تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

الحكم الخامس

يتعلق بقوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) اختلف المفسرون ما أراد بالاستمتاع المذكور فقال علي عليه‌السلام وابن زيد ومجاهد ، ورواية عن ابن عباس أريد به النكاح (١)).

قال أبو مسلم : ولا يجوز حمل الآية على نكاح المتعة (٢) وهو النكاح إلى أجل لأن أول الآية وآخرها في النكاح.

وعن ابن عباس والسدي : أريد به الاستمتاع المذكور نكاح المتعة ثم اختلفوا هل ذلك ثابت أو منسوخ ، والنسخ قول جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء ، ورجع إليه ابن عباس (٣).

وقالت الإمامية : ورواية عن الصادق والباقر أنها ثابتة غير منسوخة وينقضي النكاح فيها بمضي المدة من غير طلاق ولا يثبت بها الموارثة موارثة ولا عدة ، لكن الاستبراء (٤).

قال في الثعلبي (٥) : وروي أن ابن عباس قرأ (فما استمتعتم به منهن

__________________

ـ بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن خزيمة بن علقمة بن فراس ، وأما زينب فهي بنت جحش بن ضباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن ذودان ، وأمها عمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم ، فلا قرابة بينهما أصلا ، ولعل منشأ الغلط كون أبي سلمة عبد الأشل زوج ام سلمة قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ابن عمة رسول الله مرة بنت عبد المطلب ، وما ذكره في الكشاف من أن عبد الله بن أبي أميمة بن عمة رسول الله ، وهو أخو أم سلمة فذلك سهو ، والله أعلم (ح / ص).

(١) زاد المسير (٢ / ٥٣) ، تفسير الثعالبي (٢ / ٢١٠) ، الطبري (٤ / ١٣) ، القرطبي (٥ / ١٢٩).

(٢) الطبري (٤ / ١٤ برقم ٩٠٣٧ بنحوه) ، البغوي (١ / ٤١٤) ، السيوطي (٥ / ١٧).

(٣) حول رجوع ابن عباس عن الفتوى بالمتعة وجوازها انظر تفسير الخازن (١ / ٣٦٢).

(٤) لمزيد حول حجية الإمامة حول الموضوع انظر تفسير الطبرسي (٥ / ٧١ ـ ٧٣).

(٥) نقل الرواية عن الثعلبي الطبرسي في تفسيره تفسير الجزء (٥) ص (٧٢).

٣٤١

إلى أجل مسمى) ، وقال : والله لهكذا أنزلها الله عزوجل ثلاث مرات ، أي : قال ابن عباس ذلك ثلاث مرات ، وروي أنه رجع عن ذلك عند موته ، وقال : اللهم إني أتوب إليك من قولي في المتعة وقولي في الصرف (١).

قال جار الله : وقيل أبيح ذلك مرتين وحرم مرتين (٢) لا يقال الخبر بنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المتعة أحادي فلا ينسخ القرآن (٣).

قلنا : دلالة الآية على المتعة ظنية إذ الظاهر أنه أراد بالمتعة الوطىء ونحوه من المقدمات.

وإذا قلنا : أن المراد بهذا الاستمتاع الانتفاه والتلذذ بالوطىء في غير الفرج فتكون الخلوة موجبة للمهر ، وهذا إجماع أهل البيت وأبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي ، وقول الظاهر.

وروى في (النهاية) عن مالك ، وداود : أن الخلوة لا توجب كمال المهر.

قالوا : لأنه نص تعالى على أن لغير المدخول بها النصف بقوله تعالى في سورة البقرة (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] والمسيس : المراد به الجماع وإن احتمل أن يراد «به» (٤) ما هو في أصل اللغة وهو المس.

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥١٩).

(٢) الكشاف (١ / ٥١٩).

(٣) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٥ / ١٣٠ وما بعدها) ، وظاهر كلام أهل الأصول أن الكتاب لا ينسخ بالسنة الأحادية من غير فرق بين أن تكون الدلالة ظنية أو قطعية والله أعلم ، فيحقق ، والخلاف للظاهرية. ولو قيل بصحة ما ذكره الفقيه يوسف حيث المنسوخ الحكم دون التلاوة لم يكن بعيدا ، والله أعلم (ح / ص).

(٤) ساقط في (أ).

٣٤٢

وقال في المدخول بها (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] والإفضاء الدخول.

قلنا : المراد (١) بالإفضاء الخلوة وذلك مأخوذ من الفضاء ، والمسيس : القرب والمداناة ، قال تعالى : (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) [طه : ٩٧] أي : لا قرب.

وعنه عليه‌السلام (من كشف خمار امرأة فنظر إليها وجب الصداق) (٢).

وعن زرارة ابن أبي أوفى : قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق بابا أو أرخى سترا وجب المهر لكن بشرط الخلوة عندنا ، والحنفية عدم المانع على ما ذلك مبين في كتب الفقه (٣) ، وقوله تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهن وقوله تعالى : (فَرِيضَةً) قيل : يعني فرض ذلك عليكم فريضة ، وقيل : أراد فريضة مقدرة وقد دلت الآية أن أقله لا يصح أن يكون ما لا قيمة له لأنه لا يسمى مالا.

وأما التقدير بعشرة ونحو ذلك فذلك من جهة السنة.

قال (أبو حنيفة) : وفيها دلالة على أن منافع الحر لا تكون مهرا : لأن ذلك لا يسمى مالا ، ولهذا لا يجب ضمانها على متلفها ، ومذهبنا ، والشافعي : أنه يصح أن يعقد على منافع الحر ، وأنها مال ، وقد ورد في قصة موسى وشعيب عليهما‌السلام (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) [القصص : ٢٧] وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله.

__________________

(١) في (ب) : أراد.

(٢) أخرجه

(٣) من اشتراط صحة النكاح والتسمية وغير ذلك ، ولعل المؤلف يريد هنا الموانع من صحة الخلوة مثل الموانع الشرعيى والعقلية.

٣٤٣

الحكم السادس

يتعلق بقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) وفي ذلك دلالة على جواز الزيادة بعد العقد والنقصان والتأجيل (١) وهذا مذهبنا وأبي حنيفة ، وصاحبيه ، وعند الشافعي : أن الزيادة كالهبة ، وهو قول الناصر. قالوا : لا دليل في الآية على الوجوب ، وإنما (٢) دلالتها على الإباحة قلنا : قال عليه‌السلام : (أدوا العلائق) ، قيل : وما العلائق؟ قال : (ما تراضى به الأهلون) ولم يفصل.

قالوا : أراد بالتراضي حال العقد ؛ حملا على ما يصح ؛ إذ لو زاد بعده لم يقابل الزيادة شيئا ، لأن البضع قد استحق بالعوض الأول ، وكذا المبيع ، ولا يلزم إذا فرض بعد العقد ولم تتقدم تسمية ، فإن ذلك وجب استحسانا ، قيل : ويجوز أن يحمل التراضي على المهر وعلى النفقة.

ومن قال : إن الآية واردة في نكاح المتعة قال : المراد لا جناح في أن الأجل إذا قرب انقضاؤه فلا جناح في الزيادة عليه.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) يعني : عليما بمصالحكم فيما يحل من النكاح ويحرم ، وحكيما فيما يأمركم به من الشرائع.

قوله تعالى

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ

__________________

(١) زاد المسير (٢ / ٥٥) ، تفسير الطبري (٤ / ١٦).

(٢) في (أ) : وأنه.

٣٤٤

بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النساء : ٢٥]

هذه الآية الكريمة [قد] تضمنت أحكاما :

الأول : تحريم نكاح الأمة للحر إلا بشرطين وهما : عدم الطول ، والثاني خشية العنت (١) ، وذلك مأخوذ من دليل الخطاب وهو مفهوم الشرط والكلام مسبوق في الأحرار لأنه تعالى قال : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) والملك إنما يصح من الأحرار ، والطول السعة (٢) في المال بأن يقدر على مهر الحرة.

وعن ابن عباس : من وجد ثلثمائة درهم فقد وجب عليه الحج ، وحرم عليه نكاح الأمة (٣) وبنى على حال يكون الثلاث المائة كافية.

والطول مشتق من الزيادة ومنه : يسمى الطويل ، والعنت : أصله انكسار العظم بعد الجبر ، فاستعير لكل مشقة ، وأريد الوقوع في الإثم لفرط شهوته ، هذا معنى كلام أهل التفسير ، وذكره في الشرح ، وذكر بعض المتأخرين أنه المشقة والتألم وإن لم يخش المعصية ، والظاهر الأول وقيل : العنت خشية أن يحد بمقارفة المعصية ، ثم اختلف العلماء : ما أريد بالنكاح هل العقد أو الوطىء؟ فمذهبنا والشافعي أنه العقد أي : من لم يستطع العقد.

وقال (أبو حنيفة) : أنه الوطىء فيجوز عنده للحر الغني الذي لا إمرأة له أن يتزوج بأمة لأنه غير مستطيع للوطىء فلو عقد على صغيرة أو غائبة وخشي العنت إن لم يتزوج وهو لا يقدر على حرة أخرى بل على أمة ففي (الشامل) لأصحاب الشافعي يجوز.

__________________

(١) القرطبي (٥ / ١٣٧ ـ ١٣٧).

(٢) ولعله يستثنى له ما يستثنى للمفلس كالمدبر ، والله أعلم (ح / ص).

(٣) الكشاف (١ / ٥٢٠).

٣٤٥

قيل : ومذهبنا لا يجوز ؛ لأن استطاعة العقد على الحرة (١) قد حصل ، قيل ولو وجد من يفرضه المهر أو من تنظره بمهرها لم يجز عندنا أن يتزوج بأمة لأنه مستطيع لنكاح الحرة ، فاشبه من له فضل مال.

وفي (الشامل) : يجوز لأنه لا طول له ، وهذا تفسير الجلة من العلماء وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وأبي مسلم : أن الطول السعة والقدرة على المهر (٢) ، وقيل الطول هوى النفس أي : من لم تتق نفسه إلى الحرة وتاقت إلى الإماء جازت له ، وهذا محكي عن ربيعة وجابر وعطاء وإبراهيم (٣).

وقد حكى في (الشرح) : عن أبي يوسف أنه إذا خشي العنت جاز له التزويج بالأمة وإن كان موسرا.

قال في (التهذيب) : ومنهم من يحمل اشتراط العنت على انه شرط في الجواز ومنهم من يحمله على الندب فصار فيمن لم يكن تحته حرة أربعة أقوال مذهبنا والأكثر أنه لا يصح نكاح الأمة إلا بشرطين ، و (أبو حنيفة) يجوز من غير الشرطين وإن كان مكروها ، وأبو يوسف بشرط خشية العنت ، ومنهم من يشترط عدم الطول ، ويجعل شرط العنت ندبا.

قال في (النهاية) : وقال قوم يجوز للحر نكاح الأمة مطلقا وهو قول ابن القاسم (٤) لعموم قوله تعالى في سورة النور : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) ولم يفصل بين حر وعبد.

__________________

(١) التعليل الواضح أن يقال : تحته حرة ، وهو لا يجوز إدخال الأمة على الحرة. (ح / ص).

(٢) تفسير الطبري (٤ / ١٧ وما بعدها) ، فتح القدير (١ / ٤٥٠) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٥٧).

(٣) تفسير الطبري (٤ / ١٧ برقم ٩٠٥٨) وما بعده.

(٤) من المالكية (ح / ص).

٣٤٦

وأجيب : بأنه لم يتعرض في هذا العموم إلى صفات الزوج (١).

قيل : كانت الجاهلية تبيح نكاح الأمة فمنعت الشريعة من ذلك.

ويتعلق بهذا الحكم فروع :

الأول : إذا اتفق الشرطان في رجل فهل له أن يعقد بأكثر من واحدة أم لا؟ فقال (أبو حنيفة) وخرجه (أبو العباس) : أنه يجوز لعموم قوله تعالى : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

وقال (المؤيد بالله) والشافعي : لا يجوز لقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) وبالواحدة يزول العنت (٢) ، وظاهر الخلاف استواء العقد والعقود ، وقيل : الخلاف في العقد الواحد (٣) أمّا إذا تزوج أمة أولا ، ثم أراد أن يتزوج أمة ثانية فأبو العباس يوافق (المؤيد بالله) وكلام (المؤيد بالله) عليه‌السلام أظهر.

الفرع الثاني

إذا كان معه سرية فأراد أن يعقد بأمة ، فقال المؤيد بالله : لا يجوز لأن بها زال خشية العنت ول (أصحاب الشافعي) وجهان.

الفرع الثالث

إذا أتيح له العقد بالأمة فعقد عليها ثم فات الشرطان وذلك بوجود الطول وزوال العنت ، فإن نكاح الأمة لا يبطل لأنه قدم لعقد قبل ذلك فلم يبطل نظروا المانع كالإحرام (٤) ، ولعموم قوله ـ عليه‌السلام ـ : «تنكح الحرة على الأمة» ، وهذا مذهب الأئمة وأكثر العلماء.

__________________

(١) قلنا : نسلم ، ولكن قد ورد ما خصه. (ح / ص).

(٢) وقواه في البحر ، قال في شرح الفتح : وهو ظاهر الأزهار والأثمار ، لقوله : (الْعَنَتَ) والذي بنى عليه أهل المذهب كلام أبي العباس.

(٣) الظاهر أن الخلاف مطلقا. (ح / ص).

(٤) أي : لو تزوج ثم أحرم لا يبطل العقد.

٣٤٧

وعن المزني ، ومسروق ، وابن جرير : يبطل نكاح الأمة لوجود السبيل.

قال ابن حنبل : يبطل بالعقد على الحرة ؛ لأن الاستمرار على النكاح نكاح.

وقوله تعالى : (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) قراءة الكسائي هنا (الْمُحْصِنَاتِ) بكسر الصاد ، وقرأ الباقون بالفتح ، والمراد هاهنا الحرائر ، وإلا فالمراد بالمحصنات بالفتح ذوات الأزواج ، وبالكسر الحرائر والعفائف.

الفرع الرابع

لو استطاع حرة ذمية هل له نكاح الأمة ، وهذا الفرع على قول من جوز نكاح الذمية ، وقد اختلفوا.

قال في (التهذيب) : فقيل : إنه يجوز له نكاح الأمة ؛ لأن إيمان الحرة التي شرط بها شرط ، وقيل : لا يجوز ذلك لأنه ذكر لبيان الفضل.

الحكم الثاني يتعلق بقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ)

والمراد إماء الغير ؛ لأنه لا يجوز أن يتزوج بأمته.

قال في (التهذيب) : بالإجماع وفي (شرح الإبانة) : جواز ذلك عن داود.

قلنا : يبطل بقوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) فجعل الإباحة مقصورة على أحد معنيين ، واجتماعهما يؤدي إلى تنافي الأحكام ، وقد دلت الآية على إباحة نكاح الأمة المؤمنة مع الشرطين ، ولكن اختلفوا في اشتراط إيمان الأمة ، فقال الشافعي : إن ذلك شرط ويفرق بين نكاح الحرة الكتابية أنه يجوز وبين نكاح الأمة الكتابية فإن ذلك

٣٤٨

لا يجوز لظاهر الآية ، ولأن نكاح الإماء منحط عن نكاح الحرائر لأجل رق الولد ، وثبوت الولاء عليه ، ولثبوت الاستخدام ، وكونها خرّاجة ولّاجة وذلك نقصان في النكاح ومهانة ، والعزة من صفات المؤمنين.

وقال (أبو حنيفة) : إن إيمان الأمة المنكوحة غير شرط للصحة ، وإنما ذكر لبيان الفضل كما ذكر إيمان الحرة ، ويتفق أبو حنيفة ، والشافعي على جواز وطىء الكتابية بالملك.

وقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) قال الحاكم : ذكر ذلك تنبيها على أن العبرة بالظاهر دون حقيقة الإيمان ، فتدل على أن الأحكام تعلق بما ظهر فيلزم من هذا أن يجري على المنافقين أحكام المسلمين ، وقد ذكر هذا السيد يحيى بن الحسين ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاملهم بأحكام المسلمين ، وقد أخبره الله تعالى بباطنهم.

وقال جار الله : ذكر الله تعالى ذلك تأنيسا بنكاح الإماء ، وأن لا يستنكف من نكاح الإماء ، فإن بعضكم من بعض ؛ إذ أنتم متواصلون في النسب ، وربما كان إيمانهن أرجح من إيمان الحرة ، وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلّا فضل الإيمان دون فضل الأنساب. تم كلامه.

فتكون دلالة على مثل ما دل عليه قوله تعالى في سورة الحجرات :

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] وبأن الكفاءة في الدين فقط ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بمشيئة الله. وقد تفرع في الحكم فائدتان كما ترى.

الحكم الثالث يتعلق بقوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)

وأراد بانكاح هنا العقد وفاقا ، وهذا تصريح باعتبار إذن المولى.

قال الحاكم : وذلك إجماع ولكن إذا كانت الأمة لمرأة ، فقال (أبو

٣٤٩

حنيفة) : يجحوز لها أن تزوجها لهذه الآية ، ومذهبنا والشافعي أن النساء لا يتولين النكاح وأن المرأة بالإذن في حقهن غير العقد.

الحكم الرابع يتعلق بقوله تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

قال الحاكم : استدل إسماعيل بن إسحاق أن مهر الأمة ملك لها لأنه إضافة إليها وأمره تعالى بالإيتاء إليها.

وقال العلماء : بل هو ملك لسيدها وإنما إضافة إليها لأنه بدل من بضعها.

قال جار الله : وإنما ذكر الإيتاء إليهن لأنهن وما في أيديهن ملك للمولى فالأداء إليهن أداء إلى المولى ، أو على أن أصله فأتوا مواليهن ، فحذف المضاف (١) ، وهذا مطابق للقياس ، وقوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ) يعني من غير مطل بل على موافقة الشرع من تكميل أو تنصيف.

وقوله تعالى : (مُحْصَناتٍ) أي : عفائف غير زانيات وهن المسافحات جهارا (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) (٢) زانيات سرا ، وكان قوم من الجاهلية يحرمون الزنى جهرا أو يحلونه سرا فنهى عنه تعالى سرا وجهرا.

الحكم الخامس [يتعلق بقوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ..)]

يتعلق بقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) دلالة الآية الصريحة أنه ينصف الحد إذا أتين بالفاحشة بعد الإحصان ، ومفهوم الخطاب أنهن إن أتين (٣) قبل الإحصان

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٢٠).

(٢) الخدن والخدين : الصديق.

(٣) في (أ) : فأتين.

٣٥٠

فلا حد ، لكن اختلفوا ما أراد بالإحصان ، فقيل : يعني إذا بلغن (١) فأتين بالفاحشة فعليهن النصف لا أن أتين بها قبل البلوغ فلا حد ، وهكذا قبل العقل وبعده (٢) ، وهذا ظاهر موافق للمذهب ، ومنهم من حمل الإحصان على التزويج وعلى الإسلام ، وقال : إذا زنت قبل ذلك فلا حد عليها ، وهذا مخالف للمذهب ، والمذهب وهو قول لأكثر العلماء أنها تحد بدليل آخر يعارض هذا المفهوم ، نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا زنت أمة أحدكم فليحدها» (٣).

وقراءة حمزة والكسائي وعاصم (أَحْصَنَّ) بفتح الألف والباقون بضمها ، فبالضم معناه : زوجن ، أو حصنهن أزواجهن ، وبالفتح معناه : أسلمن ، أو حفظن فروجهن ، أو بلغن ، وقد دلت على أن حد الأمة النصف من حد الحرة ، وهو خمسون.

وهل يلحق بها العبد في التنصيف أم لا (٤)؟ مذهب الأكثر أنه لا حق ؛ لأن علة التنصيف الرق لا الأنوثة ، ويقولون : هذه العلة معلومة.

وقال داود : لا ينصف للعبد.

الحكم السادس

يتعلق بقوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) يعني : إن تصبروا عن

__________________

(١) وقد جعله أحد معانيه في تهذيب الحاكم ، أعني : البلوغ أحد معاني الإحصان.

(٢) يعني : لا حد قبل العقل ، وبعد العقل يثبت.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ٤٣٢) كتاب البيوع (ح / ٢١٥٢٨) ، ومسلم (٣ / ١٣٢٨) حديث (٣٠ / ١٧٠٣) ، وأحمد (٢ / ٤٩٤) ، وابو داود (٢ / ٥٦٦ ، ٤٤٧٠) ، والحميدي (٢ / ٤٦٣ رقم ١٠٨٢) ، وعبد الرزاق (٧ / ٣٩٢ رقم ١٣٥٩٧ ، ١٣٥٩٩) ، وأبو يعلى (١١ / ٤١٩ رقم ٦٥٤١) ، والبيهقي (٨ / ٢٤٢) ، وللحديث مصادر أخرى عديدة وبألفاظ متقاربة تودي نفس للمعنى.

(٤) تفسير الطبري (٤ / ٢٦).

٣٥١

نكاح الإماء متعففين خير لكم ، دل على أن الأفضل ترك نكاح الإماء ، وملازمة الصبر مع الثقة بالعفة ، لما في نكاح الإماء من النقصان كما تقدم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» (١) ، رواه الزمخشري.

قال في (الشرح) : ويستحب طلاق الأمة عند وجود السبيل إلى الحرة (٢).

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [النساء ٢٩ ـ ٣٠]

النزول :

قيل : لما نزلت هذه الآية امتنع الناس من الضيافة حتى نزلت الآية في سورة النور (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] إلى آخرها (٣) ، والمعنى : لا تأكلوا ، وأراد سائر التصرفات ، خص الأكل ؛

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٢١) ، وقيل : نبت البيت وقيل : صلاح أمور البيت ، قال الشاعر :

ومن لم يكن في بيته قهرمانة

فذلم بيت لا أبا لك ضائع

إذا لم يكن في منزل المرء حسرة

مدبرة ضاعت مرؤة داره

حاشية النسخة (ب) ص (١٥ ب).

(٢) شرح الأزهار.

(٣) تفسير الطبرسي (٥ / ٨١) ، الناسخ والمنسوخ لعبد الله بن الحسين (بتحقيقنا) ، ص () ، نواسخ القرآن (١٢٥ ـ ١٢٦) ، تفسير الطبري (٣٣).

٣٥٢

لأنه معظم المنافع ، وقيل : لأنه يطلق على وجوه النفقات (أَمْوالَكُمْ) أي : أموال بعضكم بعضا (بِالْباطِلِ) بالربا ، والقمار ، والظلم ، والخيانة ، والسرق (١) فلا تدخل الهبة (٢).

وقيل : بغير عوض فتدخل الهبة بغير عوض ، وتكون منسوخة بآية النور (٣) ، عن الحسن.

ثم قال تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) هذا استثناء منقطع ؛ لأن التجارة لم تدخل في الباطل ، وخص التجارة لأن أكثر أسباب الرزق متعلق بها ، وشرط لها التراضي.

قال علي بن موسى القمي : وفي ذلك دلالة على تمام البيع بالإيجاب والقبول قبل التفرق ، ومن أثبت خيار المجلس فبالخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (٤) حمل التراضي هنا على أنه شرط حتى يفترقا ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعني : لا يقتل بعضكم بعضا ، هذا قول الحسن ، وعطاء ، والسدي ، وأبي علي ، والزجاج (٥) ؛ لأنهم أهل دين واحد ، فصاروا كالنقس الواحدة.

وقيل : (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وعن عمرو بن العاص أنه تأوله على التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه الرسول عليه‌السلام (٦) ، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تُلْقُوا

__________________

(١) تفسير الطبري (٤ / ٣٣ برقم ٩١١٤) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٨١) ، الكشاف (١ / ٥٢١ ـ ٥٢٢).

(٢) أي : بغير عوض.

(٣) تفسير الطبري (٤ / ٣٣ برقم ٩١١٤) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٨١).

(٤) أخرجه

(٥) الكشاف (١ / ٥٢٢) ، زاد المسير (٢ / ٦١) ، القرطبي (٥ / ١٥٦).

(٦) الكشاف (١ / ٥٢٢) مسند أحمد (٤ / ٢٠٣) ، أبو داود (١ / ١٤١) ، البخاري تعليقا (١ / ٣٨٥) ، القرطبي (٥ / ١٥٧).

٣٥٣

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وقد غلّطما روي عن الحسن ، وعطاء : أنه لا يتيمم وإن خشي الهلاك ، وكذا سائر ما يخشى منه الهلاك كالصوم مع خشية الهلاك ، وقيل : لا تقتلوا الغير فيكون سببا (١) في قتلكم قصاصا ، وقيل : لا تقتلوا أنفسكم كما يفعله بعض الجهلة (٢). قال الحاكم : ولا مانع من حمل الآية على الجميع.

وقوله تعالى : (عُدْواناً) يحترز من الخطأ والقصاص ، وقد ظهرت أحكام هذه الآية في بيان معناها من تحريم أكل مال الغير بالباطل وجواز أكله بالتجارة بشرطها من التراضي ، وتحريم قتل النفس وما يؤدي إلى ذلك.

قوله تعالى

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢]

قيل : يعني يتمنى أن الذي فضل به صاحبه يكون له ، وهذا حسد.

وأما لو تمنى أن يكون له مثله كان ذلك جائزا ، وهذا يدل على تحريم الحسد (٣).

وقوله تعالى

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء : ٣٢]

__________________

(١) في ([) : السبب.

(٢) وفي نسخة (بعض الجاهلية).

(٣) لمزيد حول المعنى العام للآية يتعلق بها أحكام انظر زاد المسير (٢ / ٦٨ وما بعدها) ، تفسير الثعالبي (٢ / ٢٢٧) ، تفسير الخازن (١ / ٣٦٨) ، القرطبي (٥ / ١٦٢ وما بعدها) ، تفسير الطبري (٥ / ٨١).

٣٥٤

قيل : أراد لكلّ حظّ (١) من الثواب على قدر كسبه ، وقيل : كانت الجاهلية لا تورث النساء والصبيان فأبطل الله ذلك بهذه الآية.

قوله تعالى

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) [النساء : ٣٣]

النزول :

قيل : نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة ، وكانوا يتوارثون بتلك المواخاة ، ثم نسخ ذلك ، عن ابن عباس وابن زيد (٢).

وقيل : نزلت في الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية ، ومنهم زيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم عند الموت ، وأما الميراث فللقرابة ، عن سعيد بن المسيب (٣).

وقيل : نزلت في حديث أبي بكر لأنه حلف أن لا ينفق على (٤) ابنه

__________________

(١) الوجه على هذا القول ما في النيسابوري ، وهو ما لفظه (أو (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا)) أي : بسبب قيامهم بالنفقة على البيت (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) بحفظ فروجهن ، وطاعة أزواجهن ، والقيام بمصالح البيت. اه فمن سببية أو تعليلية على هذا وهو مناسب. (ح / ص).

(٢) زاد المسير (٢ / ٧٢) ، البخاري (ح / ٤٥٨٠) ، تفسير الثعالبي (٢ / ٢٢٨) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٩١) ، القرطبي (٥ / ١٦٥) ، الخازن (١ / ٣٦٩).

(٣) تفسير الثعالبي (٢ / ٢٢٨) ، الطبري (٤ / ٥٧ برقم ٨٢٨٩) ، وذكره ابن عطية (٢ / ٤٦) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٩١ ـ ٩٢) ، القرطبي (٥ / ١٦٦) ، الخازن (١ / ٣٦٩) ز

(٤) ساقط في (ب).

٣٥٥

عبد الرحمن ولا يورثه شيئا من ماله ، فلما أسلم عبد الرحمن أمر أن يؤتى نصيبه من الميراث (١) ، وقيل : كانوا في الجاهلية يتوارثون بالحلف والمعاقدة فثبت ذلك في أول الإسلام ثم نسخ (٢).

المعنى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) أي : لكل واحد منكم جعلنا موالي أي : ورثة لأن المولى يطلق على المعتق والمعتق ، والوارث ، وابن العم ، والسيد ، والحليف ، فأراد هنا الوارث مما ترك الوالدان والأقربون ، فعلى هذا الموروث هو الوالدان والأقربون وهم الفاعلون للترك (٣).

ووجه آخر : وهو أن المعنى : ولكل مال تركه (٤) الميت جعلنا له موالي ، وهم الوالدان والأقربون ، فيكون الوالدان والأقربون ورثة ، فيكون هنا دلالة على إثبات ميراث القرابة جملة ، ويكون دلالة هذه الآية كدلالة قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) في تفسير ذلك أقوال (٥) :

الأول : أنه أراد الحلفاء في الجاهلية ، وذلك أن الرجل كان يحالف غيره ويعاقده فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وسلمي سلمك ، وحربي حربك ، وترثني وأرثك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، وأقره الرسول أولا (٦).

قال جار الله : وروي أنه عليه‌السلام خطب يوم الفتح فقال : «ما كان من

__________________

(١) الخازن (١ / ٣٦٩).

(٢) الطبرسي (٥ / ٩١) ، القرطبي (٥ / ١٦٦) ، الخازن (١ / ٣٦٩).

(٣) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٠) في نسخة (وهم فاعل ترك).

(٤) في (ب) : ترك.

(٥) زاد المسير (٢ / ٧١ /).

(٦) تفسير الطبري (٥ / ٩١) ، القرطبي (٥ / ١٦٦) ، الخازن (١ / ٣٦٩) ، الكشاف (١ / ٥٢٣) ، نواسخ القرآن ص (١٢٩).

٣٥٦

حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يرده الإسلام إلا سدة ، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» (١).

وقولهم : هدمي هدمك بفتح الدال وسكونها (٢) أي : هدري هدرك ، وهذا مروي عن سعيد بن جبير ، وقتادة ، وعامر ، والضحاك.

الثاني : أن المراد الذين تبنوهم ثم نسخ ذلك ، عن الحسن ، وسعيد بن المسيب (٣).

الثالث : الذين آخى بينهم رسول الله من المهاجرين ، ثم نسخ ذلك ، عن ابن عباس ، وابن زيد (٤).

[الرابع]

وقيل : للآية معنى ثابت غير منسوخ وهو أن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) معطوف على قوله : (تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي : والذي ترك الذين عاقدت إيمانكم فآتوا ورثة الجميع ميراثهم (٥).

__________________

(١) الكشاف (١ / ٥٢٣) ، ورواه مسلم (٤ / ١٩٦١) ، وأحمد في المسند (٤ / ٨٣) ، نواسخ القرآن (١٢٧) وما بعدها.

(٢) في بعض نسخ الكشاف (هدمي هدمك) بتسكين الدال ، وفي الصحاح : يقال : دماهم هدم ، أي : هدر ، وهدم بالتسكين أيضا. أه ويكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ.

(٣) زاد المسير (٢ / ٧٢) ، تفسير الثعالبي (٢ / ٢٢٨) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٩١) ، القرطبي (٥ / ٩١) ، الخازن (١ / ٣٦٩) ، نواسخ القرآن ص (١٣٠).

(٤) زاد المسير (٢ / ٧٢) ، القرطبي (٥ / ١٦٥) ، الخازن (١ / ٣٦٩) ، تفسير الطبرسي (٥ / ٩١) ، الثعالبي (٢ / ٢٢٨) ، صحيح البخاري (ح / ٤٥٨٠) ، نواسخ القرآن ص (١٢٩).

(٥) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص (١٠٢).

٣٥٧

[الخامس]

وقيل : أراد بذلك ميراث الزوجين ؛ لأنه يثبت بعقد النكاح ، وهو يسمى عقدا ، قال الله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) وهذا مروي عن أبي مسلم وأنكر النسخ (١).

وفي الآية وجه سادس وهو : أن يكون المراد ولاء الموالاة ، وذلك بأن يسلم الكافر على يدي غيره ، لكن الناصر ، والشافعي ، ومالك يجعلون هذا منسوخا فلا يثبتون له ميراثا ، وناسخه قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا حلف في الإسلام» (٢) ، وعند القاسمية والحنفية أنه يثبت به الميراث لكن شرط (المؤيد بالله) المحالفة ، وظاهر قول الهدوية أنها غير شرط ، واحتجوا بما رواه راشد بن سعد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أسلم على يديه رجل هو مولاه يرثه» (٣).

قالت القاسمية : إنما يرثه إذا كان حربيا لأنه من عليه من القتل.

وقال زيد ، وأبو حنيفة : لا فرق والميراث للأعلى لا الأسفل ، ويتفرع فروع استخراجها من الاعتبار.

__________________

(١) ومثله في الحاكم ولفظه (والذين عاقدت معطوف على ترك الوالدان ، أي وترك الذين عاقدت أيمانكم ، وهم ورثته فآتوا كلا نصيبه من الميراث عن أبي علي ، ولا يكون فيه نسخ .. الخامس. المراد به الزوج والزوجة ، والنكاح يسمى عقدا ، قال تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) وهذه الآية نظير آية المواريث في بيان فرض الولد والزوج والزوجة عن أبي مسلم ، وأنكر النسخ على مذهبه في ذلك).

(٢) سبق تخريجه ، انظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص (١٠٢) ، وأخرجه الطبري في تفسيره (٤ / ٥٨) برقم (٩٢٩٢).

(٣) ينظر في وجه الدلالة على نفيه مطلقا ، نعم يصلح نافيا لمذهب المؤيد بالله. (ح / ص).

٣٥٨

ووجه سابع

أن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي :

من النصحة والنصرة والمظاهرة ، وفي ذكر معنى الآية بيان ثمرتها.

قوله تعالى

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) [النساء : ٣٤]. الآية.

ثمرة ذلك : ثبوت ولاية الزوج على امرأته ، وأن له التأديب على ما يستحسن ، وقد بين الله تعالى علة ذلك بأن ذلك بما فضله الله تعالى (١) ، وبإنفاقه لماله في المهر وسائر المؤن ، وقوله تعالى : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) أي مغيب أزواجهن بأن يحفظن ماله ويتعففن ، وقيل : يحفظن سره.

وقوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) أي : بما حفظهن الله تعالى ، من كونه تعالى استوصي فيهن ، وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «احفظ الله يحفظك» (٢) ، وقرأ

__________________

(١) وفي الكشاف (وفيه دليل على أنّ الولاية إنما تستحق بالفضل ، لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل الرجال : العقل ، والحزم ، والعزم ، والقوّة ، والكتابة ـ في الغالب ، والفروسية ، والرمي ، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى ، والجهاد ، والأذان ، والخطبة ، والاعتكاف ، وتكبيرات التشريق عند أبي حنيفة ، والشهادة في الحدود ، والقصاص ، وزيادة السهم ، والتعصيب في الميراث ، والحمالة ، والقسامة ، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة ، وعدد الأزواج ، وإليهم الانتساب ، وهم أصحاب اللحى والعمائم).

(٢) أخرجه

٣٥٩

أبو جعفر (بما حفظ الله) بنصب الهاء ، بمعنى يحفظهن الله (١) ، والباقون بالرفع.

قوله تعالى

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) [النساء : ٣٤]

قيل : نزلت في حديث سعد بن الربيع [بن عمرو] ، وكان نقيبا من نقباء الأنصار نشزت عليه زوجته حبيبة بنت زيد ابن أبي زهير فلطمها ، فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال : «لتقتص منه» فنزلت ، فقال : أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير ، ورفع القصاص (٢) ، ومن أجل ذلك قال الزهري : لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ، ولكن يجب العقل [أي : الأرش] (٣) ، وقيل : لا قصاص إلا في القتل والجرح دون اللطمة ونحوها ، وقد استدل بهذا على أن له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجتهد ، وقيل : سقوط القصاص في لطم الزوج لها منسوخ (٤) ، وقيل : لأن له شبهة من حيث أنه فعله على وجه التأديب.

__________________

(١) وفي الكشاف ما لفظه (وقرىء» بما حفظ الله «بالنصب على أن ما موصولة ، أي حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانة الله ، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم).

(٢) تفسير الطبرسي (٥ / ٩٤) ، ابن كثير (١ / ٧٧٥) ، تفسير الخازن (١ / ٣٧٠) ، الطبري (٤ / ٦٠) ن القرطبي (٥ / ١٦٨) ، الكشاف (١ / ٥٢٤).

(٣) الطبري (٤ / ٦٠ ـ ٦١ برقم ٩٣١٠ ، ٩٣١١) وما بين القوسين في بعض النسخ حاشية وليست أصلا.

(٤) أي : أنه بمعنى العلم وهذا قول ابن عباس.

٣٦٠