تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

صفته وتجلّي ذاته هناك بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.)

قوله تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) : مهّد سبيل الأرواح ، والقلوب إلى مشاهدته ، فهدى من يختصّ منها بالهداية إلى جماله ووصاله.

قال بعضهم : خلق الخلق ، فسوّى بينهم في الخليقة ، وميّز بينهم في اختصاص الهداية.

قال الواسطي : قدّر السعادة والشقاوة عليهم ، ثم يسّر لكلّ واحد من الطريقين سلوك ما قدّر عليه.

وقال الأستاذ : هدى قلوب العارفين إلى قدس نعته ، فراقبوه ، ثم شاهدوه ، وهدى الموحدين إلى علاء سلطانه في توحيد كبريائه ، فتركوا ما سواه.

قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) أي : فلا تنساني بقراءتك ، فإن العبودية والاشتغال بها حجاب عن شهود العين.

قيل : كان يغشى الجنيد في مجلس أهل النسك من أهل العلوم ، وكان أحد من يغشى ابن كيسان النحوي ، وكان في وقته رجل جليل ، فقال يوما : يا أبا القاسم ما تقول في قوله عزوجل : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) ، فأجابه مسرعا كأنه تقدم السؤال قبل ذلك بأوقات.

قال الجنيد : لا ينسى العمل به ، فأعجب ابن كيسان إعجابا شديدا فقال : «لا تفضض الله فاك منك من تصدر».

(إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

قوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) (٧) : السر والعلانية عنده سواء ؛ إذ هو يبصرهما بالبصر القديم ، ويعلّمهما بالعلم القديم ، وليس في القدم نقص بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن ؛ إذ هناك الباطن هو الظاهر ، والظاهر هو الباطن ؛ لأن الظاهر ظهر من ظاهريته ، والباطن بطن من باطنيته ، يعلم ما جهر من بكاء العارفين وزفراتهم ، ويعلم خفيات ضمائرهم من تلهب نيران فؤادهم شوقا إلى جلاله وجماله.

قال محمد بن حامد : يعلم إعلان الصدقة ، وإخفائها.

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٩) : تذكيره وصف جماله وجلاله ، كان

٥٠١

يجذب به قلوب العارفين إلى جمال مولاهم ، وهم الذين وصفهم الله بالخشية بقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (١٠) أي : من يخشى فراقي ، فيسلك مسالك وصالي بنعت الإقبال عليّ.

قال أبو بكر بن طاهر : عظهم ، فلا يتّعظ بموعظتك إلا أهل الخشية ، ألا تراه يقول : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (١٠).

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١٣) : هذا وصف أهل الدهشة تحت طوارق قهر ظهور الأزليات.

قال ابن عطاء : لا يموت ، فيستريح من غمّ القطيعة ، ولا يحيى فيصل إلى روح الوصلة.

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) : أفلح برؤية الله من زكّاه الله في الأزل من خذلانه.

قال الجريري : أفلح من ظهر من شهوات نفسه ، ومتابعة هواه ورعونات طبعه.

قوله تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (١٦) : أقبل الخسيس على الخسيس ، والشريف على الشريف ، والرفيع من أقبل على الله ، وترك ما سواه ، فهذه وصية الله في كتبه لأنبيائه بقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٨) (١) : في صحف إبراهيم الخروج مما سوى الله بنعت التجريد ، كما قال : (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩) أي : الإقبال على الله بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) ، وفي صحف موسى سرعة الشوق إلى جماله ، والندم على الوقوف في المقامات عند تعريف الصفات ، بقوله : (تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.)

سورة الغاشية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ

__________________

(١) إن هذا الوعظ لفي الصحف المتقدمة ، وكذلك في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما ؛ لأنّ التوحيد ، والوعد والوعيد ، لا تختلف باختلاف الشرائع. تفسير القشيري (٨ / ص ٧٠).

٥٠٢

فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢))

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١) : وصف الله ظهور أفعاله العظام يوم يبرز أنوار عظمته ويبدي سطوات عزته ، فتغشى القلوب والأبصار ، وذللها تحت أنوار كبريائه ، وقهر جباريته ، قال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ، ثم وصف وجوه المتكبرين الذين اتقوا من عبادة الله بالإخلاص ، ومن محبة أوليائه ، وتقشّفوا على ظاهر العبادة بالرياء ، والسمعة بالذلة والخسارة ، بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٣).

قال بعضهم : خشوع الظاهر نصب الأبدان لا يقربان إلى الله ، بل يقطعان عنه ، ألا تراه يقول : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ)! وإنما يقرب منه سعادة الأزل ، وخشوع السر من هيبة الله ، وهو الذي يمنع صاحبه من جميع المخالفات ، ثم وصف وجوه أوليائه بالنعومة والنضارة بما نالت من مشاهدة ربها ، بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ) : نعومتها بما نوّرها الحق من ظهور أنوار جماله لها ، راضية لما سعت من بذل وجودها لربها حيث صارت مقبولة برضا الأزل ، مقرونة بسعادة الأزل والأبد.

قال الحسين : شاهدت بمشاهدته حقيقة عين الحق.

قال الجنيد : جعل الله الطاعة الخدمة على الأشباح ، وخصّ المعرفة بالأرواح.

قوله تعالى : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (١٠) : في جنان قربه التي علت أوهام المخلوقين.

قيل : في كوامن القدس مقربة.

قوله تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١١) : آذان المقربين والعارفين مشغولة بسماع كلام الحق ، لا يقع فيها كلام غيره بالحقيقة.

قال بعضهم : لاستغراقه في سماع الحق.

قوله تعالى : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) (١٢) : عيون أنوار الصفات جارية في جنان قلوبهم.

قال الحريري : تجري بأربابها إلى معادن الأنوار.

قال الحسين : جريان الأحوال عليه يجري به عين إلى عين ، حتى يحصله في عين العين.

(فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا

٥٠٣

إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

قوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (١٣) : سرر أرواحهم مرتفعة من الأزل إلى الأبد ، لا تنحطّ في المقاومات ، ولا في المداناة ، بل سيّارة من الذات إلى الصفات ، ومن الصفات إلى الذات.

قال الخراز : هي سرائر رفعت عن النظر إلى الأعواض والأكوان.

قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) أي : أفلا ينظرون إلى أحوال الأرواح وهي حاملة الأبدان ، وإلى سماء القلوب التي تبرز فيها أنجم الغيوب كيف رفعت عن استراق أسماع الخواطر والهواجس ، وإلى جبال العقول التي تستقيم بها أرض النفوس ، وإلى أرض النفوس التي بسطت مهاد العبودية مراكب الأنوار الربوبية ، انظر كيف حالهم إلى رؤية الأفعال ، ولو كانوا على محل تحقيق المعارف والكواشف لكانوا مخاطبين بما خاطب حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ.)

قال بعضهم : تعرّف إلى العوام بأفعاله ، بقوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) ، وتعرّف إلى الخواص بصفاته ، بقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ، وتعرّف إلى الأنبياء بنفسه ، بقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ، وتعرّف إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخص التعريف ، بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ)

قال بعضهم في قوله : (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (١٩) : إشارة إلى قلوب العارفين كيف طاقت حمل المعرفة.

قال بعضهم في قوله : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (١٨) : أى إلى الأرواح كيف تسمو بأربابها إلى محل القدس.

وقيل : إلى الأرواح كيف حالت في الغيوب.

قال الحسين : إلى الأسرار كيف أشرقت بالمكاشفات.

قال بعضهم في قوله : (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) : إلى العقلاء كيف احتملوا مؤنة الجهال.

قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) : انظر كيف نفضّل بعد الوعيد بأن جعل إلى نفسه مأواهم ومماتهم ، وتكفّل بنفسه حسابهم ، فينبغي أن يعينوا بهذين الفضلين أطيب العيش في الدارين ، ويطيروا من الفرح بهذين الخطابين.

٥٠٤

قال أبو بكر بن طاهر : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) : في الفضل ، ثم (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) : في العدل.

سورة الفجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦))

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) : أقسم الله بأشياء عجيبة ، وآيات غريبة ، أقسم بفجر أنوار كشوف صفاته في قلوب العارفين التي منابعها مشارق الذات الأزلي الأبدي ، فتفجرت في أسرارهم أنهار المعارف والكواشف ، (وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢) : منها ستّ ليال في أيامها خلق السماوات والأرض بقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، وفي ليلة خلق في يومها آدم ، والليلة التي يومها يوم القيامة ، والليلة التي كلّم الله موسى ، والليلة التي أسرى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، و «الشفع» : القلب والعقل ، و «الوتر» هو الروح ، وأيضا «الشفع» : العقل والروح ، و «الوتر» : هو السر المنفرد عما دون الله ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) : أي ليلة قبض الأرواح إذا سارت عنهم بسطوع نور بسط اليقين.

قال ابن عطاء : (وَالْفَجْرِ) : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن به فجّرت أنوار الإيمان ، وغابت الظلم ،

٥٠٥

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) : وليالي موسى التي أكمل بها ميعاده في قوله : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) ، (وَالشَّفْعِ) : الفرائض ، (وَالْوَتْرِ) : السنن.

وقال : «الشفع» : الخلق ، و «الوتر» : الحق.

وقال سهل : «الفجر» : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه تفجّرت الأنوار ، (وَلَيالٍ عَشْرٍ) : هم العشرة من أصحابه الذين حكم لهم بالجنة ، و «الشفع» : الفرض ، و «الوتر» : الإخلاص لله في الطاعات ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قال : أهل التوحيد في أمته ، هم السواد الأعظم.

قال الأستاذ : و «الفجر» : قلوب العارفين إذا ارتقوا من حد العلم ، وأسفر صبح معارفهم ، فاستغنوا عن ظلمة طلب البرهان مما تجلّى في قلوبهم من البيان.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) : هي الروح التي صدرت من نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القدم ، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصله ، فدعاها إلى معدنها الأول ، وهي التي ما مالت من الأول إلى الآخر إلى غير مشاهدة الله ، راضية من الله بالله ، مرضية عند الله بنعت الاصطفائية الأزلية.

قال القاسم : أي : يا أيّتها الروح المتّصلة بالحق اطمأنت ورضيت بما قضى لها وإليها ارجعي إلى الذي زينك بهذه الزينة العظيمة ، حتى أصلحك للرجوع منه إليه.

قال الحسين : (النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) : هي النفس الواحدة ، و «النفس الشاكرة» : هي النفس المرحومة ، و «النفس الخاصة» : هي النفس العارفة ، و «النفس العاقلة» : هي النفس الراضية ، و «النفس الأمارة» : هي النفس الجاهلة.

قال أبو عبد الله بن خفيف : النفس المطمئنة ألبسها الحق أوصاف الهداية ، وصارت نفسا لوامة.

وقال ابن عطاء : النفس المطمئنة العارفة بالله التي لا تصبر عن الله طرفة عين.

سورة البلد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦)

٥٠٦

أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (١) : أقسم الله سبحانه بمكة التي فيها بيته الذي فيه آيات شروق أنوار صفاته فيها ، لمشاهدي الحضرة ، وطلّاب القدرة ، أقسم مما يبدو منها من أنوار تلك الأسرار.

قال الواسطي : أي : يجلّونك بهذا ، أقسم فيك أعظم البلد ، كما سماها طابة طابت به وبمكانه.

قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) أي : في استواء العقل ، واعتدال الحسن.

قال ابن عطاء : في ظلمة وجهل.

قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) (٩) : عين الروح ، وعين القلب ، وعين السر التي تبصر بها عجائب المشاهدات والمكاشفات.

قال ابن عطاء : عين في رأسه يبصر بها آثار الصنع ، وعين في قلبه يرى بها مواقع الغيب.

قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠) : طريق الشريعة ، وطريق المعرفة ، والطريق إلى الصفات ، والطريق إلى الذات.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١١) : العقبة مقام المجاهدة ، ومحاربة النفس الأمّارة التي تحارب صاحبها بآلة قهر الحق ، واقتحامها لا يكون إلا بفكّ الرقبة ، وفكّ الرقبة عن المنة والأذيّة ، وإطعام الطعام في تجوّع النفس ، والحاجة إلى إيثار الله.

قال القاسم : العقبة نفسك ، ألا ترى إلى قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ) ، وهو أن تعتق نفسك من رقّ الخلق ، وتشغلها بعبودية ربك.

قال بعضهم : تلك العقبة هي مجانبة الاختيار ، والرضا بتصاريف الأقدار.

قال الواسطي : فكّ الرقاب من أربعة أشياء : من نفوسهم ، وأفعالهم ، ورؤية الفضل ، وطلب القربة.

٥٠٧

قوله تعالى : (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) (١) : «اليتيم» : المنقطع عن مقام المواصلة ، و «المسكين» : العاشق المتحيّر الذي يتمرّغ في تراب بابه.

قال جعفر : هو ما يتقرّب به إلى ربك في تعهد الأيتام ، وتفقّدهم.

سورة الشمس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) : أقسم الله بشمس جلال قدمه إذا ارتفعت من مشارق قلوب العارفين ، فنوّر بسنانها أسرارهم ، وأيضا أي : وشمس عرفانهم حين أشرقت بنور الإيقان ، وأورث لهم لطائف العيان والبيان ، وقمر صفاته إذا تتابعت أنوارها عقيب كشوف أنوار ذاته في فؤاد المقرّبين ، وأيضا أي : بقمر الإيمان إذا تلا شمس العرفان ، ونهار صباح الأزل إذا تجلّى لأرواح الموحدين والصدّيقين ، وليل تحيّر أهل الفناء في ميادين وحدانيته ؛ حيث لا يدركون منافذ درك الحقائق ، وأيضا أي : بليل قهريات عظمته إذا تغشى بعين الامتحان أفئدة الطالبين والمطلوبين ؛ لأن الكل في ضرب هذا البلاء ، حتى قال سيد الورى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه ليغان على قلبي» (٢) ، وسماء قلوب المحبّين فيها أبراج الغيوب تسري فيها نيّرات كشوفات الملكوت والجبروت وما بينهما ، أقسم بالفعل ، ثم بالصفة ، ثم بالذات ، وجميعها خبر عن عين الجمع في الحقيقة ، وفي عين التفرقة من حيث رسم الحقيقة ، وأرض عقول العارفين التي هي مساقط شروق أنوار المشاهدة ، بقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، والذي بسطها لنزول مهاد

__________________

(١) أي : ذا فقر ، يقال : ترب فلان : إذا افتقر والتصق بالتراب ، ومن قرأ «فك» و «أطعم» بصيغة الماضي فبدل من «اقتحم».

(٢) تقدم تخريجه.

٥٠٨

الربوبية عليها ، وبالذي باشرها بنور الفعل والصفة والذات ؛ ليجري فيها أنهار الكواشف والمعارف ، وينبت فيها أزهار المحبة ، وأثمار الحكمة ، ورياحين الشوق ، والعشق وياسمين المودة ، والزلفة ، والنفس الناطقة العارفة التي صورها بصورته ، وألبسها نعته ، ووصفه في مدارج الغيوب ، وأسكنها في بطون القلوب ، ومن سوّاها بتسوية الصفة ، ورقّمها بنور الأزلية ، سبحان المقدس عن كل شوب من العرش إلى الثرى! ثم بيّن أنه تعالى عرّفها طرق لطفيات الذّات ، وقهريات الصفات بنفسه بلا واسطة ، بقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) ، عرّفها أولا طريق القهر حتى عرفت المهلكات ، ثم عرّفها طريق اللطف حتى عرفت معالجتها من المنجيات ، والمقصود منها : عرفانها عين الحق بطريق القهر واللطف حتى تكلّ في معرفة صانعها.

قال القاسم : ألهم أهل السعادة التقوى ، وأهل الشقاوة الفجور.

وقال الواسطي : ألهمها فجورها وتقواها من غير تعلّم من المخلوقين من غيب إلى غيب.

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) أي : فرّ عن العذاب والحجاب من زكّاه الله في الأزل من خذلانه بفوز مشاهدته ، وخاب من أحمله في الأزل بالشقاوة والحرمان عن مشاهدة الرحمن.

قال ابن عطاء : أفلح من وفّق لمراعاة أوقاته.

قال أبو بكر بن طاهر : أفلح من طهّر سرّه عن التدنس بالدنيا ، وخاب من أشغل سره بها.

وقال بعضهم : أفلح من أقبل على ربّه ، وخاب من أعرض عنه.

وقال الواسطي : أفلح من زكّاه الله بالإلهام ، وخاب من دسّاها بالإبعاد.

قوله تعالى : (وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥) : الخوف لمن لا يعرف عواقب الأمور ، وهو منزّه عن أن يكون في حكمته خلل ، أو لذاته وصفاته ضرر ، فإنّه تعالى من خصّه بالاتصاف بصفاته ، والتجلي بأنوار ذاته ، قد أسقط عنه خوف الدارين ، فلا يخاف من الله بالله ؛ لاستغراقه في الله.

قال الواسطي : من ألبسه نعوته لا يخاف عقباها ، كما لا يخاف الحق عقبى ما أجرى على خلقه ، فإذا اعترض عليه معرض يخاف الخوف من خوفه.

٥٠٩

سورة الليل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) أي : وليل قهره إذا يغشى قلوب المحرومين عن مشاهدة الحق ، ونهار أنوار مشاهدته إذا تجلّى لأرواح العارفين ، نوّرها بضياء قدسه ، ولطائف أنسه.

قال الأستاذ : وليل أصحاب التحيّر يستغرق جميع أقطار أفكارهم ، فلا يقتدون إلى الرشد ، ونهار أهل العرفان إذا تجلّى بضيائه لقلوبهم.

قال سهل : أقسم الله بنفس الطبع ، ونفس الروح ، وهو الضوء مثل في إشراقه.

قوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤) : سعي البعض بالنفوس ؛ لطلب الدرجات ، وسعي البعض بالعقول ؛ لطلب الكرامات ، وسعي البعض بالقلوب ؛ لطلب المشاهدات ، وسعي البعض بالأرواح ؛ لطلب المداناة ، وسعي البعض بالأسرار ؛ لفنائها في أنوار الذات وبقائها في أنوار الصفات ، فسعي البعض بالإرادة ، وسعي البعض بالمحبة ، وسعي البعض بالشوق ، وسعي البعض بالعشق ، وسعي البعض بالمعرفة.

قال ابن عطاء : باطن هذه الآية أن يرى سعيه قسمته من الحق له من قبل التكوين والتخليق ، بقوله : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وأن السعي له مراتب كمراتب المتّصلين بالسلطان والواصلين إليه والندماء والجلساء وأصحاب الأسرار ، كذلك سعي المريدين والمرادين والعارفين والمحبين والمشتاقين والواصلين والفانين عن أوصافهم والمتّصفين بأوصاف الحق هذا إلى ما لا عبادة له ولا غاية.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) (٥) أي : بدّل وجوده ، والكونين ، وتبرّأ من الدارين ؛ لمشاهدة الله ، ووصاله (وَاتَّقى) : من رؤية الأعواض ، ومعارضة النفس ، والنظر إلى

٥١٠

غير الله.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) (٦) : بكشف جماله وجلاله للعارفين ، وقربه من الموحدين ، وترى ما وعد الله له في الأزل بوصوله إليه ، ولا يجري على قلبه خاطر الشك.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) : يسهّل له طريق الوصول إليه ، ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية.

قال بعضهم : أعطى الدارين ، ولم ير سيّئا في طلب رضا الله ، واتّقى اللغو والشبهات ، و «صدّق بالحسنى» : قام على طلب الزلفى.

قيل في قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) : يعني وعدا صادقا من الله أن يسير عليه ما خلقه.

قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١٢) : جرّد التوفيق عن الاكتساب ، وأسقط عن المعرفة الكلفة.

قال سهل : المعرفة.

قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١) : هذا الرضا لا يكون من العارف حتى يفنى في المعروف ، ويتّصف بصفاته ، ويتّحد به حتى يكون نعته في الرضا نعت الحق.

قال الجنيد : يصل إليه أنوار الرضا ، ويتحقّق له مقامه برضانا عنه ، فإنه لا يصل إلى مقام الرضا عن الله أحد إلا برضا الله عنه.

قال الواسطي : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) بنا عما أنفق ، فما خسرت تجارة من كنت له عوضا عن تجارته.

سورة الضحى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) (٢) أي : وطلوع شمس جلالي عليك بنعت عرفانك يا محمد في أيام الوصلة وليل النكرة ، حيث كنت في ليل الحيرة من غلبة ليل امتناعي

٥١١

عن إدراكك كنه القدم ؛ حيث قلت : «لا أحصى ثناء عليك» (١).

قال ابن عطاء : بمكاشفات سرّك بنا ، واشتغالك بالدعوة نظر إلى الخلق.

وقال الجنيد : (وَالضُّحى) : هو مقام الأشهاد (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) : مقام العين الذي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليغان على قلبي» (٢).

قيل : ويوم أسرار العارفين ، وظلمة أفعال المخالفين.

قوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣) : أقسم الله بهذا القسم أنّه تعالى ما ترك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في محل الإنسانية من مشاهدة الأزلية في الأزل ، (وَما قَلى) : حين اصطفاه بالقدم ، وكيف يدخل في اصطفائيته وسوابق محبته الأزلية خلل من جهة الأفعال ؛ إذ هو منزّه عن الصغائر.

قال ابن عطاء : ما حجبك عن قربه حين بعثك إلى خلقه.

وقال الواسطي : ما أهملك بعد أن اصطفاك.

قوله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) (٤) : ما وجد العارف في الدنيا من كشف الجمال بالإضافة إلى يوم الوصال كقطرة في البحار أي : لك من الدنو عندي من المعاملات السنيّة ، والدرجات العلية ، لو انكشف لك ما نظرت إلى ما وجدت منا في الدنيا ، فإن أمر القرب والمشاهدة على مزيد في كل نفس شوق حبيبه إلى نفسه ، ورفع قدره عن الأكوان وأهلها ، وأخبره عما له من ذخائر المكاشفات ، وعجائب المشاهدات.

قال سهل : ما ادّخرت لك في الآخرة من المقام المحمود ومحل الشفاعة خير مما أعطيتك في الدنيا من النبوة والرسالة.

وقال بعضهم : ما لك عندي من مخزون الكرامات أجلّ مما يشاهده الخلق ؛ لأنك الشفيع المطاع ، والناطق بالإذن حين يؤذن لأحد بالكلام.

قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥) : هذه بشارة لأمته المرحومة ، فإنه لا يرضى حتى يدخل الله جميع أمته الجنة بلا حساب ولا عتاب ولا حجاب ، وكيف يرضى العاشق من معشوقه حتى يكون هو المعشوق يصير هو هو ، ولا يكون ذلك إلا بعد فناء نعوت الحدث في نعوت القدم.

قال ابن عطاء : كأنه يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفترضى بالعطاء عوضا عن المعطي؟ فيقول : لا

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

٥١٢

فقيل له : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) أي : على همة جليلة ؛ إذ لم يؤثر فيك شيء من الأكوان ، ولا يرضيك شيء منها.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) أي : كنت يتيما منقطعا عنا فينا ، فآواك عنك بنا إلينا ، ووجدك متحيّرا عن إدراك حقيقتنا ، فكحلناك بكحل أنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا ، ووجدك عائلا من كنوز علوم القدم ، ووصال الأبد ، فأغناك بهما ، فإذا كان كذلك فلاطف كل منقطع عنا وهو يتم الفراق بقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (٩) ، ولا نكتم شرفك ورفعتك عن كل سائل طالب ، وقل له حقائق لطفنا باللطف ، ولا تمنعه بقوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) ، وظهر بعض ما كوشفت من أسرارنا وأنوارنا ولطفنا ورحمتنا لكل مشتاق إلى لقائنا ، وحبّبهم إلينا بحديثك عنا بقوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١).

قال ابن عطاء في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) : معناه : وجدك اليتيم فآوى بك ، ووجدك الضال فهدي بك ، ووجدك العائل فأغنى بك ، ولا يكون الوجدان إلا بعد الطلب ، وكان طالبا له في الأزل ، فوجده ، ثم أوجده سفيرا بين خلقه.

وقال جعفر في قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) : كنت ضالا عن محبتي لك في الأزل ، فمننت عليك بمعرفتي.

قال الحريري : وجدك مترددا عن غوامض معاني المحبّة ، فهداك بلطفه إلى ما رمته في ولهك ، وهذا مقام الوله عندنا.

قال بندار بن الحسين في قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (٨) : كنت قائما مقام الاستدلال ، فتعرّفت إليك ، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلّة.

وقال بعضهم في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) أي : وحيد الأمثل لك ، ولا نظير في شرفك وهمتك ، فآواك إليه.

وقال بعضهم في قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) : لا تعلم قدر نفسك ، فأعلمتك قدرك.

قال جعفر في قوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي : العارين عن خلعة الإسلام ، ولا تقنط من رحمتي ، فإنّي قادر ألبسه لباس الهداية ، والسائل إذا سألك عني فدلّه عليّ بألطف دلالة ، فإنّي قريب مجيب.

وقال ابن عطاء : المؤمنون كلهم أيتام الله في حجره ، فلا تقهرهم أي : لا تبعدهم عنك ،

٥١٣

وسؤالهم أسرار الله ، فلا تنهرهم ولن لهم وألطف بهم.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) : حدّث به نفسك ؛ كي لا تنسى فضلي عليك قديما وحديثا.

قال بعضهم : حدّث بنعمة ربك عليك ، فإنك لا تبلغ أقصاه ؛ لتعلم بذلك عجزك عن تعداد نعمه عليك ؛ لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحصي ثناء عليك» (١).

سورة الانشراح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) : شرح صدره ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ طلوع شمس جلال الحق فيه ، فأضاء منه روحه وقلبه وعقله ، وطار روحه في الأزل ، وطار عقله في الأبد ، وطار قلبه في الجبروت ، ونفسه في الملكوت ، فتولّى الحق شرح صدره بنفسه لا بغيره ، وذلك حين ظهر لسرّه ذاته القديم ، وصفاته الأزلية ، فصار موسعا مبسوطا بوسع الذات والصفات ، فشرحه يزيد إلى الأبد ؛ لأن جلال الحق لا نهاية له ، وكان صدره محل تجلّي الحق ، فبقي مع الحق في ساحة الكبرياء حيث لا حيث ولا زمان ولا مكان ، بل نور الذات في نور الصفات ، ونور الصفات في نور الذات ، فهو بين النورين محتجبا بأنوار الحقيقة عن أوهام الخليقة ؛ لذلك قال سبحانه : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤) : رفع قدره عن إدراك كل إدراك ، وأعلى ذكره بذكره عن ألسنة كل وصّاف ، لا يصفه الأولون والآخرون بكمال وصفه ؛ لأنه كان منسلخا بأنوار الربوبية من أوصاف الحدوثية ؛ لذلك قال : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (٢) ، وتلك الحدوثية أثقلت جناح همّته العلية الربانية ؛ حيث منعته عن الوصول بالكلّية ، بقوله : (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (٣) ، فلما خفته عن ذلك جعله رفيع القدر بقدره ؛ لذلك قال : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ، وسّع صدره أولا بكشف المشاهدة ، فلما وصّل إليه أثقال سطوات الربوبية وثقّل

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥١٤

عليه صدمات القدوسية كاد أن يفنى تحتها ، فبدّلها الله له ، وأنوار الكبرياء بأنوار البقاء ، وأنوار الجلال وأنوار القدس بأنوار الأنس ، وجعله متّصفا بصفاته ، فقوى بالحق ، وحمل الحق بالحق ، وقال سبحانه : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ، إلى قوله : (ذِكْرَكَ.)

قال سهل : ألم نوسّع صدرك بنور الرسالة ، فجعلناه معدنا للحقائق.

وقال ابن عطاء : ألم نوسّع سرّك لقبول ما يرد عليك.

وقال في قوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) : أعباء النبوّة والرسالة ، فكنت فيها محمودا لا حامدا.

وقال جعفر : ألم نشرح صدرك لمشاهدتي ومطالعتي.

وقال القاسم : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) : ألم أزل ملاحظة المخلوقين عن سرّك.

قال ابن عطاء في قوله : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) : جعلت تمام الإيمان بي بذكرك معي.

وقال أيضا : جعلتك ذكرا من ذكرى ، فكان من ذكرك ذكري.

وقال ذو النون : همم الأنبياء تحول حول العرش ، وهمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق العرش ؛ لذلك قال : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ.)

قال سهل : أزلنا عنك الهمّة إلا لنا ، والفكرة في سوانا ، والحركة والسكون إلا بأمرنا.

قيل في قوله : (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) : هو الرجوع من حال المشاهدة إلى حال بلاغ الرسالة.

قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) : مع عسر المجاهدة يسر المشاهدة ، ومع عسر الانفصال يسر الاتصال ، ومع عسر القبض يسر البسط ، وزاد يسرا على يسر على يسير ، وجعلها يسرين بعد عسر ، «العسر» : هو الحجاب ، و «اليسر» : كشف النقاب ، ويسر آخر رفع العتاب.

قال الجوزجاني : مع الصبر عن الحرام ، وشبهات الاسترواح إلى عزّ التوكل.

قوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) : فإذا فرغت ما دون الله فابذل نفسك لله ، ثم ارغب مما لله إليه ، فإنه درجة لا تليق بغيرك.

قال جعفر : اذكر ربك على فراغ منك عن كل ما دونه.

وقال ابن عطاء : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب بطلب الشفاعة.

وقال القاسم في قوله : (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) : يكون رغبتك فيه وإليه.

٥١٥

سورة التين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ) : أقسم الله بمواضع تجلّي جماله وجلاله ، أما «التين» : فشجرة آدم التي نهاه عن قربها وهو متجلّ عنها له ، و «شجرة الزيتون» : التي تجلّى منها لموسى ، حيث قال : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) ، وقال : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) ، وطور سيناء الذي تجلّى عنده أيضا لموسى ، (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : هو الذي بيّته فيه ، وهو محل آياته ، وكشوف صفاته ، بقوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ؛ لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاء الله من سيناء ، واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران» (١) ، وأيضا (وَالتِّينِ) : أي : شجرة الروح القدسية ، (وَالزَّيْتُونِ) : شجرة العقل القدسي ، (وَطُورِ سِينِينَ) : هو القلب العارف بالله ، (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : صدر المحبّ المتمكن.

قال الجنيد : «التين» : بمسجد إيليا ، «والزيتون» : مسجد بيت المقدس ، «وطور سنين» : مسجد طور ، و «هذا البلد الأمين» : المسجد الحرام ، وإنما هذه مساجد عظّمها الله ؛ لأنها بقاع الله ؛ لأن الله جلّ ذكره يذكر فيها ، فأقسم بها.

قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) : أقسم الله بهذه المكرّمات أنه خلق آدم في أحسن منظر ، وأكرم خلقه ؛ إذ سوّاه بنور كشف صفاته ، وإلباسه إياه سنا ذاته.

قيل : في أحسن صورة. وقيل : في أتمّ معرفة.

وقال بعضهم : «حسن التقويم» : وصف قائم بالحق لا عبارة عنه ، وكل عبارة عن تمام تقويمه من تفسيره ، وليس لنهاية العبارة عند لفظ.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥١٦

سورة العلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهدا في الحضور ، غائبا عن الرسوم ، تحوّل حول الحقائق ، وتكتّم أسرار المعرفة ، لا يتحدث بحديث العشق ، ولا يرمز بلطائف الحب ، كان مستغرقا في القرب ، كأنه جعل نفسه في جانب عن الأجانب ، في حواس عن تلك القصة ، معرضا مراقبا عاشقا ، كأنما كان لم يكن له خبر ، وهو كان في محل العيان ؛ لكن لم يكن في البيان ، أقبل بالسرّ نحو المراد ، وإن لم يكن هناك في المراد قرع الحق باب قلبه ؛ لأنه هو المريد ، والحبيب هو المراد ، الأحد طالب ، وأحمد المطلوب ، لا جرم الطلب منه نداء ؛ إذ أوحى إليه قبل طلبه ، فقال : (اقْرَأْ) ، كأنه كان قارئا ؛ إذ شاهد الأدنى الحق بالحق في الأزل ؛ ولكن كان غائبا عن المحضر الأعلى لشهوده الأدنى ، فقال : «ما أنا بقارئ» (١) : يعني : أنا لا أقرأ غير الثناء عليه ، قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، أخذه بالاسم ، وكشف على ظاهر المعرفة ، ثم بان المسمّى له ، بقوله : (رَبِّكَ) ، ثم غيّبه في الغيب ، وحيّره في الهوية بتحقيق الإشارة ، بقوله :

(الَّذِي) ، فلمّا غاب في الغيب أخذ يده من استغراقه في بحر الأزل ، وأحضره ساحة أنوار الصفات في مشاهد الأفعال ، بقوله : (الَّذِي خَلَقَ) ، هكذا فعل بالمرادين ، وجعل الطالبين حيارى في طلبهم ، ألا ترى شأن موسى عليه‌السلام كيف أقبل عليه في طلبه ، فناجاه بعد أربعين يوما ؛ لأنه كان مريدا ، والمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مرادا ؛ لذلك ناجاه بالبديهة ، إظهارا لحبه البالغ ، واصطفائيته الكاملة.

قال الخليل : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) ، والكليم قال : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى)

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٤) ، ومسلم (١ / ١٤٠).

٥١٧

وحيث ظهر كمال المحبّة قال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى.)

قال بعضهم : أهل الإرادة في الطلب ، والمرادون مطلوبون ، ألا ترى أن إبراهيم كان طالبا بقوله : (هذا رَبِّي) ، (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، والمراد مطلوب ، وذلك صفة الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ، ألا ترى أنه لما قيل له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، استقبله الأمر من غير طلب.

قوله تعالى : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) : علّم بعضا بالأفعال ، وعلّم بعضا بكشف الصفات ، وعلّم بعضا بظهور الذات ، علّم أهل الملكوت بالعلم ما بان عن علم القدم ، وعلّم آدم الأسماء بغير العلل ، علّم الإنسان ما لم يعلم من نعوت القدمية ، وأسمائه الأزلية حين عاين الحق له بالصفة ، حيث قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، ثم عاين له بالذات ، حيث قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، علّم العارف ما لم يعلم من أسراره المكتومة ، وأنبائه العجيبة ، وكلماته السرمدية التي كل حرف منها دليل إلى عيان عيانه ، وبيان بيانه.

قال سهل في قوله : (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) : أثبت في اللوح ما جرى العلم والقلم.

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) : الإنسان الخسيس يطغى برؤية الدنيا الدنيّة ، وأي الإنسان هذا من الإنسان الذي استغنى بالله ، واستغرق في جمال الله ، واتصف بصفات الله ، وصار متحدا بالوحدة ، وسكرا من شراب العزة ، وغلبت عليه الأنائية ، فيطغى برؤية أنوار الاتصاف ، ولا يعلم أنه في حواشي بحار عظمته ، ولم يذق منها قطرة بالحقيقة ، فلما أعلمه الحق بأنه لا شيء وفي لا شيء من الربوبية أحوجه إلى مقام الإرادة برجوعه إليه بنعت الافتقار بعدما رجع بالصفة إلى معدن الذات ، وهذان المعنيان في قوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى.)

قال ابن عطاء : رؤية الغنى تورّث الطغيان والبطر ؛ لأن الغنى يورّث الفخر ، والفخر يورّث الطغيان :

قوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) : لما انكشفت صفات القدم لتحبيب كان أن يسكر وشطح ، وغلب بما رأى في نفسه من إحاطة أنوار الربوبية ، جرّه الحق من مقام الربوبية إلى معدن العبودية ، بأن نصّب له في سجوده حجال الأنس ، ومهّد له فيه بساط القدس ؛ ليدنو به منه ، ويقطع مفاوز الآزال والآباد في سجدة واحدة ، ليس الاقتراب بالاكتساب ، إنّما أراد خلو سره عن الدارين وتربيته في مقام العبودية ؛ حتى يكون إماما للصديقين والمتمكنين من

٥١٨

العارفين ، وأهل الإرادة من المؤمنين إظهارا للتواضع والتذلّل لجبروته وملكوته.

قال ابن عطاء : اقترب إلى بساط الربوبية فقد أعتقناك من بساط العبودية.

وقال الواسطي : العوام منقلبون في صفات العبودية ، والخواص مكرمون بأوصاف الربوبية ، ولا يشهدون غير صفات الحق ؛ لأن العوام بمحتمل الصفات لضعف أسرارهم ، وبعدهم عن مصادر الحق.

قال جعفر : اقترب من حيث العبودية فقد قرّبتك من حيث الربوبية.

سورة القدر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) : تلك الليلة من كشف جماله للعارفين ، وأهل شهوده من المقرّبين ، قدّر منازلهم في مقام المعارف والكواشف ، وقدّر مقادير الغيوب ، وأبرز أنوار ملكوته وجبروته لأهل القلوب ؛ لذلك تتنزّل الملائكة والروح في تلك الليلة ، يبشرونهم بالوصال ، وكشف الجمال أبدا.

قال سهل : ليلة قدّرت فيها الرحمة على عبادي.

وقيل : نزول الملائكة في تلك الليلة ؛ لاسترواح قلوب العارفين.

قال الأستاذ : ليلة يجد العابدون فيها قدر نفوسهم ، ويشهد العارفون فيها قدر معبودهم ، فشتّان بين وجود قدر ، وبين شهود قدر!

قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ) : لما بشرّهم بأعالي الدرجات وسني الكرامات وسلامتهم من جميع البنيات ، يسلّم عليهم ويصافحهم ؛ لتصل بركات بعضهم إلى بعض.

قال سهل : سلم من انقطعت أوقات العارفين القائمين معه على حدود الأحكام من الأوامر والنواهي.

٥١٩

سورة البينة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) : وصف الله النفس الأمّارة وأعوانها من الشياطين أنها عارضت بيّنات كواشف الملكوت للأرواح والقلوب والعقول ، وأشد إنكارا إنكار من عين البيّنة.

قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) : الإخلاص في العبودية : تجريد السر عما سوى الله ، و «الحنيف» : من حنف عن غير الله من النفس والدنيا.

قال بعضهم : «الإخلاص» : ألا يطّلع على عملك إلا الله ، ولا ترى نفسك فيه ، وتعلم أن المنّة لله عليك في ذلك حيث أهّلك لعبادته ، ووفّقك لها ، ولا تطلب من الله ثوابا.

وقال رويم : «الإخلاص» : إفراد الله بالعمل.

قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) : «رضي الله عنهم» : في الأزل حين اصطفاهم قبل إيجادهم ، «ورضوا عنه» : لما عاينوه وآثروه على من دونه عشقا وشوقا ومعرفة ، وهذه الدرجات لمن عرف الله ، ودأب في إجلاله ، ورؤية عظمته ، بقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) ، وأصل الرضا الاتصاف بصفة الرضا من الحقّ.

قال الواسطي : الرضا والسخط نعتان قديمان يجريان على العبد بما جريا في الأزل ، يظهر أن الرسم على المقبولين والمطرودين ، فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم كما بانت شواهد المطرودين بظلمها ، فأنّى ينفع مع تلك الألوان المصفرة ، والأقدام المنتفخة ، والأكمام المقصّرة؟!

٥٢٠