تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

الذي خصّه الله به دون غيره ، وهذا كقوله : (فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، وتسميته بالمزمل ؛ لأنه مخفيّ عن عيون أهل الحدثان لا يطّلع على ما خصّه الله به من لطفيات قربه ، وغرائبات دنوه أحد من العرش إلى الثرى ، أي : قم عن مكمن الغيب ، وأظهر شرائفات اصطفائيتك برفعك أعلام نبوتك ، ورايات رسالتك ، فإنك مؤيد منصور ، كان متزمّلا بكساء لاطلاعه بامتناع أحدية الأزل ، بألا يدركها أهل الحدثان ، فمن هموم فقدانها دخل تحت كساء الحياء والإجلال من ظهور عظمة الحق له ، وهو في منزل بين رجاء الوجدان وخوف الفقدان.

قال ابن عطاء : أيها المخفي ما يظهره عليك من آثار الخصوصية آن آوان كشفه ، فأظهره ، فقد أيدناك ممن يتبعك ولا يخذلك ولا يخالفك ، وهو أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب.

وقال القاسم : يا أيّها المزمل بالنبوّة ، ويا أيّها المدّثر بالرسالة.

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤))

قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي : غص في بحار القرآن ، فإن فيها جواهر أسرار الرحمن ، واسكن عند كشوف معنى أسرار خطابي من القرآن ، حتى تستوفي حقائقها ، فإن تحت كل حرف بحر من رموز لطائف القدم ، فإن مثلك يسبح في بحر صفاتي ؛ لذلك أفردتك بهذا الخطاب.

قال أبو بكر بن طاهر : دثّر في لطائف خطابه ، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه ، وقلبك بفهم معانيه ، وسرك بالإقبال عليه.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥))

قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) : كيف لا يثقل قوله سبحانه ، قوله قديم ، وأجدر أن تذهب تحت سطوات عزته الأرواح ، والأشباح ، والأكوان ، والحدثان هو بذاته يحمل صفاته لا غير ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيدا بالاتّصاف بالحق ، فكان يحمل الحق بالحق لطائفه لطيفة على قلبه ، ثقيلة على من لا يفهمها ؛ إذ القرآن بجماله حيث انكشف ، صار لطيفا على أهله ، وحيث لا ينكشف ثقيل على غير أهله.

قال أبو بكر بن طاهر : لا يحمله إلا قلب مؤيّد بالتوفيق ، ونفس مزيّنة بالتوحيد ، وهو قلبك ونفسك يا محمد ، ومن يطيق حمل ما أطقته من تلقف الخطاب عن المشاهدة ، لأنك مؤيّد بالعصم.

٤٦١

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦))

قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦) : تهجد الليل وساعاته موافقة لقلوب أهل مناجاته ، وأسهل من طاعة النهار من أهل مراقباته ؛ لما فيها من كشوف مشاهداته لهم ، وحلاوة مخاطباته ، أشد ناشئة لأهل المجاهدات ، وأسهل لأهل المشاهدات ، وأقوم قيلا قول الناجي ربه عند شكواه في ظهور عظمته من فقدان كلّيته.

قال سهل : ما ينشئه العبد من عبادة الليل ، هي أشد مواطأة على السمع والقلب ، من الإصغاء والفهم ، وأقوم قيلا ، وأثبت رتبة.

وقيل : أصوب قولا ؛ لأنه أبعد من الرياء.

وقيل : عبادة الليل ، أتمّ إخلاصا ، وأكثر بركة.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧))

قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (١) أي : في نهار المشاهدة ، وكشفها لك في بحر الأزل والأبد ، سباحة طويلة سباحة النهار غوص الروح في بحر الآيات ؛ لطلب جواهر الصفات.

قال ابن طاهر : اشتغالا بالخدمة ، وإقبالا على الله ، وانتظارا لموارد الوحي.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨))

قوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي : إذا أردت أن تسبح في بحر جلالنا وقربنا وتريد أن تلقي نفسك فيها انقطع عن حدثان ، واطرح نفسك فيها بتأييد الرحمن ، واعتصم باسمه ، فإذا اعتصمت باسم الله لا تفنى في الله ، هذا إذا ذكر قوله : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ، فكيف يكون إذا قال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ، فإن في الاسم يبقى ، وفي المسمّى يفنى ، دعاه أولا إلى ذكره ، ثم دعاه إلى مذكوره ، أي : اذكرني بذكري ، ثم انقطع من الذكر إليّ ومني إلىّ ، فالأول في الذكر حظّ العبودية ، وفي الثاني حظّ الربوبية ، فإذا ظهر حظّ الربوبية يفنى حظّ العبودية.

قال ذو النون : سبحان من دلّى من الذكر أغصانا إلى الدنيا ، أشجارها في الملكوت ، وأطعم القلوب من ثمارها ، فأشفقهم في الدنيا والآخرة ، هذا فعل الذكر به ، فكيف إذ بهجهم

__________________

(١) أي : سبحا في أعمالك ، والسبح : الذهب والسرعة ، ومنه السباحة في الماء ، فالمعنى : مذاهبك في النهار فيما يشغلك كثيرة ، والليل أخلى لك. تفسير القشيري (٧ / ٤٩٤).

٤٦٢

الحب عليه ، وأنشد لنفسه مفردا في هواه قد ذاب شوقا مستطارا لفؤاد يعشق فردا.

قال القاسم : اتصل به اتّصالا ما رجع من رجع إلا من الطريق ، وما وصل إليه أحد فرجع عنه.

وقال بعضهم : فتح الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا أسباب التأديب ، ثم أسباب التهذيب ، ثم أسباب التذويب ، ثم أسباب التغييب ، «فالتأديب» : الأمر والنهي ، و «التهذيب» : القسمة والقدرة ، و «التذويب» : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، و «التغييب» : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً.)

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أفرد نفسه بالفردانية عن الأضداد والأنداد ، وعرف نفسه بالوحدة لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما نفى الغير أقبله على رؤية الوحدانية بقوله : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي : انقطع عليه ، فإنه حسبك على كل شيء دونه ، ويعطيك ما وعدك من الدرجات الرفيعة ، والمداناة الشريفة ، وإدخال أمتك الجنة.

قال سهل : أي : كفيلا بما وعدك من المعونة على الأمر والعصمة على النهي والتوفيق ؛ للشكر والصبر في البلوى ، والخاتمة المحمودة.

قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩) : القرآن تذكرة العارفين ؛ لأنه الأنباء الصفاتية تنبئ كل كلمة عن صفة الله الأزلي ، ويرشده بنوره إلى معدنه من الذات ، كأنه سراج قلب كل صادق محبّ موافق يسيرون إليه ، فلكلّ منه إلى الحق سبيلا يسلك فيه إلى الله وسيلة أكثر من نجوم السماء ، أمرهم أن يتخذ كل واحد منهم سبيله الذي اختصه الله به ، فهو سبيل الهدى يبلغه إلى معادن القدم ، وأماكن البقاء ؛ لذلك قال لحبيبه : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ، قبل القرآن موعظة للمتّقين ، وطريق للسالكين ، ونجاة للهالكين ، وبيان للمستبصرين ، وشفاء للمتحيرين ،

٤٦٣

وأمان للخائفين ، وأنس للمريدين ، ونور لقلوب العارفين ، وهدى لمن أراد الطريق إلى ربه ؛ لأن الله يقول : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ.)

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) : إن الله سبحانه وتعالى أخبرهم في الأوائل بالمجاهدات ، فلما صاروا أهل الذوق والمشاهدات لم يأت منهم المجاهدات ؛ لأن أهل الأنس والبسط غائبون بأنوار المشاهدات عن المجاهدات ، فتلطّف عليهم الحق ، بأن رفع عنهم أثقال العبودية ، وكاشف لهم أنوار الربوبية ، ثم أمرهم بأن يترنّموا بآيات من كتابه ما يوافق حالهم من خير وصول الوصال ، وصفاء الأحوال والبسط ، والانبساط ، والروح ، والراحات بقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي : ما يهيّج قلوبكم بنعت المحبة إلى مشاهدة الرحمن.

قال الواسطي في قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي : لن تطيق القيام بأمره ، لن تضبطوا أعمالكم بالصحة والبراءة من العيوب ، فتاب عليكم ، فعاد عليكم بفضله ، وقبل منكم أعمالكم مع أن من لقيه بنعمه كان منقطعا عن المنعم بالنعم ، ومحجوبا بالصفات عن الذات.

وقال جعفر في قوله : (ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) : قال : ما يتيسر لكم في خشوع القلب ، وصفاء السر.

قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) : هذا العموم والخصوص خبر أنفاسهم التي صعدت منهم بنعت المحبة والشوق إلى الله ، فهم يجدونها بكشوف أنوار الذات والصفات ، ولكل نفس من أنفاسهم لهم هناك قرب ، ووصال ، وحسن ، وجمال.

قال الله : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي : نفس المحبة والشوق خير من جميع الأعمال الصالحة ، وأجرها كشف اللقاء ، ثم أمر الجميع بالاستغفار عن رؤية الأعراض والأعمال عند رؤية جماله وجلاله ، بقوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي : من السكون إلى الأحوال ، فإنه غفور

٤٦٤

لخطرات العارفين ، رحيم بهم ، بأن يوصلهم إليه بلا كلفة المجاهدات ، ولا عسر المعاملات ، قال الله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٠).

وقال بعضهم في هذه الآية : ما تنفقوه في مرضاة الله خير لكم من الإمساك والشحّ.

وقال بعضهم في قوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) : على الوجوه كلها ، فما كان ذلك خالصا لوجه الله لا رياء ولا هواء ولا سمعة فيه ، فهو عزيز لا يصل إليه إلا الأبرار المقربون.

سورة المدثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ) (٢) أي : أيّها الغريق في قلزم القدم قم بدعوى محبتي ، وأنذر أحبائي عن الاشتغال بغيري ، وأظهر جوهر حقائق بحر عيني للمقبلين إلينا.

قال سهل : يا أيّها المستغيث من إغاثة نفسك على صدرك وقلبك قم بنا وأسقط عنك ما سوانا ، وأنذر عبادنا ، فإنّا قد هيأناك لأشرف المواقف ، وأعظم المقامات.

وقال بعضهم : أزعج سره بالتجريد عن سكونه عن القيام في الطلب ، وعن طمأنينته حتى ورمت قدماه ، ثم قال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، فدلّ ذلك على دعوته إيّاه على التفريد.

وقال بعضهم : قم إلينا بالقعود عمن سوانا.

٤٦٥

قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) (١) أي : كبّره برؤية كبريائه بحيث لا يبقى في قلبك النظر إلى غير كبريائه ، وطهّر قلبك عن وقوفه على ما يجد من المداناة والقربات ، فان وراء الوراء.

قال الجريري : كبّر الكبير ، واعلم أنك لا تنال كنه كبريائه.

قال الحسين : عظّم قدره عن احتياجه إليك في الدعوة إليه ، فإن إجابة دعوتك ممن سبقت له الهداية.

قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) أي : لا تعط وجودك إلينا على رؤية الأعواض من غيرنا ؛ لتستكثر الدرجات والأعواض ، فإن هذه من سجية من لا يعرفنا.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧) في بذل وجودك في جريان تقديره ، وأيضا أي : مع ربك وفي ربك حين انكشف لك أنوار أسراره ، وخاصيتك في النظر إلى جلاله وجماله ، ولا تنزعج ، فتسقط عن درجة التمكين.

قال القاسم : لا ترى ما أنت فيه لله كثيرا وتستكثره ؛ فإنه لا حدّ لأحد يقوم بمواجبه ولوازمه ، (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) : تحت القضاء والقدر.

قال ابن عطاء : لا تمنن بعلمك ، فتستكثر طاعتك ، ولا تكون رؤية الاستكثار إلا برؤية النفس ، فمن أسقط عنه رؤية نفسه فقد أزال عنه رؤية الأعمال والطاعات والاستكثار بها.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ

__________________

(١) قال سهل : أي لا تلبس ثيابك على معصية ، فطهره عن حظوظك واشتمل به ، كما حكت عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خميصة ، فأعطاها أبا الجهم وأخذ إنبجانيته. فقيل : يا رسول الله إن الخميصة خير من الإنبجانية. فقال : «إني كنت أنظر إليها في الصلاة». التستري (٢ / ٢٠٣).

٤٦٦

الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) : جنوده وعظمته وكبرياؤه وسلطنته وقهره الذي صدرت منه جنود السماوات والأرض ، وله جنود قلوب العارفين ، وأرواح الموحدين ، وأنفاس المحبين التي يستهلك بها كل جبّار عنيد ، وكل قهّار عتيد.

قيل : قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنكم لا تقفون على المخلوقات ، فكيف تقفون على الأسامي والصفات؟!

قوله تعالى : (كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ) : أقسم الله بأقمار أرواح الصدّيقين حين تصير بدورا في رؤية شمس جلاله وجماله ، وأقسم بذهاب ليالي هجران أهل الشوق حين أقبلت إلى قلوبهم أنوار قربه ومشاهدته ، وأقسم بطلوع صبح أنوار صفاته وذاته عن مطالع أسرار الواصلين ، ويزيل بنوره ظلمات الطبائع والهياكل ، وصارت عرصات قلوبهم صافية عن كدورات الكون ، ولا يرى عيون أسرارهم فيها إلا فردانية الله التي تقدّست من كل علّة من علل الحدثانية.

قال القاسم : كلّا وربّ القمر جذب عباده إليه بالإشارة.

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (٣٣) : ظلم السرائر إذا انكشف ، وضياء الأنوار إذا ظهر على القلوب.

وقال الأستاذ : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (٣٤) : ضياء أنوار الحقائق إذا تجلّت في السرائر.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨) : أنفس المحبين رهينة بالمحبة ، وأنفس المشتاقين رهينة بالشوق ، وأنفس العاشقين رهينة بالعشق ، وأنفس العارفين رهينة بالمعرفة ، وأنفس الغافلين رهينة بالغفلة ، ولكل نفس عنه حجاب ، فمن شاء أن يخرج عن الحجب فليخرج من الأنفس ، وليقبل على مشاهدة ربّ الأنفس ، فإن الكل مرتهن مما عنده إلا من تجرّد مما دون الله بالله ، وهم أصحاب يمين مشاهدة الحق ، قال الله : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) (٣٩) : فإنهم في جنات قربه ووصاله.

قال القاسم : رهينة بما باشرت من الأعمال.

٤٦٧

وقال بعضهم : أين الفرار من القدر ، وكيف القرار على الخطر؟!

قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٥٢) : وصف الله حسدة القرّائين والمنافقين والسالوسين والمفسدين ، بأنهم يتمنون مقام الولاية ، وأن يكشف لهم الكرامات والآيات ، ويعطيهم علوم المعارف والحقائق ؛ ليعظّم أقدارهم عند الناس ، ولا يعلمون أن هذا قسمة الأزلية سبقت من الله في اصطفائية أنبيائه وأصفيائه وأحبائه ، هذا كتاب منشور من الله سبحانه معرضة على الكل ، وهم لا يعلمون حقيقته ؛ لأنهم أهل الشك والنفاق ، وكيف يفهمون حقائقه وهم ليسوا بأهل الله وأهل خطابه.

قال الحسين : كيف لهم بهذه الإرادة ، ولهم نفوس خالية عن الحق ، معرضة عن أمور الحقّ ، غافلة عن الوقوف بين يدي الحقّ ، كيف تفهم الصحف المنشورة أسرار خافية أبكار ما قبضتها خاطر حق قط ، وأصلها أن البشرية لا تضام الربوبية.

قوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦) : حقيقة التقوى لله ، فإنه تقدّس بذاته القديم ، وصفاته الأزلية من أوهام الخليقة ، وبأن ليس له في العالمين شريك في أزليته ، أو نظير في أبديته ، توحّد بذاته ، وتفرّد بصفاته ، كان فيما كان قدّوسا ، لم يكن مع قدسه علل المحدثات ، ولم يزل كما كان في الأزل ، لا يماسه الحدثان بحقيقة التقوى ، انفرد بفردانيته ، ذكر قدسه ، ولا عن مباشرة الحدوث ، ووصول الحدوث إليه بحال ، ثم ذكر رحمته ، وله الرحمة بالحقيقة بأن لو يغفر جميع الكفار ، لا ينقص من بحار رحمته قطرة ، ورحمة كل راحم منشعبة من رحمته.

قال : التقوى : هي التبرؤ من كل شيء سوى الله عزوجل ، فمن لزم الآداب في التقوى فهو أهل المغفرة.

* * *

سورة القيامة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦))

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) : انظر كيف قرن الله قسمه بالنفس اللوّامة ، بقسمه بيوم القيامة ؛ لأن ما يكون في القيامة من جميع أحوالها يمكنها الله في النفس اللوامة ، القيامة عالم ،

٤٦٨

والنفس اللوامة عالم ، يظهر من النفس اللوّامة لحار فيها ما يظهر يوم القيامة ؛ لأن الملكوت والجبروت تظهر بنورها وسناها وعجائبها وغرائبها بتجل من النفس اللوامة ، وغرض الكل من العرش إلى الثرى هي النفس اللوامة ، والنفس اللوامة الروح الناطقة العالمة بربها ، العارفة بصانعها ، المحبة لمدبّرها ، المشتاقة إلى الله ، العاشقة بالله ، تلوم نفسها عند كل خطرة تطأها بنعت الوقفة على ما يجد من الله من سنا الدرجات ، ورفيع المقامات ، وتلوم على قصور معرفتها بالله على الحقيقة ، ولا تأتي حضرة الله إلا بنعت الخجل والحياء ، وهي لا تنظر إلا الأعمال وأعواضها ، فإن جميع الأعمال لا تزن عندها جناح بعوضة ، بل تلوم النفس الإنسانية الحيوانية والجسمانية بما يقترف من الذنوب والسيئات ، حين لم توافق العقل القدسي الذي هو وزيره ، وتلك الملامة منها إذا كانت في السير ، فإذا وصلت مشاهدة الحق والغاية في شهود الغيب سقطت عنه الملامة ؛ لأن هناك تفنى ، لا رسوم ، ولا يبقى للحدثان أثر ، فيخرج من بحر الربوبية على نعت الطمأنينة ، فإذا كادت أن تشتغل برسوم العبودية ناداها الحق ، ودعاها إلى نفسه بقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ.)

قال سهل : «النفس اللوّامة» : هي النفس الأمّارة بالسوء ، وهي قرينة الحرص والأمل.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١))

قوله تعالى : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٩) : هذا على الظاهر جواب المنكر البعث ، ولأهل الحقائق هناك وصال لا انفصال فيه ، وذلك حين عاين قدس ذات القديم ، فبرقت أبصار العارفين في سطوات عظمته ، وخسفت أقمار قلوبهم في معاينة عزته ، فهناك محل الفناء في الحق حين بانت شموس الذات ، وأقمار الصفات ، وجمعت أنوارها في قلوب العارفين ، وهم يذوبون تحت أثقال صدماتها ، فيفرون منه لضعفهم عن حمل واردات القدسية ، وبديهات كشوفات الألوهية ، ويطلبون مقر الأنس من رؤية القدس ، فأكّد الله أمر بقائهم فيه بنعت الفناء حيث قال : (كَلَّا لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (١٢) أي : مستقركم بين أنوار جلالي وجمالي ، لا يطّلع عليكم غيري ، وهم فيها أبد الآبدين.

٤٦٩

قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١٤) : بصيرة الإنسان هناك عارفة بمعرفته ، حيث عرف إيّاه منازلها ومراتبها وجناياتها ومعاملاتها ، ولا تعريف الحق إيّاها ما اطّلعت عليها ، كما لم يطّلع عليها في الحجبة والغربة ، فإذا وقعت المعرفة وقعت البصيرة ، وإذا وقعت البصيرة وقعت الخاصيّة ، والمختص بهذه المراتب شريف في الدارين.

قال الواسطي : تخلّص النحائز أورث مطالعات المعارف ، وسلامة البصائر أوجبت الضياء في الضمائر ، وملاحظة الكريم أوجبت النعيم.

قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١٧) أي : إن القرآن كلامنا ، وهو قائم بنا ، لا تعجل عند الوحي تحفظه ، فإنه محفوظ عندنا بتجلي أنواره لقلبك ، حتى يتّصف بها ، فتصير أهلا للقرآن ، لا تنساه أبدا ، بعد أن باشر نوره قلبك ، وسرك بجميع معناه ، وأسرار لطائفه في قلبك وفهمك ، وتبيّن ظاهره وقراءته وبيانه على لسانك.

قال الواسطي : جمعه في السر ، وقرأته في العلانية.

وقال : أودع القرآن سرائرهم ، وأودع البيان بواطنهم ، فقال الله تعالى :

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١٧).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) : وصف الله وجوه مشاهديه بالنضارة والبشارة والبهجة والسرور ، وذلك أنهم يرونه راضيا عنهم ، فإذا وجدوه بوصف الرضا زال عن قلوبهم الهيبة ، وعن وجوههم الصولة ، نظروا إلى جماله ، فصارت وجوههم ناظرة بهيئة مبتهجة مسرورة مستبشرة ، وذلك من حسن تجلّي جماله ، والآية تدل على أن القوم ينظرون إلى الله وهم في حال الصحو والبسط ، ولو عاينوه بوصف الجلال والعظمة والكبرياء صرفا لهلكوا في أول سطوة من سطواته ، وصارت وجوههم دهشة ، يرونه بنوره ، بل به يرونه ، وهنالك وجود العارف كلّه عين يرى حبيبه بجميع وجوده ، وتلك العيون

٤٧٠

مستفادة من تجلّي الحق سبحانه ، فإذا فهمت هذا فإنه تعالى يقوم لهم بالنظر من نفسه إلى نفسه ، فهناك نظر الحبيب ، ونظر المحبوب واحد في معنى الاتحاد.

قال النصرآبادي : من الناس ناس طلبوا الرؤية واشتاقوا إليه ، ومنهم العارفون الذين اكتفوا برؤية الله لهم ، فقالوا : رؤيتنا ونظرنا فيه علل ، ورؤيته ونظره بلا علة ، فهو أتمّ به بركة وأشمل نفعا.

قال الواسطي : (ناضِرَةٌ) : نضرت بالتوحيد ، وابتهجت بالتفريد ، وذهبت بالتجريد ؛ لأن الله فعّال لما يريد.

قال الأستاذ : دليل على أنه بصفة الصحو ، ولا يداخلهم حياء ، ولا دهشا ؛ لأن النضرة من أمارات البسط ، والبقاء في حال اللقاء أتمّ من اللقاء ، والرؤية عند أهل التحقيق يقتضي بقاء الرائي عنه ، وعندهم استهلاك العبد في وجود الحق أتمّ (١).

سورة الإنسان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢))

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) : أخبر الله سبحانه عن سرّ فطرة آدم عليه‌السلام التي أتى عليها أحيان لم تكن شيئا يطّلع عليها المقربون والكروبين من علمهم ومعرفتهم ، وكيف ذكروه وهو على علمهم في غيب الغيب مستورا في حجاب الأنس ، ورياض القدس بنوره عن أعين أهل الملكوت ، فهناك ليس بمكان ولا زمان يتجلّى له من جميع الذات والصفات ، وبقى بين أنوار الصفات وأنوار الذات حتى صارت فطرته الروحية القدسية الملكوتية كاملة بكمال الله ، عالمة ، قادرة ، سميعة ، بصيرة ، متصفة بجميع صفاته ، ولم يكن هناك صباح ، ولا مساء ، ولا زمان ، ولا مكان ، عرّفها الله نعوته القديمة ، وأسماءه الحسنى ، وصفاته العلا ، وسقاها من بحر الذات شربات المحبة والشوق والمعرفة ، ففي كل صفة لها طور ، وفي كل مشاهدة لها حال ووجد وكشف لا يطّلع عليها أهل البريّة ، فكيف ذكروه ، وهو مذكور الله أزلا وأبدا لم يكشف ذكره لأحد غيره على ذكره ، فإذا قالت الملائكة : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ

__________________

(١) النضرة طراوة البشرة وجمالها وذلك من أثر التنعم والناضر الغض الناعم من كل شيء أي وجوه كثيرة وهى وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة يشاهد عليها نضرة النعيم ورونقه.

٤٧١

بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أظهره الله لهم بصورة ترابية ، وفطرة جسمانية ، ولولا أنه ستره بالماء والطين لماتوا جميعا في النظر إليه ؛ لأنه كان خارجا من الحضرة ، منعوتا بنعت الله ، موصوفا بصفة على لباس أنوار الربوبية ، فقبل دخوله في صورته لم تكن الصورة شيئا مذكورا حين لم تنعكس عليها أنوار روحه ، فإذا أراد أن ينفخ فيها روحه خلقها بيده ، وخمر طينه لطفه ، وصوّر لها بصورة علمه ، وجعل فيها أطوارا من معجونات قدرته وعلمه ، ثم تركها في فضاء غيبه ، حتى مضى عليها دهرها ، ودار عليها فلك دوار ، ففي كل لحظة وساعة أبدع فيها بدائع فطرته ، ولم يكشف تلك الحقائق للملائكة ، ولم يروها إلا صورة صلصالية ، طورا من حمإ مسنون ، وطورا من تراب وغبار ، وطورا من صلصال كالفخّار ، حتى تنقّشت بنقوش القدرة ، ودخل فيها روح الأولية ، فلما قام آدم في الحضرة سجد له كل شيء ؛ لما عليه من آثار جلال الحق ، وكيف تذكره أحد وذكره غاب في ذاكره ومذكوره تعالى الله عن كل نقص وعلة ، فكما خلق آدم بهذه المثابة خلق ذريته في معادن غيبه أطوارا ، وطورا روحانيا ، وطورا عليّا ، وطورا عقليّا ، وطورا نفسانيّا ، وطورا حيوانيّا ، وطورا شهوانيّا ، وطورا شيطانيّا ، وطورا سرّيّا ، وطورا ملكوتيّا ، وطورا ربّانيّا ، فهذه الأطوار يغلبها الله في زمان علمه وقدرته ، ويجعلها في كل أوان عجبته من علمه غريبا من قدرته مصبوغة بصبغ أفانين تجلّيه ، وذلك قوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ؛ لأن كل إنسان عنده آدم ثان (١).

قال جعفر : هل أتى عليك يا إنسان وقت لم يكن الله ذكرا لك فيه.

وقال أبو عثمان المغربي : ابتلى الله الحق بتسعة أمشاج : ثلاث مفتنات ، وثلاث كافرات ، وثلاث مؤمنات ، فأما الثلاثة المفتنات : فسمعه وبصره ولسانه ، وأما الثلاث الكافرات : فنفسه وهواه وعدوه ، وأما الثلاث المؤمنات : فعقله وروحه وقلبه ، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة قهر العقل على القلب ، فملكه ، واستأسرت النفس والهوى ، فلم تجد إلى الحركة سبيلا ، فجانست النفس الروح ، وجانس الهوى العقل ، وصارت كلمة الله هي العليا ، قال الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَا

__________________

(١) قال الفخر الرازي : فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضوا من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات. واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد. تفسير الرازي (١٠ / ١٢٩).

٤٧٢

وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))

قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) : حقيقة إشارته أنه تعالى عرّف لهم الطريق ، فمن بقى في الطريق ولم يصل إليه فمنعه لم يبلغ ، ومن وصل إليه فيجد به بلغ إليه ، فمن بلغ يكون بمعرفته شاكرا له ، ومن لم يبلغ إليه فيجد ؛ لأنه يكون كافرا به ، إذ لم يذق طعم الوصال ، ولم ير نور مشاهدة الجمال ، مهّد الطريق ، ونصّب الأعلام ، وأوضح المنار والأدلة ، ودعاهم به إلى نفسه ، فمن واصل يسكن بما وجد به وهو شاكر ، ومن واصل لم يسكن بما وجد ، ويكون معربدا بطلب مزيد الدنوّ ، وفي كل ما وجد لم يكن راضيا حتى وصل إلى غيبوبة الغيب ، ويشرب من أنهار صرف الصفات والذات ، فيخرج متحدا يدّعي الربوبية ، ويكون كافرا الحقيقة.

قال سهل : بيّنّا له طريق الخير من طريق الشر ، إما أن يكون شاكرا طائعا ، فمستقره الجنة ، وإما أن يكون كفورا جاحدا ، فمأواه النار.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠))

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) (٥) : وصف الله سبحانه أوساط أهل المعرفة من أهل السلوك أنهم يشربون شرابا من كاسات قربه ، يكون مزاجها كافور المعرفة مع شراب المشاهدة ، لم يكن لهم شرابا صرفا من المعرفة ؛ لأنهم يبقون في سكر المشاهدة ، يغيبون عن مطالعة الحقيقة بعيون المعرفة ، فأول شربهم صحو ، وآخر شربهم سكر ، ولم يكن كذلك العارفون ، فإنهم يشربون صرف شراب المشاهدة المنعوت بالمعرفة مع الصحو من أول شربهم إلى آخر شربهم ؛ حتى لا يحتجبوا عن رؤية غرائب تجلي

٤٧٣

الذات والصفات ، ولذلك قال الله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) ، وعباده ههنا : أهل التمكين في المعرفة ، وكذلك حالهم في الدنيا يشربون شراب المحبة ممزوجة ببعض الكشوفات ، والعارفون يشربون جميعا بالرؤية والمكاشفات ، فلكل شربة لهم كشف وعيان ، فالصّافي من له شراب صاف من غير مزج ، فإن الممزوج لا يخلو من امتحان ، انظر كيف قال القائل :

مالي جفيت وكنت لا أجفي

ودلائل الهجران لا تخفى

وآرائى تسقيني وتمزج لي

ولقد عهد إليك شاربي صرفا

قال سهل : الأبرار الذين هم فيهم خلق من خلق العشيرة ، الذين وعدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة.

قال الواسطي : لما اختلفت أحوالهم في الدنيا ، كذلك اختلفت أشربتهم في الآخرة ، بل سقت الأشربة الأحوال من قدّر له شرابا طهورا في الآخرة ، طهّره الحق في الدنيا عن رؤية السعايات بالموافقة والمخالفة ، وهو من تحت قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) ، بردت الدنيا في صدورهم ، وانقطعت عن قلوبهم.

قيل : «الأبرار» : هم الذين سمت همتهم عن المستحقرات ، فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة ، وأنفوا من مساكنهم الدنيا يشربون كأسا كان مزاجها كافورا.

قال الأستاذ : اختلفت مشاربهم في الآخرة ، فكلّ يسقى ما يليق بحاله.

وقال يحيى بن معاذ في قوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) : إنها عيون يشربون منها في الدنيا ، فيورّثهم ذلك شراب الحضرة ، وذلك من عيون الحياء ، وعيون الصبر وعيون الوفاء.

قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً) : يوفون بنذورهم التي هي غرائم قلوبهم في أوائل قصود أرواحهم بحق الحق ألا يختاروا على الله شيئا من العرش إلى الثرى ، ويخافون من قهره ومكره بمعرفتهم بأنه منزّه من وصولهم

وفضولهم.

قال بعضهم : يوفون بما يطيقون ، يخافون أن يطالبوا بما لا يطيقون من تمام الوفاء.

قال سهل في هذه الآية : البلايا والشدائد في الآخرة عامّ ، والملامة خاصّ للخاص.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا

٤٧٤

أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٢١) : أخبر الله سبحانه عن سقيه أرواح أوليائه في الأزل شراب بحار رؤية أنوار القدم ؛ حيث ظهر جلال ذاته وصفاته لها ، وذلك الشراب لظهور طهوريته تجلّي قدس ذاته الذي ظهر تلك الأرواح من شرب الامتحان والقهر والحرمان ، لا تتدنس أوقاتها بشيء من الحدثان بعد شربها أشربة أفانين أنوار الصفات ، فتلك الكائنات المروقات عن علل الحجاب والعتاب ، دارت عليها في الدنيا حتى يرجع إلى معادنها من الغيب ، ففي كل لمحة لهم شراب الوصال والكشف والجمال لا مقطوعة ولا ممنوعة ، ولتلك الأشربة آثار السكر في وجودهم من هجوم المواجيد عليهم حين سلبتهم جذبات واردات الغيب عن رؤية الأكوان الحدثان ، سكرت أرواحهم بشراب رؤية القدم ، وسكرت أسرارهم بشراب رؤية البقاء ، وسكرت عقولهم برؤية نور الصفات ، وسكرت قلوبهم بشراب رؤية الذات ، وسكرت نفوسهم بشراب المداناة في الخلوات والمناجاة ، ففي كل حال لهم من ذلك الشراب وقت ، ووجد ، وشوق ، وعشق ، وهيمان ، ووله ، وهيجان ، ليس لهم في الكون سؤل غير هذا الشراب ، ولا لهم منى غير هذا الوصال ، به داوى جروح قلوبهم من آلام المحبة لا بشيء دونه.

تداويت من ليلى بليلى من الهوى

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

قال بعضهم : إن لله شرابا صافيا طاهرا شهيا نقيّا ، ذخرها في كنوز ربوبيته لأوليائه وأصفيائه ، يفجّر لهم من ينبوع المعرفة في أنهار المعرفة ، فسقاهم ربهم بكأس المحبة شرابا طهورا ، فإذا شربوا بقلوبهم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، سقاهم ذلك في الدنيا في ميدان ذكره بكأس محبته على منابر السنة بمخاطبة الإيمان ، وسقاهم في الآخرة في ميدان قربه بكأس رؤيته على منابر النور ، بمخاطبته العيان.

قال سهل : فرّق الله بهذه اللفظة بين الطهور والطاهر ، وبين خمور الجنة وخمور الدنيا ؛ فإن خمور الدنيا نجسة تنجّس ساحبها وشاربها بالآثام ، وخمور الجنة طهور يطهّر شاربها من كل دنس ، ويصلحه لمجالس القدس ، ومشهد العزة.

قال جعفر : سقاهم التوحيد في السر ، فتاهوا عن جميع ما سواه ، فلم يفيقوا إلا عند المعاينة ، ورفع الحجاب فيما بينهم وبينه ، وأخذ الشراب ، ففي أخذه عنه لم يبق عليه منة باقية ، وحصله في ميدان الحصول والقبضة.

٤٧٥

وقال فارس : منهم من سقاه شراب الهداية فهداه ، ومنهم من سقاه شراب الولاية فولاه ، ومنهم من سقاه شراب المعرفة فقربه وأدناه ، ومنهم من سقاه شراب التوحيد فستره وأواه.

قال أبو سليمان الداراني : سقاهم ربهم على حاشية بساط الود ، فأراهم من صحة الخلق ، وأراهم رؤية الحق ، ثم أقعدهم على منابر القدس ، وحيّاهم بتحف المريد ، وأمطر عليهم مطر التأييد ، فسالت عليهم أودية الشوق والقرب ، فكفاهم هموم الفرقة ، وحيّاهم بسرائر القربة.

وقيل : سقوا شراب المودة في كأس المحبة في دار الكرامة ، فسكروا بها ، فمشوا في ميدان الشوق ، ولم يقنعوا بشيء غير الرؤية.

وقال جعفر : شرابا طاهرا مطهرا صافيا ، ادخره في كنوز ربوبيته ، سقاه أولياءه في ميدان كرامته بكأس هيبته على منابر عزه ، فإذا شربوا سكروا ، وإذا سكروا طاشوا ، وإذا طاشوا اشتاقوا ، وإذا اشتاقوا طاروا ، وإذا طاروا بلغوا ، وإذا بلغوا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، وإذا اتصلوا أفنوا ، وإذا أفنوا أبقوا ، وإذا أبقوا صاروا ملوكا وسادة وأحرارا وقادة.

قوله تعالى : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي : في ولايته ونبوته ومعرفته ومحبته ، وفي كشف مشاهداته التي لا ينالها إلا بالاصطفائية الأزلية التي تزول عندها جميع الأسباب والسعايات وعلل الأعمال.

قال الواسطي : إن الله تعالى حكم بصفته على صفتك ، ولم يحكم بصفتك على صفته ، فقال : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) (١) ، كما أن جميع الكون به ، كذلك جميع الصفات بصفاته ، وكما أنه بنفسه يصرّف النفوس ، لا النفوس تصرّفه على ما يريدون ، كذلك بصفته يصرّف الصفات ، والنعوت أجمع.

سورة المرسلات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ

__________________

(١) قال ابن الخطيب : إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى ، وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئته بسبب مشيئة الله تعالى وفضله ، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق ؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل أو الحاجة ، وهما محالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المحال محال ، فتركه محال ، فوجوده واجب عقلا ، وعدمه ممتنع عقلا ، وما كان كذلك لا يكون معلقا على المشيئة ألبتة. تفسير اللباب لابن عادل (١٦ / ١٥٦).

٤٧٦

فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤))

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٢) : أقسم الله سبحانه بالمرسلات من رياح العناية المتتابعة من شمال قربه وبساتين غيب مشاهدته ، والعاصفات من رياح تجلّي العظمة والكبرياء التي تفنى قلوب الموحدين في سطواتها.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣) : صبا وصاله التي تنشر طيب الجمال على أرواحهم ، فتبقيها بعد فنائها.

(فَالْفارِقاتِ) : خطابات متتابعة تفرّق بين الحق والباطل في ساحة القلوب.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) (٥) : كشوفات الصفات مع الخطاب والوحي والإلهام.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٦) : عذرا للأرواح والعقول ، نذرا للقلوب والنفوس ، عذرا للعارفين ، ونذرا للمريدين.

قوله تعالى : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨) : إذا تجلّى الحق بجلال كبريائه من عيون القدم تنطمس نجوم عقول العارفين مع نجوم معارفهم ، فتنخسف أقمار أرواحهم عند شعاع عزة السرمدية ، بحيث لم يكن لها عين إلا حارث ، ولا معرفة إلا زالت.

(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٩) : سماء قلوبهم تنفرج عند بروز أنوار ألوهيته.

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) (١٠) : جبال أسرارهم تنتسف في عواصف قهر سلطان ظهور جلال عزته ، لا تبقى لها آثار في الأنوار.

قال ابن عطاء : إذا انطمست نجوم ظهور المعارف ، وكشفت عن سرائر المعاملات ، وهو اليوم الذي يفصل بين المرء وقرنائه وأخدانه وخلّانه إلا ما كان منها في الله ولله.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي

٤٧٧

مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) أي : ويل الحسرة يوم الإشهاد للمنكرين أنبيائي وأوليائي ودرجاتهم ، والويل يومئذ لكل مدع كذّاب ، ليس في دعواه معنى.

قال الجنيد : الويل يومئذ لمن كان يدّعي في الدنيا الدعاوي الباطلة.

قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) : من لم يكن له في الدنيا نطق وحديث وكلام ، كيف ينطق عنده يوم يأتي عنده الكل يهيب ، ويسكت عنده كل فصيح.

قال أبو عثمان : أسكتتهم رؤية الهيبة ، وحياء الذنوب.

قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : هذا يوم مفارقة النفس والشيطان عن جوار قلب العارف ، وينفصل عن كل محبّ غير محبوبه حيث استغرق في وجوده.

قال جعفر : فصل كل فصل مدخول ، وفصل كل وعد مأمول.

سورة النبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ

٤٧٨

الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٢) : النبأ العظيم كلامه القديم ، عظم بعظم الله القديم ، مرتفع عن خاطر كل مخالف ، لا ينال بركتها إلا أهل الله وخاصته.

قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) : مهّد أرض قلوب الأولياء ، وربطها بجبال المعارف وأوتاد العقول لعساكر تجليه ، «الأوتاد» (١) : عصبة من المتمكنين من الأولياء بهم يستقيم العالم والعالمون.

قال بعضهم : الأوتاد على الحقيقة سادات الأولياء ، وخواص الأصفياء.

سئل أبو سعيد الخراز عن الأوتاد والأبدال أيهم أفضل؟ فقال : الأوتاد. قيل : كيف؟ فقال : لأن الأبدال ينقلبون من حال إلى حال ، ويبدل لهم من مقام إلى مقام ، والأوتاد بلغ بهم النهاية وثبتت أركانهم ، فهم الذين بهم قوام الحق.

قال ابن عطاء : الأوتاد هم أهل الاستقامة والصدق ، لا تغيرهم الأحوال ، وهم في مقام التمكين.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) (٣١) : لهم فوز المشاهدة ، وبغيبته المكاشفة ولذة الوصلة ؛ لأنهم اتقوا مما سواه ، فيعطيهم ما يكفيهم رؤية غيره في بساتين القدس ، ورياض

__________________

(١) إنّ هذه الآية إنّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصّانع ؛ والشروط فيه أن يكون ذلك أمرا مشاهدا معلوما ، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنّ الشيء إذا رأيت حجمه ، ومقداره ، صار ذلك الحجم ، وذلك المقدار عبرة. تفسير اللباب لابن عادل (٩ / ٣٨٠).

٤٧٩

الأنس ، لا يسمعون إلا كلام حبيبهم ، ما يهيّجهم إلا قربه ووصاله ، والشوق إلى جماله ؛ ليغنيهم بنفسه عن كل مأمول ، قال سبحانه : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً.)

قال بعضهم : فوزهم على قدر قصودهم ونيّاتهم.

قال الشبلي : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي : كلاما إلا من الحق ، فإنه إذا ظهرت الحقيقة خنست المقادير ، وصار الكل هباء في جنب الحقائق ، ومن تحقق بالحق في الدنيا لا يسمعه الحق إلا منه ، ولا يشهده سواه ؛ لأنه مستغرق في معادن التحقيق ، قال الله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً.)

قال بندار بن الحسين : الجزاء إذا كان من الله لا يكون له نهاية ؛ لأنه لا يكون على حد الأعواض ، بل يكون فوق الحدود ؛ لأنه ممن لا حد له ولا نهاية ، فعطاؤه لا حد له ولا نهاية.

قال بعضهم : العطاء من الله موضع الفضل لا موضع الجزاء ، والجزاء على الأعمال والفضل موهبة من الله ، يخصّ به الخواص من أهل وداده.

قوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٣٨) : من كان كلامه في الدنيا من حيث الأحوال ، والأحوال من حيث الوجد ، والوجد من حيث الكشف ، والكشف من حيث المشاهدة ، والمشاهدة من حيث المعاينة ، فهو مأذون في الدنيا والآخرة ، يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة ، ينقل الله به الخلائق من ورطة الهلاك.

قال ابن عطاء : «الخالص» : ما كان لله ، و «الصواب» : ما كان على السنة.

قال الواسطي لأهل الحق : (وَقالَ صَواباً) ، لما كان إليهم من برّه ، فمن كان مأذونا في الكلام ، كان موفّقا على قدر علمه.

قال الأستاذ : إنما يظهر الهيبة على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم ، وأما الخواص وأصحاب الحضور فهم أبدا بمشهد العز بنعت الهيبة لا نفس لهم ، ولا فرحة أحاط بهم سرادقها ، واستولت عليهم حقائقها.

سورة النازعات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ

٤٨٠