تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

الوفاق والخلاف ، وهو يقلب الليل والنهار بما فيهما ، وهو قائم على الأشياء بالأشياء في بقائها وفنائها لا يؤنسه وجد ولا يوحشه فقد ، بل لا فقد ولا وجد ، إنما هي رسوم تحت رسوم.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١))

قوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) دعوا إلى مشاهدة الله بنعت المحبة والمعرفة ، وعبوديته بنعت الإخلاص ، ودعوا إلى رسوله بالمتابعة والموافقة في الشريعة والطريقة ، وهنا أثقال من سارت مطيعة روحه بها في بيداء الأزل والأبد بقوة العناية والكفاية ، وكيف لا يعرض عنها المعرضون ، وليست هذه أحمال مطايا وجودهم المحروم في الأزل عن مشاهدة الأبد.

قال ابن عطاء : الدعوة إلى الله بالحقيقة ، والدعوة إلى الرسول بالنصيحة ، ومن لم يحب داعي الله كفر ، ومن لم يجب داعي الرسول ضل.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣))

قوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) من يطع الله في بذل وجودهم له ، ورسوله بالقبول منه ما أتى به بلغت الحرمة ، (وَيَخْشَ اللهَ) عرفه وعلم منه ما له من لطف صحبته وعزيز وصلته بنعت إجلاله وتعظيمه ، (وَيَتَّقْهِ) يتق من فرقته ، ومن هجرانه ووصل إلى غفرانه ، وعظم في عرفانه ، وظفر بإحسانه ، عين عاينه بلا كيف ، ولا حيث ، ولا حجاب ، ولا حساب.

وقال الواسطي : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) : في آداب الفرائض ، واجتناب المحارم ، ويخشى الله على ما مضى من ذنوبه من أن يكون مأخوذا بها ، وما مضى من حسناته ألا يقبل منه ، ويتقه أي : ويتق الله فيما بقي من عمره من ردة محبطة وعقوبة محجبة (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) أي : سبقت لهم السعادة.

٢١

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) إن تطيعوه بالعبودية تهتدوا به إلى أنوار الربوبية ، وإن تطيعوه بالمحبة تهتدوا به إلى المشاهدة ، وإن تطيعوه بالمعرفة تهتدوا إلى الوصلة ، وإن تطيعوا الرسول تهتدوا إلى ما فيه من عجائب المكاشفات والمشاهدات والمعارف والمجاب ، وإن تطيعوه بالحرمة والأدب تهتدوا به إلى سني الدرجات ومعالي الكرامات.

قال أبو عثمان : من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ، ومن أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة ؛ لأن الله يقول : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.)

قال محمد بن الفضل : إن تطيعوه في سنته يوصلكم بركتها إلى حقائق القيام بآداب الفرائض ، فتكونوا من المهتدين ، من المرافقين بشرط الأدب مع الله ، قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (١) الإشارة فيه أن من

__________________

(١) قال سعيد بن المسيّب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج ـ

٢٢

طمسته أنوار سطوات العظمة ، فهو من رؤية الكل معذور ، ومن كسرت رجل همته أحجار منجنيق الأزل في فقر الديمومية ، فهو معذور إذا انقطع عن السير في بيداء الآزال والآباد ؛ لأن القدم والبقاء غير محصورين ، من أمرضته أسقام المحبة والشوق والعشق والمعرفة ؛ فهو معذور عن الاشتغال بكثرة العبادة.

قال جعفر في هذه الآية : كل هذا في القعود عن الجهاد وتركه.

وقال بعضهم : إذا دعي إلى دعوة أن يدخل معه قائده.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

قوله تعالى : (أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) الإشارة فيه إلى الانبساط إلى الإخوان والأصدقاء الصادقين الذين مصادقتهم لله ، وفي الله على استواء السر والعلانية في الإخلاص لله.

قال أبو عثمان : الصديق من لا يخالف باطنه باطنك ، كما لا يخالف ظاهره ظاهرك إذ ذاك يكون محل الانبساط إليه مباحا في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، وقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) إذا دخلتم بيوت أولياء الله بالحرمة والاعتقاد الصحيح ، فأنتم من أهل كرامة ؛ الله فسلموا على أنفسكم بتحية الله ؛ فإنها محل كرامة الله في تلك السلعة.

قال جعفر : تحية الله أي : سلامة من المحن والفتن ، ومن الشر كله.

__________________

ـ والمريض وعند أقاربهم ، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون من ذلك ، ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك ، فنزلت الآية ، رخصة لهم. وقيل : كانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك ، فنزلت الآية رخصة لهم وقيل : كانوا يتحرجون من الأكل معهم ؛ لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه ، والمريض لا يستطيع استيفاءه. البحر المديد (٤ / ٢٦٦).

٢٣

وقال ابن عطاء : التحية الأمان.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) إشارة الآية إلى المريدين وموافقتهم مشايخهم في جميع الأحوال ألا يستبدوا بآرائهم في أمور الشريعة والطريقة ، وألا يخالفوهم بالاستبداد بالخروج من عندهم إلى السفر والحضر والمجاهدة والرياضة.

قال عبد الله الرازي : قال قوم من أصحاب أبي عثمان لأبي عثمان : أوصنا ، قال : عليكم بالاجتماع على الدين ، وإياكم ومخالفة الأكابر والدخول في شيء من الطاعات إلا بإذنهم ومشورتهم وواسوا المحتاجين بما أمكنكم ، فأرجوا ألا يضيع لكم سعي ، قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) احترام الرسول من احترام الله ، ومعرفته من معرفة الله ، والأدب في متابعته من الأدب مع الله.

قال ابن عطاء : لا تخاطبوه مخاطبة ، ولا تدعوه بكنيته واسمه واتبعوا آداب الله فيه بدعائه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ.)

وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) الفتنة هاهنا والله أعلم فتنة صحبة الأضداد والمخالفين والمنكرين ، وذلك أن من صاحبهم بسوء ظنه بأولياء الله ؛ لأنهم أعداء الله ، وأعداء أوليائه يقعون كل وقت في الحق ، ويقبحون أحوالهم عند العامة لصرف وجوه الناس إليهم ، وهذه الفتنة أعظم الفتن.

قال أبو سعيد الخراز : الفتنة هي إسباغ النعم مع الاستدراج من حيث لا يعلم العبد.

وقال رويم : الفتنة للعوام ، والبلاء للخواص.

وقال أبو بكر بن طاهر : الفتنة مأخوذ بها ، والبلاء معفو عنه ومثاب عليه.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

٢٤

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤) ما في السماوات من خزائن قلوب الملائكة ، وما في الأرض من خزائن معرفته وجوده في قلوب أهل المحبة يعلم السرائر والضمائر ، وما يجري من داء شوقه ومحبته على قلوب المقبلين إليه فيجازيهم يوم كشف المشاهدة ، ويخبرهم مما مضى من أيام الفراق ، ويعتذر إليهم بحسن الانبساط ، ورفع الحجاب أبد الآبدين.

سورة الفرقان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) وصف نفسه بالتنزيه والتقديس وبركة جمال تجليه الذي آثاره في كل ذرة من العرش إلى الثرى فباركها ببركة جماله فتنمو من أصل مصادرها بقوة قيام الحق عليها بقيوميته ، وبقيوميته قامت ، ومن صولة عزت تفنى فيه ، فلم تزل قائما بنفسه ، ولا تزال باقيا بوجوده ، وخصّ حبيبه بإنزال الفرقان عليه ليفرّق به بين كل دان وعال ، وبين مقام ومقال ، وبين حال وإعمال ، وبين كشف وخيال فيكون بجمهور السالكين معلما عن الحق مخوفا عن عظمته واستغنائه عن الخلق ، وعن قدسه عن إشارات الخلق إليه.

قال بعضهم : أصل البركات كلها ممن يقدر إنزال مثل هذا القرآن الذي يفرق بين الحق والباطل على أجل عبيده وأولاهم بالبركة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال سهل : يريد بالفرقان الفرقان الذي فيه المخرج من كل شبهة.

وقيل : (عَلى عَبْدِهِ) أي : على عبده الأخلص ، ونبيه الأخص ، وحبيبه الأدنى ،

٢٥

وصفيه الأولى ليكون للخلق سراجا منيرا.

قال الجنيد : (تَبارَكَ الَّذِي) كالكناية والكناية كالإشارة والإشارة لا يدركها إلا الأكابر.

وقال بعضهم : (تَبارَكَ) أي : تعالى عن إدراك الخلق.

قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) أوجد الكون ، وقدّر كل شيء قبل وجوده بما في علمه ومشيئته على قدر مقادير قوة الأشياء حمل أمانات معرفته لا يزيد عن ذلك ، ولا ينقص إلى الأبد.

قال الحسين : أول ما خلق الله تعالى ذكره ستة أشياء في ستة وجوه ، قدر بذلك تقديرا الوجه الأول : المشيئة خلقها على النور ، ثم خلق النفس ثم الروح ثم الصورة ثم الأحرف ثم الأسماء ثم الكون ثم الطعام ثم الرائحة ، ثم خلق الدهر ، ثم خلق المقدار ، ثم خلق العماء ثم النور ، ثم الحركة ، ثم السكون ، ثم الوجود ، ثم العدم ، ثم على هذا خلقا بعد خلق في كل وجه من الستة خلقهم في غامض علمه لا يعلمه إلا هو قدّرهم تقديرا ، وأحصى كل شيء علما.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ

٢٦

لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢))

قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) تقاصرت أبصارهم عن معاني جوهره الذي هو حامل أثقال أنوار كشف الأزل والأبد ، وهو روحه الذي سابق الأشياء بالقدس والأنس ، فعاين الحق قبل الخلق ، فدخل صورته كمصباح في جوهر زجاجة صافية يضيء ، ولو لم تمسسه نار تضيء صورته بضياء الفعل ، ويتنور روحه بنور الصفة ، ثم صار صورته وروحه قنديل أنوار ذات الحق يتجلى منه للعالمين ، فمن خصه الله بالأهلية منه فيراه بنور الحق ، ويرى الحق منه ؛ فلا يقع نظره إلا على قدس وطهارة.

قال جعفر : عيروا الرسول بالتواضع والانبساط ، ولم يعلموا أن ذلك أتم لهيبتهم ، وأشد في باب الاحترام لهم ، وذلك أنهم لم يشاهدوا منه خصائص الاختصاص ألهاهم ذلك عن قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ ...) الآية.

ثم بيّن سبحانه أن الأكل والشرب والمشي والسعي في الحوائج لا ينافي النبوة والولاية والاصطفائية الأزلية ، وأن جمهور الأنبياء ما خلوا من صفة البشرية إذ البشرية مركب الصورة والصورة مركب القلب ، والقلب مركب العقل ، والعقل مركب الروح ، والروح مركب المعرفة ، والمعرفة قوة القدوسية صدرت من كشف عين الحق ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) هذا سنة الله في الخلق والأنبياء والأولياء شاركوهم في البشرية ، وفارقوهم في المعرفة والمحبة.

قال جعفر : ذلك أن الله لم يبعث رسولا إلا أباح ظاهره للخلق بالكون معهم على شرط البشرية ، ومنع سره عن ملاحظتهم والاشتغال بهم ؛ لأن أسرار الأنبياء في القبضة لا تفارق المشاهدة بحال.

ثم بيّن سبحانه أن العارف الصادق فتنة للجاهل الغبي ، والمحب القريب فتنة للمنكر البغيض بقوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) الأغنياء فتنة الفقراء فالكل ممتحنون بنكاية قهره ومكره.

ثم استفهم منهم بقوله : (أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠) أي : أتصبرون يا أهل الحقائق في بلائي وامتحاني وأنتم بمرأى مني أجازيكم بمشاهدتي وكشف جمالي؟

٢٧

قال القاسم : أتصبرون عن نظر بعضكم إلى بعض كأنه أمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة ، ويدل عليه قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (١) [الحجر : ٨٨].

وقال الحسين : كسا كل شيء كسوة فانية لا ينفك عنها إلا من عصمة الله ، وهو اضطرار في الأحوال لا اختبار في التلذذ بالشواهد والأعراض.

وقال الواسطي : ما أوجد موجودا إلا لفتنة ، وما أفقد مفقود إلا لفتنة ، قال الله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.)

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧))

قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) أخبر سبحانه عن العمال ، وأعمالهم التي عملوها بالرياء والسمعة ، واستحسانهم ذلك من قصور نظرهم عن إدراك تنزيه ساحة كبرياء الحق الذي بوجوده مستغنى عن الكون وأهله ؛ فلما استكثروها صارت هباء منثورا برياح الشرك والرياء أين هم من خوالص عبودية العارفين حتى تفنى عند ظهور عظمته وجلاله ؛ فرفعها الحق عن أعينهم ، وبقي في عيونهم أنوار عزته وجلال عظمته.

قال ابن عطاء : أطلعناهم على أعمالهم ؛ فطالعوها بعين الرضا فسقطوا عن أعيننا بذلك ، وجعلنا أعمالهم هباء منثورا.

ثم أخبر سبحانه عن مقامات المخلصين في طاعته في جوار جلاله بقول الله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) يعني أصحاب جنان المشاهدة في مستقر الوصلة ، ومقيل المداناة في ظلال الجمال والجلال أبدا بلا تحويل ولا تبديل.

قال بعضهم : في دار القرار على ميعاد لقاء الجبار من غير خوف ولا زوال ، وأحسن مقيلا استرواحا.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : لا تمدن عينيك إلى شهود الحس ، ولا إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الحس ، الواققين مع شهود الحس ؛ فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأواني ، بل المفنية للأواني عند سطوع المعاني ، ولا تحزن عليهم حيث رأيتهم منهمكين في الحس ؛ فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك ، البحر المديد (٣ / ٢٤٢).

٢٨

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠))

قوله تعالى : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (٢٨) الخلة والمصادقة إذا كان الله يزيد الشرف والراحة والبسط والقربة في الدنيا والآخرة.

قال أبو حفص : الخلة إذا صحت أورثت صاحبها شفقة على خلانه وطاعة لربه ، وإذا لم تصح أورثت صاحبها تحيرا وتكبرا على إخوانه ، وانهماكا في معصية ربه.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢))

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) يمتحن أولياءه وأنبياءه بأهل السالوس والناموس والمرائين ، وحثهم على إيذاء أهله ليظهر شرف اصطفائيتهم ، وفضائل عواقبهم ، وينصرهم على عدوهم.

ألا ترى كيف قال : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٣١) هداهم إلى نفسه بنفسه ، ونصرهم بنفسه على أنفسهم وأعدائهم من شياطين الإنس والجن شاهدهم مشاهدته ، وأيدهم بقوة جبروتية لئلا يتلاشوا في سطوات عظمته.

قال أبو بكر بن طاهر : رفعت درجات الأنبياء والأولياء بامتحانهم

٢٩

بالمخالفين والأعداء.

قال ابن عطاء : هاديا إلى معرفته ، ونصيرا عند رؤيته لئلا يتلاشى العبد عند المشاهدة.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

(١).

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) غير الله سبحانه المتابعين هواهم ؛ لأنهم بمعزل من رؤية الألوهية ، ومشاهدة الأزلية ، استفهم على وجه التعجب من حبيبه بقوله : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي : اطلعت شموس أنوار الصفات من مشارق الآيات ، وأن هؤلاء البطالين بقوا في ظلمات الطبائع.

قال أبو سليمان : من أتبع نفسه هواها ؛ فقد شرك في قتلها ؛ لأن حياتها بالذكر وموتها وقتلها بالغفلة ، وإذا غفل اتبع الشهوات ، وإذا ابتع الشهوات صار في حكم الأموات.

ثم خاطب نبيه عليه‌السلام وأعلمه أن أهل الغباوة والجهالة لا يسمعون مقالته بآذان قلوبهم ، ولا يعقلون إشاراته بالحقيقة حيث إن أسماعهم وقلوبهم وأبصارهم وعقولهم محجوبة عن مناداة الحق من الغيوب في القلوب ، قال الله : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ.)

قال ابن عطاء : لا تظن أنك تسمع نداءك إنما يسمعهم نداء الأزل ؛ فمن لم يسمع نداء الأزل ، فإن نداءك له ودعوتك لا تغني عنه شيئا ، وإجابتهم دعوتك هو بركة جواب نداء الأزل ودعوته ، فمن غفل أو أعرض ، فإنما هو لبعده عن محل الجواب في القدم.

__________________

(١) اعلم أن الإنسان : إمّا إنسان حقيقي ، وهم الذين لهم قلوب يفقهون بها ، ولهم أعين يبصرون بها ، ولهم آذان يسمعون بها ، فمتعلق فقههم هو العلم الإلهي ، ومتعلق أبصارهم آثار الله ، ومتعلق أسماعهم كلام الله ، سواء كان بطريق الخطاب الغيبي ، أو بطريق الخطاب البشري ، أو بطريق غيرهما.

وإمّا إنساني : وهو بعكس من ذكر ، وإنما قيل له : إنسان حيواني ؛ لأنه إنسان من حيث حيوان من حيث السيرة ؛ ولذا شبه بالأنعام ؛ لأن الأنعام لا تتجاوز الحس ، والملك إلى عالم المعنى والملكوت ، فالإنسان الحيواني : ليس له روح إنساني ، وقلب ، وسمع ، وبصر بحكم غلبة الحيوانية ، فمن قال : إن الروح الإنساني مشترك فيه دون القلب ونحوه ، كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] فهو ذهل عن الآية المذكورة ، وفرّق بين القلب والروح ؛ بل القلب ، والعقل ، والروح جوهر واحد في الحقيقة ، وإنما الاختلاف بحسب الاعتبارات ، فالقلب محل الشهود ، والعقل محل الإدراك ، والروح محل المعرفة ، فإذا كان الإنسان خاليا عن الشهود ، والإدراك الحقيقي ، والمعرفة الإلهية كان حيوانا حكما ، وإن كان إنسانا صورة بحكم المرتبة ، فالاعتبار ليس بالمرتبة ؛ بل بحقائقها ، وأحكامها الظاهرة بالفعل ، فاعرف جدّا.

٣٠

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (١) الإشارة في الآية أن للعارفين في مقام المراقبة والمحاضرة ثلاث مقامات : مقام كشف أنوار الفعل ، وكشف أنوار الصفة وكشف أنوار الذات ، فإذا ذهب ظلام ليالي الطبيعة من عالم الغيب ، وتلاشى دخان النفس الأمّارة ، وصار سماء الروح ، وهواء العقل ، وأرض القلب صافية عن عللها ، وظلمات هواها ، ولم يكن هناك شمس الذات ، وأنوار الصفات يمد الحق سبحانه ظلال بهاء فعله في ولاية القلب على مقادير تربية أسراره ، فلما قويت الأسرار بظلال فعله يطلع عليها أنوار الصفات ؛ فلما قويت بأنوار الصفة يطلع عليها شمس الذات فرباه أولا في ظل الفعل ثم قوّاه بنور الصفة.

ثم كشف له جلال الذات حتى صار مكاشفا مشاهدا عين الحقيقة ، وأصل الأصول ، وهناك محل الفناء والبقاء ، ومقام الخطاب الصرف ، وظهور أسرار الربوبية ، فالأول : ظل العناية ، والثاني : مقام الولاية ، والثالث : مقام المشاهدة التي هي قبلة الكلية لجميع الأنبياء والصديقين والمقربين ، ومنتهى مأمول الراغبين ، هذه مسالك جميع السالكين ، ولسيد العالمين

__________________

(١) أي : بسطه فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأنه لا شمس معه وهو أطيب الأزمنة لأن الظلمة الخالصة سبب لنفرة الطبع وانقباض نور البصر وشعاع الشمس مسخن للجو ومفرق لنور الباصرة وليس فيما بين طلعوعيهما شيء من هذين. تفسير حقي (٩ / ٢٣٨).

٣١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك خاصية لم يكن لأحد فيها نصيب ، وذلك أنهم يسلكون من مقام مشاهدة نور الفعل إلى مشاهدة نور الصفة ، ثم إلى مشاهدة نور الذات ، وهو عليه‌السلام في أول حاله شاهد العين ، ثم شاهد الصفة ، ثم شاهد الفعل رحمة للعالمين ، ولو بقي في مقام الأول لما استمتع به الخلق في متابعته.

ألا ترى إلى قوله سبحانه لحبيبه عليه‌السلام : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) أشهده ذاته ، وأبرز له صفاته ، ثم أحاله إلى رؤية الفعل بقوله : (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) لئلا يفنى في سطوات عظمة ذاته وصفاته ، فلما ضاق مكانه في رؤية الفعل ، وطالب الأصل ، وشقّ عليه الاحتجاب به عنه كاشف الحق عنه ضرار الفعل ، وأبرز له مشاهدة ذاته بقوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي : خفيّا سريعا ، ولولا فضله ورحمته في قبضه خفيّا يسيرا لاحترق الكل في أول بداية طلوع الجمال والجلال على قلوبهم ، وهو تعالى خاطب الجمهور برؤية فيه ، وخاطب حبيبه برؤية ذاته وصفاته ، وهنا كما قال الواسطي : أثبت للعامة المخلوق فأثبتوا به الخالق ، وأثبت للخاصة الخالق ، فأثبتوا به المخلوق ، ومخاطبة العام (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] ، و (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) [الغاشية : ١٧] ، ومخاطبة الخاص (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ.)

قال بعضهم : قال لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) العصمة قبل أن أرسلك إلى المخلوق ، ولو شاء لجعله ساكنا أي : جعله مهملا ، ولم يفعل ، بل جعل الشمس التي طلعت من صدرك دليلا ، (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) ، هذا خطاب من أسقط منه الرسوم والوسائط.

قال ابن عطاء : كيف حجب الخلق عنه ، ومدّ عليهم ستور الغفلة وحجبها.

وقال في قوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) : شموس المعرفة هي دلائل القلب إلى الله ، وعن جعفر قال : حجب الخلق عنه.

وقال بعضهم : الظل حجاب بينك وبين الله ، (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) ، وهو نور الهداية بالإشارة (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) وهو جذب القدرة التي يجذبك من الأشياء إليه.

وقال الأستاذ : ظل العناية على أحوال أوليائه ، فقوم هم في ظل الحماية ، وآخرون في ظل الرعاية ، وآخرون في ظل العناية فالفقراء في ظل الكفاية والأغنياء الراحة والحماية ، ويقال : أحيا قلبه بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ، ثم أفناه بقوله : (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) فكذا سنته

٣٢

مع عباده يردهم بين إفناء وإبقاء.

ثم منّ الله علينا براحة الليل وستره بقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) إذا هجم ظلال الليل على أهل شوقه هاج أسرارهم بنعت الشوق والأنس إلى قربه ووصاله ؛ فينكشف لهم أسرار الملك والملكوت ، وأنوار العزة والجبروت ، وهم يتقلبون فيها بأشكال غريبة ، وحركات عجيبة ، ومناجاة لطيفة ، ومواجيد عظيمة ، وعبرات عزيزة ، ولولا ستر الليل عليهم لفشا أحوالهم ، وانكشف أسرارهم عند الخلق ، فإذا كانوا في حالة اليقظة فحالهم الغلبات ، فإذا أنسوا بنور الجمال يأخذهم النوم ، ويقطعهم عن التهجد ، وبرجاء الوجد ، فيسكنون في روح الأنس وراحة القدس ، وربما يرون المقصود في نومهم كما حكي عن شاه بن شجاع أنه لم ينم ثلاثين سنة ، فاتفق أنه نام ليلة فرأى الحق سبحانه في منامه ، ثم بعد ذلك يأخذ الوسادة معه ، ويضطجع حيث كان ، فسئل عن ذلك فأنشأ يقول :

فأحببت التّنعس والمناما

رأيت سرور قلبي في منامي

يا فهم لهم في زمان الامتحان ليل الحجاب ، وسبات الغفلات ، فإذا ذابوا في مقام الفرقة أخذ الله أيديهم بكشف الوصال بقوله : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٤٧) أطلع عليهم بعد ذلك شمس العناية من مشرق الكفاية ، نومهم سبب الزلفات ، وسباتهم راحة المداناة ، وهذا حال أهل النهايات.

لعل خيالا منك يلقى خياليا

وإنّي لأستغشي ومابي نعسة

قال الأستاذ : الليل وقت لسكون قوم ، ووقت لانزعاج آخرين ؛ فأرباب الغفلة يسكنون في ليلهم ، والمحبون يسهرون في ليلهم ، وإن كانوا في روح الوصال ؛ فلا يأخذهم النوم بكمال أنفسهم ، وإن كانوا في ألم الفراق ، فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم فالسهر للأحباب صفة أو ما لكمال السرور أو لهجوم الهموم.

ويقال : جعل النوم لقوم من الأحباب وقت التجلي ، يريهم ما لا سبيل إليه في اليقظة ، فإذا رأوا ربهم في المنام يؤثرون النوم على السهر ، وهذا كما أنشد :

ولو لا مكان الطيف لم أتهجع

فلولا رجاء الوصل ما عشت ساعة

ثم زاد منته بأن نشق نسائم روح وصاله أهل شوق جماله بقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) إذا أراد سبحانه كشف لقائه لأرواح العاشقين يرسل رياح الواردات قبل حصول كشف المشاهدات ، فيستنشقون منها نسيم الأنس ، وهم يعلمون أن ذلك مبشر كشف القدس ، والحكمة في ذلك أنه تعالى يكتسر بها قلوب المحبين غبار الحدثان ، وهواجس النفس ، والشيطان حتى لا يبقى فيها غير جمال الرحمن ؛ فإذا رأوا آثار

٣٣

ملك المبشرات علموا أن ذلك وقت ظهور المقصود وحصول المأمول.

إذا أقبلت من نحوكم بهبوب

وإني لأستهدي الرياح نسيمكم

قال ابن عطاء : يرسل رياح الندم بين يدي التوبة.

قال أبو بكر بن طاهر : إن الله يرسل إلى القلب ريحا ، فيكفه من المخالفات ، وأنواع الكدورات ، ويصفيه لقبول الموارد عليه ؛ فإذا صادف القلب ذلك الريح فتنسم نسيمها ثم اشتاق إلى الزوائد من فنون الموارد فيكرمه الله بالمعرفة ، ويزينه بالإيمان ، ألا تراه يقول : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) الاشتياق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات ، ويطهرها ما عن كل شيء إلا عن اللوائح ؛ فلا تستقر إلا بالكشف والتجلي.

ويقال : إذا انتسمت القلوب نسيم القرب هام في ملكوت الجلال ، وأمحى من كل رسوم ومعهود ، ثم زاد المنة سبحانه بذكره وصف مياه الكرم الذي يطهر به قلوب أحباب وجه القدم من لوث غبار العدم بقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤٨) انشأ في الأول سحائب الرحمة ، وبشر رياح الزلفة ، ثم مطر مطر الخطاب والكلام من بحر الذات والصفات على أرض قلوب أهل المشاهدات ، فطهرها عن صفات البشريات وأحياها من موت الغفلات ، وأنبت فيها أشجار المعرفة ، ورياحين المحبة ، وذلك قوله تعالى : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) ، ثم جعل قلوبهم سواقي المعارف والكواشف ، فيفيض سقيها إلى الأرواح والأشباح ، قال تعالى : (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (٤٩).

قال بعضهم : طهّر قلوبهم ببركاته عن المخالفات ، وطهّر أبدانهم بظاهر رحمته من جميع الأنجاس.

قال النصرآبادي : هو الرش الذي يرش من مياه المحبة على قلوب العارفين ، فيحيى به نفوسهم بإماتة الطبع فيها ، ثم يجعل قلبه إماما للخلق بفيض بركاته عليهم ، فيصيب بركات نور قلبه من كل ذوات الأرواح ، قال الله تعالى : (وَنُسْقِيَهُ ...) الآية.

قال الأستاذ : أنزل من السماء ماء المطر فأحيا به الرياض والغياض ، وأنبت به الأزهار والأنوار ، وأنزل من السماء ماء الرحمة ، فغسل للعصاة ما تلطخوا به من الأوضار ، وتدنسوا به من الأوزار ، وماء الحياء يطهر قلوب العارفين عن الجنوح إلى المساكنات ، وما في بعض الأحوال يتداخلها من الغفلات ، وماء الرعاية فيحيي به قلوب المشتاقين مما يتداركها من أنوار التجلي حتى يزول عنها عطش الاشتياق ، ويحصل فيها من سكنة الاستقلال ، ويحيي به نفوسا ميتة اتباع الشهوات ، فيردها إلى القيام بالعبادات ، ثم مرج سبحانه بحر المعرفة ، وبحر

٣٤

النكرة في قلوب العارفين بقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) فبحر المعرفة بحر الصفات ، وبحر النكرة بحر الذات (١).

ثم وصف البحرين فقال : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) فبحر الصفات عذب للعارفين إذ هي فياضة لطائفها إلى الأرواح والقلوب والعقول ، وهي أدركت نعوتها وأسماءها بنورها ففهمت وعرفت معارفها وكواشفها على قدر الطاقة لا على الحقيقة ، وبحر الذات ملح أجاج إذ امتنع بحار حقائقه عن تناول العقول والقلوب والأرواح والأسرار ، فإذا انحسرت هذه السائرات رأت في بيداء الأزل ، وانقطعت ساحتها في بحار القدم فصارت نكراتها مهلكها ، وبين بحر الصفات والذات برزخ المشيئة والإرادة لا يدخل أهل بحر الصفات بحر الذات ، ولا يرجع أهل بحر الذات إلى بحر الصفات.

قال تعالى : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) [الرحمن : ٢٠] ، ولا يختلطان فمياه بحر الروح من بحار مشاهدة الألطاف ، ومياه بحر النفس ملح أجاج ، وهي من بحار القهريات.

قال ابن عطاء : تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق ، فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال ، وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفات معرضة عن سنن التوفيق ، وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ، ليس معها خطاب ولا لها جواب.

قال الأستاذ : القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان ، وبعضها محل الشرك والكفران.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))

قوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أخبر سبحانه عن حقيقة التوكل بهذه الآية ، والإشارة فيها أن من له ذخيرة عظيمة غير منقطعة ؛ فإنه ساكن القلب بها ،

__________________

(١) قال حقي : من مرج الدابة خلاها وأرسلها ترعى ومرج أمرهم اختلط والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا عند الأكثر وأصله المكان الواسع الجامع للماء الكثير كما في المفردات. والمعنى خلاهما وأرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج متلاصقين بحيث لا يتمازجان ولا يلتبس أحدهما بالآخر ويدل على بعد كل منهما عن الآخر مع شدة التقارب بينهما الإشارة إلى كل منهما بأداة القرب كما يجيء ويجوز أن يكون محمولا على المقيد. تفسير حقي (٩ / ٢٤٨).

٣٥

والحدثان بأسرها ليست بذخيرة غير منقطعة ؛ فإنها ليست بقائمة بنفسها إنما قيامها بالله ، وهو تعالى بذاته وصفاته مستند العارفين إذ عزته وجلاله قديم باق لا يزول فإذا التوكل عليه حقيقة لمن عرفه بهذه الصفة ؛ فقطع سر حبيبه عن الخلق جميعا في أمر العبودية والربوبية والبلاء والعافية ، والعيش في الدنيا والآخرة.

ثم أمره بتنزيهه وتقديسه حمدا لكفايته ورعايته بقوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أولا ينقطع وجود أبد الآبدين ، وبيّن أن أكثر خلقه محجوبون عن هذه الحقيقة ، والمحجوبون عنها وقعوا في الأسباب ، وهو في حقيقة التوكل ذنب الطريقة فخوفهم بها ، وقال الله تعالى : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً.)

قال بعضهم : التوكل استيلاء الوجد على الإشارة ، وجذب التشرف إلى الإرفاق حتى يبتدئ.

قال الواسطي : من توكل على الله لعلة غير الله ، فلم يتوكل على الله ، ولما أمر سبحانه حبيبه بالتوكل على نعت الحقيقة ، وأخبر فيه عن صفته الخاصة في نفسه من الحياة الأزلية الأبدية ، وعن ذاته السرمدي زاد الخبر في إعلامنا قدرته وبقاءه واشتمال قوته على جميع الحوادث وإنشائها بقوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) بيّن أن الكون قائم به ، وذكر رحمانيته من حيث إنه رحم الخلق بإيجادهم ثم أمر حبيبه أن يسأل في حقيقة هذا الأمر عن جلال عزته ، وبقاء ديموميته والمعرفة بذاته ، وصفاته عن خبراء عرفانه ، وبصراء العلم بجبروته وملكوته بقوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) وهم الذين عرف الله نفسه لأرواحهم في الأول بالأولية والآخرية والقدرة والمشيئة وكمال الرحمة ، وهم باقون في الأشباح بنعت الأرواح في عبوديته وعرفان ربوبيته وفي كل لمحة يزيد معرفته بجلاله وقدره.

وقال الحسين : هم الذين أقامهم الله في البلاد أذلة للعباد منهم من يدل على سبيل الحق ، ومنهم من يدل على آداب سبيل الحق ، ومنهم من يدل على شرائع الإيمان ، ومنهم من يدل على الحق ، فهو الدليل على الحق ؛ لأن الكل محتاجون إليه وهو مستغن عنهم ، يرجعون إليه في السؤال ، ولا يسأل هو أحدا كالخضر ونظرائه ؛ لأنهم أوتوا العلم اللدني.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا

٣٦

سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥)إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٦١) تقدس بذاته وجلاله عن أن يكون محلا للأرواح والعقول والأسرار جعل في سماء ذات القدم لأرواح العارفين وأسرار الموحدين ، وعقول المقربين ، وقلوب الصديقين أبراجا من أنور صفاته لتسري فيها بنعت المعرفة ، وطلب زوائد علوم الربوبية بنجوم الأسرار ، وسيارات العقول ، وشموس الأرواح ، وأقمار القلوب إلى أبد الآباد ، لا ينقطع سيرها في سناء الصفات وأنوار الذات ؛ لأنها غير متناهية ، وأيضا جعل في سماء القلوب في سائر القلوب بروج المقامات والحالات لشمس الروح وقمر العقل ونجوم الهمم والعزائم.

قال جعفر بن محمد : سمي السماء سماء لرفعته وللقلب سماء ؛ لأنه يسمو بالإيمان والمعرفة بلا حد ولا نهاية ، كما أن المعروف لا حد له ، كذلك المعرفة لا حد لها وبروج السماء مجاري الشمس والقمر وهي : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وفي القلب بروج ، وهي : برج الإيمان والمعرفة والعقل واليقين والإسلام والإحسان والتوكل والخوف والرجاء والمحبة والشوق والوله ؛ فهذه اثنا عشر برجا بها دوام صلاح القلب كما أن الاثنى عشر برجا من الحمل والثور إلى آخر

٣٧

العدد وصلاح الدار الفانية وأهلها.

وقال في قوله : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) في السماء سراج الشمس ونور القمر وفي القلب سراج الإيمان والإقرار بالوحدانية والفردانية والصمدية ، وقمر المعرفة يشرق بأنوار الأزلية والأبدية فيتلألأ نور معرفته وإيمانه على لسانه بالذكر ، وعلى عينيه بالعبر ، وعلى جوارحه بالطاعة والخدمة ، وتلك الأنوار من تمام أولية الله للعبد في الأحوال كلها.

ثم بيّن سبحانه تخالف الليل والنهار لاعتبار العارفين وموعظة المريدين بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) جعل تعاقب ليالي الفترة ، وكشوف نهار المشاهدة لزوائد ذكر العارفين وشكر المستأنسين.

قال بعضهم : خليفة يخلف أحدهما صاحبه لمن أراد خدمة ربه أو عبادته.

ثم وصف سبحانه على الوقار من العارفين والمطمئنين من المتمكنين بقوله سبحانه : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وصفهم بالعبودية خاصة ، ومن العرش إلى الثري ملكه وعبيده أراد بأنهم بلغوا ميادين العبودية بأنوار الربوبية فانسلخوا من كل مراد دون وجه حبيبهم فتصح عبوديتهم ؛ لانقطاعهم عن غيره ، يمشون على الأرض على حد الوقار والهدوء والسكينة إذ على مطايا قلوبهم أثقال أوقار أنوار عظمة الذات وسطوات الصفات.

ثم زاد في وصفهم بقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣) إذا سمعوا غير ذكر الله الصافي بنعت الإخلاص والمحبة والشوق ، يقولون للمتكلفين : (سَلاماً) أي : سلامة من الله علينا من مصاحبتكم ومباشرة تكلفكم.

قال الجنيد : عباد صفة مهملة ، وعبادي صفة بالحقيقة ، وعباد الرحمن صفة حقيقية بالحقيقة.

قال جعفر : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) بغير فخر ولا رياء ولا خيلاء ولا تبختر بل بتواضع وسكينة ووقار وطمأنينة وحسن خلق وبشر وجه.

كما وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين ؛ فقال : «هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد ، وإن أنخته على صخرة استناخ» (١).

وذلك لما طالعوا من تعظيم الحق وهيبته ، وشاهدوا من كبريائه وجلاله خشعت لذلك أرواحهم وخضعت نفوسهم وألزمهم ذلك التواضع والتخشع.

__________________

(١) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٦ / ٢٧٢) ، وابن المبارك في «الزهد» (١ / ١٣٠).

٣٨

قال سهل في قوله : (سَلاماً) ، قال : صوابا من القول وسدادا.

ثم زاد في وصفهم بقوله : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤) أخبر عن أحوالهم في شهود عظمته ، وجلال سلطان كبريائه حين كاشفهم جمال وجهه ، فساعة يتمرغون في التراب ، ويعفرون وجوههم به ؛ لحب عظمته وهيبة بهائه ، وساعة يصرعون من صولة أنوار صفاته وبروز جلال ذاته ، وساعة في القيام بنعت البهت والحيرة ، وساعة في الركوع في رؤية العظمة ، وساعة في السجود في مشاهدة دنو الدنو ، فهكذا يبيتون عشاقه في حضرته فيولهون من الذوق ، ويتحيرون من الشوق ، ويتيهون في تيه الكبرياء ، ويستأنسون بعروس البقاء :

لى اللّيل هزّتنى إليك المضاجع

نهارى نهار النّاس حتّى إذا بدا

ويجمعني والهمّ باللّيل جامع (١)

أقضّي نهاري بالحديث وبالمنى

قال أبو عثمان : أفنوا أوقاتهم في الخدمة تلذذا بالمناجاة ، وتقربا إليه ، وتحننا إليه ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكيّا عن ربه : «لا ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ...» (٢) الحديث.

ثم وصفهم بالإنفاق بالقصد بغير الإسراف والتقتير بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الإسراف في النفقة إنفاق في غير مرضاة الله ، الإنفاق بالرياء والسمعة والإقتار النجل والإمساك.

قال بعضهم : الإسراف في النفقة تعظيم المنفق نفقته ، والإقتار فيه الامتنان به على من ينفق عليه.

وقال ابن عطاء : الإسراف في النفقة إنفاق في غير مرضاة الله ، والإقتار الإمساك عن واجب حق الله.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي : إلا من انسلخ مما دون الله ، ورجع بالله إلى الله ، وعرف الله بالله وشرع في خدمة الله بنعت الإخلاص ، والصدق في طاعة الله فيبدل الله تقصيرا توفيرا أو تحقيره توقيرا ، وغيبه حضورا ، ومعصيته طاعة هذا وصف من قام في حضرة جلاله عند

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لابن الدمينة في «التذكرة الحمدونية» لابن حمدون ص (٣٦٢٦).

(٢) رواه البخاري (٦٠٢١) ، وأحمد في مسنده (٦ / ٢٥٦).

٣٩

شهود جماله بنعت الخجل والحيرة والحياء والفناء ؛ فيكون أوزاره أنواره وأنواره أسراره ، فإذا كان كذلك ؛ فإنه تعالى يتوب عليه بكشف المشاهدة ومداناة الوصلة ، وفتح خزائن جود القدم وحقائق ألطاف الكرم بقوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ) [النساء : ١٧].

وقال عليه‌السلام : «من تاب تاب الله عليه» (١).

ثم بيّن أن التائب الصالح العارف الصادق تقع توبته عند مشاهدة الله بقوله : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) (٧١).

قال ابن عطاء : التوبة الرجوع من كل خلق مذموم والدخول في كل خلق محمود.

وقال طاهر : التوبة أن يتوب من كل شيء سوى الله.

ثم وصفهم بالقدس والطهارة عن شهود قلوبهم مشاهد الرياء والسمعة بقوله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) لا يشهدون بقلوبهم وأسرارهم ما دون رؤية القدم ؛ فإن ما دون القدم يكون بالمحل كالعدم في العدم بالحقيقة ، وكل شيء يكون بنعت العدم فوجوده زور ؛ إذ لا حقيقة لوجوده مع وجود الحق الذي لم يزل ولا يزال موجودا حقيقيا.

ثم زاد في وصفهم أنهم لم يلتفتوا في مرورهم على أهل الدنيا ومزخرفاتهم إلى دنياهم كرما وظرافة بقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢).

قال ابن عطاء : (يَشْهَدُونَ الزُّورَ) هو شهادة اللسان من غير مشاهدة القلب.

وقال جعفر : الزور أماني النفس ومتابعة هواها.

قال سهل : الزور مجالس المبتدعين.

قال أبو عثمان فيما سأله عنه أحمد بن حمدان من قوله : (يَشْهَدُونَ الزُّورَ) قال : لا يخالطون المدعين.

ثم زاد في وصفهم بالتنبه والتيقظ والاعتبار والفهم والإدراك في خطاب الله بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣) إذا سمعوا كلام الله وقفوا عليه بنعت التدبر والتفكر فيه والاستكشاف والتبين ، فإذا وجدوا حقائق الخطاب أخذوا منه لطائف كنوز علوم الربوبية اللدنية ، وشاهدوا جمال الحق في كلام الحق.

قال ابن عطاء : لم ينكروها ولم يعرضوا عنها بل أقبلوا على أوامرها بالسمع والطاعة ونعمة عين.

__________________

(١) رواه البخاري (٣٨٢٦) ، ومسلم (٤٩٧٤).

٤٠