تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

وقال عبد العزيز المكي في قوله : (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) : لم يعلم المسكين بأي سهم رمى ، وبأي سيف قتل ، وبأي رمح طعن ، وبأي نار أحرق ، وفي أي جبّ ألقى ، ولو علم ذلك لما قال : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، بل مات ترحا وحزنا ، وتفتت كآبة وغمّا ، ولكنه ستر عليه ما عومل به حتى لم يجد من ذلك ألما وما أحس منه وجعا ، فلم يبال بما قيل له حتى قال لقلة مبالاته : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٨١) ، فاغترّ المسكين بالمدة الطويلة ، ولم يعلم أن ما هو آت قريب ، ولا يزداد بطول المهلة إلا الذلة والتخيب ، وما وقع ههنا نكتة ؛ إنه كان في الأزل ذائقا طعم بعض الوصال في عالم اللطفيات ، ولم يكن مع الخبر من عالم القهريات شيئا ، فلما وصل إليه بطش قهر الجبروت استنظر حتى يخوض في بحار قهره ، كما غاص في بحار لطفه ؛ لكي لا يدركه في سعة رحمته ؛ ليستوفى سريات القهريات كاستيفائه شربات اللطفيات ، حتى يكون من كلا الجانبين على حظّ وافر من علومه وربوبيته ، وغلط المعلون ؛ لو وافق الأمر لوجد معاني الصفات والذات والقهريات واللطفيات على صورة الأنس والراحة كالأنبياء والأولياء والملائكة المقربين.

سورة الزمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

٢٠١

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي : هذا تنزيل الكتاب ، وهو القرآن ، وهو وصفه القديم ، بدا منه بنعت التجلي ، وأنزل من عنده للأمر ولأحكام ظهوره بنعت الصفة للخصوص وبنعت النزول للعموم ، هو العزيز من حيث لا تفارق صفته عن ذاته ، وهو الحكيم من حيث منع عباده التمتع بكشفه وإنزاله رحمة للعموم والخصوص.

قال الأستاذ : كتاب عزيز نزل من ربّ عزيز على عبد عزيز بلسان ملك عزيز في شأن أمة ، عزيز بأمر عزيز ورد الرسول عن الحبيب الأول بعد التلاقي بعد طول يزيل نزهة قلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها في كتب الأحباب عند قراءة فصولها والعجب منها ، كيف لا ترهق سرورا بوصلها وارتياحا بحصولها!

قوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) : أمر حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعبده بنعت ألا يرى نفسه في عبوديته ولا الكون وأهله ، ولا يتجاوز عن حد العبودية في مشاهدة الربوبية ، فإذا سقط من العبد حظوظه من العرش إلى الثرى فقد سلك مسلك الدين ، وهو طريق العبودية الخالصة عن رؤية الحدثان بنعت شهود الروح مشاهدة الرحمن ، وذلك هو الدين الذي اختاره الحق لنفسه ؛ حيث خلص عن غيره بقوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ، والدين الخالص وجدان نور القدم بعد تلاشي الحدث في بوادي سنا العظمة والوحدانية ، كأنه تعالى دعا عباده بنعت التنبيه إلى خلوص الأسرار عن الأغيار في إقبالهم إليه.

قال الواسطي : ذكر وعيده على اللطافات ، فقال : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ، وهو الذي يخلص فيه صاحبه من الشرك والبدعة والرياء والعجب ورؤية النفس.

وقال سهل : أخبر الله تعالى أن الذي له من الدين هو الذي يخلص من الرياء والشك والشبهات (١).

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) : نكتة الآية في الحقيقة بعد رسوم

__________________

(١) قال الأستاذ : الدين الخالص ما تكون جملته لله ؛ فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد ، اللهم أن يكون بأمره ؛ إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به ، ولولا هذا لما صحّ أن يكون في العالم مخلص. تفسير القشيري (٧ / ١٢).

٢٠٢

العلم أن العبد العارف إذا تحقق في العبودية ووصل إلى رؤية أنوار الربوبية يصل إلى نور الانبساط وذوق الوجد والسكر في رؤية الجمال ، فيطيب وقته ، ويصير مملوءا من نور الحق ، فلا يرى إلا الحق بالحق ، وينسى الحق دون الحق ، فيدّعي هناك الأنائية ، فهدده الحق من ذلك ، وقال : إن تخرجوا من عندي بدعوى الأنانية تكونوا محجوبين بالحال عن المحول ، وهو منزّه عن أن يحول عليه حال مقدس عن المواصلة والمفارقة ، ولا يرضى ، ولا يستحسن لعبده الاحتجاب به عنه ، لكن مكر به بمشيئته القديمة وإرادته السابقة ؛ لأنهما سبقتا على الأمر ، والأمر يتغير ، والرضا لا يتبدل ، وفي قوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) بيان أن الكفر أن نسيان وجوده في غلبة الوجد وذكر الواجد نفسه ، ولا يرضى بذلك ، بل يرضى أن يفنى نفس الواجد فيه تعالى ، وهو باق له لا هو ، فإذا فني عنه شكر الله بفنائه في بقائه ، وذلك قوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وفي الآية من الشطح أن الله سبحانه أعدم الكفر ، وبيّن أن ليس الكفر لأحد من العرش إلى الثرى ، وكيف يكون الكفر! ولا يرضى الله الكفر لأحد ، فخرج الكفر من البين بذلك ؛ لأن الرضا نعته الأزلية ، فإذا بقي الكفر في القدم لا يكون الكفر إلى الأبد ومنبع الرضا والسخط والإرادة والمشيئة ذاته القديم ، وهذه الصفات والذات واحدة من جميع الوجوه ، وبيان ذلك أن حقيقة الكفر في كونه أن يكون العبد محيطا بجميع ذاته وصفاته ، ثم ينكره بحيث إنكاره يقارن إحاطته وكذلك الإيمان ، وذلك مستحيل ، فإذا لا يكون الكفر الحقيقي ولا الإسلام الحقيقي.

قال القاسم : لا يرضى لهم الكفر ، ولكن يقدر عليهم ، وليس الرضا من المشيئة والإرادة والقضاء في شيء.

وقال سهل : أول الشكر الطاعة ، وآخره رؤية المنة.

قال عبد العزيز المكي : الكفران للنعمة هو أن يظن العبد أنه عرف وأدى شيئا من شكر النعمة.

وقال ابن عطاء : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي : لا حاجة به إليكم ، ولكن من كفر وأعرض عنه ممن خلقه لنفسه ولجواره لا يرضى له ذلك حتى يجذبه إليه بتوفيقه ، ويربيه بفضله ويرضاه.

وقال بعضهم في قوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) : إن وفقتم لشكر نعمتي أوجبت لكم به رضاي.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً

٢٠٣

إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) : وصف الله أهل الضعف من اليقين إذا مسه ألم امتحانه دعاه بغير معروفه ، وإذا وصل إليه نعمته احتجب بالنعمة من المنعم ، فبقي جاهلا من كلا الطرفين ، لا يكون صابرا في البلاء ولا شاكرا في النعماء ، وذلك من جهله بربه ، ولو أدركه بنعت المعرفة وحلاوة المحبة لبذل نفسه له حتى يفعل به ما يشاء.

قال الواسطي : الخلق مجبور تحت قسمته ، مقهور في تحت خلقته وتقديره ، ألا ترى إذا ضاقت القلوب واشتدت الأمور كيف تفرغ بالإخلاص إلى الملك الغفور!

وقال الحسين : من نسى الحق عند العوافي لم يجب الله دعاءه عند المحن والاضطرار ، لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن عباس : «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» (١).

قال النهرجوري : لا يكون نعمة من تحمل صاحبها على نسيان المنعم نعمة ، بل هو إلى النقم أقرب.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) : وصف الله سبحانه أحوال أهل الوجود والكشوف والمستأنسين به الذين قنتوا في أجواف الليالي قائمين على أبواب الربوبية بنعت الفناء والخضوع حين عاينوا مشاهدة جلاله وجماله من وراء ستور الغيب وحجب الملكوت ، فساعة دهشوا ، وساعة ولهوا ، وساعة بكوا عليه وبه ، وساعة ضحكوا بما أولاهم الحق من نيل أنوار مشاهدته وفيض حلاوة وصلته ولذائذ خطابه ومناجاته وكشفه أسراره عندهم ، فصرعوا ، وبكوا ، وزفروا ، وصاحوا ، إذا قاموا ، قاموا بشرط رؤية جمال بقاء الحق ، وإذا سجدوا سجدوا على شرط رؤية جلال قدمه ، وعلموا من لطائف خطابه مكنون أسرار غيبه من العلوم الغريبة والأنباء العجيبة ؛ لذلك وصفهم بالعلم الإلهي الذي استفادوا من قربه ووصاله وكشف جماله ، بقوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، كيف يستوي الشاهد والغائب ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟!

قال ابن عطاء : الغائب الذي يجتهد في العبادة ، ولا يرى ذلك من نفسه ، ويرى فضل الله عليه في ذلك ، فإذا رجع إلى نفسه في شيء من أفعاله فليس بغائب.

__________________

(١) رواه أحمد (١ / ٣٠٧) ، والطبراني في الكبير (١١ / ١٢٣).

٢٠٤

وقال سهل : العلم الاقتداء واتباع الكتاب والسنة.

وقال الجنيد : العلم أن تعرف قدر ربك ولا تعدو قدرك.

وقال ابن عطاء : العلم أربعة : علم المعرفة ، وعلم العبادة ، وعلم العبودية ، وعلم الخدمة.

وقال ذو النون : العلم علمان : مطلوب ، وموجود.

وقال أبو يزيد : العلم علمان : علم بيان ، وعلم برهان.

وقال رويم : العلم مطبوع ومصنوع.

وقال : المقامات كلها علم ، والعلم حجاب.

وقال الشبلي : العلم خبر ، والخبر جحود ، وحقيقة العلم عندي بعد قول المشايخ رحمة الله عليهم الاتصاف بصفة الرحمن من حيث علمه حتى يعرف بالحق ما في الحق.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) : وصف الله القوم بأربع خلال : بالإيمان ، والتقوى ، والإحسان ، والصبر ، فأما إيمانهم فهو المعرفة بذاته وصفاته من غير استدلال بالحدثان ، بل عرفوا الله بالله ، وتقواهم تجريدهم عن الكون وأنفسهم ؛ خوفا من الاحتجاب بها عنه ، وإحسانهم إدراكهم رؤيته بقلوبهم وأرواحهم بنعت كشف جماله ، وهذا الإحسان بمعنى العلم ، ويكون بعد أن خلعوا شوائب الحدوثية عن طريق الربوبية ، وصبرهم استقامتهم بمواظبة الأحوال وكتمان كشف الكلي ، وحقيقة الصبر ألا يدعي الربوبية بعد الاتصاف بها ، ومعنى قوله تعالى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) : أرض القلوب ووسعها بوسع الحق ، فإذا كان العارف بهذه الأوصاف فله أجران : أجر في الدنيا ، وأجر في الآخرة ، أجر الدنيا المواجيد البديهية والواردات الغريبة والفهوم بغرائب الخطاب والوقوف على مشاهدة الحق بعد كشفها ، وأجر الآخرة غوصه في بحار الآزال والآباد والفناء في الذات والبقاء في الصفات.

قال حارث المحاسبي : الصبر التهدف بسهام البلاء.

وقال طاهر المقدسي : الصبر على وجوه : صبر منه ، وصبر له ، وصبر عليه ، وصبر فيه ، وأهونه الصبر على أوامره ، وهو الذي بيّن الله ثوابه : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.)

٢٠٥

وقال يوسف بن الحسين : ليس بصابر من يتجرع المصيبة ويبدي فيها الكراهية ، بل الصابر من يتلذذ بصبره حتى يبلغ به إلى مقام الرضا.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : بيّن الله سبحانه مراتب حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منازل التوحيد والعبودية هاهنا ، فإذا لم يكن غيره في محل موازاة الأزل توجه إليه خطاب الحقيقة في أمر العبودية وعرفان الربوبية ، فإخلاصه في العبودية خروجه من رسم الحدثان في مشاهدة الرحمن ، وبيّن سبحانه في أمره إياه بقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي : حين تظهر طوارق أنوار أزليته وسنا جلال أحديته هو أول من يقبل إليها بنعت قبول حقائقها ومعرفة إجلالها وجلالها بنعت الانقياد في معارك عساكر سلطانها ، والفناء عن أوصاف الحدوثية في ملكوتها وجبروتها هذا شوق الإخلاص والإسلام من يشتري حلاوة وجه المحبوب ببذل وجوده من العرش إلى الثرى ، فالكل مخاطبون بخطابه ، فمن يرغب أن يفنى في هذه المقامات السنية حتى يبقى ببقاء الحق.

قال الجنيد : الإخلاص أصل كل عمل ، وهو مربوط بأوائل الأعمال ، ومنوط بأواخر الأعمال ، ومضمر في كل الأقوال ، وهو إفراد الله بالعمل.

وقال أيضا : أمر جميع الخلق بالعبادة والتعبد ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإخلاص في العبادة ، علم الحق تعالى أن أحدا لا يطيق تمام مقام الإخلاص سواه ، فخاطبه به.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي

٢٠٦

ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) : أصل كل طاغوت النظر إلى النفس ، وإلى ما سوى الله من العرش إلى الثرى في طريق إفراد القدم عن الحدوث على وجه الإقبال إلى شيء دونه ، فالذين جانبوا الكل وأنابوا إلى أصل كل أصل بنعت الاستعانة به فلهم النظر إلى جماله ، ولهم النظارة والبشارة في وجهه ، والفرح بمشاهدة جماله ، فهم مربوطون في الدنيا عند كل نفس ببشارة منه ، بأنهم يرونه على وفق مرادهم ومحبتهم ، ثم زاد في وصفهم بقوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) ، أمر حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبشرهم بالرضوان الأكبر ، ثم بيّن استحقاق البشارة لهم بأي وجه يلحق بهم بقوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) (١) : يستمعون الحق من الحق من حيث الحق ، (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) : يتبعون كل الخطاب بالإيمان وعلى ما يوافق مراد الحق منهم بالعمل ، فإذا الكل حسن مبارك ، فمن حيث رسوم الأمر أحسن ما يطيقون حمله من وارد الخطاب بنعت متابعته ، وفي الحقيقة الأحسن ما لم يوافق طباع الحدثان ، وذلك مثل آي المتشابه في عرفان الذات والصفات ؛ فالأوامر والنواهي أحسن لهم ، والأنباء من علوم الذات والصفات أحسن للحق ، ولكن من حيث إن القول صفته ؛ فالكل حسن من حيث معاني الصفة ، وأيضا يتبعون أحسنه من الأعمال السنية والأخلاق الكريمة ، وبيّن أن هذه المتابعة منهم من هدايته لهم وتعريف نفسه إياهم ، وأنه تعالى جعلهم الألباء المستعدين بقبول قوله وإدراك خطابه بالفهوم النورية والعقول الصافية والذكاء العجيب بقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ.)

قال سهل في قوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) : الدنيا ، وأصلها الجهل ، وفرعها المآكل والمشارب ، زينتها التفاخر ، وثمرتها المعاصي ، وميراثها القسوة والعقوبة.

وقال الأستاذ : طاغوت كل أحد نفسه ، وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه وعانق رضا مولاه.

قال أبو بكر بن طاهر في قوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) : بشّر الله تعالى من فتح سمعه لاستماع الأحسن من سماعه لا من سمعه على العادة والطبع ؛ فإن المتحقق في السماع من يعرف حاله في وقت السماع ، فيتبع الأحسن مما يسمع ، ويدعّي ما فيه شبهة واشتباه ، وصفهم الله تعالى

__________________

(١) ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر ، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه ، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة ، البحر المديد (٣ / ٣١٠).

٢٠٧

بالهداية إليه والعلم به العقل فيما يسمع ، بيّن الشيخ أبو بكر بن طاهر ـ قدس الله روحه ـ أن المراد به سماع القول ، وأن العارف العاشق بجمال الحق يلقى سمع الخاص في مقام المراقبة على بساط القرب ، والحق سبحانه يتكلم بكل لسان من العرش إلى الثرى ، فلحظة نطق على ألسنة الطيور في ألحانها ، وساعة نطق في أصوات الخلائق المختلفة ، وعلى ألسنة السماوات والأرضين والجبال وحركات الرياح والأشجار والمياه ، وعلى ألسنة الملائكة والأرواح والنفوس ، فبعض إلهام ، وبعض إلمام ، وبعض وحي ، وبعض كلام ، فالأحسن منها أن يتكلم معهم بكلامه العزيز الخاص الصفاتي الذاتي الخارج من الوسائط والوسائل ، فذلك العارف العاشق يسمع الكل من روحه ونفسه وعقله وقلبه وعدوه والملك والأولياء والأنبياء وحركات الأكوان وأهلها ، فيتبع جميع الخطابات من حيث إدراك حقائقها ما يوافق حاله وعلمه وعمله رسما ، ويتبع الكلام الأزلي الذي هو أحسن الخطاب بالفهم العجيب والعلم الغريب والإدراك الصافي وانفراد الحق من المخلوق بالمحبة والشوق والعشق والمعرفة والتوحيد والإخلاص والعبودية والربوبية والحرية ، فهذا فضل ورد بالبديهة من حيث ظهور الأنباء الغيبية والروح القدسية والإلهامات الربانية.

قيل : هذا فضيلة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غيره أن الأحسن ما يأتي به ، وإن كان الكل حسنا ، ولما وقعت له صحبة التمكين ومقارنة الاستقرار قبل خلق الكون ، ظهرت عليه الأنوار في الأحوال ، وكان معه أحسن الخطاب ، وله السبق في جميع المقامات ، ألا تراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» (١) : يعني الآخرون وجودا السابقون في الخطاب الأول في الفضل في محل القدس.

وقال الأستاذ : اللام في قوله القول للعموم يقتضي حسن القول ، الاستماع يكون لكل شيء ، والاتباع يكون للأحسن.

وقيل : للعبد دواع من باطنه هواجس النفس ووسواس الشيطان وخواطر الملك والخطاب الحق يلقى في الروع ، فوسواس الشيطان يدعوه إلى المعاصي ، وهواجس النفس تدعوه إلى ثبوت الأشياء منه مما له فيه نصيب ، وخواطر الملك تدعو إلى الطاعات ، وخطاب الحق في حقائق التوحيد.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢))

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٢٩٩) ، ومسلم (٢ / ٥٨٥).

٢٠٨

قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) : بيّن الله سبحانه تفضيل شرائف الصديقين من أهل مشاهدته المنورين بأنوار قدسه ، أوجد أرواحهم في فضاء ديموميته وميادين أزليته ، فأبدى لها نور جماله وجلاله ، فهم منورون بنوره ؛ حيث ألبسهم قموص سنا عظمته وبهاء كبريائه ، فهذا معنى شرح صدورهم ، وبعد نشر نور تجليه في أرواحهم وعقولهم حتى وقع فيها نور العبودية وما بدا من نور اليقين والعرفان والإيمان والإسلام ، فأول شرح صدورهم بدو أنوار صفاته فيها ، وآخر انفساخها ظهور سناء ذاته فيها ، فهم على نور منه ، وبذلك النور يلبسون ؛ فيرون الحق بنور الحق ، ويرون ما دون الحق من العرش إلى الثرى بنوره ، ثم وبخ أضدادهم بقساوة القلوب وتباعد النيات ، واحتجابهم عن نور ذكره ، بعد أن قهرهم بخذلانه ، وحرمهم من نور إسلامه وإيمانه ، وهددهم بعقوبته بقوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) : قساوة قلوبهم من اتباعهم نفوسهم وإعراضهم عن قبول طاعة مولاهم ، ثم بين أنهم في ضلال عن الوصال بقوله : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.)

قال بعضهم : شرح صدره لمعرفته فهو على نور من ربه فيشهد بذلك النور الغيوب ويكون حاضرا بروحه وسره مراقبا ببركات ذلك الشرح.

قال بعضهم : المعرفة تتولد من الشرح والتنوير ، قال الله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.)

وقال جعفر الصادق : شرح صدور أوليائه ؛ لأنها موضع خزانته ، ومعدن إشارته ، وبيت أمانته ، ومفتاح البيت عنده ، وحارسه الله ، وهو في كنفه ، لا يطالعه أحد سواه ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم» (١).

وقال الشبلي : أنارت بالشرح قلوبهم ، وأنطقت بالحكمة ألسنتهم ، وأكملوا بكمال الآداب ورياضة النفوس ، فوصلوا بالولاية ، وسقوا بكأس الصدق.

وقال النوري : استسلم سره بنور القربة ، وذلك الشرح.

وقال بعضهم : فهو على نور من ربه ، على يقين من مشاهدة ربه بالغيبوبة عن الملك والملكوت ، فلم يبق عليه مقام إلا سلكه ، ولا حال إلا استوفاه.

وقال الواسطي : منحة عظيمة ، لا يحتملها أحد إلا المؤيدون بالعناية والرعاية ، فإن العناية تصون الجوارح والأشباح ، والرعاية تصون الحقائق والأرواح.

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ١٩٨٧) ، وأحمد (٢ / ٢٨٤).

٢٠٩

وقال بعضهم : عرف إليهم حتى عرفوه ، وبصّرهم حتى أبصروه ، وذلك حين شرح قلوبهم برؤية الصنع ، وأعمى أبصارهم عن النظر إلى سواه ، فبشرح الصدر عرفوه ، وبالعمى عن غيره أبصروه.

وقال يحيى بن معاذ : قساوة القلب من اتباع الهوى.

وقال : عقوبة القلب الرين والقسوة.

وقال الحسين : قساوة القلب بالنعم أشد من قسوته بالنسيان والشدة ؛ فإن بالنعمة يسكر ، وبالشدة يذكر ، وأنشد في معناه :

قد كنت في نعمة الهوى بطرا

فأدركتني عقوبة البطر

وقال : من همّ بشيء مما أباحه العلم تلذذا عوقب بتضييع العمر وقسوة القلب وتعب الهم في الدنيا.

وقال الأستاذ : النوري الذي من قبله سبحانه نوّر اللوائح بنجوم العلم ، ثم نوّر اللوامع ببيان الفهم ، ثم نوّر المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نوّر المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نوّر المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد ، وعند ذلك فلا وجد ولا قصد ولا قرب ولا بعد ، كلا بل هو الله الواحد القهار.

وقال في قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) : الصلبة قلوبهم التي لم يفتر عنها خواطر التعريف ، فبقيت على مكاره الجحد ، أولئك في الضلالة الباقية والجهالة الدائمة ، نعم ما قال المشايخ في تفسير هذه الآية ، ولكن حقيقة تفسيرها ما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن تفسير الشرح المذكور في القرآن فقال : «ذلك نور يقذف في القلب. فقيل : هل لذلك أمارة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله» (١) ، قوله عليه‌السلام بيّن هذه الأقوال في الآية كالشمس بين الكواكب ، بل نوره بين أنوار الأنبياء والأولياء والملائكة المقربين كنور الشمس بين أنوار الكواكب ، إذا برز نور شمسه أدرج ضوء نورها ضوء الكواكب.

كما قيل : فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار ملك الكواكب.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (٩ / ٢٤٦) ، والطبري في تفسيره (٨ / ٢٧).

٢١٠

لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧))

قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) : وصف الله سبحانه كلامه القديم حديثه الباقي الذي أحسن من كل حسن ، إذ جميع الحسن منه بدا ، وحسنه بأن يكون بحسن الأشياء ، وأنه صفته الأزلية التي خارجة بنعوتها عن رسوم الأصوات وعلل الحروف ومصنوعات الكون ، لا يشابهها كلام الخلق من فعله صدر ، وكلامه تعالى من ذاته صدر ، فكيف يكون مشابها لكلام الحدثان ، ومعنى قوله : (مُتَشابِهاً) أنه خبّر عن كلية الذات والصفات التي منبعها أصل القدم ، وصفاته كذاته وذاته كصفاته ، وكل صفة كصفة أخرى من حيث التنزية والقدس والتقديس ، والكلام بنفسه متشابه المعاني ، وكل معنى يتكرر في موضع غير موضعه بلغة أخرى ، ووضعها مذكورة بحروفها ، والمتشابه في القرآن خاصّ ، مذكور مبين لأهل الخصوص من أهل شهود وصفات الخاصة الأزلية الذين يشهدون الأرواح والأشباح في المراقد العبودية ، يسمعون من الحق بأسماع القلوب ، فإذا سمعوا خطاب الحق من الحق يستولى على أسرارهم أنوار التجلي ، ثم تستولي من الأسرار على الأرواح ، ثم تستولي من الأرواح على العقول ، ثم من العقول على القلوب ، ثم من القلوب على الصدور ، ثم من الصدور على الجلود ، فتقشعر منها جلودهم من حيث وقوف أسرارهم على مشاهدة العظمة بنعت الخشية والإجلال والعلم به ، وإذا وصل نور الأنس بنور العظمة ونور الجمال بنور الجلال سهل على وجودهم سطوات الكبرياء ، فتلين جلودهم وقلوبهم بنور البسط والأنس ، فزاد شوقهم إلى سماع الكلام من العلّام ؛ لهيمانهم إلى رؤية جماله ، ذلك قوله : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، وخطابه سبحانه سراج يستضيء بنوره كل راشد في المعرفة ، مرشد في التوحيد ، راسخ في المحبة ، قال سبحانه : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : من الأولياء والأصفياء والمقربين والمؤمنين الصادقين.

قيل في قوله : (تَقْشَعِرُّ) و (تَلِينُ) أي : تقشعرّ بالخوف ، وتلين بالرجاء.

وقيل : بالقبض والبسط.

وقيل : بالهيبة والأنس.

وقيل : بالتجلي والاستتار.

٢١١

وقال الأستاذ : بالوعد والوعيد.

وقال النهرجوري : وصف الله بهذه الآية سماع المريدين وسماع العارفين.

وقال : سماع المريدين بإظهار الحال عليهم ، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) : قرآنا قديما ظهر من الحق على لسان حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يتغير بتغير الأزمان ، ولا ترهقه عبارات أهل الحدثان ، يعوجه الحروف ، ولا يحيط به الظروف ، بل صفاته قائمة بالذات ، تنتشر أنوار تجليه في ساحات الصدور ، وعرصات القلوب ، وصمائم الأرواح ، وأماكن الأسرار ، وأصداف الألسنة ، وأوراق المصاحف ، يخرج بوصف الحقيقة ، فيلين منه الحق لأهل الحق.

سئل مالك بن أنس عن هذه الآية قال : غير مخلوق.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩))

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) : شبّه الله المتشتتين همومهم المائلين إلى غير الله بالرجل الذي يملكه الشركاء المتشاكسون المتخالفون ، وشبّه المتفردين بنعت الإخلاص بالله ولله وفي الله بالرجل السالم لرجل الخالص له لا يملكه غيره بل عبد قنّ له لا يدخل في صحة عبوديته خلل لأجل مدخل غيره ، فالأول المحتجب بنفسه عن الحق ، والثاني الشاهد بالحق على الحق ، لا يحويه غبار العلل ، ولا يدخل في قلبه قتام الخلل ؛ إذ هو محفوظ برعايته القديمة وحراسته الأبدية ، مثل هذا العبد لا يعرفه إلا عبد مثله ، ولذلك حمد الله نفسه حيث يجهله أكثر الخلق بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩) ، وحقيقة الحمد ههنا ظهور تقديس نفسه منه بألا يعرف حقيقة جلاله أحد غيره ، وهو منزه عن أن يكون ممدوحا لألسنة الحدثان ، بل حمد نفسه لعلمه بعجز الحامدين عن حمده.

قال ابن عطاء : ما لهم في حمد الله من الذخر والفخر.

قال جعفر : لا يعلمون أن أحدا من عباده لم يبلغ الواجب في حمده ، وما يستحق من الحمد على عباده بنعمته ، وأن أحدا لم يحمده حق حمده إلا حمده لنفسه.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً

٢١٢

لِلْكافِرِينَ (٣٢))

قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) : فرّق الله بين موت حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين موت غير في مضمون الخطاب ومظنة الإشارة أي : إنك ميت عند صعقات سطوات تجلي أزلياتي ؛ حيث تفنى ضباب عصمتي عند ظهور أنوار كبريائي ؛ حتى لا تحاسب عن وجودك في ظهور وجودي لك ، فإن الحادث إذا قورن بالقديم زال الحادث وبقي القديم ، (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) بنزع الأرواح منهم ، وأيضا : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) منسلخ من العلل الإنسانية حي بالأنوار الربانية ، (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) عن رؤية شرفك وعن إدراك مقاماتك ، إنك ميت عن غيرنا حي بنا ، وإنهم ميتون عن الدنيا ، فإذا كان يوم المعاد تظهر مقامات كل أحد ، فيخص بعضهم بالانبساط ، وبعضهم من الكمود على ما فات عنه من كرائم مواهبه السنية ولطائفه الكريمة.

قال ابن عطاء : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) أي : غافل عما هم من الاشتغال بالدنيا ، (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) عما كوشفت به من حقائق التقريب والقرب.

وقال بعضهم : إنك ميت عن بشريتك باطلاع بركات الحق عليك.

وقيل : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) عن رؤية الأكوان بما فيها بمشاهدة المكون (١).

وقال أبو العباس بن عطاء : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) عن شواهد ما استتر ، (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) عن شواهد ما أظهر.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) : وصف الله كل صادق يعرف مقامه وحاله بين يدي الله ، فصدق بما أعطاه الله من الولاية والكرامات والمشاهدات والفراسات والخطابات والمكاشفات ، ولا يجري على قلبه شكّ ولا ريب مما نال من الحق ، ولا يتردد في حاله ، بل متمكن مستقيم ، لا يضطرب عند طوارق الامتحان ، وأيضا وصف الحبيب صلوات الله وسلامه عليه والصديق الذي هو أول من قبل منه الرسالة رضي الله عنه.

__________________

(١) إشارة إلى نعيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعي المسلمين إليهم ليفرغوا بأجمعهم عن مأتمهم ولا تعزية في العادة بعد ثلاث ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه ، فإذا فرغ قلبه عن حديث نفسه وعن الكونين بالكلية ، فحينئذ يجد الخير من ربه وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم. حقي (١٢ / ٢٧٩).

٢١٣

قال ابن عطاء : الذي جاء بالصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفاض من بركات أنوار صدقة على أبي بكر رضي الله عنه ، فسمّي صديقا ، وكذلك بركات الأنبياء والأولياء.

قال الطمستاني : كل من استعمل الصدق بينه وبين الله شغله صدقه مع الله عن الفراغ إلى خلق الله.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١))

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) : فيه من العتاب نبذة من الحق ، عاتب عباده بلفظ الاستفهام أي : هل يجري على قلوبهم إن تركهم عن رعايتي وحفظي؟ كلا بل أنا أراعيهم وأحفظهم عن منازل الخطرة ، يضربهم جريان امتحاني ؛ فإني أحببتهم في أزل أزلي ، فبقيت محبتي لهم إلى أبد الأبد ، لا تسقطهم عن عيني ، ومن يجترئ أن يقوم لمخاصمة من في نظري! وهذا مذهب كل متوكّل راض عن ربه من حيث ما رأى من محافظته وخفايا ألطافه ما يطمئن به صدره عند كل مهالك.

قال أبو بكر بن طاهر : من لم يكف بربه بعد قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) فهو في درجة الهالكين.

قال ابن عطاء : خلع حبل العبودية من عنقه من نظر بعد هذه الآية إلى أحد من الخلق ، أو رجاهم ، أو خافهم ، أو طمع فيهم.

وقال الأستاذ : (أَلَيْسَ) استفهام ، والمراد منه التقرير ، و (اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) اليوم في عرفانه لتصحيح إيمانه ومنع الشرك عنه ، وغدا في إحسانه بإدخاله جنته وتأخير العذاب عنه وما بينهما ، فكفايته تامة ولأمته عامة.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ

٢١٤

اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣))

قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) : خلق الله الأرواح قبل الكون بين النور والسرور ، وتجلى لها من حسنه وجماله ، فارتاحت بروح ملكوته ، واستبشرت بجمال جبروته ، فلما أدخلها في الأجساد انقبضت من الاحتجاب بها عن تلك النسائم ، فتشامت ، واستنشقت نفحات معادنها في الأشباح ، فيتلطف عليها الحق سبحانه ، فيخرجها كل ليلة من الأشباح ، ويطيرها في بساتين ملكوته ، ويلبسها سربال نوره ، حتى تجددت عليها لذائذ المحبات وحلاوات المشاهدات ، وتزيد رغبتها في قرب مولاها وخدمته ، فمن حان أجلها من خروجها من الدنيا إلى الحضرة يمسكها عند توفيها إما بالموت وإما بالنوم ، ومن بقي لها بعض سيرها في عالم الامتحان يرسلها إلى محلها إلى وقت خروجها بالكلية إلى عند مولاها ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ أرواح المؤمنين تصعد كلّ ليلة إلى تحت العرش ، فمن نام على طهارة أذن لها بالسجود ، ومن لم ينم على الطهارة لم يؤذن» (١).

قال سهل : إن الله إذا توفى الأنفس أخرج الروح النوري من لطيف نفس الطبع الكثيفي ، فالذي يتوفّى في النوم من لطيف نفس الطبع ، لا لطيف نفس الروح ، والنائم يتنفس تنفسا لطيفا ، وهو نفس الروح الذي إذا زال لم يكن للعبد حركة وكان ميتا.

وقال : حياة نفس الطبيعي بنور لطيف ، وحياة لطيف نفس الروح بذكر الله.

وقال أيضا : الروح يقوم بلطيفة في ذاتها بغير نفسي الطبع ، ألا ترى أن الله خاطب الكل في الذّر بنفس وروح وفهم وعقل وعلم لطيف بلا حضور طبع كثيف؟!

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤))

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) : بيّن أنه مرجع الكل الشافع والمشفع ؛ حتى يرجع العبد العارف إليه بالكلية ، ولا يلتفت إلى أحد سواه.

قال الواسطي : قطع أطماع العباد عن أن يصل إليه أحد إلا به بقوله : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) ، و (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.)

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦))

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في النوادر (٣ / ١١٦) بنحوه.

٢١٥

قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) : صورة الآية وقعت على الجاحدين والمنكرين الذين ليس في سجيتهم إلا متابعة الأشكال والأمثال من حيث التشبيه والخيال ؛ لأن قلوبهم خلقت على مشاكلة الأضداد والأنداد وقبولها ، ولم يكن في قلوبهم سجية طباع أهل المعرفة بالله ، فإذا سمعوا ذكر من لا يدخل في الخيال والمثال انقبضت قلوبهم وصدورهم ، ونفرت عقولهم عن الاستقامة في الإقبال إلى الموجود الواحد بالوحدانية ، القديم بالأزلية ، الباقي بالأبدية ، المنزّه عن إدراك الخليقة ، فإذا سمعوا ذكر غير الله من الصورة والأشباح سكنت نفوسهم إليها من غاية غباوتهم وكمال جهالتهم ، وهم مثل الصبيان ؛ إذ هم يفرحون بالأفراس الطينية والأسود الخشبية ، ولا يطيقون أن ينظروا إلى عدو العاديات ، وأن ينظروا إلى صوارم الباديات ، ومعنى الآية يقع على ضعفاء المريدين الذين طابوا برؤية الالتباس في مقام المحبة ، فإذا بدا باد من أنوار سطوات عظمته جلّ جلاله بقلوبهم فنيت قلوبهم ، وطاشت عقولهم ، واضمحلت أرواحهم ، فإذا خرجوا من تلك البحار ورأوا أنوار الصفات في الآيات يستبشرون بقوة الوسائط في رؤية الصفات.

قال سهل : جحدت تلك القلوب مواهب الله عندها.

قال أبو عثمان : كل قلب لا يعرف الله فإنه لا يأنس بذكره ولا يسكن إليه ولا يفرح به ، ألا ترى قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ)؟!

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) : هذه الآية خبر من الله للذين فرحوا بما وجدوا في أوائل البدايات مما يغترّ به المغترون ، وقاموا به ، وظنوا ألا مقام فوق مقامهم ، فلما رأوا ما بخلاف ظنونهم لأهل معارفه وأحبائه وعشاقه من درجات المعرفة وحقائق التوحيد ولطائف المكاشفات وغرائب المشاهدات ماتوا حسرة ، وأيضا سكن قوم إلى الأنوار وظهور بدائع صنيع الحق ، واطمأنوا إليها ، وظنوا أنها هو ، وهم أهل الغلطات ، فلما بدا لهم من الله جلال عزته وعزائم قدرته علموا أنهم ليسوا على شيء من معرفة الله ، وظاهر الآية يتعلق بأهل الرياء والسمعة الذي يعجبون قبول الخلق واستحسانهم ظواهرهم من الزيّ والعبادة ، واغترّوا بمراعاتهم ، وظنوا أنهم على شيء عند الله من ذلك ، فإذا بدا لهم من الله بيانا يوم القيامة أنهم مشركون بالرياء والسمعة افتضحوا هنالك عند العارفين

٢١٦

والصديقين ، وافهم أيها الناظر في هذا الكتاب أن لنا من العلوم المجهولة ذوقا ، وذلك الذوق لا يليق بفهم أهل الطيلسان والطرق ، ومن ذلك أن الكفر والإيمان طريقان من القهر واللطف إلى عرفان وحدانيته ، فبلغ المؤمن إليه بطريق الإيمان واللطف ، ويبلغ الكافر إلى رؤية قهرياته بالحقيقة عند المعاينات ، فإذا عرف أنه هالك فيها واقتحم في ظلماتها يبدو له في أحايين من الله سبحانه كشوف جلاله وجماله وعلومه الأزلية وألطافه الأبدية ما يضمحل فيها نيران جميع جهلهم ، وهو لا يحتسب ذلك منه ، ومن أنت من العبد ، والرب قوله صدق ، ووعده حقّ ، وإشارته حقيقة ، فأول الآية واضحة ، وآخر الآية إشارة.

قال سهل في قوله : (وَبَدا لَهُمْ) : أثبتوا لأنفسهم أعمالا ، فاعتمدوها ، فلما بلغوا إلى المشهد الأعلى رأوها هباء منثورا ، فمن اعتمد الفضل نجا ، ومن اعتمد أفعاله بدا له منها الهلاك.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

قوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) (١) : شكا الله سبحانه عن المدعين الذين يقولون نحن أهله ، فإذا وصل إليهم بلاؤه فزعوا إليه ؛ ليرفع عنهم البلاء ، ولا يفزعون إليه من وجدان ذوق رؤية المبلي في بلائه ؛ ليستزيدوا منه الذوق ، بل يطلبوا منه راحة أنفسهم ، وهم مشركون في طريق المعرفة ، وإذا وصل إليهم نعمة الظاهر تركوه ، واحتجبوا بها ، فإذاهم الحجاب من كلا الطرفين احتجبوا بالبلاء من المبلي وبالنعمة من المنعم.

قال الجنيد : من يرى البلاء ضرّا فليس بعارف ؛ فإن العارف من يرى الضر على نفسه رحمة ، والضر على الحقيقة ما يصيب القلوب من القسوة والران ، والنعمة هي إقبال القلوب على الله ، ومن رأى النعمة على نفسه من حيث الاستحقاق فقد جحد النعمة.

__________________

(١) أي أعطيناه على عظمتنا متفضلين عليه محسنين القيام بأمره وجعلناه خليقا بحاله جديرا بتدبيره على غير عمل عمله محققين لظنه الخير فينا وأحسنا تربيتنا له والقيام عليه مع ما فرط في حقنا (نعمة منا) ليس لأحد غيرنا فيها شائبة منّ ولولا عظمتنا ما كانت. نظم الدرر (٧ / ٢٦٥).

٢١٧

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : بسط الحق في هذه الآية بساط عطايا ، وفجّر أبحر كراماته لعطاش الرحمة ، ورفع سجوف الغيرة عن أطباق الأسرار أي : إيش بكم عبادي ، مني تخافون ، ومن رحمتي تقنطون ، لا تخافوا ، ولا تحزنوا ؛ فإني أحببتكم في الأزل ، وحكمت بإجراء الذنوب عليكم ، وأنا عالم في الأزل بذنوبكم قبل وجودكم ، ولو كنت غضبان عليكم بذنوبكم ما أحببتكم ، في الأزل أجريتها عليكم ؛ لافتقاركم إليّ ؛ وعجزكم بين يديّ ، كيف يقدح ذنوب الأولين والآخرين على بحار رحمتي الواسعة ، وجميع الحدثان أقل من قطرة في بحار رحمتي! فأنا فتحت خزائن جودي يدخل عصيان جميع خلائقي في حاشية من حواشيها ، وهذه الآية من أعظم توجيه العباد جميعا ، يسلّي الله بها قلوب الخائفين الذين يحتشمون من دقائقه ، فيقول : لا بأس بكم ؛ فإني أغفر الصغائر والكبائر والأسرار والضمائر ، أطهركم عن الجميع ، وألبسكم أنوار رحمتي حتى تبقوا معي أبدا ، وتنظروا إلى وجهي الكريم بلا حساب ولا عتاب ولا حجاب ولا عذاب.

قال سهل : أمهل عباده تفضلا منه على آخر نفس ، فقال لهم : لا تقنطوا من رحمتي ، ولو رجعتم إلى بابي إلى آخر نفس لقبلتكم.

قال الجريري : أمر الله عباده ألا يعتمدوا أعمالهم ، ولا يقنطوا من التقصير فيها ؛ فإن الرعاية والعناية سبقت بالعبادة ، ألا تراه يقول : (قُلْ يا عِبادِيَ.)

وقال يحيى بن معاذ : في كتاب الله كنوز موجبة للعفو عن جميع المؤمنين ، منها قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ.)

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي : ارجعوا بنعت التفريد عن غيره ، إليه خاشعين ، متضرعين مشتاقين إلى جماله ، مستحيين منه مما مضى في سالف الدهور عنكم بغير أنفاس مراقبة هلال جماله ، نادمين من ذلك ، وانقادوا له كالعاشق الواله المشغف الشائق المتضرع بين يدي معشوقه احتياجا منه إليه حين تدركونه بوصف الجلال والجمال

٢١٨

والعز والبقاء.

قال سهل : ارجعوا إليه بالدعاء والتضرع والمسألة.

وقال في قوله : (وَأَسْلِمُوا لَهُ) : فوّضوا الأمور إليه.

قال محمد بن علي : اعتذروا إليه مما سلف عنكم من التقصير ، وأخلصوا على دوام الموافقة بعده.

وقال محمد بن حنيف : همة المنيب حنين القلب إلى أوقاته العامرة وعبادته الكاملة.

قال الحسين : الإنابة جاءت من قبل المعرفة ، وأحسن الخلق إنابة إلى الله ورجوعا إليه أحسنهم به معرفة.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠))

قوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) : بيّن الله سبحانه أن من لم يرجع إليه بنعت الشوق والمحبة واشتغل بحظوظ نفسه ووافق طبعه أيام الفترة تأسف على ذلك ، وعلى ما قصر في فناء نفسه لله وفي الله في وقت كسوف الأعظم ، وأيضا أي : اطلبوا الحق بالحق ؛ حتى تعرفوا أنكم لا تعرفونه بالحقيقة ، وانظروا إليه بعينه ؛ لتعلموا أن الحادث لا يدرك القديم ، ولا تغتروا بصفاء أوقاتكم وطيب مواجيدكم ؛ فإنه أعزّ وأعظم من أن يكون لأحد من أهل الحدثان ، إنما هو لنفسه لا للغير ، ولا لأحد إليه سبيل لدرك حقائق نعوته الأزلية ، فإن لم تكونوا كذلك كثيرا تقولون وقت كشف جماله وجلاله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) مما ترون من عزة كبريائه التي تقدست من أن يلحقه أحد بنعت المعرفة الحقيقية.

قال سهل : من ترك المراعاة لحق الله وملازمة خدمته اشتغل بعاجل الدنيا ولذة الهوى ومتابعة النفس ، وضيع في جنب الله أي : في ذاته من القصد إليه والاعتماد عليه.

وقال فارس : يقول الله من هرب مني أحرقته أي : من هرب مني إلى نفسه أحرقته بالتأسف على فوتي إذا شاهد غدا مقامات أرباب معارفي ، يدل عليه قوله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) ، وهذا لا يقوله إلا محترق.

٢١٩

وقال الجنيد في قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) : انقطعوا عن الكل بالكلية ، فما يرجع إلينا بالحقيقة أحد ، وللغير إليه أثر ، وللأكوان على سرّه خطر ، ومن كان لنا كان حرّا مما سوانا.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

قوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي : ينجّي الله الذين تقدس أسرارهم من الالتفات إلى الحدثان في محبة الرحمن عن الحجاب والحرمان يوم الكشف والعيان ، (بِمَفازَتِهِمْ) (١) : بما كان لهم في الله في أزل أزله من محبتهم وقبولهم بمعرفته وحسن وصاله ودوام شهود جماله ، (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي : لا يلحق بهم في منازل الامتحان تفرقة عن مقام الوصلة وحجابا عن جمال المشاهدة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوت المراد في المعاد.

قال الواسطي : ينجيهم بما سبق لهم من الفوز ، (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) : زوال النعمة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على الفوات.

وقال القاسم : بسعادتهم السابقة وقضيته فيهم الماضية لهم وعليهم ، لا بنفوسهم المتعبة في العبادات.

وعن عليّ بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد قال : بسعادتهم القديمة صدق أكابر القوم في هذه الآية بأن نجاة الصديقين بالسعادة الكبرى مما يحل يوم القيامة على أهل الدعوى الذين ما شموا رائحة المقامات ، وما سلكوا مسالك المجاهدات ، وما أدركوا من لوائح أنوار المشاهدات ذرة ، فيفتضحون يوم القيامة عند وجوه الصادقين ، بقوله سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) ، بل هم يفتضحون في الدنيا عند أهل معرفة الله.

قال يوسف بن الحسين : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من ادّعى في الله ما لم يكن له بذلك ، وأظهر من أحواله ما هو خال عنها ، قال الله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.)

__________________

(١) بفوزهم ، مصدر ميمي ، يقال : فاز بالمطلوب : ظفر به ، والباء متعلقة بمحذوف ، حال من الموصول ، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب ، أي : ينجيهم الله من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم أو : بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة في الدنيا ، ولذا قرأ ابن عباس : (بمفازتهم بالأعمال الحسنة) البحر المديد (٥ / ٣٣٧).

٢٢٠