تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، وذلك بروز أنوار الصفات في الآيات ، وتلك الآيات لو رآها أحد سواه لاستغرق في رؤيتها ، وكان من كمال استغراقه في بحر الذات والصفات لم تكبر عليه رؤية الآيات والأفعال.

قال سهل : رأى من آيات ربه الكبرى ، فلم يذهب بذلك عن مشهوده ، لم يفارق مجاورة معبوده.

وقال ابن عطاء : رأى الآيات فلم تكبر في عينه ؛ لكبر همته ، وعلو محله ، ولاتصاله بالكبير المتعال.

قال جعفر : مشاهد من علامات المحبة ما كبر عن الاختيار عنها (١).

(إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣))

قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) : يا عاقل احذر مما يغوي أهل العزة بالله من أشكال المخاييل التي تبدو في غواشي أدمغتهم ، وهم يحسبون أنها مكاشفات الغيوب ونوادر القلوب ، ويدّعون أنها عالم الملكوت وأنوار الجبروت ، وما يتبعون إلا هوسات أنفسهم ومخاييل شياطينهم التي تصور عندهم أشكالا وتمثالا ، ويزينونها لهم أنها الحق ، والحق منزّه عن الأشكال والتمثال ، إياك يا صاحبي وصحبة السالوسيين الجاهلين بالحق ، الذين يدّعون في زماننا بمشاهدة الله مشاهدة حق لأولياء ، وليس بمكشوفه للأعداء.

قال الجنيد : رأيت سبعين عارفا قد هلكوا بالتوهم أي : توهموا أنهم عرفوه ، وهو قوله :

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.)

وقال الشبلي : من تحقق في حقيقة الحق فهو نفس الحقيقة ؛ لأن الله يقول : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) : افهم يا صاحبي أن إشارة حقيقة هذه الآية تؤول إلى الكل ؛ إذ الكل معزولون عن إدراك حقيقة الحق ، وما أدركوا فهو أقدارهم ، وجلّ قدر الحق عن أقدارهم وإدراكهم.

قال الله سبحانه : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ؛ ولذلك اجترأ الواسطي في حق

__________________

(١) قال سيدي عبد الله التستري : يعني ما يبدي من صفاته من آياته رآها ، ولم يذهب بذلك عن مشهوده ، ولم يفارق مجاورة معبوده ، وما زاده إلا محبة وشوقا وقوة ، أعطاه الله قوة احتمال التجلي والأنوار العظيمة ، وكان ذلك تفضيلا له على غيره من الأنبياء ؛ ألا ترى أن موسى صعق عند التجلي ، ففي الضعف جابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشاهدته كفاحا ببصر قلبه ، فثبت لقوة حاله وعلو مقامه ودرجته. تفسير التستري (٢ / ٨٦).

٣٦١

سلطان العارفين أبي يزيد البسطامي ـ قدّس الله روحه ـ بقوله : كلهم ماتوا على التوهم حتى أبي يزيد مات على التوهم.

(أم للإنسن ما تمنى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨))

قوله تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أي : هل للمدعي ما يتمنى وهو غير عارف بنا ، وهذا زيادة في بيان جهل المتبعين ظنونهم وتمنيهم ، التمني : وصف من لا يصل إليه فمن وصل إليه لم يبق له التمني ؛ فإنه تعالى فوق التمني ، وفي حقيقة التوحيد أن قول الخليل والكليم والحبيب عليهم الصلاة والسلام : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) ، و (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، وأرنا الأشياء كما هي وقعت على صورة التمني ؛ فإنهم ما شربوا من بحر الوحدانية إلا على قدر مذاق العبودية ، وكيف بلغوا إلى مناهم وأمانيهم إدراك الحقيقة بالحقيقة ، وساحة الكبرياء منزّهة عن درك الداركين ولحوق اللاحقين ووصول الواصلين؟!

قال الحسين : الاختيار طلب الرؤية ، والتمني الخروج من العبودية ، وسبب عقوبة الله عباده ظفرهم بمنيتهم.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦))

قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) أي : فأعرض عن الجاهلين بنا ، والمعرضين عنا والمشغولين بغيرنا ؛ فإن علومهم الظنون الكاذبة والأوهام الزائغة.

قال بعضهم : ضيّع وقته من اشتغل بموعظة طالب الدنيا والراغبين فيها ؛ لأن أحدا لا يقبل على الدنيا إلا بعد الإعراض عن الله ، قال الله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا.)

٣٦٢

(وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨))

قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (١) : وفّى بما امتحنه بكلماته التي قال الله سبحانه : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) ، وأول الكلمات الخروج مما سوى الله ، ثم الخروج من نفسه لله ، ثم الصبر في امتحان الله بالله ، ثم إن شاهد الله بمراد الله حين أفرده عن لباس الآيات بقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) ، بعد أن قال : (هذا رَبِّي) ، وهناك أعظم الامتحان ، ثم إنه ما وقف فيما وجد من الحق ، ثم زاد طلبه في سيره في الحق.

قال الواسطي : خرج من نفسه فيما تحمل من محنة مشاهد المحن كلها نعمة في جنبه ومشاهدته.

قال ابن عطاء : وفّى أربعة أشياء : يبذل نفسه للنيران ، وقلبه للرحمن ، وولده للقربان ، وماله للإخوان.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧))

قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي : ليست الصورة الإنسانية إلا ما سعت من الأعمال الزكية عن الرياء والسمعة يؤول ثوابها إليها من درجات الجنان.

أما ما يتعلق بفضل الله وجوده من مشاهدته وقربته فهو الروح الروحاني الذي في تلك الصورة ، وأنها إذا استوفت بمقام درجات الجنان التي جزاء أعمالها تمتعت أيضا بما يجد روحه من فضل الله من كشف مشاهدته ودوام وصاله ، وأيضا أي : ليس للإنسان إلا ما يليق بالإنسان من الأعمال.

وأما الفضل والمشاهدة والقربة لله يؤتيه من يشاء ، فإذا وصل إلى مشاهدة الله وتمتع بها

__________________

(١) إشارة إلى أن في جبلة الإنسان معرفة لله مركوزة وذلك لأن الله تعالى ذرأ ذريات بنى آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم بخطاب (ألست بربكم) فأسمعهم خطابه وعرفهم ربوبيته وفقههم لإجابته حتى قالوا بلى فصار ذلك الإقرار بذر ثمرة إقرارهم بخالقية الله تعالى في هذا العالم لكن الله تعالى لعزته لا يهتدي إلى سرادقات عزته إلا من أعزه الله تعالى بجذبات عنايته وهو العليم الذي يعلم حيث يجعل رسالاته. تفسير حقي (١٣ / ١٤٥).

٣٦٣

فليس ذلك له ، إنما ذلك لله وإن كان هو متمتعا بها ، وأيضا : ليس كل عمل للإنسان ؛ إنما بعضها لله مثل الصوم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصوم لي وأنا أجزي به» (١) ، فذلك لله لا للإنسان ، وثوابه فضل الله ، وذلك رؤيته ، وهي قائمة بذاته ، وعند ذلك لا يبقى قدر سعايات أهل الكون ، وتصديق ذلك قوله : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي : سوف يعرف أن سعيه في جلال عزته ، وما اختار له في الأزل من كشف جماله ليس بشيء ؛ لأن الحادث لا وزن له عند القديم ، ثم زاد فضله بأن يؤتيه فوق ما كان في سعيه بقوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ، فلما خرج من هذه العلل وعن الأعمال والثواب والدرجات يتباهى الكل عند بروز أنوار وجوده وجلاله بقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ، ثم وصف نفسه بأنه أضحك وأبكى بطلوع صبح جماله العاشقين ، وأبكى بظهور شمس ذاته العارفين ، يبكون عليه منه بفقدان الكل ؛ لأنهم يعرفونه بامتناعه عن إدراكهم وعن تقصيرهم أيضا في طلب معرفتهم بربهم وقلة معرفتهم بوجود ربهم ، وذلك عند كشف المعاينة ، أضحك المستأنسين بنرجس مودته وياسمين قربته وطيب شمال جماله ، وأبكى المشتاقين بظهور عظمته وجلاله ، وأمات العارفين بنعت الفناء في سطوات ديموميته وظهور صدمات أنوار ذاته ، وأحيى العاشقين بكشف صفاته ، فالأولون فنوا فيه ، والآخرون بقوا به ، وأيضا أمات المريدين بالحجاب ، وأحيى المحبين بكشف النقاب.

قال ابن عطاء في قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) : ليس له من سعيه إلا ما نواه ، إن كان سعيه لرضا الرحمن فإن الله يرزقه الرضوان ، وإن كان سعيه للثواب والعطاء والأعواض فله ذلك.

وقال النصرآبادي : سعي الإنسان في طريق السلوك لا في طريق التحقيق ، فإذا تحقق يسعى به ولا يسعى هو بنفسه ، وأنشد :

الطرق شتّى وطرق الحق منفرد

والسالكون طريق الحقّ أفراد

وقال الوراق : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ذلك في بدايتهم ، (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) في توسط أمورهم ، (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ، وذلك في نهايتهم ، (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ، وذلك عند فناء العبد من إرادته وصفاته ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) النشء الثاني.

وقال الواسطي في قوله : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) : أنه لم يكن مما يستجلب به شيء

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٢٣) ، ومسلم (٢ / ٨٠٧).

٣٦٤

من الثواب.

وقال سهل : (سَوْفَ يُرى) سعيه ، فيعلم أنه لا يصلح للحق ، ويعلم ما الذي يستحق بسعيه ، وأنه لو لم يلحقه فضل ربه لهلك بسعيه.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) : إذا وصل العبد إلى معرفة الربوبية تنحرف عنه كل فتنة ، ولا تكون له مشيئة غير اختيار الله له.

قيل للحسين : وما التوحيد؟ قال : أن تعتقد أنه فعل الكل بقوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) عند ذلك بطلت المعلولات ، منه الابتداء ، وإليه الانتهاء.

قال الله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) : ذهبت المعلولات ، وبقت العلل لها.

وقال سهل : أضحك المطيع بالرضا ، وأبكى العاصي بالسخط.

وقيل : أضحك قلوب العارفين بالحكمة ، وأبكى عيونهم بالحزن والحرقة.

وقال ابن عطاء : أضحك قلوب أوليائه بأنوار معرفته ، وأبكى قلوب أعدائه بظلمات سخطه.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) : من كان منه مبدؤه كان إليه منتهاه.

ويقال : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر.

وقال ابن عطاء في قوله : (أَماتَ وَأَحْيا) : أمات بعدله ، وأحيى بفضله.

وقال النصرآبادي : يميت باستتار ، ويحيى بالتجلي.

وقال جعفر : أمات بالإعراض عنه ، وأحيى بالمعرفة.

وقال أيضا : أمات النفوس بالمخالفة ، وأحيى القلوب بأنوار الموافقة.

وقال الأستاذ : أمات نفوس الزاهدين بالمجاهدة ، وأحيى قلوب العارفين بالمشاهدة.

ويقال : أمات بالهيبة ، وأحيى بالأنس.

[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٨ الى ٦٢]

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

٣٦٥

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) : أغنى العارفين به ، وأقنى الموحدين فيه ، وأيضا أغنى العارفين برؤية البقاء ، وأقنى الموحدين برؤية القدم ؛ إذ زاد في كل لمحة الانتقال إلى وصول الحقيقة ، ولا يدركونها ؛ فتنزيه القدم يورث فقرهم أبدا.

وقال سفيان بن عيينة : أغنى وأقنى أقنع وأرضى.

قال الجنيد : أغنى قوما به ، وأفقر قوما عنه.

قوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) أي : حان وقت كشف جمال الحق للمشتاقين المحبين والعارفين الموحدين ، ودنا وصاله للواصلين والأولياء والمقربين ، وفي معناه أنشدوا :

دنا وصال الحبيب واقتربا

وأطربا للوصال وأطّربا

هذه الآية بشارة للمقبلين إلى الله بوصف الشوق ، ونذارة للمدبرين عنه (١).

قال الواسطي في هذه الآية : هذه التي أوجبت الخرس عن الدعاء والثناء والالتماس ، وأذهبت المطالعات والمشاهدات.

وقال ابن عطاء : قرب الأمر القريب.

قوله تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي : إذا قرب أيام الوصال فاشتاقوا ، وسارعوا في بذل الوجود ووضع الخدود على التراب ، واعبدوا رب الأرباب لوجود كشف النقاب ، والله أعلم بالصواب.

سورة القمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١))

قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) : علم الله سبحانه انتظار أرواح الأنبياء والمرسلين وملائكته المقربين والأولياء والعارفين من آدم عليه الصلاة والسلام وجميع أولاده الصالحين ، كشف رؤية الحق ، وقرب وصاله والدخول في جواره ، فبشّرهم الله أنها مقرونة بقدوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما خرج بالنبوة ورسالة الله شكّ فيها المشركون ، فأراهم الله صدق وعده ، وأنه من أعظم آياته بانشقاق القمر ؛ حتى يعرفوا أنه بريد الله إلى العالمين ، يخبرهم بإتيان

__________________

(١) في قوله : (أزفت الآزفة) أي : قربت ساعة الفتح حين توجهت وانقطعت عنك العلائق ، ووجدت من يدخلك بحر الحقائق ، ليس لها من دون الله كاشفة ، لا يكشف لك هذه الحقائق إلا الذي منّ عليك بصحبة من يدلك عليه. البحر المديد (٦ / ١٨٦).

٣٦٦

الساعة التي فيها كشوف العجائب وظهور الغرائب من آيات الله وصفاته وذاته.

قال عبد العزيز المكي : الاقتراب يدل على معنى الأكثر ، ويمضي الأكثر عن قريب.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤))

قوله تعالى : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) : كل أمر خرج من إخبار الله عباده فذلك مستقرّ ثابت في مستقر مشيئته وإرادته الأزلية إلى وقوعه في مواضعه ، لا يتغير عن مراد الله ، ولا يغيره أحد دون الله.

قال القاسم : كل أمر من أموري أمضيته على خلقي استقر قراره لا يزول أبدا لا يقايضني أحد بخلاف ، ولا يدافع أمري بجهد ، وذلك استقرار أموري قرارها وثبوت قسمي لهم.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩))

قوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي : الكاملة الجامعة لكل حكمة الحكماء وحقيقة علوم العلماء ؛ لأنها حكمة أزلية ، إذا انكشفت لعارف يراها على كمال النهايات في وضوح بينات الحقائق ، فغرق من بحارها نوادر الحقائق ، وغرائب الدقائق وهي لا تنتهي أبدا.

قال أبو يزيد : كل آية تمر بالعارف له في ذلك حكمة ، وأكبر آية له في الحكمة البالغة ؛ لأنها ثابتة في حدود المعرفة بالغة منتهاها.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠))

قوله تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) : لو شاهد عليه‌السلام ما وعد الله في أوائل حاله من النصر والظفر بالحقيقة لسكن في ورود الامتحان عليه ، هذا لوط عليه‌السلام إذ احتجب بالامتحان عن شهود مشاهدته الرحمن (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، وأي قوة أقوى من قوة الله ، وأي ركن أشد من الله ، لكن حكمته فرار نوح من الله إلى الله ، وذلك معادن الأمن والانبساط والحقيقة والافتقار ، والأول منزل التوحيد ؛ إذ أفنى عن الدعاء صدق هو مغلوب الله ، ومن صبر بالله هناك هو غالب على ما دون الله.

قال بعضهم : لولا ما أجرى الله على لسان الوسائط لتأديب العبد لضلوا ممن ينتصر بي

٣٦٧

منك أين الغالب وأين المغلوب ، إذا كان الحق صرفا ينطق ويسكت معناه أني مغلوب فانتصر الله غالبه وهازمه.

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦))

قوله تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ) : كما أنزل الله الماء من سماء الظاء الظاهرة ونبع من الأرض الظاهرة فتح سماء الغيب على قلوب العارفين بمياه الكواشف والمعارف ، وفتح عيون قلوبهم بمياه الحكمة والمحبة ، فإذا وصل مياه المشاهدة إلى مياه المحبة استغرق فيها جنود النفس والهوى ، ولا يبقى أثرها ، فإذا أزاد الكشف والعيان وامتلأ بحر العيان يستشرف الأرواح على الفناء فيها ، فيدخلها الله في سنن العصمة ، ويجريها بشمال العناية ، وذلك قوله : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) : ألواح العناية ودسر الكفاية ، وتجري بعين الكلاءة في بحار الأزلية والأبدية بقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (١) أي : تجري بعيون عنايتنا على عيون بحر الذات والصفات ، يحفظها بي عني ، حتى تستمع بمشاهدتي بي ، ولا ينقطع عني بي ، وهذا بيان محل الفناء والبقاء ، وافهم أن الأنبياء والأولياء سفن عنايته يتخلص العباد لهم عن الاستغراق في بحار الضلالة وظلمات الشقاوة ؛ لأنهم محفوظون بحسن عنايته ، وزيّن كلاءته ، ومن استنّ بسنتهم نجا من الطغيان والنيران ، ودخل في جوار الرحمن.

قال ابن عطاء : عيون الله في أرض إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلامه عليهم أجمعين ، وهي تجري لهم وليس بينهما واسطة ؛ إذ كانوا به ، وكانوا له وعنه وفيه ومنه ، وهم يشهدون فعل ذاته ، وهو يجري بهم ، تجري بأعيننا التنقل في الدرجات والمقامات والكرامات وفي المواجيد وفي الأسرار يلقون فيها تحية وسلاما.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ

__________________

(١) أي : تجرى السفينة وتسير بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا ومنه قولهم للمودع عين الله عليك وقيل بأوليائنا يقال مات عين من عيون الله أي ولي من أوليائه. تفسير حقي (١٤ / ٣٩١).

٣٦٨

(٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨))

قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي : ذاكر به جلاله وجماله وقربه وصاله ودارك حقائقه ، كأنه استبعد كيف يدرك الحدثان حقائق صفات الرحمن.

قال الواسطي : يسّر القرآن لمن ذكره وعلم روحه قبله.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي : هل من ذاكر لما جرى منه إليه.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩))

قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) : أعلم الحق سبحانه أهل معرفته به أنه كان عالما بالعلم القديم ، ومريدا بالإرادة الأزلية ، قدّر المقادير بعلمه لا بفعله وبإرادته لا بتخلقه ، ولم يزل عالما بذلك ، مريدا لذلك ، فسرّ القدر نعته الأزلي ووصفه الأبدي ، فأوجد الموجودات بما سبق القدر منه في الأزل ، ولا يتغير أبدا مما قدر وقضى ولو خرج المقدر بلباس المحو والإثبات لا تبديل له من سبق تقدير الأول.

قال الله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، و (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) ، فمقتضى الخطاب الرضا والتفويض والتوكل والتسليم ؛ حتى تنكشف أنوار السوابق له ، فيصير مشاهدا لما سبق ، مكاشفا لما طرق.

٣٦٩

قال القاسم : دخل في هذا المعنى نفوس الخلق وآثارهم وأعمالهم وخطرات قلوبهم وأنفاسهم في أوقاتهم وأخلاقهم المحمودة والمذمومة وآجالهم ومعايشهم ؛ إظهارا لما سبق فهم من العلم وإيجاد القدرة أنه ضبط كل شيء بتقديره ، لا انفكاك لأحد من ذلك تقديرا من العزيز العليم ، وقهر جميع الأشياء بإجراء إرادته عليهم وتيسيرهم على ما قدر عليهم ولهم.

(وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١))

قوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) : في هذه الآية بيان ثلاث مراتب : مرتبة سر علم القدر القديم الذي كان موصوفا به ، وذلك العلم ، وسر القدر مشيئته ؛ إذ عينهما واحد ، ومن بطنان أزال الآزال ، سار سر القدر إلى المرتبة الثانية ، وهي الأمر وحقيقة الأمر قبل ظهوره في الفعل ، فبلغنا إلى المرتبة الثالثة ، وهي الفعل ، فلما وصل القدر والأمر إلى الفعل ظهرت المقدرات من العدم بها بأقل لمحة أي : سيران علم سر القدر من بطون أزل الأزل إلى عالم الأمر والفعل أقل من لمحة على تقديركم إذا استحال الزمان في مشيئة الرحمن لا يكون إلا الإرادة والعلم والأمر ، وأنها خارجة من علل الزمان ، هو ظهور القدم للعدم ، فإذا ظهر القدم للعدم صار المقدر مكونا كينونيته بالله ، فخرج على نعت صورة العلم والتقدير ، كأنه مع التقدير من حيث العلم لا من حيث الوجود ، فأمره علمه إرادته ، فإذا أراد ما علم من نفسه تجلى من الإرادة للعلم ، ومن العلم للإرادة ، ومن الإرادة والعلم للتقدير والحكمة ، فصار ذلك عين التوحيد ، فإذا تجلها بجميعها للأمر يكون الأمر عين الجمع ، وعين الجمع محل الالتباس وأهل الرسوم ، سموا ذلك الخلق والفعل ، وتسمى ذلك الأول ظهور القدم للقدم ، وهو عين العين ، ويسمى الثاني ظهور الصفة في الفعل والأمر ، وهو عين الجمع.

وقال الحسين : الأمر عين الجمع ، والإرادة عين العلم ، ثم بين أن أفعال العباد جرت على سابق تقدير لا ومشيئته مسطورة في ألواح علمه ، وزبر تقديره وحذرهم بها حتى يرقبوا انفتاح مصادر أسراره ، ويروا لطائف أنواره ، ويعرفوه بآياته وصفاته ، ويخافوا من قهره وجبروته.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣))

وقال الله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ.)

قال يحيى بن معاذ : من علم أن أفعاله تعرض عليه في مشهد الصدق فإنه محاسب عليها لاجتهد في إصلاح أفعاله وإخلاص أعماله ، ولزم الاستغفار على ما سلف من إفراط.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

٣٧٠

قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥) : وصف الله سبحانه منازل المتقين الذين أقبلوا على الله بنعت المعرفة والمحبة ، وخرجوا مما دونه من البرية ، وتلك المنازل عالم بالمشاهدة ومقامات العندية جنانها رفارف الإنسان ، وأنهارها أنوار القدس ، أجلسهم الله في بساط الزلفى المداناة التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر ، ولا يزول عنها السر والحجاب ؛ لذلك سماه مقعد صدق أي : محل كرامة دائمة وقربة قائمة ومواصلة سرمدية.

قال جعفر : مدح المكان بالصدق ، فلا تقعد فيه إلا أهل الصدق ، وهو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه بأن يبيح لهم النظر إلى وجهه الكريم.

وقال الواسطي : أهل الصفوة والمتحققون في أنوار المعارف الذين لا يحجبهم الجنة لا النعيم ولأثنى عنه أولئك (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ، يا أخي هؤلاء غرباء الله في الدنيا والآخرة ، أدخلهم الله في أغرب منازل ، وهو مقام مجالسة الحق معهم ؛ حيث لا يطّلع عليهم إلا أهل الصدق في عشقه وأهل الشوق في طلبه وأهل المعرفة به ، والله بذلك مقتدر قادر ؛ لذلك قال عند مليك مقتدر وأظن أنهم فقراء المعرفة الذين وصفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «الفقراء جلساء الله» (١).

سئل أبو يزيد عن الغريب؟ قال : الغريب من إذا طالبه الحق في الدنيا لم يجده ، ولو طالبه مالك في النار لم يجده ، ولو طلبه رضوان في الجنة لم يجده. فقيل : فأين يكون يا أبا زيد؟ فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥).

سورة الرحمن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦))

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) : بيّن هاهنا فضل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على آدم عليه الصلاة والسلام ؛ حيث علّم آدم أسماءه ، وعلّم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفاته ، إذ الصفات لا تخلو من الأسماء ، والأسماء تنبئ عن الصفات والذات ، وفيه بيان أنه بذاته سبحانه خاطبه بالقرآن شفاها عند

__________________

(١) رواه ابن عدي في الكامل (٦ / ٣٧٧).

٣٧١

كشف لقائه له كفاحا ، وليس من يعلم منه بلا واسطة كمن تعلّم بواسطة ، فإذا أراد تعليم أرواح الأنبياء والأولياء حين أوجدها ألبسها نورا من نوره ، وبصرا من أبصاره ، وسمعا من أسماعه ، وعقلا من علمه ، ثم علّمها صفاته بما خاطبها من كلامه الأزلي ؛ حيث لا وسائل ولا وسائط ، وليس من علّمه الحق برسم الأرواح كمن علّمه المعلمون برسم الأشباح ، لا هناك علمهم بلا آلة الحدثية ولا علة المخلوقية ، بل كان خطابا بنعت ظهور الصفة ، وسماعا بلا واسطة ، فهموا من كلامه ما استتر من حقائقه على فهوم أهل الرسوم من العلماء.

قال بعضهم : علّم آدم الأسماء ، ثم عرضهم على الملائكة ، وعلّم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، وعرضه على نفسه ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟

وقال بعضهم : علّم الروح القرآن قبل الجسد ، فالأجساد أخذت القرآن ، وتعلّمته تبعا للأرواح.

قال الواسطي : أورثهم تعليم الحق إيّاهم الاصطفائية ، وهو أنه لمّا كان الحق يعلّمهم أخبر عنهم ، فقال : (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، أي : وأورثنا القرآن من خصصناهم بتعليمنا ، ومن ذلك قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ، بأن تولى الحقّ تعليمهم.

وقال أيضا : ذكر بلفظ الماضي عناية ورعاية.

قال ابن عطاء : لمّا قال الله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها :) أراد أن يخص أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخاصية مثله ، فقال : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي : الذي علّم آدم الأسماء ، وفضّله بها على الملائكة هو الذي علمكم القرآن ، وفضلكم به على سائر الأمم ، فقيل له : متى علّمهم حقيقة في الأزل ، وأظهر لهم تعلّمه وقت الإيجاد ، فالتعليم حيث كان في جملة العلم فلما كشف العلم عن الإيجاد أظهر عليهم آثار التعليم.

قال الحسين : (الرَّحْمنُ) من علّم الأرواح القرآن شفاها ومخاطبة ، فأخذتها الأنفس ، وتعلمتها بتلقين الوسائط.

قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) أي : خلق آدم بظهور الصفة والذات له ، وإلباسه إيّاه علم الربوبية ، ومعرفة أسرار الإفعالية ، وعلّمه أسماءه الحسنى التي هي مفاتيح جميع صفاته ، وذلك قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ،) وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ :) علّمه بيان خطابه ، وكاشف له لطائف أسراره ، وعرّفه بطون علم أفعاله ، وأعطاه العقل القدسي الذي يرى الأشياء كما هي بنوره وبرهانه ، و «علم البيان» أي : فصل الخطاب ، وانتظام الكلام ، وفصاحة اللسان في تأويل القرآن وسنة

٣٧٢

رسول الرحمن.

قال الجنيد : خصّ آدم بأن خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته هو تخصيص الخلافة.

وقال سهل في قوله : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) أي : الكلام الذي هو ذهن الخلق ، ونفس الروح ، وفهم العقل ، وفطنة القلب ، وعلم نفس الطبع.

وقال الجنيد : خلق الإنسان جاهلا به ، فعلّمه السبيل إليه (١).

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩))

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧) : رفع سماء المعرفة والتوحيد بحيث لا يلحقها إلا أهل الاصطفائية بالولاية في الأزل ، ولا ينالها كل مدّع كذّاب ، ووضع ميزان الصدق والإخلاص ؛ ليزن به العبودية في بساط الربوبية.

قال سبحانه : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) : أقيموا العبودية بميزان العبودية ، ولا تزنوا بميزان الربوبية ؛ فإن الحادث لا يلحق إلى القديم ، فإذا لا تخرجوا من رقّ العبودية إلى دعوى الأنانية ، وزنوا أنفاسكم ، وخواطركم ، ومقاماتكم ، وأحوالكم بموازين الشريعة والإخلاص في الطريقة.

قال ابن عطاء : أظهر الوحدانية بصدق الظاهر ، وصفاء الباطن ، وحقيقة السر ، واستقامة العزيمة.

وقال : كن لي صرفا أكن لك حقّا.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦))

قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ) : مهّد قلوب أوليائه ، وأحبائه ، وعرفانه ؛ ليصل منها بركته وآثار جماله إلى جميع الخلائق ، وهي بساتين أنسه ، ورياض قدسه ، وفواكه معرفته ، وأشجار محبته ، وأزهار حكمته التي هي قوت أرواح

__________________

(١) وقال ابن عجيبة في البحر المديد (٦ / ٢٠٣) : أي : بيان السير إلى معرفته ، بأن ركّب فيه العقل المميز ، ونصب له مظاهر يتعرّف بها ، وبعث له دالّا يدله ، ويعلمه أسرار الربوبية وآداب العبودية ، فلا يزال يحاذيه ، ويسير به حتى يستنير قمر توحيده ، وتشرق شمس عرفانه.

٣٧٣

المريدين ، وأسرار المتعبدين ، سقاها الله من بحار جماله ، وأنهار جلاله ، وحرسها بعيون كلاءته ، وأعوان عنايته.

قال جعفر : جعل الخلق قلوب أوليائه رياض أنسه ؛ فغرس فيها أشجار المعرفة ، فأصولها ثابتة في أسرارهم ، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد ، فهم يجنون منها ثمار الأنس في كل أوان ، وهو قوله : (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي : ذات الألوان ، كلّ يجتبي منها لونا على قدر سعيه ، وما كوشف له من بوادر المعرفة ، وآثار الولاية.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧))

قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) : مشرقه أزله ، ومغربه أبده ، ومشرقه ذاته ، ومغربه صفاته ، وأيضا مشرقه فعله ، ومغربه أمره ، وأيضا المشرقان السر والروح ، والمغربان القلب والعقل ، تطلع منها شموس الذات ، وأقمار الصفات إلى عالم العقول والقلوب ، فإذا ذهب أوان التجلي استترت تلك الشموس والأقمار من العقول والقلوب ، فصارت القلوب والعقول مغاربها ، والأسرار والأرواح مشارقها ، وأيضا المشرقان هما الذات والصفات ، والمغربان الأمر والأفعال ، وأيضا المشرقان النعوت والأسامي ، والمغربان الذات والصفات ، له سبحانه في كل ذرة آثار هذه المشارق والمغارب.

قال سهل : مشرق القلب ومغربه ، ومشرق اللسان ومغربه.

وقال بعضهم : مشرقه توحيده ، ومغربه مشاهدته.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١))

قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) (١) : إشارة الحقيقة بالبحرين : بحر مشاهدة تجلّي القدم ، وبحر الروح يكشف له بحر جماله وجلاله ، ويقرب منه بحيث لا تدري الروح

__________________

(١) هما بحر الوجوب ، وبحر الإمكان ، والبحر في الحقيقة ؛ هو بحر الوجوب لا تساعه ، لا بحر الإمكان ؛ لضيقة إلا أنه لمّا جمع معه في محل واحد عبّر عنه بالبحر ، نعم إن الوجوب ، وإن كان أوسع من الإمكان ؛ لكن ظهور الشيء في الشيء إنما هو بقدر قابلية المحلّ ، فيكونان سواء دلّ عليه إنهم جعلوا دائرة الوجود نصفين ، وجعلوا الخط المتوهّم فاصلا بين القوسين ، فالوجود ؛ كالقوسين أحدهما : قوس الوجوب ، والآخر قوس الإمكان ؛ وإنما جعلوا الخط متوهّما لا محققا ؛ لأن الوجود الإمكاني اعتباري مفروض ؛ لتمييز الحقائق ، والمراتب ، فإنه لولا الاعتبارات ؛ لبطلت الحقائق. (يَلْتَقِيانِ) التقاء الروح بالجسم ؛ لأن الروح في الحقيقة بحر الوجوب ، والجسد بحر الإمكان ، وإن كان مخلوقا كما ورد : «أول ما خلق روحي».

٣٧٤

العاشق العارف أين هو؟ فترى الحق ، ويفنى هو في الحق ، ومن ذلك القرب والدنو عبّر الحق بقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، ولكن بين البحرين حاجز امتناع عزة وحدانيته بحيث لا يختلط القدم بالحدث ؛ لأنه منزّه عن الحلول في الأماكن ، والاستقرار في المواطن ، وذلك قوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي : برزخ أعظم من تنزيه قدمه من تناول الحدث ، ومع الحدث برزخ الحدوثية ، يحتجب به عن الوصول إلى حقيقة ذاته ، وعيون صفاته ، بل يستمتع بالنظر إلى جماله ، وكشف تجلّي جلاله ، بحر القدم عذب من حيث القدس ، وبحر الحدث ملح من حيث علل الحدوثية ، فلمّا تمرح بها جلاله بنعت التجلي صارت عذبا فراتا ، من حسن مجاورتها :

تكون أجاجا دونكم ، فإذا انتهى

إليكم تلقى طيبكم ، فيطيب

وما ذاك إلّا حين خبّرت أنّه

يمرّ بواد أنت منه قريب

وتصديق هذه المعاني تجليه لجبل الطور ، ومن الشجرة لموسى ، وهناك مقام عين الجمع ، انظر إلى البحرين : بحر الحدث ، وبحر القدم كيف لا يخلتطان! والحدثان بأسرهما من العرش إلى الثرى كقطرة فانية في قلزم بحار أزليته ، وديمومته يخرج من بحر جلاله جواهر العلوم اللّدنية ، وأسرار الحكمية للعقل والقلب ، وتخرج من بحر الروح جواهر المعرفة ولآلئ المحبة ، وإن كان الكل من بحره خرج ؛ لأن بحره موجد البحار ، وما يخرج من بحر وجوده يكون قديما مثل القرآن ، والأسماء ، والنعوت ، وما يخرج من بحر الروح المالحة بعلة الحدوث ، وما يتعلق بالحدوثية من العلم والمعرفة والفطنة.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

قال الله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) : وأيضا إذا نزلنا من هذا المقام بحر أذيان المعاني إلى عالم الأماني ، فنقول بالبحرين : بحر القلب والنفس في القلب بحر الأخلاق المحمودة ، والمقامات العلية الشريفة ، ولطائفات المعرفة ، والمحبة ، والنفس بحر الأخلاق المذمومة من الظلم ، والضلالة منبع بحر القلب من عالم لطفه ، ومنبع بحر النفس من عالم قهره ، وهما لا يختلطان أحدهما بالآخر ؛ إذ لا تصير النفس قلبا ، ولا يصير القلب نفسا ؛ لأن بينهم برزخ العقل والعلم والشريعة والطريقة ، ولؤلؤهما ومرجانهما هاهنا الإيمان والإتقان والصفاء والنور والطمأنينة ، فهذه الجواهر تخرج من بحر القلب ، فإذا صارت النفس مطمئنّة فأيضا جواهر بحرها من أضعاف بحر العلوم المجهول ، وهي مواضع الأسرار.

قال سهل بن عبد الله : أحد البحرين القلب ، فيه أنواع الجواهر ، فيه جوهر الإيمان ،

٣٧٥

وجوهر المعرفة ، وجوهر التوحيد ، والبحر الآخر النفس ، فيها صفوف الرذائل ، فيها الحقد الحسد ، والكبر ، والبخل ، والغضب ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١) التوفيق ، والعصمة والخذلان ، والنقمة.

وقال ابن عطاء : بين العبد وبين الرب بحران عميقان أحدهما : «بحر النجاة» ، وهو القرآن من تعلّق به نجا ؛ لأن الله تعالى يقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) ، و «بحر الهلاك» : وهو الدنيا من ركن إليها هلك.

وقال الأستاذ : خلق في القلوب بحرين : «بحر الخوف» ، و «بحر الرجاء».

ويقال : القبض والبسط.

ويقال : الهيبة والأنس.

فتخرج منها الجواهر من الأحوال الصافية ، والّلطائف المواتية.

ويقال في الإشارة : البحران النفس والقلب ، فالبحر العذب القلب ، والمالح النفس ، ومن بحر القلب كل جوهر ثمين ، وكل حالة لطيفة ، ومن النفس كل خلق ذميم ؛ فالدّر من أحد البحرين يخرج ، ومن الثاني لا يكون إلا التمساح ، وما لا قدر له من سواكن النفس ، بينهما برزخ لا يبغيان يصون الحق هذا من هذا ، ولا يبغي هذا على هذا.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨))

قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٢٦) : لو نظرت بنظر التحقيق في الكون وأهله ، لرأيت حقيقة فنائه وفناء أهله ، وإن كان في الظاهر على رسم الوجود ؛ لأن من يكون قيامه بغيره فهو فان في الحقيقة ؛ إذ لا يقوم بنفسه ، وكيف الحدث يقوم بنفس ولا نفس له في الحقيقة؟! فإن الوجود الحقيقي وجود القدم ، لذلك أثنى على نفسه بقوله تعالى :

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) : وحقيقة البقاء لمن لا يزال باقيا قديما ، ومن كان أوله عدما وآخره عدما وجوده بخلاف من كان أوله قدما وآخره بقاء ، فإذا شاهدت مشاهدة الحق ترى الحق قائما بنفسه ، وترى الأشياء قائمة به ، فقد علمت هناك حقيقة الفناء والبقاء ، وحقيقة الوجود والعدم.

__________________

(١) فإذا هبت رياح العناية من مهب الهداية وتموج البحران فيتلاشى البرزخ باصطكاك البحرين ويصير الكل بحرا واحدا وهو بحر لا إله إلا هو إليه المصير فإذا كان إليه المصير ، فقد طاب المسير ، تفسير حقي (١٢ / ٣٤٨).

٣٧٦

عرّف الله سبحانه قدمه وبقائه خلقه بفناء الدنيا وأهلها ؛ ليتحققوا في معرفته ؛ لأن من دخل في البقاء بغير دخوله في الفناء لم يعرف حقيقة البقاء.

سئل الجنيد عن قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) قال : من كان بين طرفي فناء فهو فان ، وذكره جلاله ووجهه الباقي تسلية لقلوب المشتاقين ، وترويحا لفؤاد الموحدين والعارفين ، أي : أنا أبقى لكم أبدا لا تغتمّوا ، فإن لكم ما وجدتم في الدنيا من كشف جمالي ، ويتسرمد ذلك لكم بلا حجاب أبدا ، أيها العاشقون استبشروا ببقائي ، وافرحوا بلقائي ، وفيه دقيقة وإشارة إلى حبيبه أي : كلهم استمتعوا بتجلياتي ، وكشف الوجه باق لك أبدا ، رأيت وجهي خاصة لك ، ثم العشاق أتباعك في النظر إلى وجهي ، فأول الكشف لك ثم للعموم ، فذكر الوجه خاصة وهو صفة خاصة لأهل الخصوص ، وإن كان وجود القدم جميعه وجها ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله تعالى يتجلّى لأبي بكر خاصة ، ويتجلّى للمؤمنين عامة» (١) ، وذكر الجلال تهيج لأهل المحبة والهيمة.

قال الواسطي : الذي أخفى من شاهده للخاصة لا يظهره للعوام ، فسئل : أفرق بين الدارين؟ قال : نعم ، أعطاهم في الدنيا على السرائر ، وأعطاهم في الآخرة على الظواهر ، استتر في الدنيا بما أظهر من عجائبه ، واستتر في الآخرة بما أظهر على أقدارهم ، وهو الذي لا يطيقه الخلق إلا على من تولّاه بإسبال تغييبه عن شاهده ، نظرت يا فهم في مقام التوحيد إلى تلاشي الكون في ظهور جلال وجهه تعالى ، ورأيت فناءه في بقائه حين ظهر ؛ وذلك لغلبة سلطان إشراق نور القدم على وجود الحدث ، وذلك حين غاب العارف في المعروف ، ولا يدري أين هو؟ إذ لا أين ، ولا هو إلا هو.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٣ / ٨٣) بنحوه.

٣٧٧

فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : يسأله من في السماوات من الملائكة كلهم على قدر مقاماتهم ، يسأله الخائف النجاة من البعد والحجاب ، ويسأله الراجي الوصول إلى محل الفرج ، ويسأل المطيع قوة عبادته ، ويسأل المحب أن يصل إليه ، ويسأل المشتاق أن يراه ، ويسأل العاشق أن يقرب منه ، ويسأل العارف أن يعرفه ، ويسأل الموحد أن يفنى فيه ، وهكذا أهل الأرض ، يسأل الجاهل ما يحتجب به عنه ، ويسأل العالم ما يعرف به ربه ، وكذلك الأنبياء والأولياء والأصفياء والأبدال ، يسألون منه على قدر مراتبهم ودرجاتهم معرفته ، ووصاله ، والتخلص بوقاية عظمته من قهره ، يسأل العارف الرعاية ، ويسأل المحب الكفاية ، ويسأل العاشق المشاهدة ، ويسأل الموحد النهاية ، وهو تعالى يكون من حيث مراد الجميع ، يعطي الكل مأمولهم ، ويزيد من فضله ، (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) : مزيد قرب المقرّبين ، ووصل الواصلين ، وكشف اللقاء للمشتاقين ، وظهوره في كل ذرة للشائقين ، يظهر في كل لحظة من أنوار عجائب ربوبيته للمستأنسين ، وتلك العجائب بما لم ترها العيون ، ولم تدركه العقول ، ولم تعلمه القلوب ، ولم يلحقه الأرواح ، ولم تناولها الأشباح ، ولم تشاهده الأسرار ، وليس لها نهاية ، يبرز كل يوم وساعة أنوار عجائب ملكه وملكوته على قدر قوة إدراك المدركين ، وأفهام العلماء والعارفين ، وما كان في سوابق علمه في أزل أزله ، بشوق أسرارها ومقاديرها ، بسوط القدر إلى مجاريها ومواردها ، ولا تظن أن أحدا يصل إلى شأنه ، فإن شأنه أعظم من أن يدركه أحد من خلقه. قال الواسطي : من سأل الله أعطاه سؤله على قدره ، ومن ابتدأه بالعطاء ابتدأ بما يليق بفضله وجوده وكرمه ، قال الله : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : أعطيتكم قبل أن تسألوني ، واستجبت لكم قبل أن تدعوني» (١).

قال أبو سليمان الداراني : كل يوم له إلى عبيده برّ جديد.

وقال أيضا : هو إيصال نعمه إليك ، ودفع الضر عنك ، فلا تغفل عن طاعة من لا يغفل عن برّك.

قال الواسطي : يغيب ظاهر ، وإظهار غائب.

وقال بعضهم : سوق المقادير إلى أوقاتها.

__________________

(١) رواه النسائي في الكبرى (٦ / ٤٢٤).

٣٧٨

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩))

قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أي : من خاف وهاب مقامه في مقام العتاب ، وتغيير رب الأرباب له ، وإسبال النقاب ، وصرفه عن المآب ، وحيائه بنعت الإجلال عند الخطاب ، فترك حظوظه ، وأقبل عليه بنعت الخجل والتشويش ، والندم عن تضييع أوقاته جنتان : جنة المشاهدة ، وجنة المواصلة ، جنة المحبة ، وجنة المكاشفة ، جنة المعرفة ، وجنة التوحيد ، جنة المقامات ، وجنة الحالات ، جنة القلب ، وجنة الروح ، جنة الكرامات ، وجنة المداناة.

قال بعضهم : هو المقام الذي يقوم بين يدي ربه يوم القيامة عند كشف الستور ، وظهور حقائق الأمور ، وسكوت الكل من الأنبياء والأولياء بظهور القدرة والجبروت.

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١))

قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠) أي : هل جزاء شوق الشائقين إلا لقاء رب العالمين ، وهل جزاء الخوف منه إلا الأمن به ، وهل جزاء الحزن إلا الفرح ، وهل جزاء الفناء فيه إلا البقاء معه.

قال بعضهم : هل جزاء من انقطع عن الإنس المخلوقين إلا أن يوصل إلى محل الأنس بربّه.

قيل : هل جزاء من صبر على الله إلا الوصول إليه؟!

قال الجنيد : هل جزاء من ترك الكل لنا وفينا ، إلا أن يكون عوضه عن الكل.

قال جعفر : هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد.

٣٧٩

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣))

قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (٧٢) : وصف الله سبحانه حواري جنانه التي خلقهن لخدمة أوليائه ، وألبسهن لباس نوره ، وأجلسهن على سرير أنسه في جمال قدسه ، وضرب عليهن خيام الدر والياقوت ، ينتظرن أزواجهن من العارفين والمؤمنين المتقين ، لا يطرفن أبصارهن في انتظارهن من مسلك الأولياء من أزواجهن إلى غيرهم ، ثم وصفهن الله بأنهن قاصرات الطرف لم يصل إليهن مسّ الأغيار بقوله : [سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٧٤ الى ٧٧]

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧))

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٧٤) ، ثم وصفهن بأنهن خيّرات ، حسان ، نور حسن تجلي الحق يتلألأ من وجوههن من نظر إلى واحدة منهن بحار عقله فيها ، ويغيب قلبه في جمالها ، هي ريحانة الحق ، يستأنس بها العاشقون ؛ لأنها باكورة الجمال ، لها طلعة لو رأتها الشمس ما طلعت ، ولو رآها قضيب البان لم يمس ، يا لها من طيب وصالها ، ويا لها من حسنها وجمالها ، لو تفوح ذرّة من نفحة مسك ذؤابتها في الدنيا لتعطّر العالم بأسره من عطر نسيمها.

تضوّع مسكا بطن نعمان إن مشت

به زينب في نسوة عطرات

قال الحسين : حارت في رؤيتها الأبصار ، وقاصرات : قصرت عن إدراك وصفها الأفكار لا يترجم عنها لفظ اللسان.

قال يحيى بن معاذ : هي التي لا يقدر أحد على حكايتها ، وتعمى عيون المبصرين عن بلوغ حسنها ، كأن ألسنة العشق تنطق بمغيّبات العقول عن وجنتها ، وأنامل الأفراح تضرب بدفوف الفتن في صورتها معشوقة ، لو رآها الخلق لتحيّروا فيها ، هي التي قال الله فيها : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (١).

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

__________________

(١) أي : أسرار حفية محبوسة في خيام القلوب والأرواح ، والأسرار لا يطّلع عليها إلا أهلها ؛ كالنساء اللائي تحت خيام الدنيا لا يظهرن إلا على أزواجهنّ ، وكل من هذين النداءين مستمر إلى آخر الزمان إلا أن النداء قلّ من يجيب له ؛ لأن الأسماع مسدودة ، والأفواه مقفولة ، والقلوب مختومة غالبا ، واقتضت الحكمة الإلهية غلبة أحكام الإمكان على أحكام الوجوب في كل زمان ، فلم يحصل على الحق إلا واحد من الألف ، كما يقتضيه الاسم الأعظم الحاكم على ألف من الأسماء الجمالية والجلالية ، فعليك بالتأمّل في هذا المجلس ، والاعتبار من الشيطان الذي هو مظهر اسم المضلّ في مرتبة الشريعة.

٣٨٠