تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

الإشارات بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) : هذا زجر وتهديد لأهل التحقيق والمشاهدة ؛ إذ ليس للعبد فعل ولا تدبير ؛ لأنه أسير في قبضة العزة يجري عليه أحكام القدرة وتصاريف المشيئة ، فمن قال : فصلت أو أنبت أو شهدت فقد نسى مولاه وأعرض عن بره ، وادّعى ما ليس له.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥))

قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) : وصف قوما لهم استعداد الطاعة والمعرفة ، وأراهم سبيل الرشد ، وخلق في نفوسهم حظوظ الهوى ، فتركوا الحق ، واتبعوا هواهم ، فطمس الله أعين قلوبهم عن مشاهدة الغيب ، وهذه فتنة أهلكت أكثر القاصدين في أوائل قصدهم.

قال جعفر : لما تركوا أوامر الخدمة نزع من قلوبهم نور الإيمان ، وجعل الشيطان إليهم طريقا ، فأزاغهم عن طريق الحق ، وأدخلهم في مسالك الباطل.

وقال الواسطي : لما زاغوا عن القربة في العلم أزاغ الله قلوبهم في الخلقة.

قال الأستاذ : لما زاغوا عن العبادة أزاغ الله قلوبهم عن الإرادة.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١))

قوله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) : بشّرهم برؤية أحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقدومه ؛ لأن في وجهه شروق أنوار الأزل ، وبقدومه ظهرت سواطع نور الأبد ، كان أحمد في علم ما كان بحمد الله سماء أحمد ، بعد أن جعله محمودا بحمده ، ومصباحا منورا بنوره ، حمده محمودا بلسان الحق وثنائه ، وذلك اصطفائية خاصة أزلية ، منتهاها المقام المحمود ، وذلك المقام

٤٢١

دنو الدنو ، والاتصاف بالحق ، والنظر إلى وجهه بحد الاستقامة بلا تغيير ولا تبديل ، وهناك مقام الشفاعة الخاصة الشاملة تشمل الكل بلا سبب ولا علة ، وهو خاصّ له دون غيره من العرش إلى الثرى ؛ لذلك بشّر عيسى عليه‌السلام قومه بقدومه المبارك.

قال ابن عطاء في قوله : (اسْمُهُ أَحْمَدُ) : قال أحمد الحامدين له حمد ، وأحمد المطيعين له طاعة ، وأحمد العارفين به معرفة ، وأحمد المشتاقين إليه شوقا على نسق قوله : (أَحْمَدُ) (١).

قوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) : كيف يطيق الحدث أن يطفئ نور الأزل والقدم ، وهو منزّه عن أن يغيره أهل الحدثان إذا شهر نوره على أحد من أهل نوره ، يزيد نوره على نوره عليه ، حتى لا يبقي ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهي مملوءة من نوره ، فلذلك النور يقهر الجبارين والقهارين ، ويقرّبه عيون العارفين والموحدين.

قال بعضهم : جحدوا ما ظهر لهم من صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنكروه بألسنتهم ، وأعرضوا عنه بنفوسهم ، فقيّض الله لقبوله أنفسا أوجدها على حكم السعادة قلوبا زيّنها بأنوار المعرفة ، وأسرارا نوّرها بالتصديق ، فبذلوا له المهج والأموال ، كالصدّيق ، والفاروق ، وأجلّة الصحابة رضي الله عنه.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) : المساكن الطيبة مواضع كشف مشاهدة الجمال ، وقلوب العارفين مساكن الأرواح العاشقة ، طابت وتطيّبت بتجلّي الحق سبحانه.

قال سهل : «أطيب المساكن» : ما أزال عنهم جميع الأحزان ، وأقرّ أعينهم بمجاورة رب العالمين.

وقال بعضهم : «طيبة» : بلقاء الله عزوجل.

قال الأستاذ : تطيب تلك المساكن برؤية الحق سبحانه.

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

__________________

(١) لما أراد الله سبحانه أن يظهر لعرائس مملكته ، ولخاصة أوليائه من قدسية نور سره الأول ، وإنسان عينهم الكامل المكمّل ، وهو النبي المصطفى الطاهر الأمجد ، سماه في أهل السموات باسمه (أحمد) ، إظهارا لمنزلته عند ربه ، وعلو رفعته عند خالقه فكأنه يقول لأهل حضرته : لئن ظفرتم بالغنم في تنزيهي وتقديسي وذكري ، فلقد زاد على حمدكم حبيبي أحمد الذي بالغ في حمدي وشكري ، وفوض أمره لأمري ، فهو أفضل من خلقت ومننت عليه بجميع محامدي ، وأعظم من رزقته وصيرته إكسير محامدي.

٤٢٢

قوله تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) : «نصر الله» : تأييده الأزلي الذي سبق منه للعارفين والموحدين ، و «الفتح القريب» : كشف لقائه ، وانفتاح أبواب وصاله ، بنصره ظفروا على نفوسهم ، فقهروها بخدمته ، وبفتحه أبواب الغيب شاهدوا كل مغيب مستورا من أحكام الربوبية ، وأنوار الألوهية.

قال جعفر : بشارة إلى رؤيته في مقعد عند مليك مقتدر.

وقال ابن عطاء : النصر ، والتوحيد ، والإيمان ، والمعرفة ، والفتح القريب ، والنظر إلى السبل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

قوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) : أهل الإيمان القلب ، والعدو هو النفس ، ظفر القلب عليها بتأييد كشوف أنوار سلطان مشاهدة الحق ، فصار غالبا عليها في صباح كشفه ، وطلوع أنوار قربه ، فزالت ظلمها وبقي نوره ؛ لأنه تعالى متمم نوره ومؤيّده.

سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : تسبيحها عجزها عن حمل وارد قهره ؛ حيث تسخرت لأمر القدم بوجودها ، وهي كلها ألسنة أفعاله بقدسه عن محل التهمة ؛ لذلك وصف نفسه بقوله : (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ.)

٤٢٣

قال الأستاذ : تسبّح في بحار توحيد الحق أسرار أهل التحقيق بحرهم بلا شاطئ ، فبعدما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح ، فحازت أيديهم جواهر التفريد ، فوضعوها في تاج العرفان ، ولبسوه يوم اللقاء.

قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) : فضله معرفته ومحبته والاستقامة فيهما بنعت العبودية في مشاهدة الربوبية ، يؤت هذا الفضل من يشاء من عباده المصطفين في الأزل.

قال الجوزجاني : ذلك «الفضل» : هو الأنس بالله ، إذا وجدوا نعمة الإنس نسوا كل نعمة دونه ، إذا وجدوا نعمة فوق كل نعمة ، بأن ربّهم نعّمهم في معرفته ، وهو قوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.)

وقال الحسين : جاد الجواد بجوده لغير علة ، وتفضل بالفضل ، وأتمها بالمنن ، وغشاها بالنعم ؛ إذ يقول : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، فقطع بالمشيئة ولحق الأسباب ، فكان الكرم منه صرفا لا يمازجه العلل ولا يكتسبها الحبل ، جاد به في الدهور قبل إظهار الأمور.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حزب الله المدّعين في محبته بالموت ، وأفرز الصادقين من بينهم لما غلب عليهم من شوق الله وحب الموت ، فتبين صدق الصادقين هاهنا من كذب الكاذبين ؛ إذ الصادق يختار اللحوق إليه ، والكاذب يفرّ منه.

٤٢٤

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه» (١).

وقال الجنيد : المحب يكون مشتاقا إلى مولاه ، ووفاته أحب إليه من البقاء ؛ إذ علم أن فيه الرجوع إلى مولاه ، فهو متمني الموت أبدا ، وذلك قوله : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) إلخ.

قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) : لما جرى حديث البيع والتجارة دعاهم إلى ذكره بنعت السرعة والاستباق ، وإلا دعا الكل في الأزل إلى نفسه ، فإن الذكر عند المذكور حجاب ، والسعي إلى الذكر مقام المريدين ، والمحقق في المعرفة غلب عليه ذكر الله إياه بنعت تجلي نفسه لقلبه.

قال النصرآبادي : العوام في قضاء الحوائج في الجمعات ، والخواص في السعي إلى ذكره لاستغنائهم بالغنى لم يبق لهم حاجة لعلمهم بالمقادير قد جرت ، فلا زيادة فيها ولا نقصان ، لكنهم يسعون إلى ذكره سعي مشتاق إلى مذكوره ، يطلب منه محل قربة إليه والدنو منه.

قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) : إذا فرغتم من مشقة العبودية فانتشروا في الأرض إلى طلب أوليائي ، وجالسوهم ؛ لتستفيدوا من لقائهم وكلامهم ، الفوائد الغيبية ، والأنباء الملكوتية ، واجلسوا في مجلس السماع والقول ، فهناك فضل الله من الخطاب ، وكشف النقاب.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ، أي : إذا فرغتم من جميع ذلك غيبوا بأرواحكم وقلوبكم وعقولكم في بحار الأولية والآخرية ، واذكروه به لا بكم ، واتركوا الذكر هناك بعد رؤية المذكور.

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) : أخبر الله سبحانه أنهم في أوائل إرادتهم إذا لم يبلغوا إلى حد الاستقامة في الصحبة ، شغلتهم حوائج النفوس عن صحبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعاتبهم الله بذلك ، وأمره بأن يخبرهم أن ما عند الله من مشاهدته ولقائه ولذّة خطابه ومناجاته خير من جميع الحظوظ بقوله : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) ، وفيه تأديب المريدين حين اشتغلوا عن صحبة المشايخ بخلواتهم وعباداتهم لطلب الكرامات ، ولم يعلموا أن ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم.

قال سهل : من شغله عن ربه شيء من الدنيا والآخرة فقد أخبر عن خسّة طبعه ورذالة

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٦) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٥).

٤٢٥

همته ؛ لأن الله فتح له الطريق إليه ، وأذن له في مناجاته ، فاشتغل بما يفنى عمن لم يزل ولا يزال. وقال أيضا : ما ادّخر لكم في الآخرة خير مما أعطاكم في الدنيا.

قال الأستاذ : ما عند الله للعبّاد والزّهّاد خير مما نالوه من الدنيا نقدا ، وما عند الله للعارفين نقدا من واردات القلوب وبواده الحقيقة خير مما يؤمل في المستأنف في الدنيا والعقبى.

سورة المنافقون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) : من كان صادقا تشهد بصدقه كل ذرة من العرش إلى الثرى ، ومن كان مدّعيا كاذبا تشهد بكذبه كل ذرة من العرش إلى الثرى ، وذلك شهادة الله بلسان آياته ، يكذّبه الزمان والمكان ، ويفتضح عند كل صادق بما يبدو من وجهه من آثار نفاقه.

قال سهل : أقرّوا بلسانهم ، ولم يعرفوا بقلوبهم ؛ فلذلك سمّاهم الله منافقين ، ومن عرف بقلبه وأقرّ بلسانه ولم يعمل بأركانه ما فرض الله من غير عذر ولا جهل كان كإبليس.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ

٤٢٦

يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

قوله تعالى : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) : وصف الله المنافقين بالبخل والحرص والحسد على أمر الدين من قلة معرفتهم بجاههم عند الله ، وحسن عواقبهم عنده ، وسبق عناية الله فيهم ، وخذلان أهل النفاق ، وفي كل موضع فيه نفاق ، فالبخل والحسد لازمته.

قال الواسطي : من طالع الأسباب في الدنيا والأعواض في الآخرة لم يفقه قلبه وبقي في حجاب نفسه ومراده ، ألا ترى المنافقين كيف احتالوا بالبخل عليهم بالدنيا ، ولم يعلموا أن ذلك لا يحجبهم عن التوفيق ، وكيف حكى الحق بقوله : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (٧) ، ثم بيّن الله أن له خزائن السماوات والأرض يفتحها لأوليائه ، فيعطيهم من فضله ، ولا يحتاجون إلى من سواه بقوله : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : «خزائن السماوات» : قدرته وجبروته ، و «خزائن الأرض» : ملكه وسلطانه ، له في السماوات خزائن قلوب المقربين ، وفي الأرض خزائن قلوب العارفين.

قال الجنيد : «خزائنه في السماوات» : الغيوب ، و «خزائنه في الأرض» : القلوب ، فما انفصل من الغيوب وقع على القلوب ، وما انفصل من القلوب صار إلى الغيوب ، والعبد مرتهن بشيئين : تقصير الخدمة ، وارتكاب الزلّة.

قال رجل لحاتم الأصمّ : من أين تأكل؟ فقال : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١).

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) : بيّن الله سبحانه مقام عين الجمع ، وهو ظهور أنوار عزته للأنبياء والمرسلين والعارفين والصادقين ، وباشر نور عزّته قلوبهم ، فصاروا متصفين به ، متعززين بعزته ، فعزة الله معدن عزتهم ، وهم مكتسون بكسوة عزه ، فإذا ظهر ذلك النور منهم يتدلل لهم الحدثان والزمان والمكان والإنس والجان والأسد والثعبان والمياه والنيران والأمير والسلطان ، «فعزة الله» : جبروته ، و «عزة الرسول» : برهان نبوته ، و «عزة

__________________

(١) كل ما عند العبد من مال فهو خزانة الحق عنده والعبد خازنه فمهما تعدى خزانة مولاه بغير إجازة استحق السياسة بقطع آلة التعدي إلى خيانة خزانته وهى اليد المتعدية.

٤٢٧

المؤمنين» : نور معرفتهم وولايتهم.

قال الواسطي : «عزة الله» : ألا تكون سبيلا إلا بمشيته وإرادته ، و «عزة المرسلين» : أنهم آمنون من زوال الإيمان ، و «عزة المؤمنين» : أنهم آمنون عن دوام العقوبة.

وقابل ابن عطاء : «عزة الله» : العظمة والقدرة ، و «عزة الرسول» : النبوّة والشفاعة ، و «عزة المؤمنين» : التواضع والسخاء.

قوله تعالى : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) : بيان أن من لم يبلغ درجة التمكين في المعرفة ، لا يجوز له الدخول في الدنيا من الأهل والمال ، فإنها شواغل قلوب الذاكرين عن ذكر الله ، ومن كان مستقيما في المعرفة وقرب المذكور فذكره قائم بذكر الله إياه ، وذلك حظّه بأن جعله محفوظا من الخطرات المذمومة ، والشاغلات المحجبة ، والضعفاء لا يخرجون من بحر هموم الدنيا ، فإذا باشرت قلوبهم الحظوظ والشهوات لا يكون ذكرهم صافيا عن كدوريات الخطرات.

قال سهل : لا تشغلكم أموالكم وأولادكم عن أداء الفرائض في أول مواقيتها ؛ فإن من شغله عن ذكر الله وخدمته عرض من عروض الدنيا فهو من الخاسرين.

سورة التغابن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها

٤٢٨

أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : انظر كم قال سبحانه هذه الآية على مبادئ السور ، وهذا عتاب مع المقصرين عن خدمته ، أي : يسبحني وجودك بغير اختيارك ، وأنت غافل من تسبيح وجودك له ، وذلك أن وجودك قائم في كل لمحة بوجوده ، يحتاج إلى الكينونية بتكوينه إياه أين قلبك ولسانك إذا اشتغلا بذكر غيرنا ، وفي الحقيقة لم يتحرك الوجود إلا بأمره ومشيئته ، وتلك الحركة أجابت داعي القدم في جميع مراده ، وذلك محض التقديس ، ولكن لا يعرفه إلا العارف بالوحدانية ، ومن كان محجوبا عن رؤية الحق فهو جاهل به ؛ لذلك قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، فمن وقع نور التجلي في الأزل له وتكون روحه بذلك النور ورأى الحق بنور الحق فهو صادق مصدق في قبول ما صدر من الغيب ؛ لأنه أهله ، ومن كان روحه محجوبا عن مشاهدة الوصلة يكون منكرا على ما يبدو له من آيات الله وكراماته وبرهانه وسلطانه.

قال القاسم : خاطبهم مخاطبة قبل كونهم ، فسمّاهم كافرين ومؤمنين في أزله ، فأظهرهم حين أظهرهم على ما سماهم وقدر عليهم ، وأخبرته علم ما يعملون من خير وشر.

قوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) : بيّن الله سبحانه في هذا الآية سر مقام التوحيد ، وإفراد القدم عن الحدوث ، وسر مقام عين الجمع ، إذا قال : (صَوَّرَكُمْ) أفرد الوحدة ونعتها بالقدم وأفرد آنيتها عن العلل ؛ إذ العلل بتعليله تكوّنت ، وإذا قال : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لا يكون حسن الصورة إلا بتجلي حسن فعله ونعته واسمه ونوره وغيبه وصفته وذاته ، فألبسها نعوت الصفاتية وأنوار الذاتية ، فتصورت على رؤية القدم بنعت ما في القدم من علم الغيب وغيب الغيب ؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام : «خلق الله آدم على صورته» (١).

قال الحسين : أحسن الصورة صورة أعتقت من ذل كن وتولى الحق تصويرها بيده ونفخ فيه من روحه ، وألبسه شواهد النعت وجلاه بالتعليم شفاها ، وأسجد له الملائكة المقرّبين ، وأسكن في المجاورة وزيّن باطنه بالمعرفة ، وظاهره بفنون الخدمة.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) : الغبن كل الغبن ألا يعرف مكان خطابه والطاقة التي ظهرت له في الدنيا والآخرة بلباس القهريات ومكان

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠١٧).

٤٢٩

الامتحان ، وربما زاده الحق في أوحش مقام وهو مشغول الرسم ، ولم يعرف شرف حاله ، فكان مشغولا عنه برسم الاعتذار والعبودية ، فيا ربّ صفاء في الكدورة ، ويا ربّ مكاشفة في المعصية ، اكتم يا أخي غيب الحق بستر غيره حتى لا يكون السر ظاهرا لأهل الرسوم ، فيسقطون من إيمانهم ، يقع الغبن يوم التغابن لمن كان مشغولا بالجزاء والعطاء ورؤية الأعواض ورؤية المعصية والطاعة ، ومن كان شاهد الحق خرج من وصف الغبن ؛ إذ الغبن من أوصاف من كان غائبا عن مشاهدته ، فإذا استغرق في بحار جماله وجلاله لا يبقى عليه فرح الغبن ، ولا حزن الفوت ، إذ الكل غابن له ، وسقط عند ذكر ما مضى وما يستقبل ، ولي لسان آخر في التوحيد أن الكل يقع في الغبن ، إذا عاينوا الحق بوصفه وهم وجدوه أعظم وأجل مما وجدوا منه في مكاشفتهم في الدنيا ، فيكونون مبهوتين متحيرين مغبونين ؛ حيث لم يعرفوه حق معرفته ، ولم يعبدوه حق عبادته ، ولا يعرفون أبدا حقيقة المعرفة ، وأي غبن أعظم من هذا ؛ إذ يرونه ولا يصلون إلى وجوده بالحقيقة.

قال ابن عطاء : «تغابن» أهل الحق على مقادير الضياء عند الرؤية والتجلي ، و «التغابن» في رؤية القلب الأعظم وأجل من رؤية الغبن ؛ لأن رؤية الغبن تذهل عن التأمل وهو مقصر عما أطلق لغيره عندها يظهر لكل أحد ، ومن ظهر له الحق بحقه أخرسه من جميع نطقه من منازلته أو منازعته.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) : بيّن الله سبحانه وصف الفطرة السليمة التي فطرها على قبول ما جاء من الغيب من الأمور العالية المبغلة قلوب العارفين إلى معادنها ، أي : من كان له قلب سليم يقبل قول الحق ويتبع الحق بالحق ، يعرّفه الحق طريق الحقيقة ،

٤٣٠

ويرشده إلى نفسه حتى يراه به بلا واسطة.

قال أبو عثمان : من صحّح إيمانه بالله يهد قلبه لاتّباع سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلامة صحة الإيمان المداومة على السنن ، وملازمة الاتّباع ، وترك الآراء ، والأهواء المضلة.

قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) : خفّف الله أثقال التقوى على قلوب المتقين ، وسهّل برجاء أنوارها على قلوب العارفين حين استغرقوا في بحار جلاله ولم يدركوا حقيقة كماله ، وكيف يصل الحدث إلى حقيقة القدم ، والكون نزول في أول سطوة من سطوات ظهور عظمته ، خاطب الكل في أوائل أحوالهم بحقيقة التقوى منه ؛ لظهور تذللهم وفنائهم في عزته ، وتعليمه إياهم إنها حق الحق ، وحقوق الحق في المعرفة لا تسقط بضعف الضعفاء ؛ فإن حقه باق ، ثم بيّن عجزهم عن البلوغ إلى منتهاه ، وسهّل الأمر عليهم ، ورحمهم بضعفهم عن حمل وارد الحقيّة.

قال ابن عطاء : هذا لمن رضي عن الله بالثواب ، فأما من لم يرض منه الآية فإن خطابه (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ.)

قال السري : المتّقي من لا يكون رزقه من كسبه.

قوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : «القرض الحسن» : يكون لمن يرى الملك ، والملك إلا لله ، ويشاهد الحق بالحق في قصده ، وإقباله على الحق.

قال سهل : «القرض الحسن» : المشاهدة بقلوبكم لله في أعمالكم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تعبد الله كأنّك تراه» (١).

قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨) : عالم غيب هموم صميم قلوب العارفين من أجله ، وما يجري عليهم من آثارها ، ببذل المهج على علانيتهم ، وهو العزيز بأنه أعزهم في الأزل بعزته ، الحكيم حيث حكم بالعبودية ، وإظهار أنوار الربوبية.

سورة الطلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٢٧) ، ومسلم (١ / ٣٧).

٤٣١

حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) : خصّ حبيبه بالخطاب ، وجمع الكل في مضمونه ؛ لأن السيد إذا خاطب خاطب الكل ، فبان شرفه على الجمهور ؛ إذ جمع الجمع في اسمه ، وفيه إشارة الاتحاد ، ومراد الحق سبحانه في تأديب العباد بتطليق نسائهم في زمان الطهر أداء وفاء الصحبة ، ومراعاة ما مضى من زماني الوصلة والاهتمام بالفرقة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) : إن الله حدّ الحدود بأوامره ونواهيه ؛ لنجاة سلاكها ، فإذا تجاوز عن حدوده يسقطون عن طريق الحق ، ويضلون في ظلمات البعد ، وهذا أعظم الظلم على النفوس ؛ إذ منعوها من وصولها إلى الدرجات والقربات.

قال إسماعيل بن نجيد : التهاون بالأمر من قلة المعرفة بالأمر.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) تفسيره بلسان الإشارة أن العارف الصادق الشاهد جلال الحق تبقى منه بألا يصل إليه ؛ لأن نعوته الأزلية ممتنعة من مطالعة الخليقة ، فيتقيه من فقدانه ، فهو تعالى إذا رآه في يأس من الوصول إلى القدم ألبسه نعوته ، وأوصله إليه به ، وذلك ما جعل له مخرجا مما فيه من خوف الفقدان ، ويرزقه ذوق الدنو من حيث لا يحتسب إنه يستحق ؛ لذلك فهو تعالى محمود الكرم لا يخيّب رجاء القاصدين إليه ، ثم بيّن أن من ألقى زمام الإرادة لإرادته في طلبه ويطرح من بين يديه ويعتمد بقوله عليه فهو تعالى يكفي له مأموله منه ، ويرضيه بنفسه من نفسه بحيث يستكمل العبد مراده منه ، وذلك قوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، ومن أدقّ الإشارة أن الله سبحانه يقول : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) ، ولم يقل «ومن يتق من عذابه» ، أو «يتق من شيء دون نفسه» ، فخصّ التقوى أن يكون من نفسه خاصة ، وذلك إذا كان يتجلى بجلاله

٤٣٢

وهيبته وعظمته وكبريائه من الألوهية القدسية ، والأبدية الباقية لقلب عارف من عرفانه ، ويستولى على قلبه سطوات عظمته ، يتقي العارف من صدمات القدوسية ، وطوارقات العزة ضعفا وخوفا من ألا يحترق فيها فيقرّ منه ؛ لأنه علم أن الحادث يتلاشى في القدم ، ولا يطيق أن يستقيم بإزاء الوحدانية ، وتطلب الفرار منه مع ما في قلبه من محبة جماله ، والشوق إلى لقائه ، فإذا رأى الحق سبحانه ذلك منه يتجلى لقلبه من عين الجمال جمالا ، فيجر قلبه بحسنه وجماله إليه ، ويعصمه من نفسه بنفسه ، وذلك هو المخرج الذي قال : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، يخرج من رؤية العظمة إلى رؤية الجمال ، ويستقيم لرؤية الجلال ، فيحتمل الحق بالحق ، ثم همته همة العجز عن البلوغ إلى دنوه ، يتبيّن في نفسه من نفسه أنوار النعوت الأزلية ، فتتّصف صفاته بصفاته ، فلا يرى هناك إلا عينا واحدة ، وذلك قوله : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، هو أن يكون منعوتا بنعت الحق في رؤية الحق ، لكن يرزقه من حيث لا يحتسب أنه يصل إليه بنعت البقاء يبقى ببقاء ، ويخرج من فنائه ، فبان بعد ذلك في سر سره نور وعرفان خاصّ يبينّه بأنه مخدوع بما وجد ، محجوب منه به ، فيسقط عنه قيمته ، وأيس أيضا من الوصول إلى الكل ، فيعرّفه الحق نعتا من نعوته ، ويعلمه أنه لا يصل إلى الكنه ، فيرضيه بنعت من جميع النعوت ، وباسم من جميع الأسماء ، وبصفة من جميع صفاته ، ويكشف من ذاته من جميع صفاته حتى لا يبقى له طلب ولا قصد ، بل يسكن بالحق من الحق في الحق ، وذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (١) ، أي : من يتوكل عليه حين يبقى من الفناء فيه فهو حسبه ، بأن يبقيه ببقائه ، فيبقى الحق له ، وإن هو فني فيه فبقاء الحق له من بقائه ، وعلى لسان المعاملة يبقى الله بأن يشغله شيء من دونه عنه من الأسباب ، والنظر إلى غيره من الرسومات ، يجعل الله له مخرجا مما يخاف منه ، ويرزقه الرضا من نفسه ، ويرزقه رزق المقدر في الأزل من حيث لا مشقّة عليه في وصوله إليه ، ويأكل ويلبس بغير انتظار ولا استشراف نفس ولا تعب ، فيخرج له من الغيب بالبديهة ما يكفيه من السؤال والكسب ، من عرف الله عرّفه بكمال قدرته وإحاطة علمه بكل ذرة ، فيلقي زمام الاختيار إليه ، فهو تعالى يكفي له كل مؤنة في الدنيا والآخرة وهو ساكن راض ، وهذا معنى قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) إلخ.

قال سهل في قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، أي : يتبرأ من الحول والقوة

__________________

(١) هذه الآية الشريفة جامعة لأنواع التوكّل ، وأضاف الحاجات ؛ فإن اسم الله تعالى جامع لمراتب الأسماء التي لا يتجاوزها حاجات الناس مع اختلاف مراتبهم ، وتفاوت طبقاتهم ، فمن ذكر كان أو أنثى ، عبدا كان أو سيدا يتوكّل على الله الرزّاق في أمر الرزق ؛ فهو حسبه فيه.

٤٣٣

والأسباب كلها دونه والرجوع إليه ، «يجعل له مخرجا» مما كلفه بالمعونة عليه ، والعصمة من الطوارق فيها.

وقال سهل : لا يصح التوكل إلا للمتقين ، ولا تتم التقوى إلا بالتوكّل ؛ لذلك قرن الله بينهما ، فقال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ.)

وقال بعضهم : من يحقق في التقوى هون الله على قلبه الإعراض عن الدنيا ، ويسّر له أمره في الإقبال عليه ، والتزّين بخدمته ، وجعله إماما لخلقه ، يقتدي به أهل الإرادة ، فيحملهم على أوضح السنن وأصح المناهج ، وهو الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الله تعالى ، وذلك منزلة المتقين ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ.)

وقال : ومن يكل أموره إلى ربه فإن الله يكفيه همم الدارين أجمع.

قال شاه الكرماني : «التوكّل» : سكون القلب في الموجود والمفقود.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩))

قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧) ، أي : بعد ضيق الصدر من الاهتمام بالرزق وإنفاقه ، سعة الصدر ، ويسر الرخاء ، والطمأنينة والرضاء بالله ، وأيضا سيجعل الله بعد عسر الحجاب للمشتاقين يسر كشف النقاب.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

قوله تعالى : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١) : «الرزق الحسن» : من الله المعرفة والمحبة ،

٤٣٤

والقربة ، والمشاهدة ، والمجالسة ، والمخاطبة مع الحق بلا ذل الحجاب ، ولا وحشة العتاب.

قال الأستاذ : «الرزق الحسن» : ما كان قدر الكفاية ، لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه ، ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه.

قوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : لو كانت للأشباح قيمة في المعرفة كالأرواح في الخطاب بلا علة في تعريف نفسه إياها بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) هناك خطاب وشهود وتعريف بغير علة ، فلما علم عجزها عن حمل وارد الخطاب الصرف أحالها إلى الشواهد بقوله : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ) ، وليس بعارف في الحقيقة من عرّفه بشيء من الأشياء ، أو باسم من الأسماء ، فمن نظر إلى خلق الكون يعرف أنه ذو قدرة واسعة ، وذو إحاطة شاملة ، فيخاف من قهره بعلمه في رؤية اطّلاع الحق عليه.

سورة التحريم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) : أدّب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا يستبدّ برأيه ، ويتّبع ما يوحى إليه ، وفيه بيان أن من شغله شيء من دون الله وصل إليه منه ضرب لا تبرأ جراحه إلا بالله ؛ لذلك قال عقيب الآية : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

قال ابن عطاء : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو دائما ويقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من كلّ قاطع يقطعني عنك» (١).

__________________

(١) تقدم.

٤٣٥

وقال القاسم : لا يدعو الحق أحد يسكن إليه حتى يشغله بغيره ؛ لأنه عزيز.

قوله تعالى : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) : فيه جواز إظهار الشيوخ للفراسة والكرامات لمريديهم ؛ ليزيد رغبتهم في الطريقة ، وفيه حثّ على ترك الاستقصاء فيما جرى من ترك الأدب ، فإنه صفة الكرام.

قال الحسن البصري : ما استقصى كريما قط ، ألا يرى الله تعالى يحكي عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ.)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) ، أي : قدّسوا أنفسكم وأهاليكم من محبة الدنيا والاشتغال بها ، وأقبلوا على الله ببذل المهج ، وانصحوا أهاليكم ؛ كي يكونوا صالحين بمتابعتكم ، فإذا رغبتم في الدنيا فهم يشتغلون بها ، فإن زلة الإمام زلة المأمومين.

قال سهل : أي : بطاعة الله ، واتّباع السنن.

وقال ابن عطاء : بقبول نصح الناصحين.

قال الوراق : علّموهم الفرائض والسنن ؛ لتنقذوهم بها من النار.

قال أبو عثمان : في طلب الحلال لأنفسكم ولأهاليكم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) : دعاهم الله بالرجوع إليه رجوعا لا انقطاع فيه ، بحيث أقبلوا على الله نادمين على تضييع الأوقات غير

٤٣٦

مدبرين عنه إلى شيء من دونه ، حتى وصلوا إلى حقيقة الاستقامة في القلوب مع الله ، ولا يقدر أن يلتفت إلى شيء سوى الله.

قال الشيخ أبو عبد الله بن خفيف : طالب عباده بالتوبة ، وهو الرجوع إليه من حيث ذهبوا عنه ، والنصوح في التوبة : الصدق فيها وترك ما منه ، تاب سرّا وعلنا قولا وفكرة.

وقال الواسطي : التوبة النصوح لا تبقي على صاحبها أثرا من المعصية سرّا وجهرا.

وقال : من كانت توبته نصوحا لم يبال كيف أمسى وأصبح.

قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) : لا يخزي النبي أمته بذل الحجاب ، وسوء الحساب ، والتغيير ، والعتاب ، بل يكون برضاهم ، ويعطيهم مأمولهم ، ويقبل شفاعتهم لأهل الكبائر وللهالكين ، ولا يردّ عليهم ما يسألون منه من نجاة الخلق ، ويلبسهم أنوار قربه ووصاله ، ويدخلهم في حجال أنسه ، ورياض قدسه.

قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) : يستزيدون منه نور القرب بقوله : (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) ، أي : من نورك حتى نفنى بك ، ونبقى معك أبد الآبدين.

قال بعضهم في قوله : (لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) ، لا يردّ شفاعته في أمته ، والذين آمنوا لا ترد شفاعتهم في إخوانهم وأقربائهم.

وقال ابن عطاء في قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ) إنما هي أنوار نور التوحيد ، ونور المعرفة ، ونور الحقيقة ، يسعى بهذه الأنوار إلى محل القرار.

وقال بعضهم في قوله : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) : لا تقطعنا بك عنك ، وكن دليلنا منك عليك حتى تتم لنا الأنوار ، فإن تمام النور بإتمام المنور له.

وقال سهل : لا يقسط الافتقار إلى الله عن المؤمنين في الدنيا والآخرة ، وهم في العقبى أشد افتقار إليه ، وإن كانوا في دار العز والغنى ؛ لشوقهم إلى لقائه يقولون ربنا أتمم لنا نورنا.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) : ظهر فيه نور الفعل ، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة ، وظهر في نور الصفة نور الذات ، وكان بنور الذات والصفات حيّا موصوفا

٤٣٧

بصفاته ، ناظرا إلى مشاهدة ذاته ، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبدا ، وهذه خاصية لمن له أثر من روحه.

قال بعضهم : نفخ من نوره في روح عبده ؛ ليحيى بتلك الروح ، ويطلب النور ، ولا يغفل عن طلب المنور ، فيعيش في الدنيا حميدا ، ويبعث في الآخرة شهيدا ، فلما وجدت روح روح الله صدقت بظهوره في العالم ، وشبّه قلوب العالمين بأنها تكون مرآة الحق للخلق ، وذلك قوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) ، ولما باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في العنائية ، فسبق لها العناية ، وأنفاها في درجة العبودية حتى لا يسقط بالسكر عن مقام الصحو ، ألا ترى كيف قال : (وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ، أي : من المستقيمين في معرفتها بربها ، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مسخّرة عاجزة لربها.

سورة الملك

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤))

(تَبارَكَ الَّذِي) : في هذه الآية تقديس الذات والصفات عن الإدراك ، وفيها إشارة غيب الهوية بقوله الذي رفع الأوهام عن ساحة جلاله ، وفيها وصف العظمة والإحاطة بكل شيء ، وعجز الحدثان في قبضة قدرته ، وفيها سر الالتباس ، وظهور الصفة عن الفعل ، بقوله :

(بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، تعالى الله عن الأشباه ؛ إذ لا شبيه له في الأزل ، وتقدّس عن الأضداد ؛ إذ لم يكن له ضدّ إلى أبد الأبد ، فرؤية قدسه للموحدين ؛ إذ مبارك عليهم أنوار قدسه ، وهم في زيادة القدس أبدا ، والإشارة للعارفين ؛ إذ هم غابوا في غيبه ، وهم منه لا يخرجون ، وإشارة ظهور الصفة في الفعل للمحبّين ؛ إذ يؤتيهم ملك مشاهدته ، وهم في ملك قربه ، لا ينقطع عنهم وصاله أبدا.

قال بعضهم : (تَبارَكَ) كالكناية ، والكناية كالإشارة ، والإشارة لا يدركها إلا الأكابر.

وقال سهل : تعالى من يعظم عن الأشباه ، والأولاد ، والأضداد ، والأنداد.

٤٣٨

(بِيَدِهِ الْمُلْكُ) : يقلبه بحوله وقوته ، يؤتيه من يشاء ، وينتزعه ممن يشاء ، وهو القادر عليه جلّ وتعالى.

وقال جعفر : أي : هو المبارك على من انقطع إليه ، أو كان له.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) ، الموت والحياة عرضان ، والأعراض والجواهر مخلوقة له ، وأصل الحياة : حياة تجلّيه ، وأصل الموت : موت استتاره ، وهما يتعاقبان للعارفين في الدنيا ، فإذا ارتفع العجب يرتفع الموت عنهم ، بأنهم يشاهدونه عيانا بلا استتار أبدا ، ولا تجري عليهم طوارق الحجاب ، بعد ذلك قال الله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ، خلق الموت والحياة ، يميت قوما بالمجاهدات ، ويحيى قوما بالمشاهدات ، يميت قوما بنعت الفناء في ظهور سطوات القدم ، ويحيى قوما بنعت البقاء في ظهور أنوار البقاء ، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، لولا التجلي والاستتار لا يظهر شوق المشتاقين في تفاوت درجات الشوق ، ولا يتبين وله العاشقين وتفاوت درجاتهم في العشق ، هو «العزيز» يمنعه الجمهور عن الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته ، وهو «الغفور» بأن ينعمهم بكشف مشاهدته ، ويتجاوز عن قصور قصودهم في الشوق إليه.

قال سهل : «الموت» في الدنيا بالمعصية ، و «الحياة» في الآخرة بالطاعة في الدنيا ، بقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أي : الذي يدركه التوفيق ، فيحييه بالطاعة ، ويبعده عن المعصية.

وقال : «العزيز» : المسيع في ملكه ، «الغفور» : يستره بجوده.

قال الجنيد : حياة الأجسام مخلوقة ، وهي التي قال الله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) ، وحياة الله دائمة لا انقطاع لها ، أوصلها إلى أوليائه في قديم الدهر الذي ليس له ابتداء بمراده.

قيل : إن خلقهم فكانوا في علمه أحياء ما هم قبل إيجادهم ، ثم أظهرهم فأعادهم الحياة المخلوقة التي أحيى بها الخلق ، وأماتهم بسره فكانوا في سره بعد الوفاة كما كانوا ، ثم أورد عليهم حياة الأبد ، فكانوا أحياء ، فاتصل الأبد بالأبد ، فصار أبدا في أبد في أبد الأبد.

وقيل : «حسن العمل» : نسيان العمل ، ورؤية الفضل.

قال الواسطي : من أحياه الله عند ذكره في أزله لا يموت أبدا ، ومن أماته في ذلك لا يحيى أبدا ، وكم حيّ غافل عن حياته وميت غافل عن مماته.

قوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ) : حارت الأبصار والبصائر عن إدراك مائية استواء أفعاله ؛ لأنها عاجزة عن اللحاق

٤٣٩

بجريان قدرته الواسعة فيها ، فإذا كانت كذلك في إدراك خلقه ، فكيف تشاهد جلال القدم ، والأبصار ، والبصائر ، والقلوب ، والأرواح ، والعقول فانية حسيرة في أول سطوة من سطوات عظمته ، راجعة عنها خاسئة ، ولا يبقى عليها من العلم والعرفان.

قال الواسطي : (كَرَّتَيْنِ) ، أي : القلب والبصر ؛ لأن الأول كان بالعين خاصة ، (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (١) : إذا لم يكن في خلقي فطور ، فأنا أشدّ امتناعا من الاستغراق والاستحراق.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ، أي : لو سمعنا خطاب الأزل شفاها في مشاهدته وعلمنا حقيقته ما كنا من أصحاب البعد والحجاب.

قال بعضهم : لو سمعنا موعظة الواعظين أو عقلنا نصيحة الناصحين لاتبعناهم فيما أمروا به ، ولما كنا إذا في أصحاب السعير.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : وصف الله معرفة العارفين به قبل رؤيتهم مشاهدته ، فإذا عاينوه استفادوا من رؤية علم المعاينة ، وهى المعرفة الحقيقة ، وخشوا منه في غيبة منه ، وهى خشية القلب ، فلمّا رأوه زاد على الخشية الإجلال ، وهو علم الروح والسر.

__________________

(١) يقال : فطره فانفطر أي شقه فانشق والمعنى من شقوق وصدوع لامتناع خرقها والتئامها قاله القاشاني ولو كان لها فروج لفاتت المنافع التى رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها أو بعضها أو كمالها كما في المناسبات فإذا لم ير في السماء فطور وهى مخلوقة فالخالق أشد امتناعا من خواص الجسمانيات.

٤٤٠