تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قلوب المحبين ، وينشق طيب نسائم الدنو أرواح الشائقين ومحمل أنين العاشقين إلى بساتين الملكوت ، ويطيبها بطيب الجبروت :

وإني لأستهدي الرياح نسيمكم

إذا أقبلت من أرضكم بهبوب

وأسألها حمل السلام إليكم

فإن هي يوما بلغت فأجيب

وأقسم بسحائب ظلال عنايته القديمة التي تحمل ويل المعرفة من بحر الصفات ، فتمطر على أرض قلوب العارفين ، فينبت به أزهار المحبة وورد الألفة وياسمين المودة ونور الحكمة ورياحين العلوم اللدنية ، فيا لها من برد تلك الظلال ، ويا لها من تسنيم ذلك الشمال ، يا لها من حسن ذلك الجمال ، وأيضا : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) : أقسم برياح أنفاس المشتاقين إلى جماله التي تصعد إلى الملكوت ، وتنشر طيب نفحات العشق في بساتين الجبروت ، فيطيب بنسيمها أهل الملأ الأعلى وصفائح الأدنى.

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) : سحائب أرواح العارفين التي تحمل أوقار مياه علوم الغيب من بحار الصفات ، فتمطر على صحارى الصدور ، فتنبت فيها أشجار الحقائق وأنوار الدقائق.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) : للسنن أسرار الربانيين التي تجري في بحار الذات القديم ، يسوقها شمال العناية ، ويحرسها من الفناء شرف الكفاية.

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) : عقول المتمكنين في مقام الصدق والاستقامة التي تقسم أمور الإلهام في مواضع العبودية لنظام الطريقة والشريعة ، أقسم الله بهذه العجائب بما فيها من لطائف الغرائب والدلالة على صفاته وذاته ومحبة أوليائه وقمع أعدائه إن مواعيد وصاله وكشف جماله لصادقة ، وإن ساعات القربات والمداناة لواقعة ، فهناك أيام المواصلة ، وهناك أزمان المكاشفة والمشاهدة إلى الأبد.

قال الأستاذ في قوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) : إن من حملة الرياح الصبحية تحمل أنين المشتاقين إلى ساعات العزة ، ثم تأتي بنسيم القربة إلى مشام أهل المحبة ، فيجدون راحة غلبات اللوعة ، وفي السحاب ما يمطر بعتاب الغيبية ، ويؤذن بهواجم النوى والفرقة ، فإذا عنّ لهم شيء من ذلك أبصروا ذلك بنور بصائرهم ، فيأخذون في الابتهال والتضرع في السؤال استعادة منهم ، كما قالوا :

أقول وقد رأيت لها سحابا

من الهجران مقبلة إلينا

وقد سحّت عزاليها بهطل

حوالينا الصّدود ولا علينا

وقال في قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) : وعد الله المطيعين بالجنة ، والتائبين بالرحمة ،

٣٤١

والأولياء بالقربة ، والعارفين بالوصلة ، ثم أقسم بسماء قلوب الموحدين التي شمسها العرفان ، وقمرها الإيقان ، ونجمها الإيمان ، وصفاؤها البيان ، وسحابها البرهان ، ومطرها الغفران ، ورياحها القربان ، وحبكها لمعان العيان بقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧).

قال الأستاذ : الإشارة إلى سماء التوحيد ذات الزينة بشمس العرفان وقمر المحبة ونجوم القربة.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي : الذين يتحرزون بهمومهم الصافية عن غبار الخليقة ، يتقلبون في جنان القربة ، ويعيشون بنسيم الوصلة ، ويشربون من عيون المعرفة شراب المحبة (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي : من لطائف المقامات وغرائب الدرجات ، في الدنيا لهم الكرامات ، وفي الآخرة لهم المداناة ، ثم ذكر سبب وصولهم إليها ، فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي : باذلين وجودهم لله شوقا إلى الله ، ثم زاد في وصفهم بأنهم باتوا في ظلم الليالي ؛ لتفقد الواردات وطلب المكاشفات بقوله : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ، يتهجدون في أجواف الليالي بطيب مناجاتهم وحلاوة مراقباتهم ولذة انبساطهم وعربدتهم على بساط الاحتشام ؛ حيث يسمعون لطائف الإلهام والخطاب والكلام ، فيا لها من عبراتهم ، ويا لها من زفراتهم ويا لها من شهقاتهم ، ويا لها من لذة تلفظهم بالشطحيات ، وغرائب الكلمات الإلهيات ، وهذا من كمال عشقهم وغلبات محبتهم وشوقهم ، لا يقدرون أن يناموا في مضاجعهم ؛ من لذة الأنس بالله ووجدان قرة عيونهم من نور مشاهدته ، حيث قال في وصفهم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ، أين أنت يا صاحبي من سقوطهم وتمرغهم في التراب؟! لو رأيت عيونهم الباكية لترى فيها دمار أكبادهم ، الله يعلم أسرارهم ؛ حيث هيّجهم بشوقه وعشقه إلى قربه حتى لم يناموا على فرشهم مثل البطالين والغافلين ، وأنشد :

نهاري نهار النّاس حتّى إذا بدا

لي الليل هزتني إليك المضاجع

أقضى نهاري بالحديث وبالمنى

ويجمعني والهم بالليل جامع

ثم وصفهم الله بأنهم مستغفرون بالأسحار ، وذلك أنهم إذا رجعوا من مقام المشاهدة إلى مقام المراقبة يستغفرون الله من الزلات والخطرات قبل المداناة وبعد المكاشفات من

٣٤٢

المعارضات بقوله : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، ثم زاد في وصفهم أنهم بذلوا ما لهم في سبيل الله لمن سأل منهم ولمن لم يسأل بقوله : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.)

قال سهل : المتقي في الدنيا في جنات الرضا يتقلب ، وفي عيون الأنس يسبح.

وقال في قوله : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) : لا يغفلون عن الذكر في حال.

وقال بعضهم : ذاقوا حلاوة الأنس في الذكر ، فتهجدوا ، وهجروا النوم ، وقاموا آناء الليل والنهار طالبين مرضاته ، متطلعين إلى ما يرد عليهم من زوائد مناجاته وفوائده.

وقال الأستاذ : الليل إما للأحباب في أنس المناجاة ، وإما للعصاة في طلب النجاة ، والسهر لهم في لياليهم دائم ، إما لفرط أسف ولشدة لهف ، وإما للاشتياق والفراق ، كما قالوا :

كم ليلة فيك لا صباح لها

أفنيتها قابضا على كبدي

وقد غضت العين بالدموع وقد

وضعت خدي على بنان يدي

وأما لكمال أنس وطيب روح ، كما قالوا :

شقي الله عيشا قصيرا مضى

زمان الصبى في الهوى والمحون

لياليه يحكي انسداد اللحاظ

للعين عند ارتداد الجفون

وقال بعضهم : السائل المفتضح ، والمحروم المتعرض.

وقال الأستاذ : السائل المتكفف ، والمحروم المتعفف.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١))

قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) : إن آيات الأرض ظهور تجلي ذاته وصفاته في مرآة الأكوان ، كما ظهر من الطور لموسى ، وما ظهر من المصيصة لعيسى ، وما ظهر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبال مكة ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «جاء الله من سيناء واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران» (١) ، وأيضا يظهر لكل موقن ذلك النور والبركة ، وهذا المقام مقام اليقين ، وإذا ظهر بذاته وصفاته للسر والروح والقلب والعقل يكون مقام الاتصاف والاتحاد ، وهذا للعاشقين ، وهو مقام عين الجمع ، الأول مقام الجمع ، ومن شدة ظهور النفس الناطقة استفهم الحق غرباء المعرفة ، ودلّهم على عيان المشاهدة ، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) : آيات الموقن هو الموقن ، وآيات العارف هو العارف سبحانه هو المقدس من مباشرة الحدثان ، والمخالطة بالإنسان.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٤٣

قال سهل : بالعارفين بالله يستدلون على معروفهم.

وقال في قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) : أي : أفلا ينظرون فيها إلى آثار الربوبية.

وقال الواسطي : تعرّف إلى قوم بصفاته وأفعاله ، وهو قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، وتعرّف إلى الخواص بذاته ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ.)

وقال بعضهم : فمن لا يبصرها ولا يعرفها أضاع حظها منها.

وقال الحسين : إذا عرج على نفسه بان نفسه لنفسه ، ومن لم يعرج على جملته كان محتشما لم يبين خلقه لخلقه ، فكان كما لم يزل خوطب بلسان الأزل وجميع نعوته عدم ، بقوله : (بَلى) ، فكان المخاطب لهم والمجيب عنهم ولا هم.

وقال أبو الحسين بن هند : العبد يعرف نفسه على قدر حضوره واستعماله للعلم ، وعلى قدر رجوعه إلى الله يعرف نعمه وفضله وكلاءته ؛ إذ ذاك ينجو من الاستدراج.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي : في سماء صفاتي رزق أرواحكم من مشاهدة النور ، وغذاء العلم الرباني ، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه ، وفي الآية دليل التوكل على الله ، وحثّ على طلب الحوائج منه ، وأحالهم إلى رؤية الوسائط ، ولو كانوا على محل التحقيق لما أحالهم إلى السماء ولا إلى الأرض.

قال إبراهيم بن شيبان : وفي السماء بقاؤكم وما توعدون من الفناء.

وقال القاسم : ما توعدون من الفناء والبقاء والهداية والضلالة والهلاك والعقوبة (١).

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) أي : المكرمين في الأزل باصطفائيتهم وقربتهم من الله سبحانه ، وأنهم ملبسون لباس نور الحضرة ، وأنهم سفرة الله ، أكرمهم بأنه جعلهم سفراء بينه وبين الأنبياء والمرسلين ، فبكرامة الخليل والحبيب عليهما

__________________

(١) قال التستري : أي تفرغوا لعبادتي ولا يشغلكم طلب الرزق عنا ، فإنا نرزقكم ، ثم قال : إن الله رضي عنكم بعبادة يوم فارضوا عنه برزق يوم بيوم. قال : وفيها وجه آخر : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي من الذكر وثوابه. تفسير التستري (٢ / ٦٧).

٣٤٤

الصلاة والسلام أكرمهم الله ، ولما رآهم الخليل على هيبة الملكوت استبشر برؤيتهم فيما استنشق منهم رائحة القربة ، أكرمهم بكرامة الله إياهم ، فصاروا مكرمين من جهة الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام.

قال ابن عطاء : ضيف الكرام لا يكون إلا كريما ، فلما نزلوا بإبراهيم الخليل وكان سيد الكرام سمّاهم الله مكرمين.

قال جعفر : مكرمين حيث أنزلهم أكرم الخليقة وأظهرهم فتوة وأشرفهم نفسا ، وأعلاهم همة الخليل صلوات الله وسلامه عليه.

وقال يعقوب السوسي : ما تكلف لهم ، ولا اعتذر إليهم ، وهذا من أخلاق الكرام.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥)فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

قوله تعالى : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) : كمال فتوة الخليل في إكرام أضيافه التعجيل بإحضار ما حضر عنده ، وتخبيره بأن جاء بأسمن ما عنده ، فإن من الفتوة وإكرام الضيف أن يختار من أحسن ما عنده لضيفه ، كان إكرام الضيف سجية الخليل ، ثم لما كان الأضياف رسل حبيبه زاد في إكرامهم ، بأن خدمهم بنفسه ، وقام على رؤوسهم ، وأكل معهم ، وهذا دأب العاشقين إكرام رسول الحبيب.

قال أبو العباس الدينوري : تعجيل القرى من المروءة ، ألا ترى كيف حكى الله عن

٣٤٥

إبراهيم بقوله : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ.)

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) : وصف الله نفسه بالقدرة القائمة بذاته والقوة الأزلية في ذاته ، بأن ركّب السماء ، ووسعها ، وألبسها أنوار القدرة والقوة ، وجعلها مرآة لصفاته لنظر نظار الحقيقة وإبصار طلاب المشاهدات في الآيات ، وبسط الأرضين لأقدام أوليائه ، وجعلها مساجد أصفيائه ، وأنبت فيها صنوف الأشجار وفنون الأزهار ، وأثنى على نفسه في إمهاده الأرض بقوله : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) : ذكر ثناء نفسه في ذكر الأرض لخاصيتها بأنها مواضع أقدام الصديقين ، وبأنها أصل طينة آدم وذريته ، وبيّن وحدانيته في قوله : (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ، وقع الكل في القلة والكثرة ، وتفرد الوحدانية بالوحدة ؛ ليعرف في رؤيتها العارف وحدانيته ، ويعتبر بما وجد في الكون أن مآل الكل للفناء ، والحق لم يزل ولا يزال باقيا.

قال الخراز : أظهر معنى الربوبية والوحدانية بأن خلق الأرواح ؛ لتخلص له الفردانية ، فلما تبين أن أشكال الأشياء مواضع علة الفناء دعا العباد إلى نفسه ؛ لأنه الباقي وغيره فان بقوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) ، ففروا من وجودكم ومن الأشياء كلها إلى الله بنعت الشوق والمحبة والتجريد عما سواه ، وأيضا فروا إليه منه حتى تفنوا فيه ؛ فإن الحادث لا يثبت عند رؤية القديم : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) عنه وعن قهر قدمه وفراقه (مُبِينٌ) ؛ حيث تعرفون أني صادق فيما ظهر مني من سلطان هيبتي وبرهان قدرتي.

قال سهل : ففروا مما سوي الله إلى الله ، وفروا من المعصية إلى الطاعة ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن عذابه إلى رحمته ، ومن سخطه إلى رضوانه.

وقال محمد بن حامد : حقيقة الفرار إلى الله ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «وألجأت ظهري إليك» (١).

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٩٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٨١).

٣٤٦

وما روى عنه في خبر عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «أعوذ بك منك» (١) ، فهذا غاية الفرار منه إليه.

قال الواسطي : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) معناه لما سبق لهم من الله لا إلى علمهم ، وحركاتهم وأنفسهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك منك» (٢).

سئل بعضهم عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم : «سافروا تصحّوا»؟ قال : إلينا تجدونا في أول قدم ، ثم قرأ : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (٣).

قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) : فتول عنهم بسرك إلينا ، فما أنت بملوم في إبلاغ رسالتك وإشغافك بالظاهر بهم وبإعلامهم بأسباب نجاتهم ، فأنت مستقيم ، لا يحجبك إبلاغ الرسالة عن شهود العين.

قال الواسطي : ردهم إلى ما سبق عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة ، وأسقط الملامة عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نصح وجهد وعانى بقوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) ، فلما أمر أن يتولى عن الأعداء أمر أن يقبل على طلاب مشاهدته من العارفين ، ويجدد بقوله سوابق ما أنعم الله عليهم من التوحيد والمعرفة بقوله : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ذكرهم جمالي وجلالي وحسن اصطناعي وقربي منهم ، وما خصصتهم من سني الدرجات ورفيع المقامات ؛ فإن ذكرك ينفع لهيب فؤادهم ولوعة قلوبهم وأشواق أرواحهم.

قال جعفر الصادق : يعني يا محمد ذكّر عبادي جنودي وكرمي وآلائي ونعمائي وما سبق لهم من رحمتي لأمتك خاصة ، والذكرى التي تنفع المؤمنين ذكر الله العباد وما سبق من العناية القديمة بالإيمان والمعرفة والتوفيق للطاعة والعصمة عن المعاصي.

قال الأستاذ : ذكّر المطيعين جزيل ثوابي ، وذكّر العارفين ما صرفت عنهم من بلائي.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧))

قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) : في هذه الآية إشارة عجيبة ، وهو أنه تعالى إذا أراد خلق الجن والإنس أبرز من عيون الربوبية عينا ، فأوجدهم برؤية العين ،

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) رواه أحمد (٢ / ٣٨٠) بأوله فقط.

٣٤٧

فلما عكس عليهم سناء التنزيه وباشر ذلك سناء وجودهم في إيجادهم تلطفوا بلطفه ، واستلذّوا تلك المباشرة ، وفرحوا بوجدانها ، وسكروا بحلاوتها ، فكادوا أن يدّعون الربوبية ، وذلك سرّ النفس التي سترها في النفس الأمّارة ، وذلك ظهر الفراعنة ، فادّعوا الربوبية ؛ لغلبتها على هواهم ، ومن لم يغلب عليه ذلك لم يدّع ، ولكن ذلك السر مخفيّ في نفسه ، فلما علم الحق منهم ذلك حذّرهم منه بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) : أعلمهم أن ما هو عليهم كسوة الربوبية العارية لهم ، فلما ارتفعت الكسوة بقوا في رقّ عبودية الخالق الفرد المنزّه عن مباشرة الخليقة ، أي : لا تظنوا أنها لكم ، فذلك لي حقيقة أزلية إلى أبد الأبد ، كيف لا يكونون عابديه ، وهم في قبضة عزته تكوّنوا وما يجري عليهم بغير اختيارهم ، وهم بذلك مجبورون ، فإذا صحت عبوديتهم ؛ لأن حركاتهم وسكناتهم تقع على وفق مشيئته الأزلية ، فذلك منهم عين العبودية ؛ إذ لا إرادة لهم في حركاتهم وسكناتهم ودخولهم وخروجهم وأنفاسهم وخواطرهم ، فما يظهر منهم فهو محض إرادته القديمة ، ما أراد منهم في الأزل فيكون منهم يظهر وهذا عين العبودية ؛ إذ قامت بمشيئته الكائنات والحركات والسكنات لا بذواتها ، فمن عرف نفسه بالعبودية فقد عرف ربه بالربوبية ، ثم بعد ذلك لا يكون منهم نفس ولا حركة إلا ويكون ساقطا في مشاهد ربوبيته ، فبقي الحق هناك ، ولم يبق العبد في البين ، قال الله سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : يا فهم إذا أمر لسان الأزل يكون لا شيء فتكون بأمره ، وإذا ناداه من بطنان الأزل ودعاه من غيب العدم كيف لا يجيب المكون وهو تعالى سابق بعلمه في الأزل في وجود ذلك المكون ، فإذا أجاب المكوّن المكوّن بكل مادة إما مستحسنا في الظاهر وإما مستقبحا فإن استقباحه واستحسانه يكون بالإضافة إلى الخلق ، وإلا في عين المشيئة كلها مستحسن تكون محض العبودية لربوبية الحق ، وإن خرج في لباس المخالفة من حيث الرسوم ، ومن عرف ما ذكرنا من عين التوحيد قد سقط عن عينه جهد الجاهدين وتكلف السالكين ، وتحير في قبضة الجبروت ، واستغرق في بحار الملكوت ، لا يكون منه نفس إلا ويخرج بشرط الرضا ، ولا يتحرك إلا بوفق الوفاء ، ولا ينظر إلا بحقيقة الصفاء.

قال جعفر : إلا ليعرفوني ، ثم ليعبدوني على بساط المعرفة ؛ ليتبرأوا من الرياء والسمعة.

وقال ابن عطاء : إلا ليعرفوني ، ولا يعرف حقيقته من وصفه بما لا يليق به.

قال الواحدي : مذهب أهل المعاني في ذلك ألا يخضعوا لي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة الذل والانقياد ، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، مذلل بمشيئته ، خلقه على ما أراد ، ورزقه كما قضى ، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق عليه.

٣٤٨

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) : رزقه بالتفاوت ، رزق بعضهم الإيمان ، ورزق بعضهم الإيقان ، ورزق بعضهم العرفان ، ورزق بعضهم البيان ، ورزق بعضهم العيان هذا لأهل الولاية ، ورزق بعضهم من أهل الشقاوة الخذلان ، ورزق بعضهم الحرمان ، ورزق بعضهم الطغيان ، ورزق بعضهم الكفران ، فصدر الأول صدروا من مكامن أنوار لطفه ، وهؤلاء المحرومون خرجوا من ظلمات قهره ، وهو جلّ جلاله ذو القوة الأزلية ، وهو متين قوي عزيز ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بعزّه وقوته.

قال بعضهم : اعتبروا كيفية الأرزاق باللبيب الطالب وحرمانه والطفل العاجز وتواتر الأرزاق عليه ؛ لتعلموا أن الرزق طالب وليس بمطلوب ، (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (١).

سورة الطور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨))

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) : أقسم الله

__________________

(١) هذه الآية وأمثالها هي التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدّيقين ، حتى حصل لهم اليقين الكبير ، فسكنت نفوسهم ، واطمأنت قلوبهم ، فهم في روح وريحان. والأحاديث في ضمان الرزق كثيرة ، وأقوال السلف كذلك. البحر المديد (٦ / ١٥٦).

٣٤٩

ههنا بذاته وصفاته وفعله ، الطور ذاته القديم ، والكتاب المسطور صفاته القديمة ، والرق المنشور أفعاله اللطيفة ، وأيضا الطور قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكتاب المسطور رموز ما أوحى ، والرق المنشور أسراره المنقوشة بأنوار وحيه وإلهامه وغرائب علومه اللدنية ، ظاهر قسمه على الطور الذي تجلى له الحق ، فإذا كان ذلك محل قسمه بتجل واحد فما تقول في طور لا تنفكّ أنوار تجليه منه ، وهو قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سماه طور العظمة واستقامته في موازاة سطوات عزته ، وسمى قلب غيره من الأنبياء والأولياء بالبيت المعمور ، الذي عمّره بنور القربة والمشاهدة والعلم والحكمة والمعرفة والوجد والحال والمكاشفة ، ويمكن أنه تعالى أراد به صورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصورة أبيه آدم ، الذي خلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وجعله مرآة ظهوره ، وجعل روحه ورق أسرار علومه التي ذكرها بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.)

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : روح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي رفعه الحق إليه ، ومقام عنديته أرفع من كل رفيع من العرش إلى الثرى ، وأيضا يمكن أنه أراد به العرش.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) : بحر سر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن ذلك البحر ملأته أنهار قاموس علومه القدمية ، وأسرار كلماته الباقية ، وأيضا الطور طور سيناء الذي هو موضع التجلي والكلام.

والكتاب المسطور ما كلّم الله به موسى ، فصار منقوشا في ورق قلبه ، أقسم بالطور وبقلبه وبما فيه مما سمع من كلامه.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) : أيضا ما كتبه بيده على ألواح موسى.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) : أيضا قلبه كان معمورا بنور مشاهدته ؛ ولذلك خاطب الله موسى بقوله : فرغ بيتا لي أسكن ، فلما سكن في بيت قلبه عمّره بنور قربه.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : كناية عن ذاته القديم الذي امتنع بعزته عن تناول الحدثان ، ألا ترى كيفما بلغ أماني موسى ، فقال : (تُبْتُ إِلَيْكَ) بعد قوله : (أَرِنِي.)

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) : صدر موسى الذي هو مملوء من نيران شوقه وحزنه ، حين لم يدرك حقائق جلال الألوهية الذي استحال وجود الحدث عن إدراكه بوصف الإحاطة والحقيقة ، وأيضا عم في هذه الأقسام جميع العارفين والصديقين ، الطور أرواحهم ، والكتاب المسطور إلهامهم ، والرق المنشور عقولهم ، والبيت المعمور قلوبهم ، والسقف المرفوع أسرارهم ، والبحر المسجور صدورهم ، أقسم بأرواحهم ؛ لأنها مواضع تجليه ، وأقسم بما خاطبهم من الوحي والإلهام ، وأقسم بعقولهم ؛ إذ هي ألواح علومه الغيبية ، وأقسم بقلوبهم ؛ إذ هي مساكن المعارف ومساقط أنوار الكواشف ، وأقسم بأسرارهم ؛ إذ هي تصعد إلى

٣٥٠

مصاعد الملكوت ومعارج الجبروت ، وأقسم بصدورهم ؛ إذ هي مملوءة من سناء العرفان وضياء الإيمان وأنوار الإسلام ، قال الله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.)

قال جعفر في قوله : (وَالطُّورِ) : أي : وما يطرأ على قلب أحبائي من الأنس بذكري والالتذاذ بحبي ، (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) : وما كتب الحق على نفسه لهم من الاقتراب والقربة.

وقال سهل في قوله : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) : هو القلب ، قلوب العارفين معمورة بمعرفته ومحبته والأنس به ، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : هو العمل المرضي الزكي الذي لا يراد به جزاء من الله في الظاهر.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠))

قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي : كلوا من موائد قربه ، واشربوا من شراب وصله هنيئا بلا كدورة العتاب ووحشة الحجاب.

قال سهل : جزاء الأعمال الأكل والشرب ، ولا يساوي أعمال العباد أكثر من ذلك ، وأما شراب الفضل فهو قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) : شرابا على رؤية المشاهدة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) : هذا إذا وقعت فطرة الذرية من العدم سليمة طيبة طاهرة لقبول معرفة الله ، ولم تغيرها تأثير صحبة الأضداد ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (١) ، فإذا بقيت على نعت الأول ووصل إليها فيض مباشرة نور الحق ولم يتم عليها الأعمال والعمار يوصلها الله إلى درجة آبائهم وأمهاتهم الكبار من المؤمنين ؛ إذ هناك يتم أرواحهم وعقولهم وقلوبهم ومعرفتهم وعلمهم بالله عند كشف مشاهدته وبروز أنوار جلاله ووصاله ، وكذلك حال المريدين عند العارفين ، يبلغون إلى درجات كبرائهم وشيوخهم ، ما داموا آمنوا بأحوالهم ، وقبلوا كلامهم ، كما قال رويم قدّس الله روحه : من آمن بكلامنا هذا من وراء سبعين حجابا فهو من أهله.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٥١

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحبّ قوما فهو منهم» (١) ، وقال سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) ، ولا تعجب من ذلك ؛ فإنه تعالى مبلغهم إلى أعلى الدرجات ، فإذا كانوا معهم في منازل الوحشة يصلون إلى الدرجات العلية ، فكيف لا يصلون إليها في مقام الوصلة!

(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) : وصفهم الله في شربهم كاسات شراب الوصلة بالمسارعة والشوق إلى مزيد القربة ، ثم وصف شرابهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة في السكر ، لا يئول حالهم إلى الشطح والعربدة ، وما يتكلم به سكارى المعرفة في الدنيا عند الحق ، ولا يشابه حال أهل الحضرة حال أهل الدنيا من جميع المعاني.

قال ابن عطاء : أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن ، والساقي فيه الملائكة ، وشربهم على ذكر الله ريحانهم ، (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وشكرهم على المشاهدة والقوم جلساء الله عزوجل.

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ

__________________

(١) ذكره ابن كثير في التفسير (٢ / ٣٣١).

٣٥٢

ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

قوله تعالى : (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) : هذا شكر من القوم في رؤية الحق سبحانه أي : كنا مشفقين من الفراق في الدنيا والبعد في يوم التلاق ، (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا) من ذلك العذاب المحرق ، المعنى هذا في أوائل الرؤية ، أما إذا استقاموا في الوصال نسوا ما كان فيهم من ذكر الإشفاق وغيره ، والإشفاق وصف الأرواح والخوف صفة القلوب.

قال الجنيد : الإشفاق أرقّ من الخوف ، والخوف أصلب.

وقال بعضهم : الإشفاق للأولياء ، والخوف لعامة المؤمنين.

وقال الواسطي : لاحظوا دعاءهم وشفقتهم ، ولم يعلموا أن الوسائل قطعت المتوسلين عن حقيقته ، وحجبت من إدراك من لا وسيلة إليه إلا به.

قال ابن طاهر : منّ علينا بإحسانه إلينا بأن جعلنا من أهل دار كرامته ، ووقانا من دار إهانته.

قوله : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) : بيّن الله سبحانه في هذه الآية مرتبتين :

مرتبة التفرقة ، ومرتبة الجمع ، الخطاب الأول خطاب الغيبة ، والخطاب الثاني خطاب المشاهدة ، فإذا قال : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وقع الصبر ؛ لجريان الحكم في أمر العبودية ، وذكر قوله : (رَبِّكَ) بالغيبة ؛ لأنه في مقام تفرقة العبودية والرسالة يقتضي حاله حال المشقة ؛ لذلك أمره بالصبر ، فإذا ثقل عليه أحاله من الغيبة إلى المشاهدة بقوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بحفظك من الاعوجاج والتغير في جريان أحكامنا عليك حتى تصير مستقيما بنا لنا فينا ، انظر إلى ما قال سبحانه لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : نحن نراك بجميع عيون الصفات والذات بنعت المحبة والعشق ، ننظر بها إليك ؛ شوقا إليك ، وحراسة لك نحرسك بها ؛ حتى لا يغيرك غيرها من الحدثان عنا ، ويدفع بها عنك طوارقات قهري ؛ فإنك في مواضع عيون محبتنا ، وأنت في أكناف لطفنا ، افهم يا صاحبي كيف قال الحق ، ذكر الأعين وليس في الوجوه أشرف من العيون ، انظر كيف شّرفه ؛ إذ قال : أنت بعيننا أي : أنت على أعيننا محروسا عن قهرنا ، ورمز الرمز في قوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) ؛ فإن الحبيب عليه الصلاة والسلام في مقام المشاهدة ، وكاد يفنى في عظمته وجلاله ، فحجبه بحكمه لحظة والصبر فيه حتى لا يفنى ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يريد أن يرى الحق عيان في عيان ولا طاقة له ، فألبس الله بعد ذلك عينه نورا من

٣٥٣

أعينه ، فرأى الحق بجميع العيون ، فامتنّ الله عليه ، وتعرف إليه مواضع نعمه بقوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بأعيننا ترانا.

قال سهل : ما نظهره عليك من فعل وقدرة تتولى جملتك بالرعاية والكلاءة بالرضا والمحبة والحراسة من الأعداء.

وقال ابن عطاء : فإنك بأعيننا أي : مغمور في حفظنا ، وغريق في فضلنا ، ومستور بحفظنا ، ومن اختصّ بالله كان في حفظه ، ومن كان في حفظه كان في مشاهدته ، ومن كان في مشاهدته استقام معه ووصل إليه ، ومن وصل إليه انقطع عما سواه ، ومن انقطع عما سواه عاش معه عيش الربانيين.

وقال الحسين : اصبر ؛ فإن صبرك بتوفيقنا وبشهود عيوننا ؛ فلذلك حصلت العيون منك عيونا ؛ إذ أنت الناظر إلينا بنا ، ولم تنظر إلينا بما لنا وعنا ، فتكون بذلك محجوبا عن واجبنا.

وقال جعفر : عند هذا الخطاب سهّل عليه معالجة الصبر واحتمال مؤنه ، وكذلك كل حال يرد على العبد في حال المشاهدة.

قال الحسين في قوله : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) : وقال للكليم : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ، ليس من هو بالعين كمن هو على العين ، وليس من أفنى بالشيء كمن فني عن الشيء ؛ لأن الفناء بالشيء لمعنى الجمع ، والفناء عن الشيء لمعنى الاحتجاب.

وقال النوري : الصنع بالعين ليس كالصنع على العين ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بالعين في كل وقت وحال ومكان ، ولما صبر في جريان أحكام الربوبية واستقام في مقام الجمع بالحق في الحق ، وبقي بالحق للحق في الحق ، ولم يحتجب بالحق عن الحق أمره بتسبيحه وتقديسه وتحميده في جميع أنفاسه ، بأنه نال هذا الفضل بالله لا بنفسه ، وأنه لم يدركه حقائق الإدراك ، فإنه منزّه عن إحاطة الحدثان به أي : نزهني حين تقوم إلى موازاة مشاهدة قدمي ، (وَمِنَ اللَّيْلِ) حين أطبق عليك تراكم ظلال العظمة والكبرياء نزّهه عما تجد من النسك به ؛ فإن الأنس أيضا حجاب ؛ إذ هو لذة الروح ، وسبّحه عند رؤيتك الأكوان والحدثان وهي ساجدات له ، فاسجد أنت لرؤيتي ، ولا تنظر إلى تسبيحك وسجودك ، ولا إلى تسبيح الكون ، فإن النظر إلى التنزيه احتجاب من رؤية المنزّه ، وعن إدراك قدسه بالحقيقة بقوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ.)

قال سهل : صل المكتوبة بالإخلاص لربك حين تقوم إليها.

٣٥٤

وقال بعضهم : نزّه ربك عن ظلمه إياك فيما نسب إليك أي : فيما أصابك من المحن ، فلا يصيبك شيء من المحن دون قضائه ومشيئته ، وقوله : (حِينَ تَقُومُ) أي : حين تقوم إلى طاعة ربك نزّهه بمعرفتك باستغنائه عنك عن طاعتك.

وقال سهل في قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) : لا تغفل صباحا ولا مساء عن ذكر من لا يغفل عن برّك وحفظك في كل الأوقات.

سورة النجم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢))

قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) : أقسم الله بالنجم ، وذلك النجم إلهام قلوب الملهمين حين يسقط من صحائف الغيوب إلى معادن القلوب ، وأيضا أي : بأنوار تجلي جماله وجلاله إذا وقع على أرواح العاشقين ، وأيضا بألحان بلابل علومه اللدنية التي تترنم بحقائق ما كنز الحق في كنوز القدم إذا جلست على أغصان ورد بساتين أسرار العارفين ، فتكلموا ، وأخبروا بها من مكنون غرائب علوم الصفات والذات ، وأيضا أي : بواردات الجذبية التي تبدو بأنوارها من الغيوب لفهوم المحبين ، وتسقط على أسرار الواصلين ، وتزعجها إلى مشاهدة رب العالمين حقائقها المواجيد والحالات والكشف والمشاهدات وأيضا أي : بالأرواح العاشقة الشائقة إذا صعدت إلى ملكوت الغيب ، وتسقط إلى بحر جبروت الرب ، وتحمل مياه حياة القدم من بحر البقاء ، وتأتي سكرى إلى معادن الأشباح ، وتضوع نفحاتها في بساتين العقول ورياض القلوب ، وأيضا بما نبت في بساتين قلوب الأولياء من عجائب أصناف أزهار الحكم والمعارف والعلوم والفهوم ، أي : بهذه المقسمات الشريفة والنيرات الواضحة ما ضلّ حبيبي عني لمحة وما احتجب بشيء دوني لحظة ، وما اعوجّ عن طريق استقامته قط ، وذلك قوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) ، وأيضا ما ضلّ عني بي في ميادين عظمتي ؛ حيث لا يدري الموحد أين هو ، هو كان عالما بي بحيث سلك ، وما غوى ما ستر بما وجد مني فيشغل به عني.

قال ابن عطاء : أقسم بنجوم المعرفة وضيائها وتجليها ونورها والاهتداء بها وسكون العارفين إلى أنوارها وسلوكهم بالاهتداء بها.

وقال جعفر : هو محل التجلي والاستتار من قلوب أهل المعرفة.

٣٥٥

وقال جعفر بن محمد الصادق : النجم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا هوى انشرح منه الأنوار.

وقال أيضا : قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هوى إذا انقطع عن جميع ما سوى الله عزوجل.

وقال أيضا : ما ضلّ عن قربه طرفة عين.

وقال ابن عطاء : ما ضلّ عن الرؤية طرفة عين.

وقال سهل : ما ضلّ عن حقيقة التوحيد قط ، ولا اتبع الشيطان بحال.

وقال الشبلي : ما رجع عنا منذ وصل إلينا.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧))

قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) : كيف ينطق عن الهوى من ليس له علة الهوى ، كان مقدسا عن شوائب الخليقة ، منورا بأنوار الحقيقة ، كان نطقه نطق الحق ، وفعله فعل الحق ، وقلبه ميدان تجلي الحق ، كيف تجري عليه الخطرات الشيطانية والهواجس النفسانية ، وكان محفوظا بعين الكلاءة وحسن الرعاية ، ما نطق فهو وحي الله وكلامه وإشارة الله وإلهامه ، جعله الله مصباح وجوده في العالم ، وأنوار جوده في آدم.

قال الحسين : من عرف اللطائف علت أخطاره وجلّت أقداره ، وصار الشح عليه فتنة ، قال لصفيه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ، أخذته النعوت ، فنبذته في شواهد شعاعها ، فلا يهتم لآدم ومن دونه لقيامه عنده ، ومن لبس الأولية بتيقنه وارتدى الآخرية بتوحيده ارتفع كل حادث عن صفاته وأحواله.

قال الواسطي : الوحي للأنبياء ضروب ، والوحي للعامة من الأنبياء بالرسل من الملائكة ، والثاني آداب نفوسهم من القوة والفهم ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) بأن الوحي إلهام (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) والثالث : ما كان منه في المنامات ، وهو على شيء لهم ليس لغير الله فيه معنى.

قال الأستاذ : متى ينطق عن الهوى من هو في محل النجوى في الظاهر مزموم بزمام التقوى في السرائر في إيواء المولى ، مصفّى عن كدورات البشرية ، مرقّى إلى شهود الأحدية ، مكاشف لجلال الصمدية ، مختلف عنه بالكلية ، لم يبق عليه منه إلا للحق بالحق بقية ، فمن كان بهذا النعت متى ينطق عن الهوى.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)) (١).

__________________

(١) (فَتَدَلَّى) أي : زاد في القرب ، أو : استرسل من الأفق مع تعلّق به. يقال : تدلت الشجرة ، ودلّى رجله من ـ

٣٥٦

قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) : أخبر الله سبحانه عن دنو حبيبه منه ، وذلك بعد أن ألبسه نعوت الصفات وأنوار الذات ، وأخرجه من جميع العلل الحدثانية ، فدنا الحق من الحق ، دنا بالصفات من الصفات ، فلما استلذّ مشاهدة الصفات كاد أن يقف في سيره بلذة الصفات ، فأدناه الحق من الذات بعد أن دنا من الصفات ، واستغرق في بحر الذات ، ولم يبق معه من علمه شيء ، ولا من بصره شيء ، ولا من سمعه شيء ، ولا من إدراكه شيء ، فألبسه الله أيضا نورا من سمعه وبصره ، فرأى الحق بنور الحق ، وسمع من الحق بسمع الحق ، فظن أنه قد وصل بالكل إلى الكل ، فأراه الحق قيمته.

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩))

قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي : بيني وبينه قوس الحدوثية وقوس الأفعالية ، فبقي بين القوسين عن إدراك العين بالحقيقة بالعين والقلب ، وأيضا ظن أنه وصل ؛ إذ لا فصل هناك ولا وصل ولا قرب ولا بعد ، فإن ساحة الكبرياء منزّهة عن هذه العلل ، فبيّن له الحق أن بينه وبين الحق قوسين : قوس الأزل ، وقوس الأبد ، ومن يصل إلى من بعد منه من الأزل إلى الأبد أي : الحدث بعيد مني بقدر الأزل والأبد ؛ إذ لا قدر في الأزل والأبد ، وكيف يصل إلى من تنزيهه أبعده بالأزل والأبد من ذاته وصفاته ، فإذا كان كذلك استحال قرب الحدث من ذاته وصفاته من حيث المسافة ، وأيضا رمى الحق سهم الدنو من قوس الأزل ، ورمى سهم التدلي من قوس الأبد من كناية الذات والصفات إلى قلب حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجرحه بسهم المحبة وسهم المعرفة ، فكان في تلك الليلة مطروحا في ميدان الأزل ، مجروحا في ميدان الأبد.

قال جعفر : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى أن الله حجب جبريل من دنوه ودنو ربه منه.

وقال القاسم : وقعت المواصلة فأشرف ، والإشراف هو المشاهدة ، وقاب قوسين موضع الإشكال ، إشكال ليتبين العارف ويهلك الجاحد.

وقال الواسطي : من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثمّ مسافة ، إنما التدلي أنه كلما قربه من نفسه بعده من المعرفة ؛ إذ لا دنو للحق ولا بعد ، فكلما دنا بنفسه من الحق تدلى بعدا ، فانقلب في الحقيقة خاسئا وهو حسير ؛ إذ لا سبيل إلى مطالعة الحقيقة.

وأما الإخبار عن الفضل أنه أخذه من إياه وأشهده إياه فكان في الحقيقة ذا نفسه

__________________

ـ السرير ، ودلّى دلوه ، والدوالي : الثمر المعلّق. البحر المديد (٦ / ١٧١).

٣٥٧

مشاهدا ذاته ، وفي الأخبار أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهده.

وقال جعفر : أدناه منه حتى كان منه كقاب قوسين ، والدنو من الله لا حدّ له ، والدنو من العبد بالحدود.

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠))

قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) : أبهم الله تعالى سرّ ذلك الوحي الخفي على جميع فهوم الخلائق من العرش إلى الثرى ، بقوله : (ما أَوْحى) ؛ لأنه لم يبين أي شيء أوحى إلى حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن بين المحب والمحبوب سرّا لا يطّلع عليه غيرهما ، وأظن أن لو بيّن كلمة من تلك الأسرار لجميع الأولين والآخرين لماتوا جميعا من ثقل ذلك الوارد الذي ورد من الحق على قلب عبده ، احتمل ذلك المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوة ربّانية ملكوتية لاهوتية ، ألبسها الله إياه ، ولولا ذلك لم يحتمل ذرة منها ؛ لأنها أنباء عجيبة وأسرار أزلية ، لو ظهرت كلمة منها لتعطلت الأحكام ، ولفنيت الأرواح والأجسام ، واندرست الرسوم ، واضمحلت العقول والفهوم والعلوم ، هكذا رسم العلوم المجهولة التي تنبئ عن عين العشق بين العاشق والمعشوق ، وذلك في سره وغيب في غيب يسقط عند ذلك حكم العبودية ؛ لأن ذلك محض الانبساط وظهور كشف الكلى وغلبات سيول الرحمة الأزلية الواسعة التي تجري من بحار القدس وأنهار الأنس وبما نشق الله من نفحات نرجسها ووردها مشام المستنشقين نسائم الوصال وشمائل الجمال ، فيطيرون من الفرح لوجدانها ، ويضحكون ، ويبكون ، ويرقصون ، ويصيحون من لذة ما وصل إليهم من عرفانها ، ويسترون تلك الأسرار عن الأغيار ، كما أنشد :

لعمري ما استودعت سرّي وسرّه

سوانا حذار أن تشيع السرائر

ولاحظته مقلتاي بلحظه

فتشهد نجوانا العيون النواظر

ولكن جعلت الوهم بيني وبينه

رسولا نادى ما تغيب الضمائر

قال جعفر في قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) : بلا واسطة فيما بينه وبينه سرّ إلى قلبه لا يعلم به أحد سواه بلا واسطة إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته.

قال الواسطي : ألقى إلى عبده ما ألقى ، ولم يظهر ما الذي أوحى ؛ لأنه خصّه به وما كان مخصوصا به كان مستورا ، وما بعثه به إلى الخلق كان ظاهرا.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥))

قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) : ذكر الله رؤية فؤاده عليه الصلاة والسلام

٣٥٨

ولم يذكر العين ؛ لأن رؤية العين سرّ بينه وبين حبيبه ، ولم يذكر ذلك غيرة عليها ؛ لأن رؤية الفؤاد عامّ ورؤية البصر خاصّ ، أراه جماله عيانا ، فرآه ببصره الذي كان مكحولا بنور ذاته وصفاته ، وبقي في رؤيته بالعيان ما شاء الله كان ، فصار جسمه بجميعه أبصارا رحمانية ، فرأى الحق جميعا ، فوصلت الرؤية إلى الفؤاد ، فرأى فؤاده جمال الحق ، ورأى ما رأى بعينه ، ولم يكن بين ما رأى بعينه ، وبين ما رأى بفؤاده فرق ، فأزال الحق الإبهام ، وكشف العيان بقوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) حتى لا يظن الظانّ أن ما رأى الفؤاد ليس كما رأى بصره أي : صدق قلبه فيما رآه من لقائه الذي رأى بصره بالظاهر ؛ إذ كان باطن حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هناك ظاهرا ، وظاهره باطنا رآه بجميع شعراته وذرات وجوده ، وليس في رؤية الحق حجاب للعاشق الصادق ، بأنه يغيب عن الرؤية شيء من وجوده ، فبالغ الحق سبحانه في كمال رؤية حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «رأيت ربّي بعيني وبقلبي» (١) ، رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه.

قال سهل : ما كذب الفؤاد ما رأى البصر.

وقال : هو في مشاهدة ربه كفاها يبصره بقلبه.

قال ابن عطاء : ما اعتقد القلب خلاف ما رآه العين.

وقال : ليس كل من رأى مكن فؤاده من إدراكه ؛ إذ العيان قد يظهر فيضرب السر عن حمل الوارد عليه.

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمول فيها من فؤاده وعقله وجسمه ونظره ، وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به ، ثم أكد الله تحقيق رؤية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووبخ منكريها بقوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) ، ما الرؤية الثانية أقل كشفا من الرؤية الأولى ، وما الرؤية الأولى بأكشف من الرؤية الثانية أين أنت؟ لو كنت أهلا لقلت لك أنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه في لحافه بعد أن رجع من الحضرة أيضا في تلك الساعة ، وما غاب قلبه من تلك الرؤية لمحة ، وما ذكر سبحانه بيان أن ما رأى في الأول في الإمكان ، وما رأى عند سدرة المنتهى كان واحدا لأن ظهوره هناك ظهور القدم والجلال ، وليس ظهوره يتعلق بالمكان ولا بالزمان ؛ إذ القدم منزّه عن المكان والجهات ، كان العبد في مكان والرب فيما لا مكان ، وهذا غاية كمال تنزيهه وعظيم لطفه ؛ إذ يتجلى من نفسه لقلب عبده ، وهو في لا مكان والعبد في مكان ، والعقل هاهنا مضمحلّ ، والعلم متلاش ، والأفهام عاجزة ، والأوهام متحيرة ، والقلوب والهة ، والأرواح حائرة ، والأسرار فانية ، وفي هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه عليه

__________________

(١) هو من الأحاديث التي ذكرها المصنف في كتبه.

٣٥٩

الصلاة والسلام ؛ إذ رآه نزله أخرى عند سدرة المنتهى ، ظن عليه الصلاة والسلام أن ما رآه في الأول لا يكون في الكون لكمال علمه بتنزيه الحق ، فلما رآه ثانيا علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان ، وعادة الكبرياء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان كريما ، فهذا من الله سبحانه إظهار كمال حبه لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحقيقة الإشارة أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس ، فلبس الأمر ، وظهر المكر ، وبان الحق من شجرة سدرة المنتهى كما بان من شجرة العتاب لموسى ؛ ليعرفه حبيبه عليه الصلاة والسلام بكمال المعرفة ؛ إذ ليس بعارف من لم يعرف حبيبه في لباس مختلفة ، وبيان ذلك.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢))

قوله سبحانه : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) : وأبهم ما غشيه ؛ لأن العقول لا تدرك حقائق يغشاها ، وكيف يغشاها والقدم منزّه عن الحلول في الأماكن ، كان ولا شجرة ، وكانت الشجرة مرآة لظهوره سبحانه سبحانه ، وألطف ظهوره : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) بعد عرفانهم به ، ثم وصف حبيبه بأنه ما التفت إلى غيره من الجنان والملكوت في رؤية جلاله بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) : ذكر هذه الآية إلى الرؤية الثانية ؛ لأن في الرؤية الأولى لم يكن شيء دون الله ؛ لذلك ما ذكر هناك غضّ البصر ، وهذا من كمال تمكين الحبيب في محل الاستقامة وشوقه إلى مشاهدة ربه ؛ إذ لم يمل إلى شيء دونه ، وإن كان محل الشرف والفضل.

قال الواسطي في قوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) : أفتشكّون في دنو مقامه منا وقربه ، ولا يشكّ في دنوه إلا من هو محجوب عن علو محله ومرتبته.

وقال بعضهم : ما يرى منا بنا ، وما يرى منا بنا أفضل مما يراه منا به.

وقال الواسطي : إلى سدرة المنتهى يبلغ كشف الهموم إلا لرجل واحد ، وهو الذي دنا فتدلى ، مر على سدرة المنتهى ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى.)

وقال سهل في قوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) : لم يرجع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شاهد نفسه ، ولا إلى مشاهدتها ، وإنما كان مشاهدا بكليته لربه تعالى ، يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل ، ثم بيّن الله سبحانه أراه من آياته العظام ما لا يقوم برؤيتها أحد سوى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بعد أن ألبسه قوة الجبارية الملكوتية بقوله : (لَقَدْ رَأى مِنْ

٣٦٠