تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

وقال النوري في هذه الآية : هم الذين ادّعوا محبة الله ، ولم يكونوا فيها صادقين.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) : افهم يا مبارك سر هذه الآية ؛ فإن الله سبحانه أخبر فيها من سر نفسه كان في أزل الأزل بحار الألوهية متلاطمة قهارة زاخرة ، ولم يكن لمكان قهره مقهور ولعزته ذليل ، فغلب عزّه قهره وجلال سلطانه ونور مشيئته وإرادته ، فأوجد الكون ، فجاء الكون من العدم مقهورا ذليلا لقهره وعزته قهر المخلوقات ؛ إذ لم يكن في القدم مكان القهر والمقهورية ، فإذا تصاغر الأكوان في قدم الرحمن وسطوات كبريائه ، وكادت تضمحل أمسكها بلطفه من قهره ، وهذا معنى قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.)

وقال الحسين : كل شيء أراد الله به الإهانة والتذليل ألبسه لباس المخلوقية ؛ ألا ترى كيف نزّه عن ذلك صفاته وكلامه؟! قال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، المخلوقات ليس لها عزّ إلا بالنسبة إلى خالقها ، وأنها مخلوقة ، فبنسبته إليها أعزها.

قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : مقاليده قدرته القديمة ، وإرادته الأزلية ، أبواب الأكوان متعلقة بأفعال المشيئة ، في خزائنها أنوار القدوسية ، وعرائس المشاهدة في حجال الأفعالية ، فإذا أراد للعبد العارف السعادة الكبرى يفتح أبوابها بمقاليده حتى يبرز منه لأبصار عشاقه أنوار جماله ، فيعيشون بلذة مشاهدته ، ويطيبون في لذة المواجيد ، ويفرحون بما يجدون من نضارة وجهه الكريم ، ويطيرون في سنا قربه وهواء هويته بأجنحة المحبة والمعرفة والمودة.

قال سهل : بيده مفاتيح القلوب ، يوفّق من يشاء لطاعته وخدمته بالإخلاص ، ويصرف من يشاء عن بابه.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤))

قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) : إن الله سبحانه حثّ حبيبه عليه الصلاة والسلام على تعبير الغالطين والمقبلين إلى الدنيا بأنهم جاهلون حق الله وحق عبوديته ؛ إذ لا يقع للحدثان عبودية ، بل لا يستحق للعبودية إلا الرحمن القديم أي : كيف أعبد غير الحق ، وأنا أعرف عجز الحدثان ، وكيف أنصرف من الخالق إلى المخلوق ، وأنوار سلطان قهره محيطة بكل ذرة من العرش إلى الثرى أي : أنا محفوظ مصون بصون الأزلية

٢٢١

وعناية الأبدية عن أن يجري على قلبي الشرك في ربوبية خالقي.

قال أبو عثمان : عبادة الله على الإخلاص تنفي عن صاحبه الجهل والريب والشبهة.

(ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخسرين (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) : هذا من أوائل أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخل فرسان أسراره

في ميادين الآزال والآباد ، ورأى جبروتا في جبروت وملكوتا في ملكوت وعزّا في عزّ وبحرا في بحر وسلطانا في كبرياء وكبرياء في عظمة ، فما رأى للقديم الأزلي أهلا من الحدثان ، وما رأى أثرا من نفسه في جناب الربوبية ، فكاد يخطر بقلبه أنه معطل ، قال الله : كلا (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) : يعني الرسالة والنبوة والأنباء العجيبة ، ولا شك في حالك ؛ فإنك مكرّم بسابق عنايتي واصطفائيتي الأزلية ، ولك إخوان حلّ بهم ما حلّ بك من الأحوال السنية وغرائبات أنوار العزة ، انظر إلى ما وهبت لك من تلك الكرامات ، ولا تنظر إليها مني ؛ فإن الالتفات إلى المقامات في المكاشفات والمشاهدات شرك ، وإذا وقفت عني على حظك مني لتحبطن أحوالك ؛ فإن الكلّ قائم بي.

قال أبو العباس بن عطاء : أي : لئن طالعت بسرّك إلى غيري لتحرمنّ من حظك من قربي.

وقال ابن عطاء : هذا شرك الملاحظة والتفات إلى غيره.

وقال جعفر : لئن نظرت إلى سواه لتحرمن في الآخرة لقاءه ، ثم أكّد إلا وعليه الحق سبحانه في إفراده عن غيره وإقباله إليه بنعت ترك ما سواه.

قال : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٦) أي : كن خالصا لله لا لغيره فيك نصيب ، وكن شاكرا له بنعت ألا ترى صنيعك في البين شيئا ، وأظهر عجزك في معرفة المشكور ؛ فإنه الشكر لا غير ، واسكن عن الشوق إلى إدراك كل القدم ؛ فإنه لا يدخل تحت إدراك الحوادث ، وهو أجلّ عن أن تدركه بنعته بمعنى الإحاطة ، وخذ ما آتيتك ، وكن من الشاكرين ؛ فإن الخلق لا يصلون إلى كنه الأزليات والأبديات ، وذلك قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : كيف يقدرون حق قدره ونعوته الأزلية جلت من أن تحويها الحوادث ، وتحيط بها الأماكن ، وتدركها الأبصار ، وتفطنها الأفهام والأفكار ، والأرواح محترقة في أول بوادئ

٢٢٢

أنوار قدرته ، والعقول فانية في لمعان بديع صنائعه ، والقلوب مضمحلة في لزوم واردات تقلب قضائه وقدرة؟! علم سبحانه عجز الخليقة عن وصف جلاله وإدراك كماله ؛ فإنهم لا يحتملون ذرة من أنوار ذاته وصفاته عند ظهور كشفها بنعت غلبة قهره على الأكوان والحدثان ، فأجمل القول بقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ؛ حيث وصفوه بنعت الأنداد والأضداد ، ثم فصّل من بطون الأفعال ولوائح أنوار بعض الصفات ، فقال : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) : لو وصف حقيقة نفسه بغير ذكر الأكوان والأفعال لغابوا في مهمة الأوهام ، وما تخلصوا أبدا من تراكم الأفكار في طلب الأسرار ، بل أحالهم إلى رؤية الفعل المحيط به صفاته أي : كيف تدركون من كان قهره وعظمته في مباشرة فناء العالم هكذا من حيث عقولكم ، وأن السماوات والأرضين أقل من كرة في ميادين قهر صفاته؟! وعندكم أن العظيم لو يكون من يقلع جبيلة من الجبال ، فذكر فعله على حد عقولهم ، فلما علم ترددهم في مماثلته أفعاله ووقوع عقلهم في أودية الإشكال ومخائيل الأبعاض نزّه نفسه عن ذلك في آخر الآية ، كما نزّه نفسه في أولها ، فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧) أي : تقدّس عن أن يقيسه المتقايسون أو يشير إليه المشيرون ، أول الآية ذكر قدم القدم لأهل الفناء في التوحيد الذاتي ، وأوسط الآية ذكر ظهور جلاله وجماله بنعت الالتباس في آياته الأفعال للعاشقين ، وآخر الآية ذكر حقيقة السر الصفاتي بنعت التقديس والتنزيه ، ووصف إفراد قدمه عن الحدوث ، فرؤية الذات لأهل الفناء ، ورؤية الصفات لأهل البقاء ، ورؤية الجمال والجلال في الأفعال لأهل العشق ، وكلهم معزولون عن ساحة الكبرياء بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.)

قال سهل في قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١) : ما عرفوه حقّ معرفته في الأصل ولا في الفرع.

وقال الحسين : كيف يعرف قدره من لا يقدر قدره سواه.

__________________

(١) القدر بمعنى التعظيم كما في القاموس فالمعنى ما عظموا الله حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكا بما لا يليق بشأنه العظيم ويقال قدر الشيء قدره من التقدير كما في المختار. فالمعنى ما قدروا عظمته تعالى في أنفسهم حق عظمته ، وقال الراغب في المفردات ما عرفوا كنهه.

يقول الفقير : هذا ليس في محله فإن الله تعالى وإن كان لا يعرف حق المعرفة بحسب كنهه ؛ ولكن تتعلق به تلك المعرفة بحسبنا فالمعنى ههنا ما عرفوا الله حق معرفته بحسبهم لا بحسب الله إذ لو عرفوه بحسبهم ما أضافوا إليه الشريك ونحوه فافهم. تفسير حقي (١٢ / ٣٢٥).

٢٢٣

قال الواسطي : لو طالعوا حق حقه في محبتهم لعلموا العجز عن ذلك بالكلية ، فلم يعرف قدره من ادّعى لنفسه معه مقاما ، قال الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)

سئل الجنيد عن قوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) : متى كانت منشورة حتى صارت مطوية؟! سبحانه! نفى عن نفسه ما يقع على العقول من طيّها ونشرها ؛ إذ كل الكون كخردلة أو كجناح بعوضة أو أقل منها ، كذلك قال في قوله : (قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) : كيف لا يستحيل قيامه على هذا الكون الذي لا يزن ذرة عنده ، بل قيامه بنفسه لنفسه؟!

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) : أول النفخ والصعقة ترشح أنوار قهر العظمة على الأكوان والأماكن والأزمان والهياكل والأمثال والصور والأشكال والأرواح القدسية الملكوتية في أكناف لطافة قائمة بوجوده ، لا يقع عليها تلوين الصفات والفزع والعقوبات ، وثاني النفخ والصعقة ظهور أنوار جماله في أنوار جلاله ، فمن ذلك تحيا الأنفس ، وتقوم الأشباح بنور الأرواح ، ينظرون إلى سرادق الكبرياء وساحة العظمة والبقاء ، ينتظرون وقوع نور الكشف بقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، يتجلى الحق سبحانه أرض أرواح العارفين والأنبياء والمرسلين ، وأرض قلوب الصديقين والمقربين ، ويظهر نور جماله لأبصار الوالهين العاشقين ، ثم يستضيء بأنوارها أرض المحشر للعموم والخصوص ، تعالت صفاته من أن يقع على الأماكن ، أو أن يكون محلا للحدثان ، يا عاقل لا يكون ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهي مستغرقة في أنوار إشراق آزاله وآباده.

قال سهل : قلوب المؤمنين يوم القيامة تشرق بتوحيد سيدهم والاقتداء بسنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاسم : أشرقت الأرض بأولياء الله ؛ فهم فيها أنوار الله ومواضع حججه وغياث عباده وملجأ خلقه.

وقال جعفر في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) : أهل الاستثناء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته وأهل المعرفة.

قال بعضهم : هم أهل التمكين والاستقامة الذين استقاموا لله على بساط العبودية ،

٢٢٤

فمكّن الله أسرارهم لحمل الموارد.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣))

قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) : في هذه الآية سرّ لطيف ، ذكر الله سبحانه وصف غبطة الملائكة على منازل الأولياء والصديقين ، وذلك قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) أي : أنتم في مشاهدة جماله أبدا طيبون بلذة وصاله ، سالمون عن الحجاب أبدا ، وأيضا هذا سلام الله ولكن بالواسطة ، والسلام الخاص بعد دخولهم في الحضرة بقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ.)

قال ابن عطاء : السلام في الجنة من وجوه : منهم من يسلم عليهم خزنة الجنة ، ومنهم من يسلم عليهم الملائكة ، ومنهم من يسلم عليهم الحق لقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ.)

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤))

قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) : هذا حمد بعد الوصول ، وثناء عليه بعد مشاهدة وصاله من فرح وجدان مواعده الجليلة ومواهبه السنية ، حمدوه بعدما وجدوه بألسنة ربانية ملتبسة بنور مدحه ، استعاروا لسان المدح من الحق ، فأثنوا به على الحق ، وإلا كيف يحمدونه بألسنة حدثية معلولة قاصرة عاجزة؟!

قال ابن عطاء : إن العبيد إذا شاهدوا في المشهد الأعلى آثار الفضل وما أنعم عليهم من فنون النعم التي لم تكن يبلغونها بأعمالهم : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بفضله من غير استحقاق منا لذلك ، بل فضلا وجودا وكرما.

وقال جعفر الصادق : هو حمد العارفين الذين استقروا في دار القرار مع الله ، وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) : حمد الواصلين.

وقال أيضا : نظروا في الدنيا من الله إلى الله ، وإلى موعوده واثقين في الله ، ساكنين إلى ما أعدّ الله لهم.

٢٢٥

قال سهل : منهم من حمد الله على تصديق وعده ، ومنهم من حمده لأنه يستوجب الحمد في كل الأحوال لما عرف من نعمه وما لا يعرفه.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) : هذا خطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كان يمر على الصفائح الأعلى فوق الملكوت رأى حراس المملكة طائفين حول العرش بالتحميد والتسبيح والتمجيد والتقديس ، يحمدون الله على إنجاز وعده لأهل محبته وشوقه ، وبما لحق بهم من بركات العاشقين عند شروق أنوار المشاهدة وعند إقرار المتحققين من المدعين ، فلما وصل الكل إليه يحمدونه بحمده إذ هم يحتاجون إلى حمده ، وهو محمود بحمده القديم ، لا يختلط حمده بحمد الحامدين ، وذلك قوله : (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥).

وقال أبو علي الجوزجاني : ما تقرّب أحد إليه إلا بالافتقار والعبودية والتذلل والتنزيه له من كل ما نسب إليه مما لا يليق به ؛ ألا ترى إلى مواضع الملائكة يحفّون بالعرش يسبحون؟! وذلك عبادتهم وتنزيههم.

سورة غافر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ

٢٢٦

وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٢) «الحاء» عين جنات الأزل ، و «الميم» مناهل المحبة الخاصة الصفاتية الأبدية ، ومن خصه الله بقربه سقاه من عين حياته حتى يكون حيّا بحياته لا يجري عليه بعد ذلك طوارق الفناء ؛ لأن الحق إذا تجلى من حياته التي هي صفته الأزلية لروح قدسي يخرجها من ضرر الفناء والموت ؛ لأنه هو محل الاتصاف بصفته ، وصفاته ممتنعة من تغاير الحدثان ، قال تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [آل عمران : ١٦٩] ، ثم سقاه من منهل محبته فيصير سكران شوقه وعشقه والها بجمال وجهه ، لا يمنعه من ذلك الأكوان بأسرها ، فمن حيث الحياة يحيي العالم بأنفاسه الربانية مثل عيسى عليه‌السلام ، ومن حيث المحبة يطيب بجماله قلوب الخلائق أجمعين حتى يشتاقوا من النظر إليه إلى جمال الحق مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ينطق من جاء الحياة بعبارات الحكمة ، ومن ميم المحبة من إشارات العلوم المجهولة التي لا يعرفها إلا الواردون على مناهل القدم والبقاء ، ومعنى قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي : هذان الحرفان اللذان هما مطيتان أحمالهما مظنات هذه المعاني المنزلة من عند الله الحي القيوم الملك المهيمن العزيز المتكبر العليم الحكيم إلى الحبيب المحب الذي هو وسيلة الحق من الحق إلى الحق ، والسفير منه إلى عباده وأحبائه ومشتاقيه أي : من الله الذي ألوهيته عزيزة ممتنعة عن مطالعة الخليقة الغالبة على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، عالم ببطون

٢٢٧

الغيوب ومضمرات القلوب وحركات الأرواح وعلل الأشباح ، يعز العارفين بعزته ، ويشوق المحبين إلى جمال مشاهدته بمحبته الأزلية التي سبقت في الأزل لأهل خالصته ، أنزل هذا التنزيل إلى سيد المرسلين ، وإمام العالمين ليبشر بنزوله أهل نزل مواهبه السنية ، ومعارفه المقدسة ، وليفرح فؤاد المهتمين على ما جرى عليهم خطرات الامتحان ، وهواجس النفس ، والشيطان بقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) يستر ذنوب المذنبين بحيث يرفع عن أبصارهم حتى ينسوها ويقبل عذرهم حين افتقروا إليه بنعت الاعتذار بين يدي ربه.

(شَدِيدِ الْعِقابِ) لمن لا يرجع إلى المآب بأن عذبه بذل الحجاب.

(ذِي الطَّوْلِ) لمن أفنى نفسه لنفسه ، وطوله طول كشف جماله في أوقات الواردات والمواجيد ، من خصه بالقرب والجمال ، ثم وصف نفسه بالتنزيه والتقديس ، ونفى الأنداد والأضداد في ربوبيته وغفران عباده ، وتعذيب عصاته بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣) إليه يرجع كل مشتاق ، وكل عارف محب عاشق ، يقبل منهم عذرهم في تقصيرهم في العبودية ، وقلة عرفانهم حقوق الربوبية ، هو مصدر الكل ، ومصير الكل مصادر القدم ومعادنهم ، لا العدم ، فإن العدم لا شيء في شيء ، وهو موجد الأشياء بلا علل ولا حيل ، ثم من غيرته يعدم الكل حتى لا يبقى في ساحة الكبرياء أهل الفناء ، قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

قال سهل في قوله : (حم) : الحي الملك ، وفي قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : هو الذي أنزل عليك الكتاب ، وهو الله الذي ولهت به قلوب العارفين ، والعزيز من درك الخلق العليم بما أنشأ وقدر ، (غافِرِ الذَّنْبِ) : أي : ساتره على من يشاء ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) : أي : ممن تاب إليه ، وأخلص العمل بالعلم له ، (ذِي الطَّوْلِ) : ذي الغنى من الكل.

قال بعضهم : (غافِرِ الذَّنْبِ) : كرما ، (وَقابِلِ التَّوْبِ) : فضلا ، (شَدِيدِ الْعِقابِ) : عدلا ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : فردا ، (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) : تصديقا للوعد.

قال بعضهم : غافرا لذنب المذنبين ، وقابلا توبة الراجعين ، شديد العقاب على المخالفين ، ذي الطول على العارفين.

قال الأستاذ : غافر الذنب لمن أصر وأجرم ، وقابل التوب لمن أقر وندم ، وشديد العقاب لمن جحد وعند ، وذي الطول لمن عرف ووحد.

قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ما يخاصم في هذه الإشارات التي رمز الحق فيها من غوامض علومه الإلهية إلا أهل التقليد من المنكرين.

٢٢٨

قال سهل : هو المجادلة في الذات دون الفروع.

وقال : (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) : ابتدعوا غير الحق.

قال الخواص : ما كانت زندقة ، ولا كفرا ، ولا بدعة ، ولا جرأة في الدين ، إلا من قبل الكلام ، والجدال ، والمراء ، والعجب ، وكيف يجترئ الرجل على الجدال والمراء ، والله يقول : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.)

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) وصف الله عراف ملائكته الذين ألبسهم الله قوة جبروته ، ونور ملكوته ، وهم اللاهوتيون يحملون كنز الأعظم بعظمة الله وقوته ، والسكر من شراب قربه ومحبته ، وفيض مشاهدته ، يطيرون في هواء هويته بالأجنحة القدوسية ، والرفارف السبوحية ، مع مرآة الوجود ، وكنوز الجود حيث يشاء الحق سبحانه من الأماكن والمشاهد ، يسبحون مما يجدون منه القدس والتنزيه ، حمدا لأفضاله ، وبأنه منزه عن النظير والشبيه ، يؤمنون به في كل لحظة بما يرون منه من كشوف صفات الأزليات ، وأنوار حقائق الذات التي تطمس في كل لمحة مسالك رسوم العقليات ، وهم يقرون كل لحظة بجهلهم عن معرفة وجوده.

ثم بيّن أنهم أهل الرقة والرحمة والشفقة على أوليائه ؛ لأنهم إخوانهم في نسب المعرفة والمحبة ، يستغفرون لهم حين أقروا كلهم بأنه تعالى لا يدركه غوص الأوهام ، ولا يحويه بطون الأفهام ، سألوا غفرانهم لما جرى على قلوبهم من أنهم على شيء في معرفته : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أوجدت الوجود برحمتك القديمة ، وعلمك الأزلي حتى لا يخلو ذرة من العرش إلى الثرى من رحمتك وعلمك ، وجعلت الكل مرآة لنفسك ، تجليت منها لأهل الخضوع من العارفين تظهر أنوار جمالك منها لأهل رحمتك ، وهم أهل المحبة والعشق والشوق ، وتبرز منها بنعت الجلال والألوهية والقدم والبقاء لأهل المعرفة والتوحيد.

(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧) أي : اغفر للذين تابوا من وجودهم في وجودك ، ورجعوا من دونك إليك ، واستقاموا سبيل المعرفة بعظمتك وجلالك ، وعجزهم عن إدراك عزتك بأنك تأويهم إلى أكناف قربك ، وتريحهم من صولة جبروتك ، بما تكاشف لهم من جمال سرمديتك ، عجبت من رحمة الملائكة المقربين كيف تركوا المصرين على الذنوب عن استغفار هذه قطعة زهد وقعت في مسالكهم؟ أين هم من قول سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين آذوه قومه ، قال : «اللهم اهد قومي ؛ فإنهم لا يعلمون» (١).

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٢٨٢) ، ومسلم (٣ / ١٤١٣).

٢٢٩

أعموا الأشياء بالرحمة ثم أخصوا منها التائبين ، يا ليت لو بقوا على القول الأول ، وسألوا الغفران للجميع التائبين والعاصين.

قال ابن عطاء في هذه الآية : من خلقوا مطيعين قائمين لله بالتسبيح والتنزيه ، يستغفرون لمذنبي المؤمنين ، وهم غافلون عن الندم على ذنوبهم والاستغفار منها.

قال بعضهم : الطالب للمغفرة من يتبع الرشد ، ويخالف نفسه ومراده.

وقال سهل في قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) : من الغفلة وأنسوا بالذكر واتبعوا سنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) يرفع درجات المريدين إلى الكرامات ، ويرفع درجات المحبين إلى المشاهدات ، ويرفع درجات العارفين إلى معرفة الذات والصفات ، ويرفع أهل المواجيد إلى شهود الجمال ، وأهل السلوك إلى مشهد العظمة والجلال ، ويرفع الزاهدين إلى الجنان ، ويرفع المنقطعين إليه إلى درجة الإيقان والعرفان ، ويرفع النفوس بعد تقديسها بالمجاهدة والرياضة إلى جنته ، ويرفع العقول إلى رؤية أنوار سلطانه في برهانه ، ويرفع الأرواح إلى قرب مجالس الأنس ، ويرفع الأسرار إلى مراقي القدس ، ويرفع إليه سرّا خالصا من جميع الدرجات حتى لا يبقى بينه وبين الحق درجة ، وصار أنوار الذات والصفات منازل شهوده فيكشف كل نور له فيغيب في الأنوار ، ويفنى في الأسرار ، ثم يفنى في البقاء ، ويبقى الحق بالحق ولا فوق الحق إلا الحق ، وهو فوق كل الدرجات بقهر الربوبية وسلطنة الكبرياء ، وذلك قوله : (ذُو الْعَرْشِ) أي : ذو العرش الذي يحيط بجميع الكائنات ، وهو أقل من خردلة في جلال عزة كبريائه ذكر العرش على حد العقول ؛ لأن العقل لا يصل إلا إلى مثله وهناك عالم العقل فتستقر العقول هناك ، وهو متعلق بأفعاله تعالى ، والأفعال قائمة بصفاته ، وصفاته قائمة بذاته ، وذلك سر استوائه على العرش فجواب الاستواء قوله : (ذُو الْعَرْشِ) أي : مقهور لسلطان عزته ، محتاج إلى لباس نور قدرته ، مكون بإيجاده تعالى الله بذاته وصفاته عن أن يشهده الأماكن والجهات ، هو منور بنور تجلي صفاته ، وهو مرآة فعله يظهر منها مقدرات الآيات ، وقضيات العلم والقضاء والقدر ، وهو روح فعلي فوقه روح صفتي ، وفوق تلك الروح روح ذاتي ، وذلك تجلي الصفات ، وتجلي الذات يلقى تلك الأرواح على من يشاء من خلقه ، فروح الأفعال للمؤمنين ، وروح الصفات للمحبين ، وروح الذات للعارفين ، وذلك قوله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) فيقع الأمر على ما ذكرنا ، فأمره فعله ، وقوله وصفاته وذاته ، فظهور نور الذات أمر خاص للأنبياء والمرسلين ، وظهور نور الصفات أمر خاص لأهل المعرفة والتوحيد ، ونور العقل أمر بديهي لأهل محبته والموقنين في رؤية آياته ، فهؤلاء مخصوصون

٢٣٠

بتلك الأرواح من حيث الوحي والرسالة والإلهام والحديث والكلام والكشف والعيان ليخوفوا العباد من المشهد العظيم ، وبروز سطوات عظمة العظيم يوم المشاهدة ويوم المكاشفة ويوم المخاطبة حيث يلقى المحب المحبوب ، والعاشق المعشوق ، والعبد الرب ، والعارف المعروف ، والموحد الموحد ، تعالى بقوله : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) أي : يوم كشف اللقاء.

ثم وصف ذلك اليوم بقوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي : يوم بروزهم في ميادين ملكوته ، وصحارى جبروته ، بارزون على مراكب النور في ميادين السرور ، لو رأيت يا حبيبي هنالك زفرات الوالهين ، وعبرات الشائقين ، وشهقات المشتاقين ، وغلبات المحبين ، وعربدة العاشقين ، وانبساط الصديقين ، وسكر العارفين ، ووله الموحدين ، وذلك عند كشف نقابه وظهور جمال وجهه تعالى ، وهو يعلم أسرار الجميع لا يخفى عليه أحوالهم وأسرارهم ، قال الله سبحانه : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ، محيط بضمائرهم ، ويعلم مراداتهم ، فلما تمكنوا يرفع عن أبصارهم جميع الحجب ، ويريهم سبحات جمال القيومية ، فيفنى فيها الأولون والآخرون ، فلما سكنت الأرواح ، وهدأت الأصوات ، ولا يبقى إلا حي قيوم قديم ، يقول بعزته : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) أي : أين المدعون في المعارف والتوحيد والمبارزة بالعربدة والانبساط في مقام المحبة؟ لمن البقاء السرمدي؟ ولمن الجلال الأزلي؟ ولمن الكبرياء القدمي؟ أين أصحاب الأنائية؟ فأخرس الكل ، وأفنى الكل ، فيجيب نفسه إذ يستحق بجواب خطابه إلا هو ؛ فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) الواحد في وحدانيته ، القهار في فردانيته ، ثبت نسبة الوحدانية إذ الكل مبهوتون في غشاوة التفرقة ، القهار من حيث قهر الجمهور ، ولا يبقى عند سطوات عظمته أحد من خلقه ، فلما أوجدهم من صعقات الفناء ؛ يجازي الكل على قدر مقاماته ، يجازي الزاهدين بالجنة ، ويجازي العابدين بالدرجة ، ويجازي المحبين بالمشاهدة ، ويجازي المشتاقين بالمكاشفة ، ويجازي العارفين بالوصلة ، ويجازي الموحدين بمطالعة سر الأولية والآخرية ، قال الله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي : من هموم فراقه ، ومقاساة بلائه ، ودوام الحزن في عبوديته ، والكآبة في خدمته ، وانتظار الفرج من سجنه ؛ فهذه المقاساة عقوباته وبلاياه التي امتحنهم بها في الدنيا ، فيرفع الله بذلك عنهم أبد الآبدين ، ويفرغ على الجميع من بحار كرمه سيول الرحمة والإنعام ، ولا يبقى ذرة من بلائهم إلا وهو يجازيه بحسن صحبته ، وكشف نظارة وجهه ، تعالى الله عن التشبيه ، وقال الله تعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) سرعة حسابه تعالى أن لو كان مثل ما خلق ألف ألف مرة ، وبكل ذرة منها عالم ، وفيه على قدر كل ذرة خلق ، وهم يعملون على أضعاف ما عملوا ، فيريهم جميع

٢٣١

ذلك في أقل لمحة ، بحيث هم يعرفونها ويرونها ثم يجازيهم بأقل من لمحة ، وهو قادر بذلك ، وهاهنا أن يسأل عنهم أعمالهم ؛ فيغفر لهم ذنوبهم في أقل من لمحة ، وهو غفور شكور رحيم ودود.

قال سهل في قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) : يرفع درجات من يشاء بالمعرفة به.

وقال في قوله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) : أي : ينزل الوحي من السماء بأمره.

وقال ابن عطاء : يرفع درجات من يشاء في الدارين ، فيجعله عزيزا فيها ، والعرش إظهارا لقدرته ، لا مكانا لذاته.

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) على ضروب ، فمن ألقى إليه روح الصفا أنطقه بها وأحياه حياة الأبدي ، والروح روحان ؛ روح بها حياة الخلق ، وأخرى لطيفة بها ضياء الحق.

وقال فارس : زين العرش بأنوار ذاته ؛ فلا يوازيه شيء ، ولا يقابله مثل.

وقال الحسين : العرش غاية ما أشار إليه الخلق.

وقال ابن عطاء في قوله : (يُلْقِي الرُّوحَ) : حياة الخلق على حسب ما ألقى إليهم من الروح ؛ فمنهم من ألقى إليه روح الرسالة ، ومنهم من ألقى إليه روح النبوة ، ومنهم من ألقى إليه روح الصديقية ، ومنهم من ألقى إليه روح الشهادة ، ومنهم من ألقى إليه روح الصلاح ، ومنهم من ألقى إليه روح العبادة والخدمة ، ومنهم من ألقى إليه روح الهداية ، ومنهم من ألقى إليه روح الحياة فقط فهو ميت في الباطن ، وإن كان حيّا في الظاهر.

وقال جعفر : يخص من يشاء من عباده بترويح سره بمعرفته ، وتزيين نفسه بطاعته.

وقال الأستاذ : روح هو روح الإلهام ، وروح هو روح الإعلام ، وروح هو روح الإكرام.

وقال ابن عطاء في قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) : لولا سوء طباع الجهّال ، وقلة معرفتهم لما ذكر الله قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ؛ فإن الملك لم يزل ولا يزال له ، وهو الملك على الحقيقة ، ولكن لما جهلوا حقه ، وحجبوا عن معرفته في الدنيا ، وشاهدوا الملك وحقيقته ألجأهم الاضطرار إلى أن قالوا : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.)

وقال : الواحد الذي بطل به الإعداد ، والقهار الذي قهر الكل على العجز بالإقرار له بالعبودية طوعا وكرها.

قال جعفر : أخرس المكونات ذوات الأرواح عن جواب سؤاله في قوله : (لِمَنِ

٢٣٢

الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ، فلم يجسر أحد على الإجابة ، وما كان بتحقيق أن يجيب سؤاله سواه ، فلما سكنت الألسن عن الجواب أجاب نفسه بما كان يستحق من الجواب ؛ فقال : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.)

وقال ابن عطاء في قوله : (الْيَوْمَ تُجْزى) : من طالع من نفسه أفعاله وأذكاره وطاعته جزي على ذلك ، ولا ظلم عليه فيه ، ومن طالع فضله ومنه أسقط عن درجة الجزاء على مقام الأفضال والرحمة بقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨) [يونس : ٥٨].

وقال أبو بكر بن طاهر : يريك جزاء كسبك ، وما تستحق بذلك ، لترى بعد ذلك محل الفضل والكرم.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) وصف الله خيانة العيون وخفايا الصدور ، وقال : لا يخفى عليّ منها شيء ، وذلك أن العين باب من أبواب القلب ، فإذا رأت العين شيئا يكون حظ القلب منه ، يعلم ذلك نفسه فيطلب الحظ منه ، ومن القلب إلى العين باب يجري عليها حركة هواجس النفس تحثها على النظر إلى شيء فيه لها نصيب ، فإذا تحققت ذلك علمت أن خيانة العين متعلقة بما تخفي الصدور ، وإذا كان العارف عارفا بنفسه ويروضها برياضات طويلة ، ويقدسها بمجاهدات كثيرة ، ويزمها بزمام الخوف ، وآداب الشريعة ، صارت صافية من حظوظها ، فبقيت في سرها جلتها على الشهوات ، ففي كل لحظة يجرى في سرها طلب حظوظها ، ولكنها سترتها على العقل وأخفتها ، عن الروح من خوفهما ، فإذا وجدت الفرصة خرجت إلى روزنة العين ، فتنظر إلى مرادها ، وتسرق حظها من النظر إلى المحارم ، وذلك النظر خفي ، وتلك الشهوة خفية ، وصفهما الله سبحانه في هذه الآية ، واستعاذ منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «أعوذ بك من الشهوة الخفية» (١).

وقال أبو حفص النيسابوري : زنا العارف نظره بالشهوة ، وافهم واسمع حقيقة ذلك أن الروح العاشقة إذا احتجبت عن مشاهدة جمال الأزل تنقبض وتطلب حظها ، ولا تقدر أن تنظر إلى ، الحق فتطلب ذلك من صورة الإنسانية التي فيها آثار الروحانية ، فتنظر من منظره إلى منظر العقل ، ومن منظر العقل إلى منظر القلب ، ومن منظر القلب إلى منظر النفس ، ومن منظر النفس إلى منظر الصورة ، وتنظر من العين إلى جمال المستحسنات ، لينكشف لها ما يستر

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٢٥).

٢٣٣

عنها من شواهد الحق ، فتذهب النفس معه وتسرق تحته حظها من النظر بالشهوة ، فذلك النظر منها غير مرض في الشرع والطريقة.

وفي سر الحقيقة نظر الروح إلى الحق بالوسائط أيضا خيانة ، وخيانته في الصدر ألا يصبر في مقام القبض ليجري عليه أحكام الحقيقة ، ثم ينكشف له عالم البسط ، فنبهنا الله بهذه الآية أنه يعلم بعلمه القديم هذه الخفايا ولا يستحسن.

قال أبو عثمان : خيانة العين هو ألا يغضها عن المحارم ، ويرسلها إلى الهوى والشهوات.

وقال أبو بكر الوراق : يعلم من يمد عينه إلى الشيء معتبرا ، ومن يمدها لإرادة وشهوة.

وقال الأستاذ : خيانة أعين المحبين استحسانهم شيئا ، ولهذا يقال :

بمنظر حسن مذ غبت عن عيني

يا قرة العين سل عيني هل اكتحلت

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ

٢٣٤

بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) سبيل الرشد طريق المعرفة ، ومعرفة الله موافقة الله ، ومتابعة الأنبياء والأولياء ، ولا يحصل الموافقة إلا بترك مراد النفس ، لذلك قال : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ.)

قال محمد بن علي الترمذي : لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السالفة عند العقلاء منهم ، وطالبوها مهانون عند الحكماء الماضية ، وما قام داع في أمة إلا حذّر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها.

ألا ترى إلى فرعون كيف قال : (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) كأنهم قالوا : وما سبيل الرشاد؟ قال : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) أي : لن تصل إلى سبيل الرشاد ، وفي قلبك محبة الدنيا ، وطالبا لها.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ

٢٣٥

الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

قوله تعالى : (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) مرد العارفين إلى الله بالتفاوت ، ومرد المؤمنين إلى الجنة ، ومرد المحبين إلى المشاهدة ، ومرد العارفين إلى الوصلة ، ومرد الكل إلى قضيات الأزلية.

وقال حمدون القصار : لا أعلم في القرآن آية أرجى من قوله : (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) ؛

٢٣٦

فقد حكي من بعض السلف أنه قال : الكريم إذا قدر عفا ، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على حد الإفلاس والفقر ، لا أن يرى لنفسه مقاما في إحدى الدارين ، وهو أن يكون في الدنيا خاشعا لمن يذله ، ولا يلتفت إليه هاربا ممن يكرمه ويبره ، ويكون في الآخرة طالبا للفضل ، مشفقا من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم.

قوله تعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي : أفوض أمري في الدنيا والآخرة إلى الله فهو بصير بعجزي وضعفي عن رد القضاء والقدر ، وكمال التفويض ألا يرى لنفسه ، ولا للخلق جميعا قدرة على النفع والضر ، ويرى الله إيجاد الوجود في جميع الأنفاس بنعت المشاهدة والحال لا بنعت العلم والعقل.

وقال بعضهم : التفويض قبل نزول القضاء ، والتسليم بعد نزول القضاء.

وقال ذو النون حين سئل عنه : متى يكون العبد مفوضا؟ قال : إذا آيس من فعله ونفسه ، والتجأ إلى الله في جميع أحواله ، ولم يكن له علاقة سوى ربه.

قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) نصرة الرسل بالعرفان ، ونصرة المؤمنين بالإيقان ، وأيضا نصرة الرسل بالوحي ، ونصرة المؤمنين بالإلهام ، وأيضا نصرة الرسل برؤية الصفات ، ونصرة المؤمنين برؤية الآيات ، نصرتهم يوم الإشهاد على وفق سرهم في المعرفة ؛ فنصرة الرسل الوصلة ، ونصرة المؤمنين المشاهدة ، نصرهم على كل شيء يكاد يحجبهم عن المشاهدة في الدنيا والآخرة.

وقال جعفر : ينصر رسلنا بالمؤمنين ظاهرا ، وينصر المؤمنين بالرسل باطنا.

وقال سهل : أكرمهم بالمعرفة والعلم ، (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) بالرضا والرؤية.

وقال يحيى بن معاذ : لم يرض بما ضمن لهم من النصرة في الدنيا حتى ضمن لهم النصرة في القيامة ، ومن كان الله ناصره في الدنيا والآخرة ؛ فلا سوء عليه.

قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) ظلمهم وضع المعذرة في غير موضعها ؛ فإن معذرتهم أن يكون في الدنيا لا في الآخرة ، وظلمهم أيضا عدو لهم عن الحق إلى الحق ، يا ليت لو كان لهم عناية الأزلية التي تؤثر في الإحسان جميعا ، ومن لم يكن له سوابق القدم بنعت العناية لم يؤثر فيه الأعمال والأوقات.

قال بعضهم : يؤثر في العباد السوابق على الأوقات ، ولو كان للوقت أثر لنفع الظالمين معذرتهم ، فلما أخبر الله عنهم بقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) علمت أن السوابق هي المؤثرة لا الأوقات.

٢٣٧

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي : فاصبر في بلائنا ؛ فإن النصر مع الصبر ، وإن الظفر مع تحمل البلاء ، وإن وعد كشف الجمال الأزلي من الله لك ولمحبتك حق ، واستغفر لما جرى على قلبك من أحكام البشرية ، وأيضا استغفر لوجودك في وجود الحق ، فإن كون الحادث في كون القدم ذنب في إفراد القدم عن الحدوث ، وأيضا استغفر من وقوفك على مقامك بين يديّ ، فإن الوقوف في ميادين الآزال والآباد ذنب لسلّاك المحبة ، ونزهني وقت إشراق أنوار شمس وجودي لك من أن تدركني بالحقيقة ، وحمدني ومجدني حين تغيب عنك ، وبقيت في الصحو من السكر.

سئل بعضهم : الصبر على العافية أشد أم على البلاء؟ فقال : طلب السلامة في الأمن أشد من طلب السلامة في الخوف.

قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي : ادعوني في زمان الدعاء الذي جعلته خاصا لإجابة الدعوة ، فادعوني في تلك الأوقات ، (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ؛ فإن وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك ، ومن لم يعرف أوقات الدعاء فدعاؤه ترك أدب ؛ فإن الدعاء في وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات ، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يسأل عنه ، وإذا كان مستبشرا فيكون زمانه زمان العطاء والفضل ، ومن عصى السلطان ، ويسأل منه شيئا فيضرب عنقه ، ومن يطع السلطان ثم يسأل ؛ فإنه أجدر أن يعطيه مأموله ، وأيضا (ادْعُونِي) في وقت غليان قلوبكم بالشوق إلى لقائي ، (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) بكشف جمالي ، وأعطيكم مأمولكم لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوا الله على رقة قلوبكم.

وأيضا ادعوني بلا سؤال (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) بلا محال ، فإنك إذا شوقت إلى جمالي تدعوني لنفسي ، فوجب من حيث الكرم أن أجيب لك بنعت مرادك ، فإنك إذا سألت شيئا لم تدعني بل دعوت مرادك.

قال بعضهم : (ادْعُونِي) بلا غفلة ، (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) بلا مهلة.

قال الوراق : ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء حيث لا يكون لكم مرجع إلى سواي (أَسْتَجِبْ لَكُمْ.)

وقال محمد بن علي : من دعا الله ، ولم يعمر قبل ذلك سبيل الدعاء بالتوبة والإنابة وأكل الحلال واتباع السنن ومراعاة السر كان دعاؤه مردودا ، وأخشى أن يكون جوابه الطرد واللعن.

٢٣٨

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : لتسكنوا في حضوركم بما تجدون من روح الملكوت ، وتستنشقون نفحات الجبروت ، وفي النهار تشاهدون أنوار صفاتي في آياتي.

قال بعضهم : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) إلى روح المناجاة ، (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) لتبصروا فيه بوادي القدرة.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي : (قَراراً) لمراقبتكم ، وطلب مشاهدتي وخدمتي ، (وَالسَّماءَ) لنظركم إلى ديوان ملكوتي ، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي وخلقي ، وإيجادكم بنفسي ، ونفخت من روحي فيكم الذي حسن الهياكل من حسن الهياكل من حسنه ، ومن عكس جماله ؛ فإنه مرآة نوري أتجلى منه للأشباح أرزاقه ذكره ، وصفاء كشوف أنواره للأرواح والعقول ، فقوت النفوس من أفعاله ، وقوت القلوب من صفاته ، وقوت الأرواح من ذاته ، وهو أحسن الأرزاق ، إذ قامت به حقائق المحبة ولطائف المعرفة ، ودقائق التوحيد.

ألا ترى إلى رمز الحق فيه بقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ثم نزّه نفسه عن الأشكال والأبعاض والحلول في الأماكن بقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) من بركته وجود العالمين ، ومن تربيته تكونت الخلائق أجمعون.

قال أبو سليمان : القرار لمن استقر على طلب الموافقة ، واجتنب التخطي إلى المخالفة.

قال بعضهم : جعل الأرض قرارا لأوليائه ، والسماء بناء لملائكته.

ثم زاد في وصف عزته وجلاله ، وحياته الأزلية ، وبقائه الأبدي بقوله : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيّن أن الحياة الحقيقية القدمية له لا لغيره ؛ إذ حييت بحياته الأرواح والأشباح ، وبه قامت الكائنات والحوادثات ، لا بذواتها تجلى من حياته للعدم ، فأوجد الكل حيّا بحياته.

ثم نفى عن الكل الألوهية ، ونفى الحياة الأزلية عن الكل في إفراد قدمه عن الكون بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.)

ثم أمر العباد بالعبودية الخالصة له ، والتضرع إليه بقوله : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : مخلصين عن النظر إلى الأكوان في مشاهدة الرحمن.

ثم حمد نفسه ألا يعرفه أحد سواه بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٥) بألا

٢٣٩

يعرفني غيري.

قال الواسطي : هو الذي أحيا القلوب بفوائد أنواره ، وسواطع عزته عن هواجس الهياكل ، وظلمات الأجسام.

وقال الحسين : هو الذي أحيا العالم بنظره ؛ فمن لم يكن به وبنظره حبّا ؛ فهو ميت ، وإن نطق أو تحرك.

وقال الجنيد : الحي على الحقيقة من به حياة كل حي.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا

٢٤٠