تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

قال في الثعلبي : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من قرأ : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)) الآية عند منامه خلق الله عزوجل منها سبعين ألف ملك يستغفرون له يوم القيامة.

وقال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فلما نزلت هذه خرت سجدا.

وعن الكلبي قال : قدم حبران من الشام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذا البلد بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : أنت محمد؟ فقال : نعم. قالا : وأنت أحمد؟ قال : أنا محمد وأحمد ، قالا : فإنا نسألك عن شيء ، فإن أخبرتنا به آمنا بك ، وصدقناك ، فقال : سلا ، فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ قال : قول الله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فأسلم الرجلان.

وقوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١]

دلت الآية على عظم حال من يأمر بالمعروف ، وعظم ذنب قاتله ؛ لأنه تعالى قرن ذلك بالكفر بالله ، وقتل الأنبياء.

والقراءة الظاهرة : (وَيَقْتُلُونَ) بغير ألف ، وقرئ (يقاتلون الذين) بالألف.

قال الأصم : أراد بذلك اليهود والنصارى ، وقيل : جميع أصناف الكفار ، وقواه الحاكم.

١٦١

وعن أبي عبيدة بن الجراح قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : (رجل قتل نبيا ، أو رجلا أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، ثم قرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا ، في أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم ، وهو الذي ذكر الله تعالى.

قال الحاكم : ويدل هذا على صحة ما يقوله مشائخنا : إنه يأمر بالمعروف ، وإن خاف على نفسه (١) ، وإن ذلك يكون أولى ، لما فيه من إعزاز للدين ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليه).

قوله تعالى

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [آل عمران : ٢٣]

النزول

عن السدي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : هلم نحاكمك إلى الأحبار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بل إلى كتاب الله) فأبوا.

وعن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل مدراسهم على جماعة منهم ، فدعاهم إلى الإسلام ، وفيهم نعيم بن عمرو بن الحارث بن زيد ، فقالوا : على أي

__________________

(١) ظاهر كلام أهل المذهب ، أنه لا يجوز إذا كان يؤدي إلى مثل ما نهى عنه ، أو أكثر إلا أن يكون في ذلك إعزاز للدين ، وقوة للمسلمين ، كما صرح به الإمام المهدي عليه‌السلام في مختصره. (ح / ص).

١٦٢

دين أنت؟ فقال : على ملة إبراهيم ، فقالوا : إن إبراهيم كان يهوديا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فهلموا إلى التوراة) فأبوا. فنزلت. فالمراد بكتاب الله على هذا التوراة.

وعن ابن عباس أيضا (أن رجلا وامرأة زنيا ، وكانا محصنين ، وكانا ذا شرف ، وكان في التوراة الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ورجوا أن يكون عنده رخصة ، فحكم بالرجم ، فقالوا : ليس عليهما. فقال : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بيني وبينكم التوراة ، فمن أعلمكم؟ قالوا : ابن صوريا الفدكي ، فأتوا به ، وأحضروا التوراة ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابن سلام : قد جاوز موضعها يا رسول الله ، فرفع كفه عنها ، فوجدوا آية الرجم ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهما فرجما ، فغضبت اليهود لذلك غضبا شديدا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا أولى بأخي موسى ، وأنا أول من أحي سنة أماتوها) فنزلت (١).

ولها ثمرتان : الأولى : أن من دعا إلى كتاب الله تعالى ، وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة ، وقد قال العلماء رضي الله عنهم : يستحب أن يقول : سمعا وطاعة ، لقوله تعالى في سورة النور : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [النور : ٥١].

الثمرة الثانية : أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجم اليهوديين ، ونزلت الآية مقررة له ، وهذا قول الهادي ، وهو مروي عن القاسم ، والشافعي ، وابن أبي ليلى

وقال زيد بن علي ، والناصر ، وأبو حنيفة : إن الكافر لا يرجم ،

__________________

(١) وستأتي هذه أيضا في المائدة في قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) الخ.

١٦٣

وقالوا : كان فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل نزول شريعتنا بعدم الرجم ، ثم ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أشرك بالله فليس بمحصن) قلنا : هذا عام في أنه لا يحد قاذفه ، ولا يرجم إذا زنى ، وفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدل أن المراد ليس بمحصن ، أنه لا يحد قاذفه.

قوله تعالى

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨]

النزول

قيل : جاء حجاج بن عمرو ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد إلى نفر من الأنصار ، ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر ، وعبد الرحمن بن جبير ، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروهم لا يفتنوكم عن دينكم ، فنزلت. عن ابن عباس.

وقيل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وغيره ، وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، عن مقاتل.

وقيل : نزلت في المنافقين ، عبد الله بن أبيّ وأصحابه (١) ، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ، ويأتونهم بالأخبار ، ويرجونهم الظفر ، فنهي المسلمون عن مثل فعلهم. عن ابن عباس أيضا.

وقيل : نزلت في عبادة بن الصامت ، وكان له حلف من اليهود ، فلما كان يوم الأحزاب قال : يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود ،

__________________

(١) وسموا مؤمنين باعتبار ما كانوا يتظهرون به ، وإلا فلا إيمان للخبيث ، ومن معه ، وهذا الوجه إذا كان هو المراد بالآية ومن معه.

١٦٤

وقد رأيت أن يخرجوا معي ، فنزلت. وهذا رواه جويبر ، والضحاك ، عن ابن عباس.

ثمرة هذه الآية الكريمة : تحريم موالاة الكفار ؛ لأن الله تعالى نهى عنها ، وقال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

قال الزمخشري : يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأسا ، وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي ، وموالاة عدوه متنافيان ، قال الشاعر :

تود عدوي ثم تزعم أنني

صديقك ليس النوك (١) عنك بعازب

النوك : الحمق.

وقال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) قيل : أراد عذاب نفسه ، وقيل :

المراد ويحذركم إياه.

ثم إنه تعالى استثنى (التقية) فقال تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) فرخص الله تعالى في الموالاة للكفار للتقية (٢).

قال الزمخشري : يعني فتجوز معاشرة ، ومحالفة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء ، وانتظار زوال المانع من قشر العصا ، يعني

__________________

(١) النوك : على وزن (فعل) بضم الفاء ، وسكون العين ـ الحمق ، وهو الجهل. قال في حاشية العلوي : وبعده أو قبله :

فليس أخي من ودني رأي عينه

ولكن أخي من ودني في المغائب.

النوك : الحمق ، والعازب : البعيد ، والمغائب : جمع مغيب ، وهو مكان الغيبة أو زمانها.

(٢) إن كانت التقية بمحظور ، فإنما يبيحه الخوف على النفس ، والمال المجحف فقط ، وإن كانت على واجب أباحها أي : ضرر كان ، وقد جعل حكم حضور جمعة الظلمة من هذا ، خلاف ما ذكره بعض المتأخرين أنه يبيح حضورها أي ضرر كان ، وهو غير ظاهر ؛ لأنه ارتكاب معصية فلا يبيحه ذلك. نجري.

١٦٥

بقشر العصا : إظهاره العداوة ، وهذا كقول عيسى عليه‌السلام : (كن وسطا ، وامش جانبا) (١).

قيل : أراد ليكن جسدك مع الناس ، ونيتك مع الله تعالى.

وقد قال الحاكم : في الآية دلالة على جواز إظهار تعظيم الظلمة ، اتقاء لشرهم ، قال : وإنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب.

قال في الثعلبي : عن صعصعة بن صوحان أنه قال لأسامة بن زيد : خالص المؤمنين ، وخالق الكافرين ، فإن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن ، ويحق عليك أن تخالص المؤمنين.

وقال الصادق عليه‌السلام : التقية واجبة ، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر عنه بالسارية لئلا يراني (٢).

قال الحاكم : والصحيح خلاف ما قال مجاهد : أنها كانت في أول الإسلام ، وأما الآن فقد أعز الله الدين.

وعن الحسن : تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان.

واعلم أن الموالاة التي هي المباطنة ، والمشاورة ، وإفضاء الأسرار للكفار لا تجوز ، وكذلك ما ورد في سبب نزول الآية.

فإن قيل : قد جوز كثير من العلماء نكاح الكافرة ، وفي ذلك من

__________________

(١) لفظ الزمخشري (والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء ، وانتظار زوال المانع من قشر العصا ، كقول عيسى صلوات الله عليه «كن وسطا وامش جانبا»).

قال في حاشية العلوي : أي : ليكن جسدك مع الناس ، وقلبك في حظيرة القدس ، وأظن أن المراد بذلك : كن بين الناس ظاهرا ، وخالفهم باطنا إذا خالفوا الحق.

(٢) يقال : هذا نوع من الحلم والصبر ، والصفح الجميل ، وليس من التقية في شيء. (ح / ص).

١٦٦

الخلطة والمباطنة بالأمر ما ليس بخاف؟ فجواب ذلك : أن المراد موالاتهم في أمر الدين ، أو ما فيه تعظيم لهم.

فإن قيل : في سبب نزول هذه الآية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع عبادة بن الصامت عن الاستعانة باليهود على قريش ، وقد حالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود على حرب قريش ، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم ، وقد ذكر المنصور بالله أنه يجوز الاستعانة بالفساق على حرب المبطلين ، قال : وقد حالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود على حرب قريش وغيرها ، إلى أن نقضوه يوم الأحزاب ، وجدد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحلف بينه وبين خزاعة ، قال المنصور بالله : وهو ظاهر عن آبائنا عليهم‌السلام ، وقد استعان علي عليه‌السلام بقتلة عثمان على الخوارج؟

فلعل الجواب ـ والله أعلم ـ أن الاستعانة جائزة مع الحاجة إليها ، ويحمل على هذا استعانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمحالفة لليهود ، وممنوعة مع عدم الحاجة ، أو خشية مضرة منهم ، وعليه يحمل حديث عبادة بن الصامت ، فصارت الموالاة المحظورة تكون بالمعاداة بالقلب للمؤمنين ، والمودة للكفار لكفرهم ، ولا لبس في تحريم ذلك ، ولا يدخله استثناء.

وتطلق على المحالفة والمناصرة ، والمصادقة بإظهار الأسرار ، ونحو ذلك ، فلا لبس في تحريم ذلك ، ولا يدخله استثناء.

و [أما] الموالاة بإظهار التعظيم ، وحسن المخاللة والمشاورة فيما لا يضر المسلمين ، فظاهر كلام الزمخشري أنه لا يجوز إلا للتقي (١) وكذا غير الزمخشري ، فحصل من هذا أن الموالي للكافر والفاسق عاص ، ولكن أين تبلغ معصيته ، هذا يحتاج إلى تفصيل ـ :

__________________

(١) وكذا لغيرها من قرابة ، أو خصال خير فيه ، كما ذكره أصحابنا في موضعه. (ح / ص).

١٦٧

إن كانت الموالاة بمعنى الموادة ، وهي أن يوده لمعصيته ، كان ذلك كالرضاء بالمعصية ، فإن كانت كفرا كفر ، وإن كانت فسقا فسق ، وإن كانت لا توجب كفرا ولا فسقا لم يكفر ولم يفسق.

وإن كانت الموالاة بمعنى المحالفة والمناصرة ، فإن كانت محالفة على أمر مباح أو واجب ، كأن يدفع المؤمنون عن أهل الذمة من يتعرض لهم ، ويحالفوهم (١) على ذلك ، فهذا لا حرج فيه ، بل هو واجب.

وإن كانت على أمر محظور كأن يحالفوهم على أخذ أموال المسلمين ، والتحكم عليهم ، فهذا معصية بلا إشكال ، وكذلك إذا كانت بمعنى أنه يظهر سر المؤمنين ، ويحب سلامة الكافرين لا لكفرهم ، بل ليد عليه لهم ، أو لقرابة ، أو نحو ذلك فهذا معصية بلا إشكال ، لكن لا يبلغ حد الكفر ؛ لأنه لم يرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم بكفر حاطب بن أبي بلتعة.

وقال المنصور بالله : إن مناصرة الكفار على المسلمين توجب الكفر ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للعباس (٢) : ظاهرك علينا ، وقد اعتذر بأنه خرج مكرها.

أما مجرد الإحسان إلى الكافر فجائز ، لا ليستعين به على المسلمين ، ولا لإيناسه ، وكذلك أن يضيق لضيقه في قضية معينة لأمر مباح فجائز ، كما كان من ضيق المسلمين من غلب فارس للروم.

فصار تحقيق المذهب : أن الذي يوجب الكفر من الموالاة أن يحصل من الموالي الرضاء بالكفر ، والذي يوجب الفسق أن يحصل الرضاء بالفسق.

__________________

(١) في نسخة (ويحالفونهم) بإثبات النون ، وهذا على جعل الواو للحال لا للعطف. أي : محالفين.

(٢) يقال : أصله الكفر ، فلا حجة ، وقد نظر ما هنا في شرح الآيات للنجري.

١٦٨

إن قيل : فما حكم من تجند مع الظلمة ليستعينوا به على الجبايات ، وأنواع الظلم؟.

قلنا : عاص بلا إشكال ، وفاسق بلا إشكال ، لأنه صار من جملتهم ، وفسقهم معلوم.

فإن قيل : فإن تجند معهم لحرب إمام المسلمين؟ قلنا : صار باغيا ، وحصل فسقه من جهة البغي والظلم ، فإن كان هذا الظالم مجبرا لم يتغير الحكم في أمر الجندي ، وإن كانت معصيته أشد.

فإن قيل : قد حكي عن المهدي علي بن محمد (١) عليه‌السلام : أنه كفّر من تجند مع سلطان اليمن ، وقضى بردته؟ قلنا : هذا يحتاج إلى بيان وجه التكفير بدليل قطعي ، وإن ساغ أن يقول ذلك استصلاحا لأمر الإمام (٢) ،

__________________

(١) علي بن محمد هو : علي بن محمد بن علي بن يحي بن منصور بن المفضل بن الحجاج بن علي بن يحي بن القاسم بن يوسف بن يحي بن أحمد بن الهادي عليه‌السلام ، قال الإمام المهدي خال مولانا المهدي : مولده في ربيع سنة سبع وسبعمائة ، ونشأ في طلب العلوم منطوقها والمفهوم ، حتى بلغ فيها الغاية ، وعلا على كاهل النهاية ، دعوته يوم الخميس في جمادى الآخرة في ثلا سنة ٧٥٠ ه‍ ، وعارضه آخرون ، ولم يتم ، وظهرت سيرته ، وكثرت فتوحه ، ونعش المذهب الشريف ، وحاطه من التحريف ، حتى ابتدأه ألم الفالج في ذمار سنة ٧٢ ه‍ ، ثم نهض الدواري في جماعة محرم سنة ٧٣ ه‍ فنصبوا ولده الإمام صلاح الدين ، ولم يزل ألمه يزداد إلى سلخ جمادى سنة ٧٧٤ ه‍ وتوفي بذمار وحمل إلى صعدة ، قيل : بوصية منه ، ومن الناس من يزعم أنه غير مجتهد والله أعلم.

(٢) قوله (في ذلك استصلاحا) الأولى في الجواب أن يقال : إنه كان من المجبرة ، ومذهب الإمام علي بن محمد عليه‌السلام كما هو المختار على مذهب الأئمة عليهم‌السلام ، فيكون حكم من تجند معهم كحكمهم ، كما قال في صدر المسألة : إن من تجند مع الظلمة حكمه حكم فاسق بلا إشكال ؛ لأن الظالم كافر ، وهذا الجواب لا يرد .. نعم : وظاهر كلام أهل المذهب أنه لا يشترط الإعتقاد ، بل يكفر وإن لم يعتقد ـ

١٦٩

كما رد الهادي عليه‌السلام شهادة من امتنع من بيعة الإمام (١) ، كان محتملا.

قوله تعالى

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) [آل عمران : ٢٩]

هذا توعد. قيل : أراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم ، وإظهارها ، وقيل : تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : أراد الكفر.

وفيها دلالة على أن الاعتقاد شرط ، ولا يكفي الإظهار باللسان.

قوله تعالى

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) [آل عمران : ٣١]

قال الزمخشري : محبة العباد لله مجاز عن إرادة اختصاصه بالعبادة ، ومحبة الله لعباده أن يرضى عنهم ، ويحمد فعلهم.

النزول

روي عن الحسن ، وابن جريج أن قوما من أهل الكتاب قالوا : نحن الذين نحب ربنا ، فجعل علامة ذلك طاعة الرسول.

وعن جويبر ، والضحاك : أن قريشا زينوا الأصنام ، وسجدوا لها في المسجد الحرام ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لقد تركتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل) فقالوا : إنما نعبدها حبا لله.

وعن ابن عباس : نزلت حين قالت اليهود (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨]

__________________

ـ معناه حينئذ ، قال شارح الفتح : وهو ظاهر الأزهار ، والأثمار ، وهو قول أبي العباس ، والسيد أبي طالب ، وقال في شرح الإبانة : لا يكفر عند السادة والفقهاء ، لكن يؤدب ، وهو قول أبي هاشم ، ذكر هذا في فصل الردة ، فما هنا يناسب قول هؤلاء. (ح / ص).

(١) وهو ظاهر الأزهار ، حيث قال : وتسقط عدالة من أباها.

١٧٠

وقيل : لما قالت نصارى نجران : نحن نعظم المسيح حبا لله.

قال في الثعلبي : نصبت قريش أصنامهم ، وعلقوا عليها بيض النعام ، وجعلوا في آذانها الأقراط.

وأنشد لابن المبارك :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

ثمرة الآية : أنه لا محبة لله مع مخالفة الشريعة ؛ لأن من خالفها فلم يتابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع الإمام فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله تعالى ، ومن عصى الإمام فقد عصاني).

قال جار الله رحمه‌الله : وإذا رأيت من يذكر محبة الله تعالى ، ويصفق بيديه مع ذكرها ، ويطرب ، وينعر ، ويصعق فلا تشك في أنه لا يعرف ما لله ، ولا يدري ما محبة الله ، وما ذاك إلا أنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة ، فسماها الله تعالى (١).

قوله تعالى

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [آل عمران : ٣٥]

في الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها ، وأن للأم الانتفاع بالولد

__________________

(١) ولفظ الزمخشري في الكشاف (وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكرها ويطرب وينعر ويصعق فلا تشك في أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا أنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ، ثم صفق وطرب ونعر وصعق على تصوّرها ، وربما رأيت المنيّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته ، وحمقى العامة على حواليه قد ملؤا أدرانهم بالدموع لما رققهم من حاله).

١٧١

الصغير لمنافع نفسها ، ولذلك جعلتها (١) للغير ، وذلك أنها قالت : اللهم إن لك علي نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ، فيكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم.

وقولها : (مُحَرَّراً) أي : معتقا ، لا يد لي عليه ، ولا أشغله ، ولا أستخدمه لشيء ، بل يكون لخدمة بيت المقدس ، وكان هذا النذر مشروعا عندهم.

وروي أنهم كانوا ينذرون هذا النذر ، فإذا بلغ الغلام خيّر بين أن يفعل أو لا يفعل.

وعن الشعبي : معني (مُحَرَّراً) أي : مخلصا للعبادة.

وهذا غير ثابت في شريعتنا ؛ لأن الحر لا ملكة عليه.

إن قيل : قد جرت عادة كثير من عوام الناس أن ينذروا بجزء من أولادهم للأئمة يقصدون بذلك سلامة المولود فما حكم هذا؟

قلنا : هذا لغو ، ولو قصد تمليكه كان عاصيا ، وهم لا يقصدون ذلك ، ولا يتعلق بذمتهم شيء بهذا النذر ، وما يسلم للأئمة عليهم‌السلام فعلى سبيل التبرك ، فلو اعتقد الناذر أن ذلك واجب عليه لزم إعلامه بعدم الوجوب.

وفي هذه الآية نكتة :

قال المفسرون : أراد بامرأة عمران الناذرة ، حنة بنت فاقود امرأة عمران بن ماثان ، أمّ مريم البتول ، جدة عيسى صلى الله عليه ، وليست امرأة عمران بن يصهر ، وهو أبو موسى وهارون ، وبين العمرانين ألف سنة ، وثمانمائة سنة.

__________________

(١) أي : المنافع ، وفي نسخة (لذلك جعلته).

١٧٢

وروي أنها كانت عاقرا لم تلد إلى أن عجزت ، فبينما هي بظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له ، فتحرك قلبها للولد وتمنته ، فنذرت كما ذكر ، وسمتها مريم ؛ لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة ، فأرادت أن يكون فعلها مطابقا لاسمها

وفي هذه الآية دلالة على جواز تمني الولد ، وعلى حسن اختيار الاسم بما يحسن معه المعنى ، وحسن التفاؤل في الأمور.

وقولها : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران : ٣٦] دلالة على حسن تعويذ الأولاد ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوذ الحسنين عليهما‌السلام ، فيقول : (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة) حتى نزلت المعوذتان. فكان يعوذهما بهما.

قال الزمخشري : وما يروى من الحديث (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد ، فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) فإن صح الحديث فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين ، وكذلك كل من كان في صفتهما ، لقوله : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠] واستهلاله صارخا من مسه على سبيل التخييل ، لا أنه أراد حقيقة المس ، والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلّا ، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا مما يبلو به من نخسه ، ونحو هذا من التخييل ، قول ابن الرومي :

لما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنها

لأفسح مما كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنّه

بما سوف يلقى من أذاها يهدّد

١٧٣

قوله تعالى

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) [آل عمران : ٣٧]

روي أن امرأة عمران لما وضعت مريم لفتها في خرقة ، وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها ، لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، فقال لهم زكرياء : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا إلى نهر ، وكانوا سبعة وعشرين ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكرياء فوق الماء ، ورسبت أقلامهم ، وقيل : هم تسعة وعشرون ، وقيل : جرت أقلامهم ، ووقف قلمه ، فأخذها زكرياء.

والقراءة الظاهرة (وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ) بالتخفيف ، و (زَكَرِيَّاءُ) بالرفع ، على أنه الفاعل

وقراءة عاصم ، وحمزة ، والكسائي (وكفّلها زكرياءَ) بالتشديد في (كَفَّلَها) والنصب ل (زكرياءَ). والمعنى : أن الله تعالى كفلها إياه.

وفي رواية عن ابن كثير (وَكَفِلَهَا) بكسر الفاء ، أي : ضمها إليه ، وفي ذلك دلالة أن للخالة حقا في الحضانة.

قوله تعالى

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران ٣٨ ـ ٣٩]

المعنى : (هُنالِكَ) أي : في ذلك المكان ، أو في ذلك الوقت ؛ لأنه قد يستعار هنالك للوقت مجازا ، قيل : لما رأى زكرياء عليه‌السلام كرامات مريم ، رغب أن يكون له ولد صالح ، فدعا الله تعالى.

١٧٤

قال في الثعلبي : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : أيما رجل مات ، وترك ذرية طيبة آجره الله عزوجل مثل أجر عملهم ، ولا ينقص من أجورهم شيئا.

دل ذلك على استحباب تمني الولد الصالح ، وجواز الغيرة ، وأنها مخالفة للحسد.

وقيل : لما رأى معها فاكهة الشتاء في الصيف ، وعكسه دعا بالولد مع كبر سنة ؛ لأنه قد كان له تسع وتسعون سنة ، ولزوجته إيشاع ثماني وتسعون سنة

وقوله تعالى : (ذُرِّيَّةً) هذا اللفظ يطلق على الواحد ، والجماعة ، والذكر ، والأنثى.

وقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) دل على أن المبشّر بطلق على المرسل دون الرسول.

وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) هذه صفة مدح ليحي صلوات الله عليه أنه مصدق بعيسى ، وهو أول من صدق به ، وهو أكبر منه بستة أشهر.

وسمي عيسى عليه‌السلام كلمة الله ؛ لأنه حصل بقول الله : (كُنْ).

وقد ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنه يقرن المتشهد بين الشهادتين ، وبين الشهادة بأن عيسى كلمة الله (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ)).

وقد يذكر علماء الحديث ذلك في وصاياهم ، فيشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن عيسى كلمة الله (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ).

وقيل : أراد بقوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : بكتاب من الله ، ويسمى الكتاب كلمة ، كما قيل : كلمة الحويدرة لقصيدته.

١٧٥

قوله تعالى

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١]

قيل : أعجم عن الكلام للناس ، وإنما يخاطبهم بالإشارة ، وانطلقت (١) لسانه بذكر الله ، وقيل : أمر بالسكوت.

وقيل : بالصوم ثلاثة أيام ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا.

وأما في شريعتنا فقد نهي عن صمت يوم وليلة ، والإشارة ليست بكلام ، لكنها لما كانت تؤدي معنى الكلام دخلت في اسمه (٢).

وقيل : الاستثناء منقطع ، فلو حلف أن لا أتكلم فأشار لم يحنث ، إلا أن ينوي الإشارة ؛ لأن النية تعمل في المجاز.

قوله تعالى

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣]

دلالة على وجوب الصلاة ، والقنوت : القيام.

قيل : أمرت بطول القيام في الصلاة.

قيل : لما أمرت بذلك قامت في الصلاة ، حتى ورمت قدماها ، وسالتا دما.

والسجود : من أركان الصلاة ، فأمرت بالصلاة بأركانها.

__________________

(١) أنث اللسان بناء على أنه مكني به عن الكلمة ، كما ذكره في الصحاح ، فمعناه : انطلقت كلمته بذكر الله. (ح / ص).

(٢) فتسميتها كلاما مجاز.

١٧٦

وقوله تعالى : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) فيه وجهان :

الأول : أنه أراد بذلك صلاة الجماعة ، وهذا أمر بها ، والمسألة خلافية بين العلماء ، هل الأمر بالجماعة للوجوب ، أو للاستحباب؟ الأكثر أنه للاستحباب ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده بضعا وعشرين درجة).

الوجه الثاني : أن في زمانها كان بعضهم يقوم في صلاته ، ويسجد ، ولا يركع ، وكان بعضهم يركع ، فأمرت بأن تكون مع (١) الذين يركعون ، فتركع كما أنهم يركعون.

قال جار الله : ويحتمل أنه أراد انظمي نفسك مع المصلين ، وكوني في عدادهم ، لا في عداد غيرهم.

قوله تعالى

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤]

قيل : أراد بالأقلام أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة ، جعلوها للقرعة.

وقيل : أراد أقداحهم للاقتراع.

وثمرة الآية :

أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل ، حتى يتميز واحد بمزية.

ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملتبس ، وقد تعلق

__________________

(١) في نسخة (بأن تكون من الذين يركعون).

١٧٧

الشافعي بذلك ، وجعله حكما لازما في السفر بإحدى الزوجات. ونحو ذلك.

وقال أهل المذهب : إنما ذلك لطيبة القلوب ، فيكون مستحبا ، وقد يجب إذا تعذر التعيين كاختلاف الشريكين في البداية فيما قسمته بالمهاياة ، وبيان تعيين الأنصباء ، وبيان من يخرج فطرتها من الزوجات إذا كن غنيات ، وقدر على البعض دون البعض ، على تفصيل لهذه المسألة في موضعها (١).

قوله تعالى

(وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٥٠]

وذلك لأنه حرم في شريعة موسى عليه‌السلام الشحوم ، والثروب ، ولحوم الإبل ، والسمك ، وكل ذي ظفر ، فأحل عيسى صلّى الله عليه بعض ذلك.

قيل : أحل لهم من السمك والطير ما لا صيصية له (٢).

واختلف في إحلاله السبت ، وأكل لحوم الإبل والثروب ، وهذا الذي حلله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل على حله لنا ، وهو مؤكد بأدلة خاصة ، نحو قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [المائدة : ٥] ونحو ذلك.

قيل : الصيصية : المخلب.

__________________

(١) الظاهر من المذهب أنه إذا ملك لبعض صنف سقطت عن ذلك الصنف كما هو صريح الأزهار .. وكلام الكتاب يناسب كلام الفقيه علي كما ذكره في البيان. قيل الفقيه علي : بل تجب على البعض أيضا ، لكن إن كان هذا الصنف هم العبيد أخرج عمن شاء منهم ، وإن كن الزوجات ، أو الأولاد الصغار ، فإن كانوا معسرين فكذا أيضا ، وإن كانوا مؤسرين ، أو البعض منهم قرع بينهم ؛ لأن من أخرج عنه فقد سقطت فطرته ، ومن لم يخرج عنه لزمه أن يخرج عن نفسه. بيان.

(٢) وهذا يدل على أن شريعته ناسخة لشريعة موسى عليه‌السلام. ذكر معناه البيضاوي.

١٧٨

قوله تعالى

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١]

النزول

قيل : نزلت الآية في وفد نجران ، السيد ، والعاقب ومن معهما ، لما قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل رأيت ولدا من غير ذكر؟» فنزلت.

والمعنى : (فَمَنْ حَاجَّكَ) في عيسى (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا) وأراد بذلك الحسن ، والحسين عليهما‌السلام (وَنِساءَنا) أراد بذلك فاطمة (١) عليها‌السلام (وَأَنْفُسَنا) أراد بذلك نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليا عليه‌السلام.

وروي أنه أخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد الحسن والحسين ، وعلي ، وفاطمة عليهم‌السلام ، وقال : (إذا أنا دعوت فأمنوا) فقالوا : ننظر ، ثم تشاوروا ، فقالوا للعاقب ، وكان صاحب رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا

__________________

(١) فاطمة هي : فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البتول ، سيدة نساء العالمين ، ولدت قبل النبوة بخمس سنين ، وقريش تبني الكعبة ، وقيل : بل ولدت بعد النبوة ، وتزوجها علي عليه‌السلام في السنة الثالثة من الهجرة ، ولها يومئذ خمس عشرة سنة ، وخمسة أشهر ونصف ولعلي يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ، وتزوجها في صفر ، وبنى في الحجة بعد وقعة أحد ، ولم يتزوج عليها غيرها ، كأمها خديجة ، وكان تزويجها بأمر الله ، وقد خطبها أبو بكر وعمر ، واختلف في سنها حين ماتت اختلافا كثيرا ، فقيل : ثمان أو تسع وعشرين ، وقيل : غير ذلك ، وغسلها علي عليه‌السلام ، وأسماء بنت عميس ، ودفنت ليلا ، وتولى ذلك علي ، والعباس ، وروى البخاري أن فاطمة طلبت من أبي بكر ميراثها ، فقال لها : إن الأنبياء لا تورث ، أو كما قال ، فوجدت عليه ، أو كما قال ، وأوصت أن تدفن ليلا ، صلوات الله عليها.

١٧٩

معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم فوادعوا الرجل.

ولما رآهم أسقف نجران قال : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فصالحوا على أن يؤدوا كل عام ألفي حلة ، ألفا في صفر ، وألفا في رجب ، وثلاثين درعا عادية (١) ، هذه حكاية الكشاف.

وحكى في التقرير أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالحهم على مائتي أوقية من الفضة ، وعشرين أوقية من الذهب (٢) ، ومائتي حلة ، كل حلة ثوبان ، قيمة كل ثوب عشرون درهما ، وعارية ثلاثين فرسا ، وثلاثين درعا ، وثلاثين بعيرا ، إلى والي اليمن ، ونزل (٣) الرسل إلى اليمن عشرين يوما.

قال : ولما ضعفوا صالحهم الهادي عليه‌السلام على التسع فيما على المسلمين فيه العشر ، ونصف التسع فيما على المسلمين فيه نصف العشر.

وهو يؤخذ أحكام : منها : من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته ، والمباهلة : الملاعنة ، وهذا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأما لغيره من الأئمة فهل يجوز اقتداء بما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو يكون ذلك خاصا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنهم لو باهلوا هلكوا ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (والذي نفس محمد بيده إن الهلاك قد تدلى على آل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ،

__________________

(١) قوله : (عادية) العرب تنسب كل شيء قديم إلى عاد ، فيقولون : عادي. شمس العلوم.

(٢) المراد بالأوقية هاهنا هي الأوقية الإسلامية ، وهي أربعون قفلة إسلامية ، وأوقية الذهب اثنان وأربعون مثقالا. تعليق لمع.

(٣) أي : إضافتهم ، تزويدهم إن سافروا ، وإطعامهم إن أقاموا.

١٨٠