل القادم للماء في الحضر أيضا ، والذي لا يتمكن من استعماله فإنه يصلي وهو على حكم الجنابة.

الحكم الرابع

يتعلق بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) وقد أفاد هذا الكلام جواز التيمم لعادم الماء ، ولكن نذكر كيفية تقدير الآية ، وما يفيده لفظها.

قال جار الله رحمه‌الله : دخل في الشرط أربعة وهم : المرضى

__________________

(١) في شرح بهران : أجنب على وزن أفعل ولا يجوز أن يقول : اجتنب بوزن افتعل مغير الصيغة ، ذكر ذلك المحققون من علماء اللغة وشرح الحديث (ح / ب) ص (٢٠ أ) وقال في الكشاف : (والجنب : يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب).

٣٧٩

والمسافرون والمحدثون والجنب (١) الجزاء وهو الأمر بالتيمم عند عدم الماء يرجع إلى جميعهم ، فذكر المرضى لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه ، وذكر المسافرين لبعدهم عن الماء ، وكذلك غير هذين من سائر المحدثين وأهل الجنابة إذا عدموا الماء بسببه.

فإن قيل : كيف يجمع الله تعالى بين الأربعة ، والمرض والسفر سببان لرخصة التيمم ، وأما الحدث والجنابة فهما سببان للوضوء والغسل.

قيل : أراد الله تعالى بيان الرخصة بالتيمم ، فخص أولا المريض والمسافر لكثرة ذلك وغلبته على سائر الأسباب ، ثم عم الله تعالى جميع من وجب عليه التطهر بالحدث والجنابة إذا عدم الماء لخوف أو عدم آلة إذ كان في مكان لا ماء فيه (٢)

__________________

(١) لفظ الكشاف : (فإن قلت : أدخل في حكم الشرط أربعة : وهم المرضى ، والمسافرون ، والمحدثون ، وأهل الجنابة فيمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم. قلت : الظاهر أنه تعلق بهم جميعا وأنّ المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتيمموا. وكذلك السفر إذا عدموه. لبعده. والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب). (١ / ٥٢٩).

(٢) هذا أيضا من الكشاف ، ولفظه : (فإن قلت : كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين ، وبين المحدثين والمجنبين ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة ، والحدث سبب لوجوب الوضوء. والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت : أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب ، فخص أوّل من بينهم مرضاهم وسفرهم ، لأنهم المتقدّمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة ، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة المرض والسفر).

٣٨٠