تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قال الجنيد : أي : يا أيها الموحدون اتقوا الله ألا يسلبكم حلاوة معرفته وسرور محبته ، وآمنوا برسوله أي : اقتدوا به في محبته لمولاه واستسلام نفسه إليه يؤتكم كفلين من رحمته نورا من نوره تقوون به في ذكره ، ونور تقوون به على مشاهدته ، ويؤيدكم بنوره الساطع في أرواح أهل محبته الذي به يقومون على استماع كلامه ، والتمتّع بمخاطبته ، ويغفر لكم ذنوبكم ملاحظتكم أنفسكم.

قال سهل في قوله : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) : هو السر والعين ، فالسر سر المعرفة ، والعين عين الطاعة.

وقال الأستاذ : نصيبين من فضله عصمة ونعمة ، فالعصمة من البقاء عنه ، والنعمة في البقاء به ، ثم أن الله سبحانه بيّن أن الوصول إلى هذه المقامات من النبوّة والولاية لا يكون إلا بفضله وهدايته وإرادته وقدرته بقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) : أخرج فضله من الاكتساب وعلل الجهد والطلب ، يؤتي هذه الكرامات من يشاء من عباده المصطفين في أزله بالعناية والكفاية ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) : ذو العطاء في الأزل إلى الأبد عظم فضله بعظمته ، والفضل العظيم ما لا ينقطع عن المنعم عليه أبدا.

سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥))

٤٠١

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) : بيّن الله سبحانه في أول هذه السورة مقام الانبساط حيث انبسطت المجادلة مع الحبيب ، ثم استحسن الله انبساطها ومجادلتها حين خلصت من الالتفات على غيره بقوله : (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) أي : لا إلى غير الله ومنزل الشكوى مقام النجوى وبين النجوى والشكوى انبسطت إلى المولى ، ثم زاد الكرم في إظهار فضله عليها حين سمع كلامها وأجابها بخطابه ، فأين أنت من مقام الشكوى عنه عنده به له عليه ، والنجوى في السر وسر السر وبث الحزن والعربدة في الانبساط حتى يسمع منك سبحانه نجواك وانبساطك ، وأعطاك سؤلك ومأمولك أنه سبحانه إذا اصطفى عبدا من عبيده لا ينظر إلى ضعفه وكسبه ونسبه وسببه وحسنه وقبحه وعمله وعلمه ، وأنه رجل أو امرأة ، بل ينظر إلى أسراره المنبسطة على بساط الربوبية بنعت الذلّ والخضوع ، وينظر إلى طلبات سره وهيجان قلبه وحركات روحه ، وتوجهه إليه بنعت الإقبال عليه ، فيقبله بحسن إقباله ، ويراعيه بكشف مشاهدته ، ويصرف عنه هجوم عساكر قهر امتحانه ويومئ قلبه إلى قرب قربه ومعادن جوده ، فيملأ من نور العرفان ، وسنا الإيقان وضياء الإيمان ، ويطيبه بطيب محبته حتى يطير بجناح لطفه في هواء هويته وبساتين مشاهدته ، فيجتني من أشجار حقائقها ثمرات الزلفات والمداناة ، فيقوى بها في حمل واردات التجلّي والتدلّي.

قال الأستاذ : لما صدقت في شكواها إلى الله ، وأيست من استكشاف ضرها من غير الله أنزل الله في شأنها هذه الآية.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))

قوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) : أخبر الله سبحانه عن عظيم إحاطته بالضمائر والخاطر وذرّات الوجود من الأزل إلى الأبد بحيث لا يعزب عن عمله وإحاطته مثقال ذرة في السماوات والأرض.

قال الله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : شاهد الأشياء بعلمه الذي شاهده كينونتها في الأزل ، فأوعد العباد ، وحذرهم في مراقبته من اطلاعه بما كان وما يكون ، وبيّن غفلة العباد عن ذلك ؛ حيث نسوا ما فعلوا ، وما حاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

قال بعضهم : من نسى جرائمه ، ولم يكثر عليها بكاؤه ، ولم يتأسف عليها بالندم ، وطلب التوبة فقد ضيّع عمره ؛ لأن الله أحصى عليه أعماله وسيرتها إياه في المشهد الأعظم حين لا ينفع توبة تائب ، ولا يسمع دعاء داع ، ولا يقبل معذرة معتذر ، قال الله : (أَحْصاهُ اللهُ

٤٠٢

وَنَسُوهُ)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨))

قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) : المعيّة بالعلم عموم ، وبالقرب خصوص ، والقرب بالعلم عموم ، وبظهور التجلّي خصوص ، وذلك دنو دنا فتدلّى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات ، واتصلت أنوار كشوف الذات والصفات بالعارف ، فذلك حقيقة المعيّة ؛ إذ هو سبحانه منزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث ، لو ترى أهل النجوى الذين مجالستهم لله وفي الله لترى من وجوههم أنوار المعيّة أين أنت من العلم الظاهر الذي يدل على الرسوم! ألم يعلم أن علمه أزل وبالعلم يتجلّى للمعلومات ، فالصفات شاملة على الأفعال ، ظاهرة من مشاهد المعلومات ، فإذا كانت الذات لا تخلو من قرب الصفات كيف تخلو عن قرب الذات الأرواح العالية المقدسة العاشقة المستغرقة في بحر وجوده؟! لا تظن في حقي أني جاهل بأن القديم لا يكون محل الحوادث ، فإنه حديث المحدثين ، اعبر من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ، ولا الإنسان في مشاهدة الرحمن.

قال الحسين : اصحب أقواما بأرواح طاهرة ، وملاحظات دائمة ، وأنوار قائمة.

قال : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم علما وحكما ، لا نفسا وذاتا.

قال النصرآبادي : من شهد معيّة الحق معه زجره عن كل مخالفة وارتكاب كل ما لا يجب ، ومن لا يشاهده معيّة ، فإنه مخطئ إلى الشبهات والمحارم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩))

قوله تعالى : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي : تناجوا ببذل الأرواح لله ، وتزكية الأشباح في طاعة الله.

قال سهل : بذكر الله ، وقراءة القرآن ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

٤٠٣

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ) : هذا شيطان يناجي النفس الأمّارة ، ويزين لها المعارضات والشك ؛ ليحزن القلب والروح من نجواهما وإلقاء العدو وهواجس النفس ، ويتقاعدان من شؤم معارضتهما والحزن وضيق الصدر من الطيران والسيران في عالم الملكوت ، ونجواهما لا تضر بالروح والقلب ؛ فإنهما محروسان برعاية الحق وتأييده (١).

قال سهل : هو إلقاء من العدو إلى نفس الطبع ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للملك لمة وللشيطان لمة» (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

قوله تعالى : (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي : وسّعوا بساط قلوبكم ومجالس صدوركم من ضيق الحدوثية ، وتضائق النفوسية لموارد تجلي القدم بنعت ألا يبقى لغير نظر الحق شيء دون الحق ، يفسح الله لكم بساط قربه ، ومجالس أنسه وحجال قدسه.

قال فارس : وسّعوا لقبول الحق ، يمنّ الله عليكم بالحقيقة.

قوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) : الإيمان محل المشاهدة ، والمشاهدة محل العين ، والعلم عين المعرفة ، فصاحب عين العلم وصاحب عين المشاهدة في درجات ، فإذا كان مع العلم عين فالعلم مع العين أقوى من العين بلا علم ، وذلك العلم يكون بعد العين ، فإذا كان قبل العين ليس بعلم حقيقي ، إنما حقيقة العلم ما يستفاد من المشاهدة والعين لذلك.

قال : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) : وفيه إشارة أخرى أن لأهل العلم درجات ، وليس لأهل العين درجات ؛ إذ لا يبقى لهم مسلك في القدم لتلاشيهم فيه.

__________________

(١) النجوى من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا. وإذا كانت المشاهدة غالبة ، والقلوب حاضرة ، والتوكل صحيحا ؛ والنظر من موضعه صائبا فلا تأثير لمثل هذه الحالات ، وإنما هذا للضعفاء ، تفسير القشيري (٧ / ٣٩٩).

(٢) رواه الطبراني في الكبير (٩ / ١٠١).

٤٠٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إن الله سبحانه أدّب أهل الإرادة بهذه الآية ألا يتناجوا شيوخهم في تفسير إلهام واستفهام علم المكاشفة والأسرار ، إلا بعد بذل وجودهم لهم والإيمان بهم بشرط المحبة والإرادة ، فإن الصحبة بهذه الصفة أزكى وأطهر خيرا لقلوبهم ، وأطهر لنفوسهم ، فإن ضعفوا عن بعض القيام لحقوقهم ومعهم الإيمان والإرادة ، وعلموا قصورهم عن أداء الحقوق بالحقيقة ، فإن الله يتجاوز عن ذلك التقصير ، وهو رحيم بهم بأنه يبلغهم إلى درجات الأكابر قال الله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا.)

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠))

قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) : إذ رأى الشيطان أن ينبت في سبحة أرض النفس الأمّارة حنظل الشهوة يثبت إليها ، ويغريها إلى إنقاذ مرادها ، فتكون النفس مركبة ، فيهجم على بلد القلب ويخربه ، بأن يدخل فيه ظلمات الطبيعة وظلمات الشيطان ، ولا يرى عن القلب مسلك الذكر وصفاته ، فلمّا احتجب عن الذكر صار وطن إبليس وجنوده ، غلب الملعون عليه ، وهذا يكون بإرادة الله سبحانه ، وسببه اشتراء غرور الملعون وتزيينه ، بأن يلابس أمر الدين بأمر الدنيا ، ويغويه من طريق العلم ، فإذا لم يعرف دقائقه صار فريسة الشيطان.

قال شاه الكرماني : علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من

٤٠٥

المأكل والملابس ، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمه عليه ، والقيام بشكره ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل قلبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها ، ويمنعه أكل الحلال ويرزقه الحرام.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١))

قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي : كتب على نفسه في الأزل أن ينصر أولياءه على أعدائه من شياطين الظاهر والباطن ، ويعطيهم رايات نصرة الولاية ، فحيث تبدو راياتهم التي هي سطوع نور هيبة الحق من وجوههم صار العدو مغلوبا بتأييد الله ونصرته.

قال أبو بكر بن طاهر : أهل الحق لهم الغلبة أبدا ، ورايات الحق تسبق الرايات أجمع ؛ لأن الله جعلهم أعلاما في خلقه ، وأوتادا في أرضه ، ومفزعا لعباده ، وعمارة لبلاده ، فمن قصدهم بسوء أكبّه الله لوجهه ، وأذلّه في ظاهر عزه ؛ لذلك قال جلّ من قائل : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.)

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) : وصف الله المؤمنين المخلصين في إيمانهم الصادقين في محبتهم وإرادتهم قرب الله وقرب أوليائه أنهم لا يحبون غير من يقبل بكلّيته على الله ، ولا يطيقون أن ينظروا إلى وجوه المخالفين لأمر الله ، وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم ؛ لأنهم آثروا الله على من دونه ، وذلك بأن الله غرس أشجار التوحيد والمعرفة في قلوبهم ، وتجلى لأرواحهم من نفسه ، فصار معنى حقيقة التجلي منفق شافي نفس أرواحهم وعقولهم بقوله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١) : كتب بصفاته في قلوبهم بنعت ظهورها في قلوبهم ، فعرفتها القلوب

__________________

(١) وهو الصدق في الطلب وحسن الإرادة المنتجة من بذر يحبهم ويحبونه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وإلا فمن خصوصية طبيعة الإنسان أن يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية وإن كانوا يصلون ـ

٤٠٦

برؤيتها ، فسكنوا إليها ، واستلذّوا رؤيتها ، فأيدهم الله بتجلي ذاته لأرواحهم ، وما أبقاهم في رؤية الصفات ، بل أغرقهم في قاموس الذات ، فوجدوا فيها جواهر أسرار الربوبية وحقائق أنوار الألوهية ، وذلك الوجدان ، بأنه نفخ من روح الأزل في أرواحهم روح المعارف ، فصارت أرواحهم مؤيدة بروح منه.

قال الحسين : أقبل عليهم بنظره ، وملكهم بقدرته ، وأحصاهم بعلمه ، وأحاطهم بنوره ، ودعاهم إلى معرفته.

قال الواسطي : هو الذي كتب الإيمان في قلوب المؤمنين ؛ ليكون أثبت وأبقى لوقوع المناسبات.

وقال : الإيمان سواطع الأنوار ، وله لمعة في القلوب ، ومكين معرفته حملت السرائر في الغيوب.

وقال النصرآبادي : كتابه من الحق ، ونقش منه كتبها ونقشها في قلوب أوليائه ، ثم أطلعه عليها ، فقرأه كل قارئ وغير قارئ لعناية الحق فيه مستترة.

قال سهل : الكتاب في القلب موهبة الإيمان التي وهبها لهم قبل خلقهم في الأصلاب والأرحام ، ثم أبدأ سطوا من النور في القلب ، ثم كشف الغطاء عنه حتى أبصر ببركة الكتابة به ، ونور الإيمان المغيبات.

وقال : حياة الروح بالتأييد ، وحياة النفس بالروح ، وحياة الروح بالذكر ، وحياة الذكر بالذاكر ، وحياة الذاكر بالمذكور ، ثم وصفهم الله بأنهم أنصار الله في دينه الذي فازوا بالظفر في الله على نفوسهم وعلى كل عدوّ بقوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) : حزب الله أهل معرفته ومحبته وأهل توحيده الفائزون بنصرة الله من مهالك القربان ومصارع الامتحانات ، وجدوا الله بالله ، إذا ظهر واحد منهم ينهزم المبطلون وينكسر المغالطون ؛ لأن الله ألبس على وجوههم نور هيبته ، وأعلى لهم أعلام عظمته ، يفر منهم الآساد ، وتخضع عندهم الشامخات ، كلأهم بحسن رعايتهم ، ونوّرهم بسنا قربه ، ورفع لهم أذكارهم في العالمين ، وعظّم أقدارهم ، وكتم أسرارهم.

قال سهل : الحزب الشيعة ، وهم الأبدال ، وأرفع منهم الصديقون ، إلا أن حزب الله هم الغالبون ، وارثون لأسرار علومه ، المستشرفون على معادن ابتدائهم إلى انتهائهم

__________________

ـ ويصومون ويزعمون أنهم مسلمون ؛ ولكن بالتقليد لا بالتحقيق ، اللهم إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه انتهى. تفسير حقي (١٤ / ٢٦٣).

٤٠٧

هم المفلحون.

قال الحسين : حزب الله الذين إذا نطقوا بهروا ، وإن سكنوا ظهروا ، وإن غابوا حضروا ، وإن ناموا سهروا ، وإن كمّلوا فكملوا ، وإن نجت عنهم علل التخليط فطهروا ، أولئك حزب الله إلى آخره.

قال أبو سعيد الخراز : حزب الله قوم علاهم البهاء والبهجة ، فنعموا ، ولم يحتملوا الأذى ، وصاروا في حرزه وحماه ، فغلب نورهم الأنوار أجمع ، وغلب مقامهم المقامات أجمع وهمومهم الهمم أجمع ، فكانوا في عين الجمع مع الحق أبدا.

وقال ابن عطاء : إن لله عبادا اتصالهم به دائم ، وأعينهم به قريرة أبدا لا حياة لهم إلا به ؛ لاتصال قلوبهم به والنظر إليهم بصفاء اليقين ، فحياتهم بحياته موصولة لا موت لهم أبدا ، ولا صبر لهم عنه لا تقدس أرواحهم ، فعلّقها عنده ، فثمّ مأواها قد غشى قلوبهم من النور ما أضاءت به ، فأشرقت ونما زيادتها على الجوارح ، وصاروا في حرزه وحماه أولئك حزب الله إلخ.

قال رويم : صفتهم أنهم اطمأنوا إلى الله ، وهم أولياء الله وخاصته ، وأمان بلاده فأعين قلوبهم ناظرة إلى ربهم ، وآذان قلوبهم سامعة منه ، وهم الذين اصطفاهم الله واختارهم وهداهم إلى نفسه ، وسترهم عن خلقه أولئك حزب الله إلخ.

سورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : قدّس الله كل ذوات الأرض والأشباح والأجسام والحياة ، بلسان العقول ، ووجدان نور الإيجاد ، ومباشرة أفعاله ؛ لأنه تعالى خصّ ذوي العقول برؤية نور الصفات في الأفعال ، وهيّجهم ذلك إلى تقديسه وتنزيهه من علل الحدثان ، ذلك تعريف نفسه إياهم بظهور الصفة في الفعل ، فعرفوه ، ثم قدسوه ، وخصّ ما دونهم من ذوي الحياة بمباشرة نور الله ، فوهبها منها أرواحا مسبحة ، وكذلك الجمادات لها لسان الفعل يصف بها الحق ، وتنزهه الجمادات ، وسرّ عجيب لا يعرفه إلا من يفقه قول الله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، ومن عظم قدر ذلك السر واللسان والوصف والتقديس شدّد الأمر في إدراكها بقوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.)

٤٠٨

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

قوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) : لمّا تمكّن الأعداء في شرّ نفوسهم لم يحتسبوا أن الله سبحانه يقلعهم عن ذلك ، ويخذلهم بنفسه ، وذلك أضراب جسام قهريات في ظهور عظمته على وجودهم ، فاستأصلهم من حيث لا يعرفون ، كقوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ، أتاهم بكشف نعت قهر عظمته عن طريق الأزل الذي أنسه سبيله عن إدراك عقول الغفلة ، ولو رأوه بلسان العظمة هان عليهم المصائب ، لكن ليسوا من أهل معرفته ، فقهرهم بقهر عزته ، فأتاهم ، ولم يروه ، ولم يعرفوه ، ولم يجدوا منه إلا مسّ قهره في قلوبهم ، بقوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ، فحجبهم الرعب عن مشاهدته ، وذلك الرعب أورث لهم تخريب قلوبهم بمعول الضلالة والغباوة ، فلما وجدوا طعم الرعب هربوا من سلطنته ، كشف العظمة ، وسقطوا في أودية الأهواء وظلماتها ، وهذه سنّة الله على من أدبر عنه بعد الإقبال عليه ، يعذّبهم بنفسه كما هداهم إليه بنفسه ، وهذه أعظم العقوبة ، ألا ترى إلى قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ، وفيه إشارة عين الجمع ؛ لأن إتيان حبيبه إليهم هو إتيانه ، فبذلك خوّف العباد المعتبرين بمثل هذه المكريات القهريات ، بقوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) : يا أولي المعرفة بي والأبصار والبصيرة التي هي منوّرة بكحل نور مشاهدتي ، وخافوني إن كنتم عارفون بي ، وهذا كما قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)

قال سهل في قوله : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) أي : قلوبهم بالبدع يا أولي الفهم والعقل عن الله.

قال يحيى بن معاذ : من يعتبر بالمعاينة لم ينتفع بالموعظة ، ومن اعتبر بالمعاينة استغنى عن الموعظة ، قال الله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ.)

٤٠٩

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) : تفسيره بلسان الإشارة أن ما ينكشف بالبداهة من عالم الملكوت والجبروت ، وأسرار الغيوب ، وكشوف الصفات ؛ لظهور الذات ، ونزول الكلام والخطاب بالبداهة التي ليس فيها مراقبة العارفين ، ولا ترصد قلوب المحبّين ، إلا مطالبة الشاهدين ، ولا قصور المريدين ، بل سدّ بحار أنوار الألوهية ، وأسرار الملكوتية ، وغلبات سيول عيون الجبروتية ، فلله منها نصيب بأن يكتمونه ، ولا يخبرون بذلك أحدا سترا على الأسرار ، وخوفا من غيرة الجبار ، ألا ترى كيف وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض الملائكة التي رآهم ليلة المعراج ، فأمسك لسانه من الوصف ، وقال :

«إلى هاهنا أمرت» (١) ، وما لرسول منها أن يكون بعضا من مقاماته لا يجوز أن يخبر عنه ؛ فإنه محل ستر الله وغيرته على حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما للمكاشف الذي هو نائب الأنبياء ، هو يتصرف بنفسه كما يشاء ، فيؤثر لنفسه الخوالص والأسرار فيكتمها ، وما يوافق قلوب أهل الصحبة يخبرهم منه وهم على طبقات.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ

__________________

(١) هو من الأحاديث التي تفرد المصنف بذكرها في كتبه.

٤١٠

لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))

(وَلِذِي الْقُرْبى) : الذين شاركوا بعض مقاماته ، وهم أهل القربة الأعزّة في الصحبة.

(وَالْيَتامى) : هم الذين تقطّعوا مما دون الحق إلى الحق ، فبقوا بين الفقدان والوجدان طلاب الوصول.

(وَالْمَساكِينِ) : هم الذين لهم بلغة المقامات ، وليسوا متمكنين في الحالات.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) : وهم الذين سافروا من الحدث إلى القدم ، فيلاطف قلوبهم بما وجدوا من الله حتى تكون لهم عونا في طيرانهم إلى الله ، وسيرانهم في أنوار الله ، ثمّ وصف من بينهم المساكين تأكيدا وتشريفا لهم ومحبته إياهم ، بقوله : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) : وصف المهاجرين بأنّهم تركوا ما دون الله لله ، وخرجوا من نفوسهم وحظوظهم بالله لله ، ويقبلون عليه بالكلّية ، يبتغون المعرفة بالله من الله ، والوصول إليه بنعت الرضا ، وذلك قوله : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) ، ثمّ وصفهم بالصدق في آخر الآية بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي : صادقون في محبة الله ، وخدمة حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونصرة أوليائه ، ما أطيب عيشهم في فقرهم ؛ حيث افتقروا إلى الله ؛ لطلب قربه ووصاله ، والله سبحانه يراعيهم ، ويجعلهم ملوكا ، ويخدمهم الأغنياء تشريفا لهم وتقريبا.

قال ابن عطاء : هم الذين تركوا كل علاقة وسبب ، ولم يلتفتوا من الكون إلى شيء ، وفرّغوا أنفسهم لعبادة ربهم ، واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الخراز : من عطف بقلبه على شيء سوى ربه فليس بفقير ؛ لأن الله يقول : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ.)

وسئل الحسين : من الفقراء؟ قال : الذين وقفوا مع الحق راضين على جريان إرادته فهم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أثنى الله سبحانه على الفقراء ، ووصفهم بأحسن الوصف ؛ إذ كانوا صادقين في فقرهم ، ثمّ أثنى على الأغنياء به لصدقهم في غنائهم ، ووصفهم بالإيمان والمعرفة بالله من قلوبهم ، ولزومهم مواضع قربته ، وخفض جناحهم لإخوانهم من الفقراء ، ومحبّتهم مهاجرتهم إليهم وضيافتهم بقوله : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ، ثمّ وصف أن صدورهم مقدسة من الشحّ والبخل والبغض والغش

٤١١

والحسد وحب الدنيا بقوله : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) ، ووصفهم بالسخاوة بقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) : بيّن في الآيتين شرف المقامين من الفقر والغنى ، الذين هم مقام أمناء الله الذين لم يبق في قلوبهم من حبّ الدنيا ومالها وجاهها ذرة ، وهم الموصوفون في آخر الآية بقوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : من صار حبيبه مقدّسا من حرص نفسه ظفر برؤية ربه.

قال سهل : حرص نفسه على شيء ، هو غير الله والذكر له ، فأولئك هم الباقون مع من أحيى بحياته.

سئل أبو الحسن البوشنجي عن الفتوة؟ قال : الفتوة عندي ما وصف الله به الأنصار من قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ.)

قال ابن عطاء : يؤثرون به جودا وكرما.

(وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) : يعني جوعا وفقرا (١).

وقال الحسين : من رأى لنفسه ملكا لا يصح له الإيثار ؛ لأنه يرى نفسه أحقّ بالشيء برؤية ملكه ، إنما الإيثار لمن يرى الأشياء للحق ، فمن وصل إليه فهو أحقّ به ، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد غصب ، أو يد أمانة يوصلها إلى صاحبها ، ويؤديها إليه. سئل سهل عن شرائع الإسلام؟ فقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.)

نعمّ ما قال الشيخ : ما أتاكم الرسول من خبر الغيب ومكاشفة الرب ، فخذوه باليقين ، وما نهاكم عنه من النظر إلى غير الله ، فانتهوا.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣))

قوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) : وصف الله المؤمنين بإسالة

__________________

(١) تقول العرب : فلان مخصوص إذا كان فقيرا ، فيؤثرون رضا الله على هواهم ، والإيثار شاهد الحب. وقد حكي عن وهيب بن الورد أنه قال : يقول الله : «وعزتي وعظمتي وجلالي ، ما من عبد آثر هواي على هواه إلا قللت همومه وجمعت عليه ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه ، وجعلت الغنى بين عينيه ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وعزتي وجلالي ، ما من عبد آثر هواه على هواي إلا كثرت همومه ، وفرقت عليه ضيعته ، ونزعت الغنى من قلبه ، وجعلت الفقر بين عينيه ، ثم لا أبالي في أي واد هلك». تفسير التستري (٢ / ١٣٦).

٤١٢

إياهم رداء عظمته ، وتعظيمهم في عيون الكفرة والأضداد ، حتى فزعوا من رؤوسهم ، ولو أنهم تحققوا في معرفة الله لخافوه ولم يخافوا غيره ، فلما لم يصلوا إلى معرفة الله صارت أقدار الخلق أعظم من قدر الله في قلوبهم ، وذلك قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يعرفون عظمة الله وقدرته ، فزعهم ، وخوّفهم بالواسطة من الله ، وهم لا يفقهون أن ذلك الخوف من لباس عظمة الله عليهم ، فما داموا لم يكونوا من أهل رؤية عظمته صرفا ألجأهم الفزع منه بالواسطة.

قال الواسطي : لا يفقهون أن في ترك الدنيا مشاهدة الآخرة ، وفي مشاهدة الآخرة رفض الدنيا ، كما أن في مشاهدة الثانية وحضوره زوال عزة النفس ، وفي مطالعة صفات الله سقوط صفات العبد ، وملاحظة الحق لا يقاربها حب الدنيا ، ولا عزة النفس ، ولا رؤية الأفعال ، ولا رؤية الصفات ، فما دامت الشواهد والأعراض على سره أثر لم يفقهه ، ألا ترى الله يقول : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) ، والحق إذا تجلّى لقلب عبد أذهب عنه أخطار الأكوان وأهلها.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

قوله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) : وصف الله قلوب المخالفين بالتشتت والتفرق في نياتهم وقصودهم وأرائهم ، بأنهم لا يرشدون طرق المآب إلى الله ، ولا يتوافقون بقلوبهم ، وإن توافقوا بأبدانهم ، وتلك التفرقة من عينهم عن رؤية محل الصواب.

قال سهل : أهل الحق مجتمعين أبدا موافقين ، وإن تفرّقوا بالأبدان ، وتباينوا بالظواهر ، وأهل الباطل متفرّقين أبدا ، وإن اجتمعوا بالأبدان ، ووافقوا في الظواهر ؛ لأن الله يقول : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩))

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) : حذّر الله المؤمنين مما قبل هذه الآية بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ،

٤١٣

من تضييع العبودية والتفريط في مباشرة الشهوات التي حجبتهم عن الله ، ثم زاد التخويف في الآية الثانية ، وأمرهم بألا يكونوا كالذين نسوا الله ؛ حيث اشتغلوا بنفاذ شهواتهم ، وطلبهم حظوظ أنفسهم من رؤية الملكوت ، ونسوا طيب العيش مع الله وروح الأنس في مشاهدة الله ، وسكنوا منه بحظوظ النفس ، فلما وجدهم الله ساكنين عنه مشتغلين بغيره ، فأنساهم أنفسهم ؛ حيث لا يعرفونها ، ولا يعرفون طريق رشدها ووصولها إلى معادن الأول ، ولا يرشدهم طريق المآب إليه ، وأي شيء أعظم شقاوة ممن احتجب بنفسه عن الله.

قال سهل : نسوا الله عند الذنوب ، فأنساهم الله الاعتذار وطلب التوبة ، وقد وقعت لي نكتة : بأن الإشارة في الحقيقة إلى المتّحدين والمتّصفين الذين غلب عليهم سكر الأنائية ، ورأوا وجودهم في عين الجمع ، فمن حدة السكر خرجوا بدعوى الأنائية ، وذلك بأن رؤية الصفة فيهم غلبت على رؤية الذات ، فبقوا في رؤية الصفات عن رؤية الذات ، ثم وقعوا في نور الفعل ، وبقوا عن رؤية الصفة ، فطابت قلوبهم بالشطارة ودعوة الأنائية ، وهذا مقام المكر ، فلما سكنوا في هذا المقام ولم يرتقوا إلى مدارج الفردانية أنساهم الله أنفسهم الحديثة حتى لم يروها في البين ، فبقوا بأنائيتهم عن رؤية الحق ، ولولا إنساء الله إياهم أنفسهم لوجدوا مقام العبودية أعلى مما هم فيه ؛ إذ فيه إفراد القدم عن الحدوث وحقيقة صرف التوحيد ، وهو مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين عبّر عن هذا المقام ولم يتعلق ذيل همته بحظ الالتباس والمحبة ، ووصل إلى رؤية الأحدية ، واختيار العبودية بقوله : «أنا العبد لا إله إلا الله» (١).

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أصحاب النار في الحقيقة أصحاب المجاهدات الذين احترقوا بنيرانها ، وأصحاب الجنة أصحاب المواصلات الذين وقعوا في روح المشاهدات ، وفي الظاهر أصحاب النار أصحاب النفوس والأهواء الذين أقبلوا على الدنيا ، وأصحاب الجنة أصحاب القلوب والمراقبات.

قال الحسين : «أصحاب النار» : أصحاب الرسوم بالعادات ، و «أصحاب الجنة» : أصحاب الحقائق والمشاهدات.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ

__________________

(١) تقدمت الإشارة إليه.

٤١٤

اللهِ) : في هذه الآية بعض العتاب مع أهل المآب ، بأنهم لا يذوبون تحت موارد الخطاب الأزلي ، ولا يفنون في مشاهدة الصفات ، ولا يرونها عين الذات ، فإن من حقه أن يكون المخاطب بعد متابعة فانيا عن نفسه وعن الكون فيه ، ولو كانت الجبال مقامة في الخطاب لتدكدكت الجبال ، وتدرّرت ، وانفلقت الصخور الصم ، وانهدمت الشامخات العاديات في سطوات أنواره ، وهجوم سنا أقداره ؛ إذ كل حرف من خطابه أعظم من العرش والكرسي والجنة والنار والأكوان والحدثان ، وذلك بأنها عرفت حقيقته ، وأقرت بالعجز عن حمل هذا الخطاب العظيم ، حيث قال سبحانه : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) ، «ظلمه» قيامه بإزاء القدم ، و «جهله» : قلة معرفته بحقائق العبودية والربوبية ، ولا تخض يا أخي في بحر كلام المتكلمين أن الجبال ليس لها عقل ، فإنّ هناك أرواحا وعقولا لا يعلمها إلا الله ، قال الله : (يا جِبالُ أَوِّبِي) ، لولا هناك ما تقبل الخطاب لما خاطبها ، فإن ببعض الخطاب ومباشرة الأمر تهبط من خشية الله ، قال الله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، والخشية مكان العلم بالله وبخطابه ، وفيه إشارة أخرى في بيان شرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، بأنهم حملوا ما لم تحمله الجبال بقوتها ، هم يحملونه بذوق الخطاب ، وكشف النقاب ، والسرور بالمآب ، فإنهم حملوا بهذا الوجه عظائم كلمات ، لو حملتها الجبال الشامخات لذابت في رياحها ، كما قيل :

ولو أن ما بي بالحصا فلق الحصا

وبالريح لم يسمع لهن هبوب

قال ابن عطاء : أشار إلى فضله بأوليائه ، وأهل معرفته أن شيئا من الأشياء لا يقوم بصفاته ، ولا يبقى مع تجلّيه إلا من قوّاه الله على ذلك ، وهو قلوب العارفين ، فقاموا له به لا بغيره ، وهو القائم بهم لا هم وهكذا.

قال الأستاذ : ليس هذا الخطاب على وجه العتاب معهم ، بل هو على سبيل المدح وبيان تخصيصه إياه بالقوة ، فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) ، لم يطق ، ولنخشع ، وهؤلاء خصّصتهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابي.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

٤١٥

قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : هو إشارة غيب الغيب ، والله ظهور الغيب الذي رجوع الوصف إلى الغيب ، ولا نفى معارف وإله تلبيس ومكر تشغل المخاطب عنه بالاسم والرسم ، وإلا هو بيان حق الحقيقة ، وكشفها بنعت الهوية في الغيب ، فأول الخطاب نكرة ، وآخر الخطاب نكرة غيب في غيب ؛ إذ لا يعرف الأزل والأبد ، ثم وصف نفسه بأن غيبه مكشوف لعينه يرى الغيب كما يرى الظاهر ؛ إذ الغيب ظاهر والظاهر غيب ، وهو قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : «الغيب» : ما في صميم السر ومكامن روح الروح ونفس النفس ، و «الشهادة» : ما خرج من العدم عالم بالمعلومات الغيبية قبل وجودها ، وبعد وجودها لا يزيد علمه بالغيب علمه بالعلانية ، ولا علمه بالعلانية علمه بالغيب.

قال سهل : «الغيب» : السر ، و «الشهادة» : العلانية ، ثمّ رجع إلى بيان الهوية التي هي مستورة عن الكل بقوله : (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) : أبرز الصفة بعد غيبوبتها ، ونعت نفسه بالرحمة الواسعة بالمبالغة وتواثيرها الإيجاد وظهورها في الأفعال ، ثمّ رجع بعد الإظهار إلى ذكر الغيوب في الغيوب ، والنكرات في النكرات بقوله : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، ثمّ أبان الصفة بالفعل بقوله : (الْمَلِكُ) ، ثم أفرد الصفة عن الفعل ، فقال : (الْقُدُّوسُ) : مقدّس عن مباشرة الحدوثية ، ثم زاد وصف قدسه عن إدراك الحدث وعلل الكون بقوله : (السَّلامُ) ، ووصف نفسه بأنه ما من الخائفين بقوله : (الْمُؤْمِنُ) ، ثم وصف نفسه أيضا بأنه الصادق في وعده المصدق أولياءه بقوله : (الْمُهَيْمِنُ) ، ثم زاد في وصفه بأنه العالي عن همم الخلائق الممتنع بذاته عن إدراكهم لا يقوم في كبريائه الحدثان بقوله : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) ، ثم زاد في ذكر قدسه بقوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) : عما يشيرون إليه بالنواظر والخواطر ، ثم زاد وصف غيبه وكنه الكنه ، وعين العين الظاهر بلباس الغيب ، ثم ذكر تأثير ظهوره بإظهار الخلق بقوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) ، ثم بيّن لذاته النعوت والأسامي القديمة المقدسة عن الإشراك والإدراك بقوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، فلما ظهر بهذه الأوصاف ظهرت أنوار صفاته في الآيات ، وألبس أرواح نوره الأرواح والأشباح والأعصار والأدهار والشواهد والحوادث ، فسبّحه الكل بألسنة نورية غيبية صفاتية بقوله : (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ثم بيّن أنه منزّه بتنزيهه عن تنزيههم وإدراكهم وعلمهم به بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : «العزيز» : عن الإدراك ، «الحكيم» في إنشاء الأقدار تعالى الله عما أشار إليه الواصف الحدثاني ، واللسان الإنساني.

٤١٦

قال ابن عطاء : (الْقُدُّوسُ) : المنزّه عما لا يليق به من الأضداد والأنداد.

قال بعضهم : (الْمُؤْمِنُ) : الذي لا يخاف ظلمه ، و (الْمُهَيْمِنُ) : الحافظ لعباده وإن لم يحفظوا أوامره ، و (الْعَزِيزُ) : الذي عجز طلابه عن إدراكه ولو أدركوه ذلوا ، و (الْجَبَّارُ) : الذي خير العباد على ما أراد ، ويصرفهم على يريد.

قال ابن عطاء : المؤمن المصدق لمن أطاعه.

وأيضا قال : لأنه أمن المؤمنين عن خوف ما سواه حتى لم يخافوا سواه.

وقال القسيم : (الْبارِئُ) : الذي لا يتلون بتلون العباد ، ولا ينتقل من صفة الرضا إلى صفة الغضب بتقبيل الكسوة.

وقال ابن عطاء : (الْبارِئُ) : مبتدع الأشياء من غير شيء ، و (الْمُصَوِّرُ) : المتمم تصويره على غاية الكمال ، وقال : (الْمُهَيْمِنُ) على سرائر العباد ، فلا تخفى عليه خافية ، و (السَّلامُ) : هو الذي سلم من النقص والآفات (١).

سورة الممتحنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) أي : لا تحبّوا أنفسكم الأمّارة ، فإنها عدوي وعدوكم مبغض عبادتي ومبغضكم ، إذا لم تكونوا مطيقين لها في أنفاد

__________________

(١) قال بعض المشايخ هذا الاسم من أسمائه التى علت بعلو معناها عن مجارى الاشتقاق ، فلا يعلم تأويله إلا الله تعالى ، وقال بعضهم : هو المبالغ في الحفظ والصيانة عن المضار من قولهم هيمن الطائر إذا نشر جناحه على فرخه حماية له وفى الإرشاد الرقيب الحافظ لكل شيء وقال المزروقي : هو لغة الشاهد ، تفسير حقي (١٥ / ٢٤٧).

٤١٧

شهواتها ، وأنها تعارضكم في مكاشفاتكم وأحوالكم ، ألا ترى كيف قال الله : (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) ، وأصل عداوة النفس أن تفطمها من مألوفاتها ، وتلزمها في حبس المراقبة والرعاية ، وعلامة حب الله بغض عدو الله.

قال عليه الصلاة والسلام : «أفضل الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله» (١).

قال أبو حفص : من أحب نفسه فقد اتخذ عدو الله عدوه وليّا ؛ فإن النفس تخالف ما أمرت به وتعرض عن سبيل الرشد ، ويهلك بحبها ومتبعها في أول قدم.

قوله تعالى : (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي : ما أضمرتم في صميم قلوبكم من الميل إلى الهوى ، وما أعلنتم من الميل إلى الحق ، وفي الحقيقة ما أخفيتم من دعوى الأنائية ، وما أعلنتم من العبودية ، وهذا الخطاب لصاحب نفس ، وصاحب قلب.

قال أبو الحسين الوراق : بما أخفيتم في باطنكم من المعصية ، وما أعلنتم في ظاهركم للخلق من طاعة.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥))

قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) : أسوة إبراهيم خلة الله والتبرؤ مما دون الله ، والتخلّق بخلق الله ، والتأوّه والبكاء من شوق الله.

قال ابن عطاء : الأسوة القدوة بالخليل في الظاهر من الأخلاق الشريفة ، وهى السخاوة ، وحسن الخلق ، واتباع ما أمر به على الطرب ، وفي الباطن الإخلاص لله في جميع الأفعال ، والإقبال عليه في كل الأوقات ، وطرح الكل في ذات الله.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦))

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : أسوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محبة الله ، ومراقبة الله وترك ما دون الله ، واحتمال واردات الغيب بالله ، والصبر في الله وبالله ولله ومع

__________________

(١) رواه الخطيب في التاريخ (١١ / ٣٥٤).

٤١٨

الله ، والتمكين في رؤية الله ، ولزوم العبودية بعد الاتصاف بصفة الله ، فإنه محل التمكين.

قال ابن عطاء : «أسوة» في الظاهر والعبادات دون البواطن والأسرار ؛ لأن أسراره لا تطيق أحدا من الخلق ؛ لأنه بائن الأمة بالمكان وقع الصفة عليه ؛ لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنس بن مالك : «احفظ سرّي» (١).

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ) : هذه إشارة إلى الرفق في مجاهدة النفس ، ربما تطمئن وتعين الروح والعقل والقلب في معرفة الله وطاعته.

قال ابن عطاء : لا تبغضوا عبادي كل البغض ، فإني قادر على أن أنقلكم من البغض إلى المحبة ، كنقلي من الحياة إلى الممات ، ومن الموت إلى النشور.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما» (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، أي : لا تأخذوا هواجس النفس

__________________

(١) رواه ابن حبان في المجروحين (٢ / ٢٢٣).

(٢) رواه الترمذي (٤ / ٣٦٠) ، والبخاري في الأدب المفرد (١ / ٤٤٧) ، والصحيح وقفه على عليّ رضي الله عنه.

٤١٩

والشيطان من جهة موافقتهما ومتابعتهما.

قال سهل : لا توافقوا أهل البدع على شيء من آرائهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) : «المعروف» : كل طاعة ونول إلى المعارف والكواشف.

قال ابن عطاء : لا يخالفنك في شيء من الطاعات.

سورة الصف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : لما عاينوا آيات الله طلبوا فيها مشاهدة الله ، مما وجدوا في أنفسهم تأثير مباشرة نور قدرة الله ، فلما وجدوا أنوار تنزيهه ، فقدّسوه بما وجدوه أنه بائن بوجوده من الحدثين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) : حذّر الله المريدين أن يظهروا بالدعوى مقامات لم يبلغوا إليها ، لئلا يقعوا في مقت الله ، وينقطعوا عن طريق الحق بالدعوى الباطلة ، وأيضا زجر الأكابر في ترك بعض الحقوق ، ومن لم يؤت الحقوق لم يصل إلى الحق والحقيقة.

قال أبو العباس بن عطاء : من شهد من نفسه نفسا في الطاعات كان إلى العصيان أقرب ؛ لأن النسيان من العمى عن بر المنان ، وأما زجره لأهل الحق والمشاهدة من طريق

٤٢٠