تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

موارد الهيبة.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا.)

قال النصرآبادي : هيبة المشاهدة إذا طالعت السرائر بحقائقها أخرست الألسن عن النطق في ذلك المشهد ، كالجن لما حضروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأراد أن يقرأ عليهم أوصى بعضهم بعضا بالإنصات ، فلما حضروا قالوا أنصتوا.

وقال الواسطي : شاهدوا عز الربوبية ظاهرا في أوصاف البشرية أخرسهم المشهد لشدة الهيبة.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠))

قوله تعالى : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) : يرشد إلى مشاهدة الحق ، وإلى طريق معرفته بنعت الخروج عما دون الله ، القرآن صفة الحق ، وصفته تدل على ذاته ، ترشد ظواهره إلى بواطنه ، وبواطنه إلى مصادره الأزلية الأبدية.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤))

قوله تعالى : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) (١) : أخبر الله عن مقالة كبراء الجن وعلمائهم لمريديهم أي : سمعتم بآذان الأرواح والأسرار مناداة الأزل قبل الكون ،

__________________

(١) إنما اقتصر على مغفرة الذنوب ، والإجارة من العذاب ، وطوى ذكر إدخال الجنات ، والإثابة بالنعيم ؛ لأنه كقوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] ، وذلك لا يقتضي ألا يكون للجن نعيم ورؤية ، فإن أول الدعوة الإنذار للنجاة من النار ، ثم التبشير للفوز بالنعيم ، كما هو مقتضى الإيمان.

ودخل في النعيم الرؤية ؛ لأنها أعلى النعيم الإلهية ؛ ولذا ورد : «وأسألك لذّة النظر إلى وجهك الكريم». حيث أثبت اللذّة للنظر ؛ لأن الرؤية من اللذات المعنوية ، والنعم الروحانية ، فظهر من هذا أن المؤمنين من الجن ؛ كالمؤمنين من الإنس في الإجارة والإثابة ؛ لأن كلّا منهم داخلون تحت التكلّف والدعوة ، فمشاركتهم في ذلك تقتضي مشاركتهم في النعيم مطلقا.

٣٠١

فأجيبوها بنعت الطاعة على لسان حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنه مرشد الحق بهدي إلى الحق ، ثم أتبع الإجابة بالإيمان والتصديق فيما أخبر عن الحق سبحانه بقوله : (وَآمِنُوا بِهِ) أي : بكلامه وخطابه ورسوله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ، هذا شرط بعد الإيمان والإجابة والمتابعة أي : يغفر لكم جهالتكم الأولية ، (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ) الحجاب.

قال سهل : لا يجيب الداعي إلا من أسمع اقتداء ووفّق للجواب ولقن ، وإلا فمن يجسر على إجابة هذه الدعوة.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) : أدّب حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآداب أكابر الأنبياء الذين هم أهل عزائم بذلك الموجود لله وفي الله ، بعد أن عاينوه ، وعرفوه ، وأحبوه ، وصبروا له وفيه أي : أنت في بحر بلائي أمتحنك بعظائم الامتحان التي لا يثبت بإزائها الصخور الصم ، وأعظم البلاء كشف جمال قدسي لك ، الذي يفنى فيه من العرش إلى الثرى ، (فَاصْبِرْ) به في مشاهدتي ، ولا تفش سري بيني وبينك عند الخلق ، فإن بدت منه ذرة لخلقي تضمحل الأكوان والحدثان وحقيقة الإشارة أي : أنت عزمت بسرك وروحك أن تسري من عالم الحدثية إلى ميادين الوحدانية ، وتطير بأجنحة المعرفة في هواء القدم والبقاء الذي لا نهاية له ؛ إذ الدهر الدهار أقل من لمحة في زمانها فيه ، فاصبر فيما عزمت ؛ فإنك تفنى في كل لمحة منك في سطوات ألوهيته كما صبر أولو العزم في أسفار الديمومية ، وإدراك حقائق الأزلية والأبدية ، صبروا في تقلبهم في لطمات بحار القدمية حين استغرقوا في مقام سر الكبرياء ، وما وجدوا نهايتها ، فكادوا يفرون ، ويخرجون منها ، فأغرقتهم أمواجها ، فاستغاثوا منه إليه ، فألبسهم قوى الربانية ، فسبّحوا فيها بالحق ، وذهبت بهم بحار الربوبية إلى معادن الأولية ، فلما بلغوا أقصى غايات همهم وظنوا أنهم وصلوا ورأوا أنفسهم أنهم في أوائل أسفار الغيب كادوا أن يفنوا ، فصبروا بالله في الله ، وآيسوا من الوصول إلى كنه القدم ، ولم ينقطعوا من أسفارهم ، وأيضا فاصبر ؛ فإنك في تلك الأسفار ، ولا يصح حين لم تجد هنالك نفار الخروج منها ، فإن من عرفني غرق في بحر كبريائي وعظمتي أبد الآبدين ، ألا ترى كيف قال : (وَلا تَسْتَعْجِلْ) أي : ولا تستعجل ؛ فإن أموري لا تدرك بحلاوة العقول ، ولا يدركني غوص الفهوم ، ولا لباب القلوب ، ولا الدهر الدّهار ، ولا تقلب الأفكار ، فإن جميع الأزمنة والدهور مقصرة عند أوليتي وآخريتي ، ألا ترى كيف وصف الهالكين في بحار قهره بقوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما

٣٠٢

يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي : ما مضى من بدو الوجود إلى زمان الفناء في أيام القدم المنزّه عن الأدهار والأعصار كلا شيء في شيء ، ثم بيّن أن هذه الأسرار والحقائق المكشوف ذلك بلاغ أي : مني إليك ومنك إلى العالمين ، ثم بيّن أن عند معاينة سطوات القهريات لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتي حين يحتجبون بظلمات ظنونهم بقوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون بالدعاوي الباطلة.

قال سهل في قوله : (أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) : إبراهيم ابتلي بالنار ، وذبح الولد ، فرضي وأسلم ، وأيوب بالبلاء فصبر ، وإسماعيل بالذبح فرضي ، ونوح بالتكذيب فصبر ، ويونس ببطن الحوت فدعا والتجأ ، ويوسف بالجب والسجن فلم يتغير ، ويعقوب بذهاب البصر وفقدان الولد ، فشكا بثه إلى الله ، ولم يشك إلى غيره ، وهم اثنا عشر نبيّا صبروا على ما أصابهم ، وهم أولوا العزم من الرسل.

وقال الواسطي في قوله (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ) إلى قوله (مِنْ نَهارٍ) : لما جعل الأزل والأبد كساعة من نهار ، فأين تقع في ساعة من نهار من طاعته ومعصيته من كرمه؟!

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢))

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : ستر وأنعم الله بنسيانهم عن ذكره وتجهلهم بالمنعم ، وخاصموا أولياء الله ، وأنكروا عليهم ، أبطل الله ما عملوا بالرياء والسمعة والنفاق.

قال سهل : كفروا بتوحيد الله ، وصدوا عن دين الإسلام أبطل أعمالهم.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ

٣٠٣

يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) : اتبع الكفرة ما وقع في مخاييلهم من هواجس النفس ووساوس الشيطان ، ولم يقبلوا طريق الرشد من حيث الوحي والإلهام ، وأن الذين صدقوا في دين الله وشاهدوا الله بالله اتبعوا سنة رسوله وخطابه ، وما يقع في أسرارهم من النور والبيان والإلهام والكلام بنعت الإخلاص في طاعته ، والأدب في خدمته ، والإعراض عن غيره.

قال ابن عطاء في قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) : اتباع الباطل ارتكاب الشهوات وأماني النفس ، واتباع الحق اتباع الأوامر والسنن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) : نصرة العبد لله أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه ؛ فإنهم أعداء الله ؛ فإذا خاصمها يقويه الله وينصره عليهم ، بأن يدفع شرهم عنه ، ويجعله مستقيما في طاعة الله ، ويجازيه بكشف جماله حتى يثبت في مقام العبودية وانكشاف أنوار الربوبية.

قال ابن عطاء : هو أن يكون عون الله على النفس ، فإن الله ينصرك عليها حتى تنقاد لك ، ولا يكون عون النفس فتضرع ضرعة لا تقوم بعدها أبدا.

قال الترمذي : إن أكرمتم أوليائي أكرمتكم.

قال بعضهم : يرزقكم الله الاستقامة في كل أحوالكم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) : إني محبهم وحبيبهم في الأزل حين اصطفيتهم بولايتي ، واجتبيتهم بمعرفتي ، وآثرتهم على بريتي ، وجعلتهم مواقع نظري ،

٣٠٤

ومواضع ودائعي ، وناصرهم على عدوهم ، محبته لا تزول ، ونصرته لا تحول.

قال أبو عثمان : معين من أقبل عليه ، وناصر من استنصره.

قال سهل : ولي الذين آمنوا بالرضا والمحبة لجملتهم.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (١) أي : على مشاهدة ويقين ، وبراهين واضحة ، ومتابعة على وفق ما وقع في قلبه من طريق الخطاب ، والإلهام الذي وافق الكتاب والسنة ؛ فمن هذا وصفه لا يكون كمن يستحسن ما زين له نفسه وهواه شيطانه من حيث الجهل والغرور.

قال أبو عثمان : البينة هي النور الذي يفرق بها المرء بين الإلهام والوسواس ، ولا تكون البينة إلا لأهل الحقائق في الإيمان ، والبينة نور ، والمترجم عنها البرهان.

قال أبو سعيد الخراز : البينات مختلفة ، منهم من كانت بينته الإلهام ، ومنهم قلوب أقفلت عن أن يدخلها شيء في المعرفة بنفسه ، ومنهم من كانت بينته المعرفة ببلاء الوقت وفتنته ، ومنهم من كانت بينته في كشف ما كشف الله له من صحة الرجوع إليه واضح البينات ما يشهد له شاهد الحق ويتلوه شاهد منه.

قال الأستاذ : البينة الضياء والحجة والاستبصار لواضح المحجة والعلماء في ضياء برهانهم ، والعارفون في ضياء بيانهم.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦))

قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) : لأهل الحق في هذا العالم جنان في قلوبهم وعقولهم ، وأرواحهم وأسرارهم ، فجنة القلوب روضة الإتقان ،

__________________

(١) أي : من شهد مقام الله عزوجل بالبيان ، فقام له بشهادة الإيقان ، فليس هذا كمن زين له سوء عمله ، واتبع هواه ، فآثره على طاعة مولاه. بل هذا قائم بشهادته ، متبع لشهيده ، مستقيم على محبة معبوده ه. البحر المديد (٣ / ٣٩).

٣٠٥

وجنة العقول بستان العرفان ، وجنة الأرواح حديقة البيان ، وجنة الأسرار فردوس العيان ، ولكل جنة منها نهر وشجر وثمر وزهر ، فنهر جنة القلوب ماء حياة الأزل التي تجري بنعت التجلي فيها من عيون الوحدانية ، وهو لا يتغير بكدورات البشرية ، يحيى القلوب بنور اليقين حتى لا يجري عليها موت الجهالة ، وأشجارها أشجار الإيمان ، وثمرها أنوار الإيقان ، ونهر جنة العقول من ألبان القدرة يسقيها الحق منه ؛ ليريها لصفاء أنوار قدرته التي يورث معرفتها بعزته وجلال قدرته وأشجارها الحكمة وأزهارها الفطنة ، ونهر جنة الأرواح نهر كشف الجمال الذي مورده بحر الجلال ، يسقيها الحق منه ليطيبها بلذة الجمال ورؤية الجلال ، وأشجارها المحبة ، وأزهارها الشوق ، وأثمارها العشق ، ونهر جنة الأسرار كشوف الذات المقدس عن انقطاع فيضه المسرمد ، فيقويها الحق بشربة حتى استقامت في وصله ، فهناك أشجارها التوحيد ، وأزهارها التفريد ، وأثمارها التحقيق ، فأصحاب القلوب هم أهل الشهود ، وأصحاب العقول هم أهل الكشوف ، وأصحاب الأرواح هم أهل السكر والوجود ، وأصحاب الأسرار هم أهل المحو والصحو ، فأهل الشهود أصحاب المراقبات ، وأهل الكشوف أهل المقامات ، وأهل الوجود أهل الحالات ، وأهل المحو والصحو أهل الاستقامة ، فطوبى لمن كان له مثل هذه الجنان في دار الامتحان. قال الأستاذ : اليوم للأولياء لهم شراب الوفاء ، ثم شراب الصفة ، ثم شراب الولاء ، ثم شراب في حال اللقاء ، ولكل من هذه الأشربة عمل ، ولصاحبه سكر وصحو ، فمن شرب بكأس الوفاء لم ينظر في غيبته إلى غيره ، كما قيل :

وما سرّ صدري منذ شطت بك النّوى

أنيس ولا كأس ولا متصرف

ومن شرب بكأس الصفاء خلص له عن كل شرب وكدورة في عهده ، فهو في كل وقت صاف عن نفسه ، خال من مطالبته ، قائم به بلا شغل في الدنيا والآخرة ، ولا أرب ، ومن شرب بكأس الولاء عدم فيه القرار ، ولم يغب سره لحظة لا الليل ولا النهار ، ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام بقائه ، فلم يطلب مع بقائه شيئا آخر لا من عطائه ولا من لقائه ؛ لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي : الذين اهتدوا بنور الله سبل الوصول إلى المشاهدة لله ، وطلبوا عرفانه بنية صادقة ، وقلوب شائقة راسخة ، وعقول صافية ، وأسرار طاهرة زادهم الله هدى ، بأنه يعرّفهم طرق معارف صفاته ،

٣٠٦

وشهودهم مشاهد جلال ذاته ، وأتاهم وقاية منه ، بحيث جعلهم متصفين بصفاته ، ثم عصمهم بها عن حجب الكدورات ونكايات الخطوات.

قال ابن عطاء : الذين تحققوا في طلب الهداية أوصلناهم إلى مقام الهداية ، وزدناهم هدى بالوصول الهادي.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) : ليس في القرآن ذكر الذات المجرد عن ذكر الصفات والأفعال إلا ههنا ، والله أعلم ؛ فهاهنا خبر عن عين الألوهية التي تقتضي التوحيد المجرد الخالي عن التفرقة في طلب الصفة والفعل ، فدعا حبيبه إلى رؤية عيان الذات بنعت العلم ، وأراد أن يعجزه في رؤية ذاته عن إدراك الكل ، ويذوق طعم الفناء في سطوات عزة ذاته ، لا أنه دعاه إلى أن يعلم كنه عين القدم ، فإنه منزّه عن إدراك الخليقة بل عرّفه نعوت الأولية المنزهة عن الإدراك عن درك المتحيرين فيه ، بأن يدركوه بعجزهم ، فإن العاجز منقطع بعجزه عنه بكل حال ، وأيضا دعاه إلى علم إفراد القدم عن الحدوث بقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، فأفاد علمه طرفين من العلم : الأول نفي الأضداد ، والثاني إثبات الذات ، والمقصود منه هذان الحالان من النفي والإثبات ، إلا أنه أعلم كنه الألوهية ، ألا ترى كيف قال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ)؟! وهو نفى الأضداد و (إِلَّا اللهُ) إثبات الألوهية ، وكيف دعاه إلى العلم ببطون الأزل ، وهو مستحيل أن يعلمها الحقيقة بالحقيقة ، وإشارة قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (١) أي : من وجودك في مطالعتي ووجود جلالي ، فإن بقاء وجود

__________________

(١) أمر تعالى بالعلم مع أنه هو العالم ، كما أنه هو الشاهد في قوله : (يُشْهِدُ اللهَ) والرامي في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) إشارة إلى ذنب الوجود المغفور ؛ ولذا قال عقيبه : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩] ، وهي نسبة الوجود التي بها أضيف العلم إليه ، فإذا غفر وستر ؛ كان الوجود وما يتبعه لله تعالى ؛ وإنما أمره بالعلم مع أن هذه الشهادة أول ما صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في مرتبة العقل الأول ، إشارة إلى الفرق بين مرتبتي الروح والجسد ، فمرتبة الروح لكونها مرتبة التجرّد ؛ لا تحتاج إلى التذكير والأمر بالعلم ، وأمّا مرتبة الجسد ـ

٣٠٧

الحدث في بقاء الحق أعظم الذنوب ، وأيضا إذا دعاه إلى العلم بوحدانيته وقع له عليه‌السلام أنه يعلم الحق بالحقيقة في سرعة شوقه إليه ، وكمال محبته له ، فعرفه الحق موضع خاطره في شوقه أنه لا يمكن ذلك ، وهو مستحيل ، وهو ذنب ، فأمره بالاستغفار منه بنعت عرفانه عجزه عن درك حقائق وجود القدم ، وأيضا ألبس روح محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نورا من نور علمه ، جعله عالما بعلمه ، ومتصفا بصفته ، فلما باشر ذلك النور نور روحه وتجلى الحق لسره من عين علمه صار عالما بعلم الحق على الحق ، فلما وجده بهذه المثابة دعاه إلى العلم بحقيقة أحديته بنعت زوال الشواهد والجواهر والأعراض ، والنظر إلى الأفعال وطلب الصفة إلى الذات بالحق إلى الحق ليعلمه ، فحار سرّه في ميادين الأزل والأبد ، واستغرق في بحار أولية روحه وسره ، ولم يدركه ، وكلما وجد علما فني في علم آخر ، وذهب العلم الأول في العلم الثاني ، فلما وجده الحق عاجزا عن دركه أمره بالاستغفار ؛ لما فيه من بقايا وجوده في مقام الاتصاف ، فإن في الاتصاف بقي العبد ، وبقاء العبد في الاتصاف حجاب الاتصاف ، فإذا بقي وجوده يحتجب به عن الإدراك ، فإذا لم يبق بقي الحق ، وهو عالم بنفسه أزلا وأبدا ، فوجوده تكلف في البين ؛ إذ الحق عالم به لا هو ، فأمره الحق بالاستغفار عن بقائه في الاتصاف ، فإنه ذنب عظيم ؛ إذ به محتجب عن مقصوده ، لذلك عرف حاله صلوات الله عليه ، وقال : «إنّه ليغان على قلبي ، وإنّي لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» (١) ، ومن وقع في هذا البحر فقد وجب عليه في كل نفس ألف استغفار ؛ لأن في أول الحال فرح بوجدان المقام والسكون إلى المقام ، فلما انكشف إليه مزيد القرب والمعرفة عن الأول وقد وجب عليه الاستغفار من الفرح به والوقوف عليه ، ولذلك قال الجنيد : اعلم حقيقة أنك بنا ولنا وبنا علمتنا ، وإياك أن ترى نفسك في علمك ، فإن خطر بك خاطر غيره فاستغفر من خاطرك ، فلا ذنب ولا خطرة أعظم ممن رجع عنا إلى سوانا ولو في خطرة ونفس.

__________________

ـ فكونها مرتبة التعلّق ؛ تحتاج إلى ذلك ؛ ولذا لمّا خلقه الله تعالى ، وهو أول المبدعات قال : (لا إله إلا الله) ، ولم يقل : وأنا العبد ؛ لأن تلك المرتبة ليست مرتبة العبودية ؛ بل مرتبة الحامدية بلسان الروح ، ولمّا وقع المعراج ، ودخل على الله تعالى قال : (لا إله إلا الله أنا العبد) فأثبت العبودية حينئذ لما يقتضيه الموطن ، فلكل من المواطن اعتبار غير اعتبار الآخر ، ولمّا كانت الألوهية من الإضافات ؛ لأنها تقتضي ألوهية العبد ؛ وقع عليها العلم الذي هو نسبة من النسب أيضا ، وليس فوق مرتبة العلم والألوهية إضافة أصلا ؛ لأن ما فوقها ذات بحت لا اسم هناك ، ولا رسم ، ولا وصف ، فإلى مرتبة الألوهية ينتهي علوم العلماء ، ومكاشفة المكاشفين ، ومن ثمّ حكم على العالم ؛ بل المكاشف أيضا بالحيرة لكنها هي الحيرة الممدوحة الناشئة عن علم وتجلّي ، لا عن جهل واحتجاب ، والله الهادي إلى عين ذاته.

(١) رواه مسلم (٤ / ٢٠٧٥) ، وأبو داود (٢ / ٨٤).

٣٠٨

قال الواسطي : من قال لا إله إلا الله على العادة فهو أحمق ، ومن قالها تعجبا فهو مصروف من الحق ، ومن قالها على الإخلاص فأشرك وطعنه ؛ لأنه بإياه يخلص حتى يصير مخلصا ، ومن قالها على الحقيقة فقد تبتل عن الشواهد.

وقال القاسم : العلماء أربعة : عالم متروك ، وعالم متمكن ، وعالم موصول ، وعالم مجذوب ، فالعالم المتروك هم العامة ، والعالم المجذوب وهم الذين جذب الله سرائرهم إلى سره ، والعالم الموصول هم الذي يطلبون المعالية ، والعالم المتمكن وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحد القرار في محل المشاهدة ؛ لذلك خوطب بقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، ولم يقل فاعرف ؛ لأن الإنسان قد يعرف الشيء ولا يحيط به علما ، ما علمه وأحاط به علما فقد عرفه.

وقال الواسطي : هما دعوتان : دعا إبراهيم إلى قوله : (أَسْلَمَ) ، ودعا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوله : (فَاعْلَمْ) ، دعا أحدهما إلى العلم ، والآخر إلى الإسلام ، وأعلاهما العلم ؛ فهو مرتبة الأجلّة ، والإسلام هو الانقياد ، والانقياد إظهار العبودية ، والعلم إظهار الربوبية ، لا جرم ابتلى حين قال : (أَسْلَمْتُ) بالنار وذبح الولد وغيرهما.

وقيل : قال لإبراهيم : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ) : ابتلى لما قال ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل علمت فعوفي ، وما ينكث في سري من الحال هواتف أطيار الغيب التي تنبه أهل الأفهام أنباء الربانية أن الله اختبر الخليل بروية الفعل والعلم بالصفة ؛ حيث قطع الطيور ليرى أنوار الشاهد في الشواهد بقوله بعد أن أحياها : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وحبل قدر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فامتحنه الله بالعلم بالذات هاهنا بقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وهناك حيث قال للخليل : (أَسْلَمَ) ، فهناك امتحان بالعبودية ، وما قال للحبيب : (فَاعْلَمْ) امتحان بالربوبية ، فكم فرق بين هذين المنزلين! فالخليل اجترأ من حيث شوقه ، وقال : (أَسْلَمْتُ) ، وكان في سكر الخطاب ، ولو كان في وقت الصحو علم أن الحدثان لا ينقاد لعزّ ربوبيته كما يجب ، فإن الحادث لا يبلغ إلى حقيقة عبوديته ؛ إذ حقيقتها أن يشكر له بشيء يقابل القدم ، وهذا مستحيل ، فوقع إذا في الابتلاء ، فالخطابان مصدرهما واحد من حيث الأمر ، ولكن مصادرهما مختلفة.

قال الواسطي : العلم حجة ، والمعرفة والغلبة غير محكوم بها.

قال الحسين : العلم الذي دعي إليه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو علم الحروف ، وعلم الحروف في لام ألف ، وعلم لام ألف في ألف ، وعلم الألف في النقطة ، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية ، وعلم المعرفة الأصلية في علم الأول ، وعلم الأول في المشيئة ، وعلم المشيئة في علم الهو ، وهو

٣٠٩

الذي دعاه إليه ، فقال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ) : فالهاء راجع إلى غيب الهوية.

قال القاسم : أضاف المعرفة إلى الخلق ، فقال : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.)

وقال : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ، واختصّ هو بالعلم علم السرائر ، ويسمّى بالعلم ولم يسمّ بالمعرفة ، وقال لأخصّ أنبيائه وأصفيائه : (فَاعْلَمْ) ؛ لقربه من مصدر الحقيقة وموردها ، وإشراقه على الغيب والمغيبات ، ودعاه إلى العلم ، ووصفه به ، ووصف العوام بالمعرفة ؛ لأن العلم أتم وأبلغ.

قال بعضهم : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) من حيث الله بغيبتك عن علمك ، (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) من علمك ؛ لأن كل حقيقة لا تمحو آثار العبد ورسوله فليست بحقيقة.

وقال بعضهم : أدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عين الجمع بما دعاه إلى علم ألوهيته ؛ إذ الهوية عين الجمع وفرق الخلق في سائر الأسامي والصفات ، فطالع كل واحد منها قدره.

قال ابن عطاء : طلب تنزيه العبد ؛ لئلا يكون له خاطر غيره في علمه بأن لا إله إلا هو علما لا قولا ، وهو حقيقة التوحيد حقائق تنبئ عن الموحد لا حقائق تنبئ عن العبد.

قال علي بن طاهر : إن الله أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو الخلق إليه ، فلما دعا الخلق إليه دعاه من نفسه إليه بقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي : أنت تدعو الخلق إليّ وأنا أدعوك من نفسك إليّ.

وقال الأستاذ في قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي : إذا علمته أنك علمته فاستغفر لذنبك من هذا ؛ فإن الحق علا جلّ قدره أن يعلمه غيره.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩))

قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) : وبّخ الله سبحانه الجهلة بالقرآن والغفلة عن التدبر فيه ، وبيّن أنهم لا يتدبرون القرآن ، وأظهر سبب

٣١٠

منع تدبرهم.

(أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي : بل على قلوبهم غطاء الغفلة ، من حيث غطّاها الحق سبحانه بغطاء قهره ومنعها عن مشاهدة صفته ، وأصم أسماع أسرارهم ؛ لئلا تصغي إلى سقوط الإلهام ، أو تفهم لطائف الكلام ، فالتدبر في القرآن لغواص بحار الفهوم حين غاصت أسرارهم وفهومهم وأولياؤهم في بحر عجائب خطاب الحق ، فتستخرج غرائب علومها وأسرارها ، فتعبر عنها ألسنتهم الصادقة عند مجامع هموم المريدين وأولي الشهود بنعت إلقاء السمع من المراقبين.

قال ابن عطاء : قلوب أقفلت عن التدبر ، وألسن منعت عن التلاوة ، وأسماع صمت عن الاستماع ، ومن القلوب قلوب كشف عنها الغطاء ، ولا يكون له راحة إلا في تلاوة القرآن واستماعه والتدبر فيه ، فشتّان ما بين الحالتين.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦))

قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) : وصف الله نفسه بالقدرة القائمة والمشيئة الأزلية بأنه لو أراد أن يكشف عن سرائر الخلق وخفايا قلوبهم لحبيبه صلوات الله عليه لكان قادرا ، وذلك بعد أن ألبس قلبه أنوار غيبه وغيب غيبه ؛ فإنه كان مستعدّا بأن ينظر إلى بواطن الغيوب وضمائر القلوب ، ولكن ما كان أوائل حاله عرفان بعد ترقي أحواله إلى مصاعد الغيب ورؤية أنوار الصفات ، لكن أثبت في أحوالهم بالوسائط في هذا الموضع بقوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، فإذا كمل في مشاهدة الحق أخبر عن وقوف سرّه على ممكنات الغيوب بقوله : «فعلمت ما كان وما سيكون» (١) ، فنبّهنا الله سبحانه أن أوائل

__________________

(١) ذكره القنوجي في أبجد العلوم (١ / ١٣٨).

٣١١

الفراسات مقرونة بعلامات الظاهر ، وأنها تتم بما بدا من سيماء الوجوه ، ولحن القول والفراسة المحضة ما قال عليه الصلاة والسلام : «اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنّه ينظر بنور الله» (١) ، وبيّن أن ما يكون من الصدق في القول آثاره تبدو من السّماء وصدق القول وما يكون بخلاف ذلك ؛ فلذلك قال القاسم في قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) : أطلعناك على سرائرهم ، (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) فطنة ، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ظاهرا ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) ، لا يقف على ما لهم من السعادة والشقاوة أحد.

وقال أيضا : إن عند الله الأكابر والسّادة يعرفون صدق المريد من كذبه بسؤاله وكلامه ؛ لأن الله يقول : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.)

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

قوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٢) : وصف الله سبحانه نفسه بغنى القدم واستغنائه عن الكون وما فيه وأن خزائن جوده لا نهاية لها ، وغناه صفته الأزلية القائمة يحوي حواشي بحارها فقر أهل الأكوان والحدثان ، فيغنيهم بغناه الذي لا فقر بعده ، وحقائق معنى الخطاب للمتصفين بصفاته الذين وجدوا مقام الغنى من الله بعد أن كساهم الحق نور غناه وجرّدهم عن مقام الفقر ، الذي هو مستفاد من نعوت تنزيه القدم ؛ إذ كان ولا مكان ولا وقت ولا زمان أي : أنتم وإن بلغتم إلى مقام الاتصاف بصفة غنائي فأنتم بعد فقراء ، إذ الوصف للموصوف لا للمتصف ، وأنه لا نهاية له.

قال الجنيد : في موضع الغنى كسوة الحق.

وقال سهل : معرفة علم السر كله للفقر ، وهو ستر الله ، وعلم الفقر إلى الله تصحيح علم الغنى بالله.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) قال القشيري : والله الغني لذاته بذاته ، ومن غنائه : تمكّنه من تنفيذ مراده ، واستغناؤه عما سواه ، وأنتم الفقراء إلى الله ، في نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، في الابتداء ليخلقكم ، وفي الوسط ليربيكم ، وفي الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم ، ويبقيكم بهويته ، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد.

٣١٢

قال الجنيد : والله الغني وأنتم الفقراء ، لأن الفقر يليق بالعبودية والغنى بالربوبية ، ثم بيّن وصف غناه عن العالمين في آخر السورة بقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) أي : إذا ذقتم طعم شراب وصالي وسكرتم لمشاهدة جمالي وتفقرون إلى بحار الأنائية وتستغرقون في لجج الأحوال وتخرجون منها بالعربدة فأوجد أقواما من المستقيمين على بساط جبروتي وساحات ملكوتي ، ولا يزيفون عن سبل التمكين إلى شعب التلوين.

قال بعضهم : لا يستقر على حقيقة بساط العبودية إلا أهل السعادة ، وقد يطأ البساط المترسمون بالعبودية أوقاتا ، ثم لا يستقرون عليه ، ويبدل الله مكانهم فيه من أوجب لهم السعادة ، ألا تراه يقول : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.)

سورة الفتح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) : نبّهنا الله في ذلك من سرّ عجيب ، وهو أن أبواب كشف القدم مسدودة على أهل الحدثان ، ولم يظهر لأحد عين ذات الأزل ، ففتح الله أبوابه لعين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رآه كفاحا ، فتح سمعه فأسمعه كلامه شفاها ، وفتح باب قلبه وروحه وسرّه ، فعرف نفسه لها ، حتى وجدت أبواب خزائن علومه الغيبية مفتوحة ، وفتح الله جميع أبواب وجود حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى الشعرة على بدنه وجعلها عيونا مفتوحة بمفاتيح توحيده وأنوار حقيقته حتى رآه بجميع عيون وجوده ، وذلك الفتح ظاهر من وجوده حتى لا يراه أحد إلا ويرى نور الصمدية ينتشر من بشريته ، لكن كان محجوبا من عيون الأغيار بقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، وذلك الفتح سبب غفران ذنبه الأول وذنبه الآخر ، الذنب الأول سقوطه من زند الفعل على نور الصفة ؛ إذ أتى في أوّل الأول بوجود الحدث إلى ساحة القدم ، ومع ما أتى به لم يأت بحقوق الأزلية عليه بكمالها ، فإذا قصّر في واجب حق الربوبية بكماله عليه صار ذلك ذنبه الأول ، وذنبه الآخر وقوفه بنعت الخطاب على مدارج العبودية بعد أن غاص في بحر الربوبية ، فإن من شرائط وجدانها الخروج من المرسومات ، فذلك الفتح سبب غفران الذنبين ، وليبلغه إلى محض

٣١٣

الاتصاف والاتحاد حتى تسير الربوبية في ركاب حيزوم القدم في ميادين الأزل إلى الأبد بنعت التوحيد والتجريد والتفريد ، وذلك تمام نعمته التي عليه أخبرنا الحق عنها بقوله : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) ، ثم بيّن أنه يهديه إلى طريق مشيئة الأزل المستقيمة بالإرادة والوحدانية ، وذلك الطريق ما يسلك فيه عساكر جنود أنوار التجلي والتدلي بقوله : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) ، ذلك الصراط للحق لا للخلق ؛ لأن الحادث لا يسلك في القدم ، أقامه الحق على رأس ذلك الطريق ، وكان لا يعرف أين يسلك حتى بدت أنوار بريد تجلي القدم الذي استقبله ، فهداه إلى مسالك الديمومية ، فأذهب به الحق إلى معارج دنوه ، وذلك ما أنبأنا الله من سيره من الحدث إلى القدم بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) ، فإذا وصل إلى قلب عساكر الواحدنية وغلبت عليه سطوات جنود الفطنة استغاث منه إليه ؛ حيث قال : «أعوذ بك منك» (١) ، فلبسه الله أنوار ربوبيته ، وأيّده بقوته الأزلية حتى استقام بالحق في الحق ، فأخرج الحق جنود رحمته الباقية ، فقوّاه بها ، وسكن بها قهر القدم بقوله : «سبقت رحمتي غضبي» (٢) ، وذلك قوله : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً.)

قال ابن عطاء : جمع الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية من نعم مختلفة : بين الفتح المبين وهو من أعلام الإجابة ، والمغفرة وهي من أعلام المحبة ، وتمام النعمة وهي من أعلام الاختصاص ، والهداية وهي من التحقق بالحق ، والنصر وهو من أعلام الولاية ، والمغفرة تبرئة من العيوب ، وتمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة من الحق ، والهداية هي الدعوة إلى المشاهدة ، والنصرة هي رؤية الكل من الحق من غير أن يرجع إلى سواه.

وقال الواسطي : فتح عين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمشاهدته في المسرى ، وفتح سمعه لفهم كلامه كفاحا بعد أن قوّاه لذلك وأكرمه به.

وقال ابن عطاء : كشف ذنوب الأنبياء عليهم‌السلام ، ونادى عليه ، وستر ذنوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.)

قال أبو يزيد في قوله : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) : هو السبيل إلى قربه ليلة المعراج ؛ حيث تأخر جبريل عليه السّلام ، ولم يكن ذلك محله ، فهدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السبيل الحق ، وهو الصراط المستقيم.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٠٨).

٣١٤

وقال ابن عطاء : لما بلغ إلى سدرة المنتهى قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخر جبريل عليه‌السلام ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : تتركني في هذا الموضع وحدي ، فعاتبه الله حين سكن إلى جبريل فقال : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.)

وقال أيضا : يهدي بك الخلق إلى الطريق المستقيم ، وهو الطريق إلى الحق ، من جعله أمامه قاده إلى الخلق ، ومن لم يقتد به في طلب الطريق إلى الحق ضلّ في طلبه ، وأخطأ طريق رشده.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) : ما حرم الله المؤمنين من رشاش بحار معرفته وأنوار قربه ، بل خصّهم بما خصّ به الأنبياء عليهم‌السلام في أوائل أحوالهم ، وتلك السكينة ، وهو وقوع نور المشاهدة على أسرارهم ، فقويت به في تراكم بوادي الواردات الغيبية وامتحانات إلهية ، وبذلك النور تزيد أنوار إيمانهم.

قال الله في موضع آخر : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، والسكينة شهود كشف الجمال في قلوب أهل الكمال ، والبصيرة تورث في أسرارهم الأنس ، والبصيرة كشف الجلال في قلوب العارفين ، فيبصرون به نوادر الغيوب وعجائب القلوب ، لذلك قال : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) ، وذلك الإيمان هو البصيرة.

قال الواسطي : البصيرة مكشوفة ، والسكينة مستورة ، ألا ترى إلى قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) إلخ ، فبالسكينة ظهرت البصيرة ، والسكينة هداية ، والبصيرة عناية ، وإذا أكرم العبد بالسكينة يصير المفقود عنده موجودا والموجود مفقودا.

سئل بعضهم ما أوّل ما كاشف الله به عباده؟ قال : المعارف ، ثم الوسائل ، ثم السكينة ، ثم البصائر ، فلما كاشفه الحق بالبصائر عرف الأشياء بما فيها من الجواهر ، كأبي بكر رضي الله عنه ما أخطأ في نطق.

قال جعفر : سمعت الجد يقول لينظروا إلى الإيقان وإلى مشاهدته بعين القلب ، فكانت

٣١٥

هذه المعرفة زيادة عن المعرفة الأولى ما غاب عن العيان بما شاهدت القلوب بالإيقان.

وقال سهل : هي نور اليقين ، يسلكون به إلى عين اليقين ، وعين اليقين هي التي تدل على الحقائق ، وهي حق اليقين.

وقال بعضهم : السكينة يقذفها الله في قلوب أوليائه يسكن به نفس أوليائه عن المعارضات.

قال الأستاذ : السكينة ما يسكن إليه القلب من البصائر والحجج ، فيرتقي القلب بوجوده عن حد الفكرة والسير إلى روح اليقين ، وتلج الفؤاد ، فتصير العلوم ضرورية ، هذا للخواصّ ، وأما عوام المؤمنين المراد منه السكون والطمأنينة واليقين.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : جنوده هم سماوات أرواح العارفين وقصور أرض قلوب المحبين ، وأنفاسهم جنوده ، تنتقم بنفس منهم من جميع أعدائه فيقهرهم ، وذلك أن واحدا منهم يضيق صدره من أعداء الله ، فبان أنه يحترق بها أهل الضلالة ، ألا ترى كيف قال سكران الطور حين دعا على الكفرة : «ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم» (١) ، فصاروا حجارة محماة ، وكيف قال سيد البريات في وجوه الكفرة حين قال : «شاهت وجوههم ، فانهزموا» (٢) بإذن الله ، وكذا حال كل صديق مع الله ، يوقع نيران الهلاك بين الضلال بنفس واحد ، فيهلكوا بأقل من لمحة ، كما دعا نوح على قومه ، فقال : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ، فهلك به أهل الأرض جميعا إلا من آمن ، وكل ذرة من العرش إلى الثرى جنوده ، حتى لو سلط نملة على حية عظيمة لتدمر عنها ، ولو سلط بعوضة على الأكوان جميعا لخربتها بقوة الله ، ألا ترى كيف قال عليه‌السلام :

«لله جنود منها إليك» (٣) ، وهذا محل الانفراد بالله والتوكل على الله ؛ فإنه عون كل ضعيف وحسب كل عاجز.

قال سهل : جنوده مختلفة ؛ فجنوده في السماء الملائكة ، وجنوده في الأرض الغزاة ، وأيضا جنوده في السماوات الأنبياء ، وفي الأرض الأولياء ، وأيضا جنوده في السماوات القلوب ، وفي الأرض النفوس.

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (١١ / ١٥٧).

(٢) رواه الطبري في التفسير (١٠ / ١٠٠).

(٣) هو من الأحاديث التي تفرد المصنف بذكرها في كتبه.

٣١٦

قال بعضهم : ما سلط الله عليك فهو من جنوده ، إن سلط عليك نفسك أهلك نفسك بنفسك ، وإن سلط عليك جوارحك أهلك جوارحك بجوارحك ، وإن سلط نفسك على قلبك قادتك في متابعة الهوى وطاعة الشيطان ، وإن سلط قلبك على نفسك وجوارحك زمّها بالأدب ، فألزمها العبادة ، وزيّنها بالإخلاص في العبودية ، وهذا تفسير قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨))

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٨) أي : شاهدا على توحيدهم ومعرفتهم ومحبتهم وولايتهم ، وبنور الله على قلوبهم وأسرارهم ، ومبشرا يبشرهم بالوصال ورؤية الجمال والجلال ، ونذيرا من العتاب والحجاب ، وأيضا شاهدا للعارفين ، بدا من الحق لهم ؛ ليروا امن مشاهدته أنوار جمال الحق ، ومبشرا للمحبين ، يبشرهم بالوصال إلى قرب حبيبهم بلا علة ، ونذيرا للمقبلين إليه لئلا يميلوا إلى غيره.

قال سهل : شاهدا عليهم بالتوحيد ، ومبشرا لهم بالمعرفة والتأييد ، ونذيرا محذرا إياهم البدع والضلالات.

قال ابن عطاء : شاهدا علينا ، ومبشرا لنا ، نذيرا عنا ، وداعيا إلينا ، وأنت المأذون في الكل ؛ لأنك أمين على الكل ، ولا يطيق هذه المراتب إلا الأمناء ؛ فإنك الأمين حق أمين.

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

قوله تعالى : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي : جعلك شاهدا لهم ؛ ليؤمنوا بالله ورسوله أي : ليشاهدوا بأسرارهم مشاهدة الله ، ويدركوك في محل الجلال والجمال ، ويعرفوا قدرك في قدري وقدري في قدرك ؛ حيث سرت مرآتي ، أتجلى منك لهم ؛ لذلك قال عليه الصلاة والسّلام : «من رآني فقد رأى الحقّ» (١) ، ويعزروا أمري فيك ببذل وجودهم ، ويوقروك بما ألبستك وقاري وهيبتي ، ويوقروا كلامي وخطابي الذي أنزلت عليك بنعت المتابعة ، ويقدسوني من الأضداد والأنداد ، وعن أن يجد أحد سبيلا إلى كنه معرفتي وجلال قدري ، أول الخطاب توحيد بقوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ) ، وهو مقام الجمع ، ثم مقام التفرقة بقوله : (وَرَسُولِهِ) ، ثم رؤية الصفات في الفعل وهو مقام الالتباس بقوله : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) ، ثم إفراد القدم عن الحدوث بقوله : (وَتُسَبِّحُوهُ) ،

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣١٧

فأول الخطاب والباقي واحد في معاني التنزيه والتوحيد.

قال سهل : لتؤمنوا تصديقا بما جاء به ، وتعزروه حقه في قلوبكم وطاعته على أبدانكم.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) : ذكرت تحقيق هذه الآية في قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، وصرح الله ما ذكرنا في هذه الآية ؛ حيث بيّن أمر عين الجمع ومقام الالتباس وظهور العين ، وظهور جمع الجمع في عين الجمع ، حين جعل نبيّه مرآة لظهور ذاته وصفاته ، وهو مقام الاتصاف والاتحاد ، بدا نور الذات في نور الصفات ، وبدا نور الذات والصفات في نور الفعل ، فصار هو هو ؛ إذ غاب الفعل في الصفة ، وغابت الصفة في الذات ، ومن ههنا ادّعى الحلاج ـ قدّس الله روحه ـ حيث قال : «أنا الحق» ، وقال سلطان العارفين أيضا من هاهنا «سبحاني سبحاني» (١).

__________________

(١) قال : شيخ الشيوخ الشيخ شهاب الدين السهروردي في العوارف : وما يحكى عن أبي يزيد قوله : سبحاني حاشا لله أن يعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى. قال : وهكذا ينبغي أن يعتقد في الحلاج قوله أنا الحق.

٣١٨

قال أبو سعيد بن أبي الخير : «ليس في الجبة غير الله» (١) ، وأنشد الشبلي في هذا المعنى :

تباركت خطراتي في تعالائي

فلا إله إذا نكرت آلالي!

قال الواسطي : أخبر الله تعالى بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أن البشرية في نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارية وإضافة دون الحقيقة.

وقال : أظهر النعوت في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ.)

وقال الحسين : لم يظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخصّ اسمه وأشرفه ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، أسقط الوسائط عند تحقيق الحقائق ، فأبقى رسومها ، وقطع حقائقها ، فمن بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايع الله على الحقيقة ؛ فإن تلك بيعة الله ؛ لأن يده في تلك البيعة يد عارية.

قال القاسم النصرآبادي في وقت الاستنفار إلى الروم : ها قد ظهرت صفة البيعة فهل من راغب فيها ، بيعة بلا واسطة : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) إلخ ، وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) : زيادة التصريح في مقام عين الجمع ورسمه أن سنته القديمة غالبة على علل العبودية.

قال بعضهم : منة الله عليهم في الهداية إلى هذه البيعة أعظم عليهم من بيعتهم وقال الشبلي في هذه الآية : من صحت أحواله واستقامت أفعاله أخبر الله عنه بعبارة الجمع كما عبر عن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استقام مع الحق في كل أوصافه ، أخبر الله أن بيعته بيعة الحق ، وطاعته طاعة الحق ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ.)

قال الأستاذ : في هذه الآية تصريح بعين الجمع ، كما قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) : إن الله عذر أقواما من المحبين والعارفين بالرمز في هذه الآية ، ظاهرها مع العموم ، وباطنها مع الخصوص.

__________________

(١) إشارته بما تحت الجبة إلى قلبه الذي وسع ربه ، فإنه ليس في قلبه إلا الله. وانظر : كتابنا : سلطان العارفين ، وإرشاد ذوي العقول إلى براءة الصوفية من الاتحاد والحلول.

٣١٩

كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للقرآن ظهر وبطن وحدّ ومطلع» (١) ، إن الأعمى ههنا من طمسته سبحات وجهه حين عاين لقلبه وروحه ظهر عماه ، إذ لا يرى غير الله ، وعماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطون الأزل والغيب وغيب الغيب ، وهذا سرّ قوله عليه الصلاة والسلام في وصف جمال الحق : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (٢) ، فجعله معذورا ألا يدرك حق الحقيقة وحقيقة الحق ؛ إذ يستحيل أن يحيط الحدث بالقدم ، وإن كان واجبا معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد ، وأيضا هو معذور باستعمال الرخص والدخول في الرفاهية ، والأعرج من عرج سره وروحه من السير في ميادين الأزلية والأبدية ؛ إذ كان عرجا بضرب سيوف الوحدة ووصول إعجاز القهريات ، أي : هو معذور حين جلس على بساط الأنس ، ولم يسر في ميادين القدس ، فإن هناك طوفان الكبرياء وسطوات العظمة والبقاء ، وهذا الأعرج معذور ؛ إذ لم يأت من مقام المشاهدة إلى مقام المجاهدة ، والمريض هو الذي أسقمته محبة مشاهدته ورؤية جماله ، فهو معذور ؛ إذ باشر الروحانيات مثل السماع واستعمال الطيب والنظر إلى المستحسنات ، فإن مداواته تكون أيضا من قبيل العشق والمحبة ؛ لأن العشق أمرضه ، فأيضا يداويه بالعشق كما قيل :

تداويت من ليلى بليلي من الهوى

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

فهؤلاء أهل المشاهدات لا أهل المجاهدات والرسومات.

قال الأستاذ : من كان له عذر في المجاهدة مع النفس ؛ فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ

__________________

(١) رواه ابن المبارك في الزهد (١ / ٢٣).

(٢) تقدم تخريجه.

٣٢٠