تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

المعرضين عن ساحة قدسه وجمال وحدانيته عزيز عزته وعظيم نور كبريائه المقبلين إلى وسائط الحدثان ، وطلب لذة الحال من رؤية الأكوان ، وكشف الحقيقة عن مرآة الخليقة ، إنهم من حقيقة التوحيد عبدة الأصنام إذا انعزلوا من ضعف قلوبهم عن طوارق سطوات عظمة القدم ، المنزه في ظهوره عن أن يحل في الحوادث ، المقدس من أن تكون ذاته وصفاته في الكوائن والمشاهد ، قدّس نفسه عن المشابهة بغيره بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : كل ما وقفتم عليه من العرش إلى الثرى فأنا منزّه عن ذلك ، ولو أتجلى من قدس جلالي بالحقيقة لاضمحلّ الحدثان ، وفنيت الأكوان ، سبحاني تعاليت عن خطرات الأوهام وعما يحل في الأفهام ، وعما تدركه العقول وتشاهده القلوب ويعاينه الأرواح ويصادقه الأسرار! من ذكرني بحظّه فقد افترى ، ومن شكرني بحظّه فقد ابترى ، ومن صبر في موازاة قدمي فقد اجترأ ، لولا رحمتي الواسعة على جميع خلقي ما أوجدتهم وما خاطبتهم ؛ إذ خطابي معهم من وراء كل حادث ، وليس في عزة قدمي وراء ولا ملأ ولا خلاء ولا مكان ولا زمان ، من أشار إليّ بنعت العشق فهو محجوب بحظّه عني ، ومن أشار إليّ بنعت المعرفة فأنا منزّه عن أن كون معروفه بمعرفته ، ومن أشار إليّ بالتوحيد وتوحيده راجع إليه وأنا واحد في وحدانيتي ، ما فارقت عن اثنين حتى توحدت ؛ فإن وحدانيتي منزّهة عن الكثرة والقلة ، ولم يكن للحدثان وجود بالحقيقة حتى يكون مثلا لي ؛ إذ قيامها بي ، وكيف تكون الأشياء مماثلي والأشياء قائمة لقدرتي؟! ولولا قدرتي ما تكونت الأشياء ، ليس لصنعي مثل ، فكيف لصفاتي وذاتي؟! يا حبيبي احترق في نيران الغموم والهموم واليأس والقنوط من إدراك عين حقيقته ، وإن كنت مشاهدا إياه أبدا فإن الكون غائب في بحر لا إله إلا الله ، ولام (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، نفى الكيفية والأينية والحيثية في أول إبراز نور قدسه بقوله ليس ، وقد كفى به أهل التوحيد إذا عدم التشبيه والمشابهة ، ولو فهم المخاطبون حروف أول السورة لرأوا معنى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) في رمزها سبحانه ، سبحانه هام فؤاد ، عرفه كل لسان وصفه ، سبحانه ما أعظم شأنه!

قال الواسطي : رموز التوحيد كلها خرجت من هذه الآية : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوصة ؛ لأن الحق لا ينعت على أقداره ؛ لأن كل ناعت مشرّف على المنعوت ، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق.

وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف إليكم ، ومردود عليكم ، محدث مصنوع مثلكم ؛ لأن حقيقته جلّ أن تلحقها عبارة ، أو يدركها وهم ، أو يحيط بها علم ، كلّا كيف يحيط به علم وقد اتفقت فيه الأضداد بقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ؟! كلا

٢٦١

قصرت عنه العبارة ، وخرست الألسن ؛ لقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١).

وقال الواسطي : احتجب بخلقه عن خلقه ، ثم عرّفهم صنعه بصنعه ، وساقهم إلى أمره بأمره ؛ فلا يمكن للأوهام أن تناله ، ولا العقول أن تحتاله ، ولا الأبصار أن تتمثله ، ولا الأسماع أن تشمله ، ولا الأماني أن تمتهنه ، هو الذي لا قبل له ولا بعد له ، ولا يقصد عنه ، ولا معدل ولا غاية وراءه ، ولا منتهى ، ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء ، لا يستره حجاب ولا يقلّه مكان ، ولا يحويه هواء ، ولا يحتاطه فضاء ، ويتضمنه خلاء ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، فلما قطع أطماع الحقيقة عن إدراك جلاله رغّبهم في إقبالهم إليه ؛ لطلب عرفان وجوده ، ووجوده بقوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : مقاليده مشيئته الأزلية وإرادته القدمية ، يفتح بها أبواب كنوز سنوات ذاته وصفاته ، وأعرض فعله للمصطفين في الأزل بمحبته ، وينثر على أسرارهم جواهر أنوار معرفته ، ويعرّفهم شمائل وجوده ومحاسن أفعاله وغرائب صفاته ، ثم زاد وصف كرمه لطلاب قربه وعشاق مشاهدته بقوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) : يبسط رزق مشاهدته لمن يشاء من أهل صبابته وأهل الاشتياق إلى جماله ، وهو قادر بذلك ، لا ينقص جلاله ، وأن ينظر إليه أهل شوقه أبد الآبدين ؛ إنه عالم بحرق فؤادهم ولهيب نيران أسرارهم ، يميل بذلك أزمّة طلاب الحوائج إلى ساحة جوده ؛ حتى لا يميل أحد لكل معنى إلى غيره ، يا أخي مقاليد سماواته ما في قلوب ملائكته من أحكام الغيوب ، ومقاليد أرضه ما أودع الحق صدور أوليائه من حجائب القلوب.

قال ابن عطاء : مقاليد السماوات الغيوب ، ومقاليد الأرض الآيات والبينات.

وقال : عاتب الله أولياءه بنظرهم إلى ما سواه.

__________________

(١) قال سيدي علي وفا : اسمع : إن قيل لك المثل بكسر الميم وسكون الثاء وبفتح الميم والثاء واحد ، فكيف الجمع بين قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وبين قوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] وبين قوله : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) فقل : وما توفيق العبد إلا العبد إلا بالله سيده ومولاه : إن كانا واحدا لغة فالمثل قد أثبت للحقيقة التي هي الهوية بقوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، ولاسم الجلالة بقوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، ولنور الله بقوله : (مَثَلُ نُورِهِ) ونفي عن مثل الهوية بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وأثبت المثل للنور بقوله : (مَثَلُ نُورِهِ) هذا المشكاة أمر وهميّ ليس غير ؛ لأنه في الحس فراغ متوهم وخلاء ، والخلاء ثابت وهما فقط ، فهو في الحس والكون لا شيء ، فلا يلزم من كونه كائنا أن يكون ذلك الأمر شيئا. وإنما قال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) [النور : ٣٥] ؛ ليثبت أنه ليس له مثل حقيقي ؛ إذ الظاهر منه في المظاهر هو بالحقيقة ، ومثاله بالوهم ليس إلا كالذي تراه منك بواسطة المرايا الصقيلة ، (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) [النور : ٣٥] : أي يبين الله الأمثال للناس ، فافهم.

٢٦٢

وقال : بيدي مقاليد السماوات والأرض ؛ فلا تشتغلوا بهما ولا بما فيهما وعليهما ؛ فإن كلها قامت بي ، كونوا إلى حقّا ؛ أسخر لكم الأكوان وما فيها ، ألا ترى كيف قطعهم عن الاعتماد على الأنبياء بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.)

وقال : مقاليد الأرزاق صحة التوكل ، ومقاليد القلوب صحة المعرفة بالله ، ومقاليد العلوم الجوع.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) أي : بسط لكم بساط العبودية التي هي مرقاة عرفان الربوبية ، فإذا كنتم تصعدون عليها تبلغون إلى مشاهدة جلالي وكشف جمالي ، عرفتكم نفسي كما عرفت نفسي حبيبي وخليلي وكليمي وروحي ، ووصيتكم بألا تختاروا عليّ شيئا من دوني ، فإذا تجردتم عن غيري واستقمتم على بساط خدمتي وأقبلتم إلى جمال مشاهدتي بنعت المحبة والشوق فقد بلغتم نهاية الدين الذي اصطفينا به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أجمعين ، لا تتفرقوا من مقام الجمع ؛ فإن عين الجمع غاية ذوق العارفين ، والتفرقة غاية الحجاب بيني وبينكم.

قال بعضهم في قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي : من تعظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنبياء السابقة.

وقال سهل : الشرائع مختلفة ، وشريعة نوح هي الصبر على أذى المخالفين.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

٢٦٣

قوله تعالى : (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : ألبس الله حبيبه أنوار نعوته الأزلية بنعت التجلي والكشوف لقلبه وعقله وروحه وسره وصورته ، فلما جعله كاملا من كل الوجوه قال له : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي : استقم بي على مرادي منك ؛ بحيث تستقيم بصفتي عند كشف حقائق ذاتي ؛ فإن الكون وأهله لا يستقيم في موازاة ذرة من عين الألوهية ، والاستقامة في الأمر عموم ، وفي المعرفة والمشاهدة خصوص ، الاستقامة في العبودية للأولياء ، والاستقامة في مشهد الربوبية للأنبياء.

قال بعضهم : حقيقة الاستقامة لا يطيقها إلا الأنبياء وأكابر الأولياء ؛ لأنها الخروج من المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات ، والقيام بين يدي الحق على حقيقة الصدق ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استقيموا ولن تحصوا» (١) أي : لن تطيقوا الاستقامة التي أمرت بها.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))

قوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : لطيف بأوليائه وأهل معرفته ومحبته ، بأن أودع أرواحهم في الأزل ودائع العلم اللدني وأنوار محبته الأزلية ، واصطفاهم بقربه ووصاله ، وأغرقهم في بحار شوقه وعشقه ومعرفته ، ثم طالع أسرارهم بعلومه القديمة ، فرأى لهب نيران قلوبهم من شوقه ، لا يخفي عليه هيجانهم وشوقهم إليه ، فجذبهم من مكمن العدم أولا إلى نور القدم ، وأشهدهم على مشارب بحار الذات والصفات ، ثم جذبهم إلى بساط العبودية ، وتلطّف عليهم بأن رفع عنهم أثقالها تلطفا وكرما حتى سهّل عليهم مسالك الاستقامة ، ثم جذبهم إلى مشاهدة الربوبية ، وأدناهم منه ، ودنا منهم ؛ حتى يبقى البين في البين ، قال تعالى في وصف حبيبه : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٢) : ثم حماهم من قهر غيرته ، وألبسهم قباء أنوار بقائه ، وتوّجهم بتيجان المسرة ، وشدّ في أوساطهم مناطق الحرمة ، وأجلسهم على أرائك المملكة ، وخاطبهم بأسرار ملكه وملكوته ، وجعلهم أهل سرّه ، وأكرمهم بكشف ملكه لهم حتى حكموا فيه بشرط الانبساط ، لا يثقل عليهم حقوق المعارف ، ولا يجري عليهم إلا أنوار الكواشف ، هم طيور مناهل الوصال ، يطيرون في بساتين الجمال والجلال ، ويترنمون بألحان الصفات ، ويخبرون أهاليهم من أسرار الذات ، طوبى لهم ، ثم طوبى له ، (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) ، فأرجو من كمال كرمه القديم وجوده العميم أن

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات ، واتصل أنوار كشوف الذات والصفات بالعارف ، فذلك حقيقة المعية ، إذ هو سبحانه منزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث ، البحر المديد (٦ / ٢٦٦).

٢٦٤

أكون طيرا من ملك البلابل ، أصفّر بصفير الصفات ، وأترنم من بطنان غيب الذات ، سكران من رؤية الذات ، والها بالصفات ، ووالها من شراب الصفات ، مشغوفا بسنا الذات ، ثم أفنى في الذات ، وأبقى في الصفات ، ولا يجري عليّ بعد ذلك طوارق الفناء ؛ فأبقى بقاء الأبدي ، وأتدارك ما فات مني من المعية القدمية مع القدم ؛ فإن الآخر بالحقيقة أول ، والأول آخر ، والظاهر باطن ، والباطن ظاهر ، فنحن الأولون حيث قام الحق بأوليته مقام أوليتنا وإن كنا معدومين ، ونحن الآخرون من حيث ألبسنا الحق وصف بقائه ، ونحن الظاهرون بظهوره علينا ، ونحن أهل الباطن والغيب ؛ إذ لا غيب في الكشف ، ولا باطن في الظهور ، تعالى الله من أن يدركه بوصفه غيره ، رزق الله هذه المراتب العلية والمواهب السنية من آمن بنا ، وبكل وليّ صدر من بساتين الغيب ، ومشارب القرب الذي يتكلمون بمثل هذه الكلمات البديهية الإلهية الربانية ، كما قال سبحانه : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) : قويّ باصطفائيتهم مما اختار لهم في أزله إلى أبده.

قال ابن عطاء في قوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : يعلم من أنفسهم ما لا يعلمونه من نفوسهم ، فربط كلا بحده ، فمن بقي مع حده حجب ، ومن تجاوز حده هلك.

قال أبو سليمان الداراني : من لطف الله بعبده أن قصر له كنه معرفته حتى لا تتكدر عليه نعماؤه.

وقال الجنيد : اللطيف الذي لطف بأوليائه حتى عرفوه.

وقال ابن عطاء : اللطيف الذي يعرف الغيوب بلا دليل.

قال بعضهم : اللطيف الذي ينسى العباد في الآخرة ذنوبهم لئلا يتشردوا.

وقال بعضهم : الذي لم يدع أحدا يقف على مائة أسمائه فكيف الوقوف على مائة وصفه وذاته؟!

وقال أبو سعيد الخراز في قوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : موجود في الظاهر والباطن ، والأشياء كلها موجودة به ، لكن يوجد ذكره في قلب العبد مرة ، ويفقده مرة ؛ ليجدد بذلك افتقاره إليه.

وقال القاسم في قوله : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) : الفطنة والحكمة ، (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) : القوي يقوّي الفطن ، والعزيز عزّز عنايته ورعايته ، ولا يبذلها لكل أحد.

قال الأستاذ : اللطيف هو العالم بدقائق الرموز وغوامضها.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ

٢٦٥

الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) : حرث الآخرة مشاهدته ووصاله وقربه ، وهذا للعارفين ، وحرث الدنيا الكرامات الظاهرة ، ومن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق ، لو يزيد من حرث الدنيا فهو معرفة الله ومحبته وخدمته ، وإلا فلا يزن الكون عند أهل المعرفة ذرة.

قال بعضهم في هذه الآية : من عمل لله محبة له لا طلبا للجزاء صغر عنده كل شيء دون الله ؛ فلا يطلب حرث الدنيا ولا حرث الآخرة ، بل يطلب الله من الدنيا والآخرة.

قال سهل : حرث الدنيا القناعة ، وحرث الآخرة الرضا.

وقال أيضا : حرث الآخرة القناعة في الدنيا والمغفرة في الآخرة والرضا من الله في كل الأحوال ، وحرث الدنيا قضاء الوطر منها والجمع منها والافتخار بها ، ومن كان بهذه الصفة فما له في الآخرة من نصيب.

قال الأستاذ : نزيده اليوم في الطاعات توفيقا ، وفي المعارف وصفاء الحالات تحقيقا ، ونزيده في الآخرة ثوابا واقترابا وفنون النجاة وصنوف الدرجات.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))

قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) : قدّس الله تعالى بهذه الآية حال نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون قلبه مشوبا بشيء من الحدثان في دعاء الخلق إليه ، وأنه يريد منهم جزاء دعوته أن يتقربوا إلى الله ببذل الأرواح في محبته ، وبذل الأشباح في خدمته ، وأن يستنّوا بسنته ، ويتبعوا أسوته في جميع الأنفاس ؛ طلبا لزيادة محبة الله إياهم ومتابعته ، قال سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ.)

قال سهل : أن تقربوا إليّ باتباع سنتي.

قال ابن عطاء : لا أسألكم على دعوتكم أجرا لا أن تتوددوا إليّ بأن تعملوا من الأعمال ما يقربكم إلى ربكم.

٢٦٦

وقال الحسن : كل من تقرب إلى الله بطاعته وجبت عليك محبته.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤))

قوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) : بيّن الله سبحانه قدس استغنائه عن المخلوقين حتى من نبيه وصفيه وجميع الملائكة والرسل بأنهم لو خالطوا حاشاهم في آياته وبيان شريعته ليمحو وجودهم وقلوبهم وما لا يليق بدينه ، ويثبت الحق والحقيقة بكلماته الأزلية التي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، وفيه تقديس كلامه وطهارة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الافتراء ، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه ، وفيه من النكت الغريبة أي : لو تظهر سرّ السر وغيب الغيب نربط على قلبك لطف الصحو ؛ حتى لا تفشي سرّنا من سكرك ، فيهلك العباد فيه.

قال سهل : يختم على قلبك ختم غلبة الشوق والمحبة ، فلا تلتفت إلى الخلق ، وتشتغل بإجابتهم.

وقال الواسطي : إن يشاء الله يختم على قلبك بما شاء ، ويمحو الله الباطل بنفسه ونعته ، حتى يعلم أنه لا حاجة به إلى أحد من خلقه ، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) : يقبل توبتهم حين خرجوا من النفس والكون ، وصاروا أهله مقدسين بقدسه ، ويعفو عن سيئاتهم ما يخطر بقلوبهم من ذكر غيره ، ويعلم ما يفعلون من التضرع بين يديه في الخلوات.

قال الأستاذ : إن لم يتب العبد خوفا من النار ولا طمعا في الجنة لكان من حقه أن يتوب ؛ ليقبل الحق سبحانه توبته.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

قوله تعالى : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : يعني يعطي سؤال السائلين في مشاهد قربه ، ويزيدهم ما لا يعلمون ؛ إنه مدخر لهم من غرائب لطفه وعجائب كرمه ؛ لأنهم شاهدوا مشاهد ربوبيته حين غاب عنها أكثر الخلق ،

٢٦٧

وعملوا في بذل وجودهم لحب وجهي الكريم ، واقتحموا في بلياتي بصالح أعمالهم وحسنات نياتهم ، فيجازيهم بما هو أهله ، قال الله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي : علما ومعرفة بنا وبما لدينا وتوفيقا للزيادة والرغبة في طاعتنا ، ونزيده لطفا وكرما من عندنا ، ونلبسه نورا من نورنا ، ونجعله حسنا بحسننا.

قال بعضهم : من تقرّب إلينا بطاعتنا أكرمناه بالتوفيق ، وزدناه من الإحسان إليه ، وهو أن نكرمه بالإقبال علينا والاحتراز عما سوانا.

قال الأستاذ في قوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : الرؤية.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩))

قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا) : أراد بالرزق في الحقيقة والبسط كشف مشاهدته على السرمدية في هذا العالم للعارفين ، يشكرون ، ويشطحون ، ويعربدون ، ويخرجون من سكرهم وغلبتهم عن الحدود والأحكام ، ويدعون بالدعاوي العظام ، ويفسد بهم عقائد العباد ، ولكن يكشف لهم على ما وافق قوة أسرارهم وثبوت أرواحهم حتى لا يفنوا في سبحات جلاله ، وأنهم يعطشون إلى بحار جمال مشاهدته ؛ لأنه خبير عالم بضعفهم عن تحمل أثقال الربوبية ، بصير بنياتهم وشكوتهم في خلواتهم ؛ حيث يسألون أن يفنوا في وجوده ، وذلك حين أبطأ هجوم الواردات عليهم ، وهم وقعوا في بحر اليأس بقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي : يكشف لهم أنوار جماله بعد أن آيسوا من وجدانها في مقام القبض ، وينشر عليهم لطائف بسط القرب ؛ لأنه وليهم وحبيبهم ، محمود بلسان افتقارهم ومعاينة اللقاء لهم.

قال ابن عطاء : إن الله تعالى يربي عباده بين طمع ويأس ، وإذا طمعوا فيه آيسهم بصفاتهم ، وإذا آيسوا أطمعهم بصفاته ، وإذا غلب على العبد القنوط وعلم العبد ذلك وأشفق منه أتاه من الله الفرح ، ألا تراه يقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) (١) :

__________________

(١) أي : يئسوا منه وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضا لتذكير كمال النعمة ، فإن حصول النعمة بعد اليأس والبلية أوجب لكمال الفرح فيكون أدعى إلى الشكر.

٢٦٨

معناه ينزل غيث رحمته على قلوب أوليائه ، فينبت فيها التوبة والإنابة والمراقبة والرعاية.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) : إن الله سبحانه قدّر المقادير في الأزل ، ومن مقاديره المقدرة كسب العباد ، كما قال تعالى : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ، وجزاء اكتسابهم من الثواب والعقاب منها صدر ، فإذا كسب العبد شيئا من الجرائم فهي من أسباب القهر ، ويكون محجوبا به ، فإذا كان أهلا لله تعالى يعاقبه الله في الدنيا ببعض المصائب ، ويخرجه به من ذلك الحجاب ، وإن لم يكن من أهل الحق فمصائبه إمهاله له في ضلالته ، وإن ترك العبد الصالح بما بدا منه المعصية يكون محجوبا بها ، ولكن يداويه ببعض الامتحان حتى يكون صافيا عن كدر الخليقة ، ولكن بكرمه وفضله لا يؤاخذه إلا بقليل من عمله ، (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠) ، وبعفوه ورحمته يخرجهم من ظلماتها ، ولم يأخذهم بالقليل سخطه ، لكن أراد أن يعرف العبد بالمصيبة عيوب نفسه ومواقع خطره.

قال ابن عطاء : من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه ، وإنما عفا عنه مولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه ؛ لأن الله يقول : (وَما أَصابَكُمْ) ، ومن لم يشهد ذنبه وجنايته ويندم عليه لا ترجى له النجاة من المصائب والفتن.

(ومن ءايته الجوار في البحر كالأعلم (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) : في هذه الآية إشارة إلى أن سفن قلوب العارفين في بحار أنوار ذاته وصفاته ، تجري على اضطراب من غلبات صدمة عواصف سطوات أحديته وأزليته وأبديته ، من حيث إنها محدثة عاجزة خائفة من قهر وعظمة والفناء في معارف قاموس كبريائه ، فيتلطف الحق بإمساك قهر عظمته عنها ، فيمسكها بنور جماله ، (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ) : سواكن في جريانها بشمال جماله ، ولولا فضله ورحمته لتفتتت في كشوف العظمة وبروز الكبرياء ، وهذه الأحوال السنية لا تكون إلا لصبّار بالحق في الحق ، شكور برؤية فنائه في بقائه ووجوده ، قائم بجوده ، قال الله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣٣).

٢٦٩

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠))

قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : ما أوتيتم من المقامات والدرجات والكرامات والمعاملات فمتاع المتمتعين بذكر الله ، وما عند الله من كشف مشاهدته وظهور أنوار وصاله وعجائب علومه الغيبية وأحكامه المخفية للذين شاهدوا الله وعليه يتوكلون في امتحانه إياهم واستغراقهم في بحار ألوهيته ، فهو بجلاله ورحمته يخرجهم من لججها إلى سواحل وصاله ؛ حتى لا يفنوا فيه ، ويتمتعون بجماله في بقائه.

قال بعضهم : ما ظهر من أفعالك وطاعتك لا يساوي أقلّ نعمة من نعيم الدنيا من سمع وبصر ، فكيف ترجو بها النجاة في الآخرة ؛ لتعلم أن النعم كلها بفضل لا باستحقاق.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

قوله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي : بعد ظلم الظالم عليه ، هذا بيان من لطف عدله ، تعالى الله من أن يجور ، عدل كما حكم ، وصرح بخطابه طرفين من العلم : بيان شرف الظالم ؛ إذ جاوز الأمر وجار في العبودية ، وبيان ضعف المظلوم وقلة صبره في البلاء ، وانخلاعه من شعار الأنبياء والصديقين وأولي القوة من الرسل ، وأولي العزائم من أهل الاستقامة ؛ حيث صبروا في احتمال الجفاء ، وغفروا لمن لم يعرف أقدارهم ، وبذلك وصفهم الله بقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣) ، وما قال لحبيبه : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، والصبر في البلاء من نعوت أهل الرضا ، والعفو من شعار أهل الكرم والرضا.

٢٧٠

قال ابن عطاء في قوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) : خاطب العوام بالانتصار بعد المظلمة ، وأباح لهم ذلك ، واختار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأخصّ ، وندب إليه بقوله : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ، ثم لم يتركه ومخاطبة الندب حتى أمره بالأفضل وحثّه عليه بقوله : (وَاصْبِرْ.)

وقال جعفر : صبر على إيذائه ، وعفا عن مؤذيه ؛ ذلك من أحكم الأمور في الدين وأحمدها عند الله وأجلّها عند الناس.

قال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله حالة الرضا ، وهو أجلّ الأحوال ، ومن جزع من المصائب وشكا وكّله الله إلى نفسه لم تنفعه شكواه.

قال الأستاذ : صبر على البلوى من غير شكوى ، وعفا بالتجاوز عن الخصم ، فلا يبقى لنفسه عليه دعوى ، بل يبرئ خصمه من جهته عليه من كل دعوى في الدنيا والعقبى ، (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.)

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) : الأمر للعموم في إجابة دعوته ، ولا يسمع نداءه إلا من اصطفاه في الأزل لمحل خطابه وسماع دعائه ، وكيف يجيب من لم يسمع بأسماع التنبيه والمعرفة والمحبة والفهم هواتف أطيار الإلهام والخطاب والكلام ، من خاطبه الحق بلا واسطة ؛ فيسمع أيضا الخطاب بالوسائط ، من كان خاليا عن استعداد قبول الخطاب لا يجيب ، ولو ناداه الحق بكل لسان ؛ قال الله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.)

قال الجنيد : استجابة الحق لمن يسمع هواتفه وأوامره وخطابه ، فتتحقق له الإجابة بذلك السماع ، ومن لمن يسمع الهواتف كيف يجيب ، وأنّى له محل الجواب؟!

وقال الأستاذ : الاستجابة الوفاء بعهده والقيام بحقه والرجوع من مخالفته إلى موافقته.

٢٧١

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١))

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : كان لي واقعة في ابتداء الأمر ، وذلك أنى شاهدت الحق بالحق ، وكاشف لي مشاهدة جماله ، وخاطبني من حيث الأرواح لا الأشباح ، فغلب على سكر ذلك ، وأفشيت حالي بلسان السكر ، فتعرضني واحد من أهل العلم ، وسألني : كيف تقول ذلك وأن الله سبحانه أخبرنا بأنه لم يخاطب أحدا من الأنبياء والرسل إلّا من وراء حجاب ، وقال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ)؟! فقلت : صدق الله ، هذا إذا كانوا في حجاب البشرية ، فإذا خرجوا بشرط الأرواح إلى علم الغيب والملكوت ألبسهم الله أنوار قربه ، وكحّل عيونهم بنور نوره ، وألبس أسماعهم قوة من قوى الربوبية ، وكشف لهم سرّ الغيرة وحجاب المملكة ، وخاطبهم كفاحا وعيانا ، ولنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخصّ خاصية ؛ إذ هو مصطفى في الأزل بالمعراج والمشاهدة ، فإذا صار جسمه روحه ويكون واحدا من كل الوجوه صعد إلى الملكوت ، ورأى الحق منزّها عن أن يحجبه المحل من الحدثان ، أو احتجب بشيء دونه فهو الممتنع بذاته القديم من أن يطالعه إلا بعد أن يكشف له جلال أبديته وجمال سرمديته ، وتصديق ما ذكرنا ما قال الواسطي في هذه الآية ؛ قال : أخبر أن أوصاف الخلق على سنن واحد ، وخصّ السفير الأعلى والواسطة الأدنى بمشافهة الخطاب ومكافحته ، وقال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) ، وهو قائم بصفة البشرية حتى ينزع عنه أوصاف البشرية ، ويحلى بحلية الاختصاص ، يكلم شفاها (١) ؛ لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.)

تفسير قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي : كما خصصنا الأنبياء والرسل بالأرواح الروحانية والأرواح الملكوتية والأرواح الجبروتية والأرواح الجمالية والأرواح الجلالية خصصناك بروح قدسية أوجدتها من جملة الأرواح ، بتجلي قدسي قدمي من العدم ، وفضّلناك برؤية القدس والجوهر القدسي المشروح برقوم تجلي جمالي وجلالي ، المكسو بكسوة جميع صفاتي ، المنور بنور ذاتي ، خصصنا روحك المشرقة بهذه الأنوار ،

__________________

(١) قال الشيخ المصنف : وإذا دخل القلب في عالم الغيب فما يراه فهو كشف ، وما يسمعه فهو كلام وما يتكلم به فهو وحي ، فيتولد مما يسمع الفهم ، وما يتولد مما يبصر فهو بيان وكشف ونظر ، وما يتولد مما يتكلم به فهو حكمة ومعرفة وعلم ، وما يقع في موضع العقل من القلب فهو علم لدني ، وما يقع في الفؤاد وهو الرؤية والإدراك. تقسيم الخواطر (ص ٩٥) بتحقيقنا.

٢٧٢

بأن أحييتها بما أودعتها من روح فعلي وروح صفتي وروح ذاتي ، وذلك على الغيب وغيب الغيب ، وسر الغيب الأول أمر الفعل ، والثاني أمر الصفة ، والثالث أمر الذات ، فإذا صارت جامعة لهذه الخصائص وأن جميع الأرواح صدرت من نورها أرسلناها إلى جسمك المبارك ، ونفختها في صورتك كما نفخت في صورة أبيك ، فصار آدم العالم فأنت أنت ، وآدم والعالم من العرش إلى الثرى يظهر من مرآة وجودك ، كما ظهر الكون من جوهرك القدسي الذي هو أول ما خلقت ، فمن يرى نورها منك فقد رآني ، فإنك مرآتي للعالمين ؛ لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رآني فقد رأى الحقّ ، ومن عرفني فقد عرف الحقّ» (١) ، وقال : «أول ما خلق الله نوري ، ثم خلق منه ما هو كائن إلى يوم القيامة» (٢) ، فمن كان له من بحر نوره روح صار بين العالمين مرآة جمال الحق وجلاله ، ويكون شاهد الحق في العالم ؛ من نظر إليه عشق بالحق ؛ إذ الحق يظهر منه من حيث التجلي لا من حيث الحلول ، تعالى عن أن يحل في شيء من الحدثان ، ثم بيّن الحق تفصيل مواهبه التي وهبها لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خصائص النبوة والرسالة ، وشرائف المعارف والكواشف التي خفيت عنه في أوائل حاله ؛ إذ كان في غواشي صورة الإنسانية من أحكام أزليته ، وما سبق له من حسن العناية والكفاية بقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي : ما كنت واقفا على أسرار الخطاب وحقيقة المعرفة في زمان غيبتك ؛ إذ زيّنتك بألطاف في حجب الغيب ، ثم تجلى لك نور القرآن الذي ظهر منه نور العرفان ، فصار العرفان إيمانك والقرآن عرفانك ، فإيمانك العرفان ، وعرفانك القرآن ، فصار الإيمان والعرفان والقرآن من حيث عين الجمع واحدا ؛ إذ جميعها صدر من صفة القدم بالتجلي والتدلي والظهور ؛ والصفة صدرت من الذات من حيث المعاينة ، والكشف للأرواح الجلالية الجمالية القدسية ؛ لذلك تعود الكناية إلى الواحد من الاثنين ، إذ هذا الاثنان واحد في الحقيقة.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

قاله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي : هذه المعاني التي كشفتها لك نور وهداية تهدى به إلى معرفتنا وشرفك عندنا ، (مِنْ عِبادِنا) : من العارفين والموحدين والمحبين الذين كانوا في سوابق الغيب منك صدروا ، وعلى رؤية جمالنا

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٦) بأوله فقط.

(٢) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٣١١).

٢٧٣

وجلالنا ، وأنت سيدهم وإمامهم ، تعرّفهم سبل وصولنا ، وذلك قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ثم أضاف ذلك السبيل بنعت الخصوصية إلى نفسه ، وقال : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : صراطك المستقيم هو طريق الله الذي مهّد للعارفين والمشتاقين ؛ ليسلكوا فيه إليه بنوره وهدايته ، ثم وصف نفسه بأنه مالك الأعيان من العرش إلى الثرى حتى طابت أرواح الصديقين بوحدانيته ؛ إذ لا منصرف إلا هو ، ولا مصرف من جميع الوجوه إلا ساحة كبريائه وعظمته ، وذلك قوله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) : تعود إليه أمور الخلائق من الحكم والقضاء والقدر والمشيئة والفعل والقدرة كما بدأ منه.

قال الواسطي : أظهر الأرواح من بين جماله وجلاله مكسوة بهاتين الكسوتين ، لولا أنه سترها لسجد لها كل ما أظهر من الكونين ، فمن رداه برداء الجمال ، فلا شيء أجمل من كونه في ستره يظهر منه كل درك وحذاقة وفطنة ، ومن رداه برداء الحلال وقعت الهيبة على شاهده ، وهابه كل من لقيه ، ولصحة الأرواح علامات ثلاث : صحة الثقة ، والتحقيق بالأخلاق ، والتخطي في طريق الآداب.

وقال ابن عطاء : الكتاب ما كتبت على خلقي من السعادة والشقاوة ، والإيمان ما قسمت للخلق من القربة.

قال القاسم في قوله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) : لأنه مبتدأ كل شيء وإليه منتهى كل شيء ، فمن كان منه وله فهو الساعة به.

قال سهل في قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : تدعو إلى ربك بنور هداية ربك.

وقال بعضهم : دعونا أقواما في الأزل فأجابوا ، فأنت تهديم إلينا ، وتدلهم علينا.

سورة الزخرف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً

٢٧٤

وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢))

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) أي : بحياتي منك وحياتك بحياتي ، ومحبتي لك ومحبتك لي ، وبهذا الكتاب المبارك الظاهر بنوره وبرهانه في صدرك ولسانك ، وصدور العارفين المبرهن بيانه للمؤمنين ، المبين لطائفه لقلوب الصديقين ، إن هذا القرآن أنزلته على قلبك ، وبلسانك الفصيح ؛ ليعرفه كل مؤمن صادق ، ويعقل به طريق العبودية وحقوق الربوبية.

قال سهل : بيّن فيه الهدى من الضلالة ، والخير من الشرّ ، وبيّن فيه سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء.

قال الأستاذ : الحاء يدل على حياته ، والميم على مجده ، وهذا قسم ، ومعناه : وحياتي وملكي وهذا القرآن المبين إن الذي أخبرت أن رحمتي لعبادي المؤمنين حقّ وصدق ، ثم وصف القرآن بأنه ليس بمخلوق ، وأنه صفته الأزلية التي هي قائمة بذاته أزلا وأبدا بقوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي : إنه صفتي ، كان في ذاتي منزّها عن التغاير والافتراق ؛ إذ هما من صفات الحدث ، وأم الكتاب عبارة عن ذات القدم ؛ لأنه أصل جميع الصفات لدينا ، معناه ما ذكرنا أنه في أم الكتاب لعليّ ، علا من أن يدركه أحد بالحقيقة ، ممتنع من انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، حكيم محكم مبين.

قال سهل : أم الكتب هو اللوح المحفوظ أي : رفيع مستول على سائر الكتب.

قال جعفر : عليّ عن درك العباد وما يتوهمون ، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)) (١).

قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) : أجلّ نعمة الله على

__________________

(١) أي : مطيعين ، وكم سخّر لهم الفلك في البحر ، والدوابّ للركوب ، وأعظم عليهم المنة بذلك فكذلك سهّل للمؤمنين مركب التوفيق فحملهم عليه إلى بساط الطاعة ، وسهّل للمريدين مركب الإرادة فحملهم عليه إلى عرصات الجود ، وسهّل للعارفين مركب الهمم فأناخوا بعقوة العزّة وعند ذلك محطّ الكافة ؛ إذ لم تخرق سرادفات العزّة همّة مخلوق سواء كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا أو وليّا مكرّما فعند سطوات العزّة يتلاشى كلّ مخلوق ، ويقف وراءها كلّ محدث مسبوق ، القشيري (٧ / ٢١٠).

٢٧٥

العباد أن يقويهم على نفوسهم الأمّارة ، وينصرهم عليها حتى يركبوا عليها ، ويميتوها بالمجاهدات ، حتى استقامت في طاعة الله ، فإذا استقامت وجب عليهم شكر نعمته ، وذكر كرامته ، وتذكر تلك النعمة أن يعرفوا لطيف صنعه في إبداعهم ، ويروا أنوار صفته في ظهورها من صنائعه ، ثم ينظروا بنورها إلى غيبه ، ويعرفوا في الغيب عين ذاته بعد أن شاهدوه به ، وهذه النعم لا تفارق عن العبد لمحة ، وشكرها واجب عليه بنعت المعرفة على السرمدية.

قال بعضهم : من لم يعرف نعم الله عليه إلا في مطعمه ومشربه ومركبه فقد صغّر نعم الله عنده ، ثم بين الله أن تسخير النفس بعد استوائها في طاعة الله يكون بتسخير الله لا بالكسب والمجاهدة ؛ ولذلك قال سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١٣) : أخرج تسخيرها من كسبهم أي : وما كنا مطيقين بتذليلها.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧))

قوله تعالى : (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي : راجعون إلى الله في جميع الحوائج بنعت الشوق إلى جماله والعشق بجماله.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) : لما كان الخليل عليه الصلاة والسلام

٢٧٦

موقع نظر جماله وجلاله وكشف وصاله وتجرد من غيره في خلته ومحبته وخدمته وأفرده بتوحيده عن غيره جعل الله توحيده كلمته العليا الشجرة الثابتة ، أصلها في أرض قلبه ، وفرعها إلى سماء الأبد ، وثمرها الرسل والأنبياء والأولياء ، وأشهى ثمرها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبقي ذلك التوحيد في قلوب أمته إلى يوم ورودهم على موارد المشاهدة الكبرى.

قال سهل : هي التوحيد في ذريته إلى يوم القيامة.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) : جهلوا العظمة ، وظنوا أن العظيم من هو له غنى وقوة نفسانية ، ولو يعلموا أن العظيم هو من عظّمه الله بعظمته ، وكساه أنوار سلطانه وبرهانه ، وهو المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه عظّم قدره في الدارين بقدر الله ، وخصّه بما قسم له في الأزل بالرسالة والنبوة والشرف والكرامة ، ووبّخهم الله بما تمنوا في القسمة بقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) : جعل معيشة البعض إرادة ، وجعل معيشة البعض علما وخدمة ، وجعل معيشة البعض إيمانا وصدقا ، وجعل معيشة البعض توبة وإنابة ، وجعل معيشة البعض محبّة وشوقا وعشقا ، وجعل معيشة البعض معرفة وتوحيدا ، وجعل معيشة السالكين الفراسات ، وجعل معيشة الزاهدين الكرامات ، وجعل معيشة العارفين تراكم الواردات ، وجعل معيشة الفقراء القناعة والتوكل والرضا والتسليم ، هذا للمقبلين إليه ، وللمدبرين عنه الغيّ والضلالة والجهل والغباوة والدنيا الكثيرة الشاغلة عن الله ، وهم أيضا في ذلك متفاوتون ؛ فبعضهم أعلى من بعض بالمعرفة ، وبعضهم أعلى من بعض بالمشاهدة ، وبعضهم أعلى من بعض في المكاشفة ، وبعضهم أعلى من بعض في المحبة ، وكذلك في جميع المقامات ، كما فضّل بعض أصحاب الدنيا في الرزق والمعيشة.

قال الواسطي في قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا) : رزق قوما حلالا ومدحهم عليه ، وقوما شبهة وذمّهم عليه ، وقوما حراما وعاقبهم عليه ، موسرا بالحرام المحض ولم يلمه عليه ، قال

٢٧٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتّى تستكمل رزقها ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» (١) ، وقال الله لهم : (يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ.)

وقال سهل : فضّلنا بعضهم على بعض في المعرفة والطاعة عيشا لهم في الدنيا والآخرة.

قال الجنيد : بالتمييز وحفظ السرّ.

وقال بعضهم : بالثقة والتوكل.

وقال بعضهم : بمعرفة كيد النفس ووسواس الشيطان ، ثم بيّن الله سبحانه بآخر الآية أن ما عنده من الاصطفائية الأزلية وكشف مشاهد العزيزة الكريمة التي هي مقدسة من شوائب الاكتساب (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من جميع الفضائل ، وأن عيش الآخرة للمؤمنين خير من العيش في الدنيا بقوله : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.) (٣٢).

قال سهل : ذكر الله خالصا خير من كثرة الأعمال لطلب جزاء.

وقال ابن عطاء : ما يعطيهم على سبيل الفضل خير لهم مما يجازيهم.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي : من نسي الله وترك مراقبته ولم يستحي منه وأقبل إلى شيء من حظوظ نفسه قيّض الله له شيطانا يوسوس له في جميع أنفاسه ، ويغوي نفسه إلى طلب هواها حتى يسلطه على عقله وعلمه وبيانه ، وهذا كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «الشهوة والغضب يغلبان العقل والعلم والبيان ، وهذا جزاء من أعرض عن متابعة القرآن ومتابعة السنّة».

وقال سهل : حكم الله تعالى أنه لا يرى قلب عبد يسكن إلى شيء سواه إلا أعرض عنه ، وسلّط عليه الشيطان ؛ ليضلّه عن طريق الحق ، ويغويه.

وقال ابن عطاء : من لم يداوم على الذكر فإن الشيطان قرينه ، ومن داوم عليه لم يقربه الشيطان بحال.

وقال الواسطي : من صرفنا قلبه عن مواعظ القرآن وحجبناه عنه نقيّض له شيطانا ،

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٧) ، وهناد في الزهد (١ / ٢٨١).

٢٧٨

فقارنه حتى يصرفه عن الحق ، وذلك بإذن الله وخذلانه ، قال تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ.)

قال جعفر : من جهل معرفة ما أنعم الله عليه بذكره ولم يشكر ذلك قرن به شيطانا لا يفارقه في جميع أفعاله وأحواله وأقواله.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢))

قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) : إن الله سبحانه نظر في قلب حبيبه ورأى فيه غلبة الشوق إلى جماله واهتماما لأمته كيف يعيشون بين أضدادهم من الضلال ، فقال : لا تهتم ؛ فإني أوصلك إليّ ، وأدفع شرّ الظالمين عنهم ، وأنتقم منهم ما فعلوا بك وبأمتك ؛ فإنك أمانهم الساعة.

قال ابن عطاء : أنت الأمان فيما بينهم ، فإن قبضناك انتقمنا منهم ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حياتي خير لكم ، وموتي خير لكم» (١).

وقال يحيى بن معاذ : لله على عباده حجتان : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة ، فأما الظاهرة الرسول ، وأما الباطنة فالعقول.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ

__________________

(١) رواه ابن عدي في الكامل (٣ / ٧٦).

٢٧٩

فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)) (١).

قوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : لا تسمع قول الزائغين الذين يؤذونك ويقولون لست بحقّ ؛ فأنت على الحق المبين ، فاستمسك بالقرآن الذي هو شاهد على شرفك ، فأنت على الطريق المستقيم ، وهذا تسلية لقلب نبيه وتأديب لأمته ، وهذا عارف يتعرضه نفسه وشيطانه من الإنس والجن بالمعارضات العريضة بعد مكاشفاته ومعرفته ، ويمنعونه من سلوك الحقائق التي لا يعرفها أهل الرسوم من المقلدين في ظاهر العلم والعمل ، ويخاصمونه ؛ فإنه سبحانه أيّده بنصره ، ويسلى قلبه بهذا الخطاب المبارك.

قال ابن عطاء : أمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستمساك والتمسك بالدين ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإمام فيه ، ولم يخل من التمسك بما أمر به لحظة ، لكنه خاطبه لرفع درجاته وعظم محله ، لتكون أنت متأدبا بآداب التمسك والاقتداء والاستقامة ، وتعلم أن مثله إذا خوطب بمثل هذا الخطاب ما الذي ألزمك من الاجتهاد والمجاهدة ، ثم بيّن سبحانه أن نزول القرآن يوجب شرف نبينا وشرف أمته بقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي : هو وصفك ، ووصف من اتبعك من العارفين الصادقين ، يصفك القرآن ، ويصف قومك من الصادقين بما أنت عليه وما هم فيه من الأخلاق الجميلة والأعمال الزكية والدرجات الرفيعة والكرامات السنية والمقامات العلية ، ألا ترى إلى قول أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها حين سئلت عن خلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : «كان خلقه القرآن» (٢) ، وأيضا أنه شرفك وشرف أمتك بأنك أهله ، وهم أهلك.

__________________

(١) فيه إشارتان : الأولى : إن القلب إذا كان خفيفا ؛ فالقوي أيضا كذلك ؛ لأنها تابعة له كما أن الرعايا تابعة للسلطان ، كما قيل : الناس على دين ملوكهم ، وثقله ، ومتانته ، إنما هو من خوف الله تعالى ، فإن الخائف من الله لا يميل إلى المنكرات ؛ بل يثبت عندما عيّن له من الشرائع ، وبقدر الخوف والعمل بمقتضاه ، يعرف مقادير الناس ، ومراتبهم في التقوى.

والثانية : إن الملوك لابد لهم من الرزانة ، والوقار ، والحياء في الصورة بلا تقليد ، وتلوين ، ورياء ، فإن ذلك مما يدلّ على ما في قلوبهم من المعاني والحقائق ، وقد طلب بعض الأولياء من الله تعالى أن يلقي في قلوب الناس هيبته في حقه ؛ لكون ذلك أقرب لقبول ما عنده من الحق ؛ فكأنه طلب أن يلقى ذلك في قلبه ، فإنه إذا كانت حقائق الصفات والأحوال في باطن الإنسان ؛ فظاهره يكون أهول وأهيب.

ولذا ترى ملوك الزمان وأمراءه يتكلّفون في الأوضاع ، ويرون من أنفسهم ما ليس في قلوبهم ، ومن ثم لا يعدّهم الناس في جملة المراجيح الرزان ؛ بل يسخرون بهم في خلواتهم ، والمتحققون المتشيّخون ، فما اشترى العارفون ذلك منهم بفلس ؛ لفرقهم بين الجيد والردىء ، والطيب والخبيث.

(٢) رواه البخاري في الأدب المفرد (١ / ١١٥) ، وأحمد (٦ / ٩١).

٢٨٠