تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

وقال : استعمل الرضا جهدك ، ولا تدع الرضا يستعملك ، فتكون محجوبا بلذّته عن حقيقة ما يطالع بعد درجته.

قال سهل : الخشية سرّ ، والخشوع ظاهرّ.

وقال عمرو المكي : اشترط الراضين بالخشية في رضاهم عنه ؛ لذلك أوجب لهم رضاه عنهم بأن يرضوا عنه ويخشوه في رضاه عنهم ، ولا يكون ذلك إلا باجتناب المحارم ، وعقد موافقتهم لموافقته ، أن يكرهوا ما كره ، ويرضوا ما رضي.

سورة الزلزلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) : إذا انكشف جمال القدم عيانا تزلزلت أرض قلوب العارفين بوصول سطوات العزة إليها ، تحركت بنعوت المواجيد ؛ حيث باشرتها أنوار العظمة والكبرياء ، وعاينت ما في صميمها ، وأخرجت أثقال أسرار معارفها وعلومها المجهولة الربّانية إلى بساط الحضرة ، وصاحبها يتعجب من تلك الأشكال الحقيقية ، بقوله : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) (٣) ، فتشهد الأرواح عليها ، وعرفت مكنون سرائرها إياه ، فعند ذلك عرف الإنسان نفسه حين ألهمه الحق بما ألهم روحه ، بقوله : (تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها.)

قال الحسين : تزلزل الأرض ، وتخرج أثقالها للعرض ، فتقول ما لها ، وتحدّث أخبارها ، وتظهر أسرارها ، فيسألها ما قدّمت من [فطها كيميا غيب نبذهت] ، من عظم ما عاينت ، وشاهدت مذعنة قد خضعت ، ونكست رؤوسها.

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) : يجيبون بنيّات مختلفة ، ومأمولات متفاوتة ، فالناس الحقيقيّون يصدرون من مقام المكاشفة إلى مقام المشاهدة ، ومن مقام المشاهدة إلى مقام الوصلة.

قال أبو بكر بن طاهر : معتمدا على فعله وطاعته ، ومستحييا من مخالفته ومعصيته ، وراجيا شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعتمدا فضل الله عليه ، وأهل الصفوة واقفون بلا علة من هذه العلائق

٥٢١

إلى أن يصلوا إلى مأمولهم ومرادهم (١).

قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) : العارف يرى جزاء عمله من الخيرات ، ولا يكون مقيّدا بها ؛ إذ هو مشغول بالحق عن غيره ، ويرى ما فعله من الحركات المذمومة ؛ ليعرف فضل الله عليه بأنه تعالى لا يجازيه بها.

قال جعفر : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) : في الدنيا إذا كان مؤمنا ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) : في الدنيا إذا كان مشركا.

قال الواسطي : إذا كان من أهل الإسلام ، إن الأعراض لا ترى ، ولا تبقى وتبين ، وكيف يجوز أن يرى؟

قيل : القرآن صفة الله ، وأن الصفة لا تبين من الموصوف ، وهو يرى في الأرض مكتوبا ، كذلك الأعمال.

سورة العاديات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) : أقسم الحقّ سبحانه بأفراس قلوب المحبّين إذا صحبت بأصوات الوصلة من تراكم مواجيد المشاهدة في ميادين الوحدة ، حين عاينت مشاهدة السرمدية ، وهي الموريات أنوار المعارف من قداح الكواشف ، ثم أقسم لواردات كشوف صفاته حين أغارت أرواح العاشقين عند طلوع صباح مشاهدته.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : متفرقين ، جمع شتّ ، نزلت في بني ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل ، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكل أكل ضرورة. وقيل : في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا. وقيل : في قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض ، فخيّرهم. وقيل : كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته ، ودعاه إلى الطعام ، فيقول : إني أتحرج أن آكل معك ، وأنا غني وأنت فقير ، فأباح لهم ذلك.

٥٢٢

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) : شهد الحق على أسرار الخلق في الأزل قبل إيجادها ، لا يعزب عن علمه ذرة من العرش إلى الثرى ، والإنسان لا يعرف ما أعطاه الله من نعمة بالحقيقة ، وإنه لكفور ؛ إذ لا يعرف منحه.

قال القاسم : هو الذي يشهد بأحواله وعلى أحواله ؛ لأن الحق تولّاها في أزليته قبل أن يخلقها ، وسيّرها بتقديره ، وأخرجها إلى الكون بتدبيره ، وفي عرصة القيامة يسوقها إلى المحشر كما ساقها في الأزل والأبد دون غيره ، فانطلق ما شاء بما شاء في يسيره في الدارين ، وأخرس ما شاء عما شاء بتدبيره.

قال الواسطي في قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) : بعد منّه من الطاعات ، وينسى ما منّ الله به عليه من الكرامات.

سورة القارعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ) : «القارعة» : ساعة كشف جمال العظمة الذي يفنى الحدثان في سطواتها ؛ لذلك قال : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) ، ذلك من وصول قوارعات قهر جبروته.

قوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) (١) : فمن ثقلت موازين قلبه بمعرفة الله وتوفيقه

__________________

(١) اعلم أن ثقلة الموازين عبارة عن : وجود الأعمال الرزينة لها التي لها وزن عند الله ، وقدر دلّ عليه العيشة الراضية ؛ لأن عيشة الرجل في الجنات ؛ إنما هي بأعماله ؛ لأن درجاتها ونعيمها مقسومة بقدرها ؛ فهو إنما يدخل بثقل الموازين جنة الأعمال ، وخفة الموازين عبارة عن : عدم الأعمال المقبولة دلّ عليه قوله : فأمه هاوية ؛ لأن الله لا يقيم لمن خفت موازينه يوم القيامة وزنا ومقدارا ؛ فيهوى في النار التي هي أصله ؛ لأن كل ظلمة ، وظلماني ؛ إنما هو من النار ، كما أن كل نور ، ونوراني ؛ إنما هو من الجنة ، وفيه إشارة إلى أن ـ

٥٢٣

الأزلي فهو في عيش مشاهدته الأبدية.

قيل : قال الواسطي : هل يجوز أن تثقل الموازين بأعمالنا؟ قال : لو جاز ذلك لا من كل من كثرت أعماله وصفت ، بل الله يثقل موازين من شاء ، ويخفّف من شاء ، ألا ترى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الميزان بيد الله يخفض أقواما ويرفع آخرين» (١) ، رفعهم في أزليته ، ووضع آخرين في أزليته قبل كون كل كون.

قال سهل : فمن ثقلت موازينه بالإخلاص فهو في عيشة راضية ، في رضا الله ينقلب في جواره ، ومن خفّت موازينه بالرياء والسمعة فأمه هاوية ، فإنه ينقلب في سخط الله ومأواه النار.

سورة التكاثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) : شغلكم النظر إلى أحوالكم وأعمالكم ، والاقتداء بالتقليد على السلف عن مشاهدتنا وقربنا.

__________________

ـ الأعمال تتجسّد يوم القيامة ؛ فيكون لها ثقل وخفة ، كما ذهب إليه أهل الشرع ؛ لأن الأعراض لا توصف بذلك ، وكان الظاهر أن تكون ثقلة الموازين بسيئات الأعمال ؛ لتهبط بصاحبها إلى النار التي في الأرض السافلة ، وأن يكون خفتها بصالحات الأعمال ؛ لتصعد بصاحبها إلى الجنة التي في السماء العالية ؛ لكن اعتبرت الثقلة بالصالحات ، والخفة بالطالحات ؛ لأن الجسم هو الذي يتّصف بالثقل ، والخفة ، فوجود الصالحات مما يقتضي جسامتها ، ووزنها ، وقدرها ، وصعودها ليس من حيث وجودها ، وثقلها في نفسها ؛ بل من حيث حال عاملها ، فإن العامل لا بد وأن يكون مخلصا بالكسر ؛ بل مخلصا بالفتح ، والمخلص لا وجود له في نفسه ؛ لأنه فان عن أعماله ، والتعلّق بها ، فاجتمع ثقيل ؛ وهو العمل ، وخفيف ؛ وهو حال العامل ؛ فارتفع ميزانه إلى جانب العلو ؛ كالروح مع الجسد ؛ فإنه لولا الروح لم يكن للجسد قيام بنفسه.

(١) رواه الطبراني في الكبير (٧ / ١١٧).

٥٢٤

قال بعضهم : شغلكم التكاثر بموتاكم عن الحياة بذكري.

قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) : تعرفون أنكم لا تعرفونني حق معرفتي ، حين وقفتم بما وجدتم مني عني.

قال : سيعلم من أعرض عني أنه لا يجد مثلي.

قوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) : بيّن الله سبحانه أن علم اليقين قبل الرؤية والمشاهدة يكون ، فإذا حصلت الرؤية والمشاهدة صار علم اليقين عين اليقين ، بقوله : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) ، و «حقيقة اليقين» و «حق اليقين» : أن يعرف العبد أنه يرى جحيم قهر القدم الذي كان الحق موصوفا في الأزل ، ولم يصل إلى بطنان كنهه ؛ لأنه الحدث والحق قديم ، وأنّى يصل الحدث إلى القدم أبدا؟!

قال يحيى : «اليقين» : كشف الغطاء عن القلب.

وقال فارس : «علم اليقين» : لا اضطراب فيه ، و «عين اليقين» : هو العلم يودعه الله الأسرار.

قال الخراز : «عين اليقين» : هو أن يرفع الحجب عن قلوبهم بتجلّ لأرواحهم وأسرارهم ، ويكشف عن أوهامهم حتى يروه عين اليقين ، فيرجعوا عنه سكارى ، وينتهوا عنه حيارى.

قال بعضهم : «عين اليقين» : عين البقاء.

سورة العصر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) : أقسم الله بآزاله وآباده التي هي أعصار الأولية والآخرية التي قصر منها الدهر الدّهار عن تعدادها ، وأيضا : أقسم بزمان العارفين حين تابوا بجماله ، وفرحوا بلقائه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، إذا احتجب بنفسه عن نفسه ، وأنه لا يبلغ إلى وصله ، ثم استثنى أهل شهود القدم الذين تركوا أوصاف الحدوثية على باب الأزلية ،

٥٢٥

واتصفوا بأوصاف الربوبية ، بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : «تواصوا بالصبر» : بالله في الله ، «وتواصوا بالحق» : بالإقبال على الحق.

قال بعضهم : «التواصي بالصبر» : هو ألا يشهد البلاء بحال.

قال بعضهم : «التواصي بالحق» : هو مقام مع الحق ، والقيام بأوامره على حدود الاستقامة.

سورة الهمزة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤)وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) : ويل الحجاب لمن لا يرى الأشياء بعين المقادير السبّاقة حتى يكون وقيعه في الخلق بالحسد ، وهو مقبل إلى الدنيا بالجمع والمنع.

قال تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ.)

قال بعضهم : جمع المال : من علامة الجهل ، وحبّ المال : من علامة النفاق ، والبخل بالمال : من علامة الكفر.

قوله تعالى : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) : وصف الجاهل بالله بأن ماله يوصّله إلى الحق ، لا والله لا يصل إلى الحق إلا بالحق.

قال أبو بكر بن طاهر : يظنّ أن ماله يوصّله إلى مقام الخلد.

قوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) ، «ناران» : نار القهر ، ونور اللطف ، «نار قهره» : إبعاده قلوب المنكرين عن ساحة جلاله ، و «نار لطفه» : نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبّين والعارفين.

قال جعفر : النيران شيء مختلف ، فمنها : نار المحبة ، ونار المعرفة تتّقد في أفئدة الموحدين ، ونيران جهنم تتّقد في أفئدة الكافرين ، ونيران المحبة إذا اتّقدت في قلب المؤمن تحرق كل همّة غير الله ، وكل ذكر سوى ذكره.

* * *

٥٢٦

سورة الفيل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) : إنّ الله واسى قلب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر هلاك أصحاب الفيل الذين اتّكلوا على الفيل بأنه يدمر على أعدائه كما دمر على أصحاب الفيل ، الذي هو أعظم الحيوان بأضعف الطيور ، وذلك تعريفه صفته بواسطة رؤية فعله.

قال يوسف بن حسين : من كان اعتماده على غير الله أهلكه بما اعتمد عليه ، كأصحاب الفيل اعتمدوا على أقوى خلق من خلق الله ، فأهلكه الله بأضعف خلق من خلقه (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) (١).

سورة قريش

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) : هذا تعداد نعمه لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وعشيرته والمؤمنين ، أهلك أعداءهم ببركته وصفوته ؛ لئلا يشق عليهم الوقوف في مقام واحد ، فيرتحلوا في الشتاء والصيف ؛ ليروا آيات الله في بلاد الله ، ثم أمرهم بعبوديته حتى أمنهم من فزع الحجاب والعتاب والعذاب ، وأطعمهم من موائد كشف النقاب.

__________________

(١) قال عكرمة : قال : طير نشأت من قبل البحر ، لها رؤوس كرؤوس الأفاعي. وقيل : كرؤوس السباع ، لم تر قبل يومئذ ولا بعده ، فجعلت ترميهم بالحجارة لتجدر جلودهم ، وكان أول يوم رئي فيه الجدري. تفسير التستري (٢ / ٣٥٦).

٥٢٧

قال بعضهم : من لزم طريقة التوكّل على الله أغناه الله عن الحركة بالرزق ، وأغناه عن السعي والطلب كما قال في : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (١) : من اشتغل بالعبادة أمنه الله مما يخاف وأطعمه من جوعه ، بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.)

سورة الماعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) : من لم يكن من أهل الشهود في الدين فهو منكر يوم كشف اللقاء.

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) : وصف الله أهل الرياء والسمعة الذين لم يجدوا في صلواتهم لذّة المناجاة وأنوار المشاهدات.

قال بعضهم : الذين لا يحصرونها بشهود قلب رعاية حقوق المناجاة ، وخشوع الأرواح فيها ؛ ألا يعلمون أن الصلاة مواصلة بين العبد وبين ربّه ، فإذا لم يراع حقوقها كانت مفاصلة.

قوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) : وصفهم بالبخل عن بذل وجودهم في الله.

قيل : له يبخلون ببذل المال ، والمهج في رضا الحق.

__________________

(١) قال القشيري : مصدر آلف ، إذا جعلته يألف ، وهو ألف إلفا ، والمعنى : جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، أي ليألفوا رحلتهم في الشتاء والصيف ، وكانت لهم رحلتان للامتيار : رحلة إلى الشام في القيظ ، ورحلة إلى اليمن في الشتاء والمعنى : أنعم الله عليهم بإهلاك عدوّهم ليؤلّفهم رحلتيهم. تفسير القشيري (٨ / ١٠٦).

٥٢٨

سورة الكوثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) : «الكوثر» : حقيقة استغراقه في بحر جماله ، ودنوّه في منازل قربه ، وله كوثر القلب يجري فيه أنهار أنوار مشاهدة الحق من بحار الأزل ، والأبد يزيد في كل نفس سواقيها إلى الأبد.

قال جعفر : نور في قلبك دلّك علىّ ، وقطعك عما سواي.

وقال : الشفاعة لأمتك.

وقال ابن عطاء : الرسالة والنبوة.

وقال : معرفة بربوبيتي ، وانفراد بوحدانيتي وقدري ومشيئتي.

وقال الجنيد : أعطيناك نور المعرفة ، وانفراد الوحدانية.

قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي : اتّصل بنور الربوبية بخالص العبودية ، وانحر نفسك قربا لكشف مشاهدتي.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : منقطع عن الوصول إلينا.

قال القاسم : المنقطع عن خيرات الدارين أجمع.

سورة الكافرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي : قل إنّي وقعت في بحار القدم والديمومية ، ولا أشتغل بغيره أبدا.

٥٢٩

قال بعضهم : عبادتكم له عبادة طمع ، وعبادتي له عبادة حقيقة ، وعبادتكم له عبادة منوّة بشرك ، وعبادتي له عبادة حقيقة وحقّ (١).

سورة النصر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : نصر الله لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع أحبائه إفرادهم بفردانيته عما دونه ، وأنجاهم عن جنس النفوس ، وإبلاغهم مقام الأنس نظفرهم على كل بغيّة لهم ، وأداء ما عليهم من حقوق العبودية ، و «الفتح» : انفتاح أبواب الوصال ، وانكشاف أنوار الجمال والجلال ، وبلوغهم عين الكمال ، وأيضا «نصر الله» : كشف غطاء النفس ، و «الفتح» : وقوع نور القدس في القلب إذا ذهب قتام الحدثان ، فجاء النصر ، وإذا انكشف جمال الرحمن قام الفتح ، وذلك بشارة الله لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصوله إليه ، وتخلّصه من أعباء النبوّة ، ومشقة الرسالة ، ورؤية الأغيار ، فأمره بتقديسه لنفسه ، والاستغفار منه لأمته بقوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ، إذا كمل في المعرفة ، واستقام في التوحيد ، وأقبل بكماله بحق الحق عند رجوعه من نفسه إليه كان معه بحار الثناء ، والعرفان والإيقان والإيمان ، فأبرز الحق نورا من قدس قدمه له ، فسقط عنه ما معه من جميع الثناء ، فأمره باستئناف ثنائه به لا بنفسه ، وأعلمه طريق الثناء عليه في أيام الوصول إليه ، وقال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : نزّهه عما جرى على قلبك في طول عمرك ، فإنه أعزّ من أن يلحقه وصف الواصفين وحمد الحامدين ، فالله سبحانه بحمده لا بك ، ألا ترى كيف قال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : بحمد ربك ، فسبّحه الحمد الذي حمد نفسه في الأزل ، وأيضا أي : سبّح بحمد ربك الذي بحمده ما وصل مدحه مدح المادحين ، ولا حمد الحامدين ، (وَاسْتَغْفِرْهُ) من حمدك وثنائك وجميع أعمالك له ، وعرفانك به ، فإن لكل معلول إذ وصف الحدثان لا يليق بجمال الرحمن ، فإنه كان موصوفا

__________________

(١) الإشارة : إذا طلبت العامة المريد بالرجوع ، إلى الدنيا والاشتغال بها ، يقال له : قل يا أيها الكافرون بطريق التجريد ، والتي هي سبب حصول التوحيد والتفريد ، لا أعبد ما تعبدون من الدنيا وحظوظها ، أي : لا أرجع إليها فيما يستقبل من الزمان ، ولا أنتم عابدون ما أعبد من إفراد الحق بالمحبة والعبادة ، أي : لا تقدرون على ذلك ، ولا أنا عابد ما عبدتم من الدنيا في الحال. انظر : البحر المديد (٧ / ١١٦).

٥٣٠

بوصفه لا بوصف الغير ، وكان (وَقابِلِ التَّوْبِ) : في الأزل ، (ذِي الطَّوْلِ) : والمنة على عباده ؛ حيث قبل ثناءهم وتسبيحهم وتوبتهم ، إذا كانت بنعت العلم بالعجز عن إدراك كنه قدمه ، والاعتراف بالجهل عن المعرفة بحقيقة وجوده.

قال ابن عطاء : إذا اشتغلت به عما دونه فقد جاءك الفتح من النصر ، والفتح هو النجاة من السجن ، والبشرى بلقاء الله.

وقال الواسطي : أي : فتح عليك العلوم ، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) على ما كان منك من قلة العلم بما أريد منك ؛ (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.)

وقيل : إذا فتح الله قلبك برؤية منه عليك أقبل الله قلوب عباده إليك حتى يأتوك فوجا فوجا.

قال بعضهم : احمد الله بحيث جعلك سبب وصل عباده إليه ، واستغفر الله من ملاحظة دعائك ، إن من أجابك هو الذي أجابنا وقت الميثاق ، وكتب له السعادة في الأزل (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)

سورة المسد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) : وبّخ الله من لا تصل يد همّته إلى وثقى عروة نبوّته والإيمان برسالته والمعرفة بكمال شرفه خسرت في الأزل يده ؛ إذ قطعها الحق عن مصافحة حبيبه صلاة الله وسلامه عليه ، والأخذ بعروة متابعته ، ذلك الخسران من خذلان الحق إيّاه ، فإذا كان محجوبا عن طريق الرشد لا ينفعه أعماله ولا أمواله.

قال الله : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ.)

قال أبو بكر بن طاهر : ظهر خسران من لم ينزلك المنزلة التي أنزلناك من القرب والدنو والنبوّة والمحبة خسرانا ظاهرا ، وضلّ ضلالا بعيدا.

قال ابن عطاء في قوله : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) : علمك ألا يصل إليه إلا به وبعنايته السابقة ، فما أغنى أبا لهب ماله ، ولا ما رآه من قوته ؛ حيث حرم سوابق الأول من الخير.

٥٣١

سورة الإخلاص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) : كان الله جلّ جلاله مستترا بنفسه في أزل أزله ، قال : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف» (١) ، فإذا أوجد أعلام ظهور أفعاله تعرف نعوته بفعله ، فلم يعرف أحد بالحقيقة ؛ إذ الوسائط حجاب ، فأراد إظهار كنوز ذاته وصفاته ، فاختار من خلاصة الوجود خاصّا خالصا ، فألبس لسانه فصاحة الربوبية ، ونوّر قلبه بنور المعرفة ، وظهر لعينه عين الحقيقة ، فأمره بتعريفه لعباده العارفين ، بقوله : (قُلْ) : ظاهره سرّ ، وباطنه سرّ ، حرف تحته بحر من غوامض علوم الربوبية ، فالقاف : إشارة إلى قهر عظمته على الحدثان حتى لا يصل إلى ذرّة من حقيقة العرفان بألوهية الرحمن ؛ لأن على وجه القدم وقاية الغيرة ، وهناك في الأزل قلزم الحيرة ، واللام : إشارة إلى لا النفي أي : لا يصل إلى كنه الألوهية أهل الحدوثية أمره بالإشارة إلى الإشارة ، وغوامض سرّ الذات ؛ إذ قال : هو أوقع قلوب الراسخين في أودية الهوية الغيبية في تيه غيب الغيب بنعت الوله والحيرة ، فلم يصلوا إلى هاء الهوية ، فانصرفوا إلى واو الوصف ، فعجزوا عن الوصف ؛ إذ لم يصلوا إلى الموصوف ، فاحتجبوا بالغيب وبعد بطون الهوية ، وانصرفوا حيارى سكارى عطاشى والهين غير مدركين أوائل الحقائق ، فاعترفوا بالعجز عن الإدراك ، وإدراك الإدراك ، فلما علم الحق عجزهم عن إدراك سر الهوية أظهر لهم أنوار الذات والصفات ، رحمة ولطفا بهم لكيلا يحرموا من نصيب عرفانه وإيمانه ، وقال الله أي : الذي لو تركوه ، ولم تدركوه بعد طلبكم هذا ، هو الله الذي بان بنعت الوحدانية والجمال والجلال من قرار الهوية ، وأيضا لما غاصوا في بحار الهوية بانت لهم أنوار الألوهية ، فانصرفوا من صدمات الصمدية ، وسطوات الأحدية ، ووقعوا في تيه الحيرة ، ونسوا ما بان لهم ، وفرّوا ، ثم طلبوا ، فلم يجدوا ، فأظهر الله ما ظهر لهم في الغيب ، فقال : أين أنتم مما رأيتم هذا هو الله ، فظهر لهم في الظاهر كما ظهر لهم في الباطن ، فلمّا رأوه عيانا فنوا في أول ألف الفردانية ، ثم بقوا في لام جماله ، وهابوا من عظم لام جلاله ، ثم سقطوا في بحر هويته ، أيضا منه بدأ وإليه يعود ، الأول : إشارة وغيب ، والآخر : إشارة وغيب.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥٣٢

قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، وفي البين بدا وخفا بقوله : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، فلما عاينوه سكروا بجماله ، واتّصفوا بجلاله ، واتّحدوا بفردانيته ، وصاروا وحدانيين ، كادوا أن يدّعوا الوحدانية ، فقطعهم الحق عن سرّ الأحدية (١).

وقال : (اللهُ الصَّمَدُ) ، فانحسمت أطماعهم عن الوحدانية حين بانت لهم أنوار وحدته ، فسبحوا في بحار ذاته وصفاته ، وطلبوا الخروج إلى سواحل العرفان ، فناداهم أين أنتم لو تسبحون أبدا في بحر الذات وبحر الصفات ، لم ينتهوا من بحر حقائق الألوهية ، فإن بحر الذات والصفات واجد الكل في حيّز سرادق وحدانية الأفعال ، غائبة في الصفات

__________________

(١) اعلم أن (هو) مبهم ما لا تعيّن له في الخارج ؛ بل عهديته في الذّهن ، وإنما يريد إبهامه ما بعده من تفسيره ؛ وهو الله أحد ، فهو قبل التفسير مبهم في الخارج ، ومفسّر في نفس الأمر ، وإنما جاء الإبهام من حيث المراتب ، ففيه إشارة إلى قوله تعالى : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» ، فإنه تعالى كنزا مخفيّا قبل خلق الخلق ، فكان ظهوره بذاته في ذاته ؛ فكان خلق الخلق كالتفسير له بحيث كان ظاهرا لغيره أيضا ، فالأول : مرتبة الجلاء ، والثاني : مرتبة الاستجلاء ، فمن قصر نظره ؛ لم ير العالم إلا كالضمير المبهم ، ومن كاشف عن حقيقة الحال ؛ لم يكن عنده مبهم ، فإن الحق تعالى كشف عن ذاته وصفاته وأسمائه ؛ ولذا قال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فالهويّة كانت ظاهرة للحق قبل خلق الخلق ، وباطنة للخلق ، وبعده كانت ظاهرة للخلق أيضا ، فباطن الحق ظاهر الخلق ، وبالعكس على هذا نفس الإنسان الكامل ؛ فإنه بمنزلة ضمير هو في إبهامه وتفسيره ، وليس تفسيره إلا الكرامات العلمية المتعلّقة بحقائق الذات ، والصفات ، والأفعال ؛ وهو القرآن الفعلي ، والضمير المفسّر ، والهويّة الظاهرة بآثاره ، والباطنة بحقائق ذاته. ومن أنكره ؛ فقد أنكر القرآن ، ومن أنكر القرآن ؛ فقد أنكر الحق بذاته وصفاته ، فإن القرآن ذات وصفة ، فإن الصفة لا تقوم إلا بالذات ، ولا تنجلّي إلا بالمحلّ ؛ فلذا قال بعض الأكابر : أنا القرآن والسبع المثاني ، ففيه أسرار الحروف والكلمات ، والآيات والسور ، فإنه حرف عملي روحانية ، وآية مثالية ، وسورة جسمانية. وهذا مراد من قال : من أراد أن يجلس مع الله تعالى (واصطنعته لنفسه) وجعله مجلى لصوّر كمالاته ، فمن رآه فقد رأى الحق ، ومن عمى عنه فقد عمى ، وكم ترى في كل عصر من يقبّل المصحف صباحا ومساء بناء على أنه كلام الله ، ويستحقر الإنسان الكامل مع أنه سرّ ذلك المصحف ، ولو كان عالما به فاستحقره ؛ لمسخ مسخ الأمم الأولى ؛ لكن قد يعذر بالجهل ، وذلك من رحمة الله تعالى بعباده ؛ ولذا ستر الله الأقطاب في كل عصره إلا عن أهل المعرفة. فالمحجوب ينظر إليهم وهو لا يبصرهم ؛ وإنما يبصر البشر ، والمكاشف ينظر إليه ويبصرهم على أنهم صورة الحق تعالى. وليس لله تعالى تجلّ إلا في مرائيهم وعلى صورهم ، ومن ينظر إلى الله وهو مجرّد عن النعوت ، فقد طلب المحال ، كما أن من أرد أن ينظر إلى الروح بدون توسّط مرآة البدن ؛ فقد ضرب حديدا باردا ، فإنه لا يتيسّر إلا بالمرآة ، ومرآته الجسم. ومن هذا ظهر أن الإنسان الكامل رداء الحق ، فهذا الرداء لا يزول عن المرتدي أبدا ، وهو ليس بحجاب له ، كما أن المرآة كذلك مع القناع ، فعليك بفهم هذا المقام ، وكن مع أهل العافية والسلام. واعلم أن الله ليس منه أثر على الكون في الحقيقة ، وكذا الكون ليس منه أثر على الحياة في نفس الأمر ، وهو غنيّ عن العالمين.

٥٣٣

والصفات في الذات ، فمن عين الجمع هو هو ، ومن حيث الحقيقة هو الله ، ومن حيث الفردانية أحيد وحيد لا غير ؛ إذ الغير يفنى في بقائه ، ثم زاد في نبوية فردانيته ، بقوله : (اللهُ الصَّمَدُ) : «الله» : ظاهر بنعوت الجلال والجمال والفردانية والوحدانية ، باطن بالهوية ، «والصمد» : انقطع عن إدراك الخواطر والضمائر ، وغابت في مهمة صفاته الأسرار والأرواح ، وتاهت في تيه هويته القلوب والأشباح ، وهو تنزيه جلاله وصمديته حجبهم من نفسه ، ثم أبرز من نعت صمديته نور تنزيهه ، ونشقهم روائح قدسه وأنسه ، وجعلهم مشتاقين إلى لقائه عاشقين جماله ، فيصمدون إليه بنعت الفناء والبقاء ، فلما علم عجزهم عن رؤية حقيقة هويته وصمديته ووحدانيته وفردانيته تجلّى لهم بنعوت الجمال من لباس الأفعال ، فهاموا بعشقه في بيداء أنوار جماله وجلاله ، سكارى متبسّطين ، وطابوا بكل مستحسن من عالم الأفعال ، فلمّا سكنوا بالمستحسنات ورؤية الجمال في الأفعال أمال أزمن قصودهم إلى فضاء الوحدانية ، وأعلمهم أنه منزّه عن مباشرة الحوادث ، بقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أي : لم يكن هو محل الحوادث ، ولم تكن الحوادث محله ، التجلّي ظهور الصفات ، والالتباس ظهورها في الأفعال ، وهو منزّه عن التمثال والجبال ، ألا ترى كيف حقق التوحيد لمن شاهد مشاهدته في أهله ، بقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) : غلط النصارى واليهود والكفرة والمجوس حين رأوا من الأشخاص أنوار الأرواح ، ومن الأرواح سنا روح فعله ، ثم نور صفته ، ووقعوا في ظلمات الحلول حين لم يعرفوا أصل الأصل ، وحقيقة الحقيقة ، وعين العين وفردانية الذات والصفات عن مباشرة الأمثال والتمثال ، سبحان المنزّه بذاته عن رؤية كل راء ، ومعرفة كل عارف ، وتوحيد كل موحد ، وعبادة كل عابد ، وجحود كل جاحد ، وجهل كل جاهل ، ووصف كل واصف ، كلهم في نكرة النكرة ، معزولون من حقيقة المعرفة.

قال ابن عطاء : «الهاء» : تنبيه عن معنى ثابت ، و «الواو» : إشارة إلى ما لا يدرك حقائق نعوته وصفاته بالحواس ، و «الأحد» : المتفرد الذي لا نظير له ، و «التوحيد» : هو الإقرار بالوحدانية ، و «الأحدية» : هى الانفراد.

وقال الواسطي : «هو» : حرف ليس باسم ولا وصف ، ولكنّه كناية ، وإشارة كناية عن الذات ، وإشارة إلى الذات ، علم الحق من يلحد في الأسماء والصفات ، ويفرّق بين الصفة والموصوف ، فقال : لا يكون فرقا بين هويته ، وهو ذاك لم يكن فرقا بين هويته ، ولم يكن فرقا بين أسمائه وصفاته.

قال ابن عطاء : (هُوَ اللهُ أَحَدٌ) : هو المنفرد باتحاد المفقودات ، والمتوحد بإظهار الخفيّات.

٥٣٤

وقال الحسين : «الأحد» : الكائن عنه كل منعوت ، وإليه يصير كل مربوب ، فيطمس من مساكنه ، ويطرح من نازله أن أشهدك إياه ، فإنك وإن غيّبك عنه راعك.

قال بعضهم : توحد ثم وجد لا سبيل إلى ذلك إلا أن يوجدك الحق له.

وقال جعفر : «الصمد» : الذي لم يعط الخليقة من معرفته إلا الاسم والصفة.

وقال الواسطي : امتنع الحق بصمديته من وقوف العقول عليه ، وإشارتها إليه ، ولا يعرف إلا بألطاف أسدائها إلى الجوارح.

وقال ابن عطاء : «الصمد» : المتعالي عن الكون والفساد.

وقال جعفر : «الصمد» : خمسة حروف : «الألف» : دليل على أحديته ، و «اللام» : دليل على ألوهيته ، وهما مدغمان لا يظهران على اللسان ، ويظهران في الكتابة ، فدلّ ذلك على أن أحديته وألوهية خفيّة لا تدرك بالحواس ، وأنه لا يقاس بالناس ، فخفاؤه في اللفظ دليل على أن العقول لا تدرك ، ولا تحيط به علما ، وإظهاره في الكتابة دليل على أنه يظهر على قلوب العارفين ، ويبدو لأعين المحبّين في دار السلام ، و «الصاد» : أنه صادق فيما وعد فعله صدق ، وكلامه صدق ، ودعا عباده إلى الصدق ، و «الميم» : دليل على ملكه ، وهو الملك على الحقيقة ، و «الدال» : علامة دوامه في أبديته وأزليته ، وإن كان الأزل والأبد ؛ لأنهما ألفاظ تجرى على العواري في عباده.

وقال ابن عطاء : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) : ظهر لك منه التوحيد ، (اللهُ الصَّمَدُ) : ظهر لك منه المعرفة ، (لَمْ يَلِدْ) : ظهر لك منه الإيمان ، (وَلَمْ يُولَدْ) : ظهر لك منه الإسلام ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) : ظهر لك منه اليقين.

قال الأستاذ : كاشف الوالهين بقوله : (هُوَ) ، وكاشف الموحدين بقوله : (اللهُ) ، وكاشف العارفين بقوله : (أَحَدٌ) ، والعلماء بقوله : (الصَّمَدُ) : والعقلاء بقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (١).

__________________

(١) لأن الولد نتيجة ، والنتيجة فرع الأصل ؛ فكان آدم أبو البشر عليه‌السلام من أهل هذا المقام ؛ لأن الله تعالى خلقه لا عن أبوين ، فكان على صورة خالقه ؛ ولذلك كان مسجودا وليست السجدة إلا لله تعالى؟ ومن هنا قالوا : ظاهر الكون خلق ، وباطنه حق ، ومن صفا قلبه ؛ كان كأنه لم يلد ولم يولد ، وإن كان والدا ومولودا.

٥٣٥

سورة الفلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) : في هذه الكلمة سرائر حبيبه بالاستعاذة به ، ثمّ ذكر وصف تربيته بقوله : (بِرَبِ) ، ثم ذكر وصفه وصفته وفعله بقوله : (الْفَلَقِ) ، و «الفلق» : انفلاق صحور العارفين بمياه المحبّة والمعرفة من تأثير انكشافات سبحات الغيرة عن جمال المشاهدة ، وطلوع صباح الوصلة من مشارق الأحدية ، أمره بالاستعاذة به منه حتى لا يكون بين الوصل والفصل محجوبا عن عين العين ، وإدراك حقيقة الحقيقة بعوارض البشرية ، وهو قوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي : شر ظلمات قهره إذا غطّى قلوب أهل الحرمان ، وطار على أسرار أهل العرفان في زمان الامتحان.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) : «الحاسد» : النفس الأمّارة ، والشيطان الملعون حسدا على روح جزّالة في الملكوت ، سيّارة في أنوار الجبروت ، فحسدهما مرام سهام غيرة قهر القدم ، ألا ترى كيف قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العين حق» (١) ؛ لأنها سهم من سهام قهره.

قال بعضهم : «الفلق» : فلق الكمون من القلوب ، فأدارها على الألسنة.

وقال محمد بن علي التهذي : عطف الله على قلوب خواص عباده ، فقذف فيها ، فانفلق الحجاب ، وانكشف الغطاء ، وهو قوله : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ.)

قال الحسين : إشارة الحقّ أن جميع خلقه في معنى القطيعة عنه بكلمة واحدة ، وهي من لطائف القرآن.

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) : فالق الإصباح ، وفالق الحبّ والنوى ، وفلق البحر لموسى ، وفلق الأسماع والأبصار ، وفلق القلوب حتى انكشف له الغيوب.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سجد وجهي للذي خلقه وشقّ سمعه وبصره» (٢) ، وفلق الصدور وفتقها وشرحها ؛ لتدارك ما جرى فيها من المباشرة ؛ إذ في ذلك صحة التحير ، وصفّاها من شر ما

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢١٦٧) ، ومسلم (٤ / ١٧١٩).

(٢) رواه مسلم (١ / ٥٣٥).

٥٣٦

خلق أن يكون مربوطا ، وإن علت أحواله وعظمت أخطاره ، فإن الانقطاع علامة الارتباط بما دونه من خلقه وفلقه.

قال محمد بن حامد في قوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (٢) : أعلمك أن الخلق كلهم موصوفون بالبشرية ، وأن الخير الذي لا شر فيه هو الذي خلق الخلق على هذه الصفة.

سورة الناس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) : أمر حبيبه صلوات الله وسلامه عليه بالاستعاذة به ، وبيّن أن مربّى الناس مزيّن آدم وذريته بزينة أنوار صفاته.

(مَلِكِ النَّاسِ) (٢) : بأنه أعطاهم ملكا أوّله معرفته ، وملك قلوبهم بجمال مشاهدته.

(إِلهِ النَّاسِ) (٣) : حيث أرواحهم بسنا قدسه في رياض أنسه.

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) : للوسوسة مراتب : الأولى : هواجس النفس الأمّارة ، والثانية : وسوسة الشيطان ، والثالثة : وسوسة جنود القهريات ، وموضع هذه الوساوس الصدر ؛ لأن القلب موضع العقل ، والروح اللطيفة والتجلّي والخطاب والمشاهدة ، وهو مصون برعاية الحق ، فأمّا «وسوسة النفس» : فتكون في طلب الشهوات والحظوظ ، وأما «وسوسة الشيطان» : فتكون في الكفر والطغيان والبدع ، وأما «وسوسة القهر» : فتذر وسوسة النفس والشيطان ألقاها الحق في أرض الصدور ؛ لامتحان عباده وغيرة الأزل ، منعهم بهذه الوساوس عن مشاهدة الكل ، فإذا أراد بلطفه وصولهم إليه ينكشف لأسرارهم سبحات جمال عظمته ، فيهب في صحاري قلوبهم مثال جماله ، فيكشف عن قلوبهم وصدورهم الوساوس ، وظلمة الهواجس ، وذلك قوله : (الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦).

ثمّ بيّن أن الوسوسة تأتي من الشيطان تارة بلا واسطة ، وتارة بالواسطة ؛ إذ لم يقدر الملعون أن يوسوس في صدره من غلبة نور التوفيق والمشاهدة ، وظهارة الكفر وصفاء الذكر ، وعار عليه في مقام غراة بعض شياطين الإنس ، ويدعوه بلسانه إلى بعض الشهوات أو البدع والأهواء ، فيوقعه إلى الحجاب ، فأمر الله حبيبه أن يستعيذ به من وسوسة شياطين الإنس

٥٣٧

والجن الذين وصفهم الله بقوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ، واحذر يا صاحبي من هذه الوساوس ، واعرف شأنها وأصلها وفرعها ، فإن الوساوس تأتيك في جميع المقامات ، وفي بعض المواجيد والأحوال ، فينبغي أن تعرف مكائده وأسلحته ومواقعه ووساوسه ، واستعن بالله في جوابه وعلاجه ؛ حتى تبلغ إلى مقام مشاهدة الحق بالحق ، ويغني عنك بشريتك وأوصافها ، ويكون نورا بنوره ، مقدّسا بقدسه عن كل خاطر وعارض ، فإن عرفت حقيقة ما ذكرتك فصرت إماما للمتّقدين ، وسراجا للمقتبسين.

قال عمرو المكّي : الوسواس من وجهين : من النفس ، والعدو ، «فوسواس النفس» : بالمعاصي التي يوسوس فيها العدو كلّها غير طبعي ، فإنّ النفس لا توسوس بهما ، أحدهما : التشكيك ، والآخر : القول على الله بغير علم ، قال الله في وصف الشيطان : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩).

وقال يحيى بن معاذ : «الوسوسة» : بذر الشيطان ، فإن لم تعطه أرضا وماء ضاع بذره ، وإن أعطيته الأرض والماء بذر فيها ، فسئل ما الأرض والماء؟ فقال : الشبع أرضه ، والنوم ماؤه.

وقال يحيي : إنما هو جسم وروح وقلب وصدر وشغاف وفؤاد ، «فالجسم» : بحر الشهوات ، قال الله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، و «الروح» بحر المناجاة ، و «الصدر» : بحر الوسواس ، قال الله تعالى : يوسوس (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ، و «الشغاف» : بحر المحبّة.

قال الله تعالى : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) ، و «الفؤاد» : بحر الرؤية ، قال الله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) ، و «التقلّب» : بحر العمل.

وقال سهل : «الوسوسة» : ذكر الطبع.

وقال : إذا كان القلب مشغولا بالله لم يصل إليه الوسواس بحال.

وقال عبد العزيز المكّي : يوسوس في فؤاد العامة ، وقلوب الخواص لو دنا منها إبليس لاحترق.

صدق الشيخ فيما قال ، ولكن في سر السر ، وغيب الغيب ، ونور النور ، وسنا السنا ، ولطف اللطف ، وشهود الشهود ، ودنو الدنو ، ووصال الوصال ، وبقاء البقاء وعيان العيان تكون قلوب العارفين والموحدين والمحبّين والمريدين والمؤمنين في قبض العزة منقلبة بين

٥٣٨

أصابع الصفة التي هي أنوار آزال الآزال ، وآباد الآباد ، طالبه يوصل الوصل ، وعرفان العرفان ، وحقيقة الحقيقة ، كالفراش حول الشمع كمال شوقها الاحتراق بنيرانه ، كذلك قلوبهم محترقة هناك بنيران الكبرياء ، فانية في سطوات الجلال ، باقية بسبحات الجمال ، مصونة عن ذل الحجاب ، محروسة عن طيران العذاب ، كيف يخلّلها قتام الوسواس ، فهواجس بالنفس ، وحديث الناس ، سبحان من صفاهم بصفاته عن كل كدور ، وبراهم بقدسه عن كل علة ، الوسواس في الصدور ، والقلوب في الحضور والنور والسرور ، كيف يصل حركات الإنسانية إلى من استغرق في بحار الوحدانية ، لا بأس بأن طوى على الصدور وسواس وهواجس من محل الامتحان ، فإنّ الأرواح في يمين الرحمن ، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ، والحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة ، ألا ترى كيف شكا عنه خواص الصحابة إلى حبيب الله وصفيّه صلوات الله وسلامه عليه ، فقالوا : «إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به» ، فقال : أو قد وجدتموه؟ قالوا : نعم. قال : «ذلك صريح الإيمان» (١).

وقال أبو عمرو البخاري : أصل الوسوسة ينتجها من عشرة أشياء :

أولها : «الحرص» : فقاتله بالتوكل والقناعة ، والثانية : «الأمل» : فاكسره بمناجاة الأجل ، والثالثة : «التمتع بشهوات الدنيا» : فقاتله بزوال النعمة وطول الحساب ، والرابعة : «الحسد» : فاكسره برؤية العدل ، والخامسة : «البلاء» : فاكسره برؤية المنة والعوافي ، والسادسة : «الكبر» : فاكسره بالتواضع ، والسابعة : «الاستخفاف بحرمة المؤمنين» : فاكسره بتعظيم حرمتهم ، والثامنة : «حب الدنيا والمحمدة من الناس» : فاكسره بالإخلاص ، والتاسعة : «طلب العلو والرفعة» : فاكسره بالخشوع ، والعاشرة : «المنع والبخل» : فاكسره بالجود والسخاء ، والحمد لله حمدا لا انقطاع له ولا انتهاء ، والصلاة والسلام على سيد الرسل وخاتم الأنبياء ، وعلى آله وصبحه وسائر الأولياء ، ما دامت الأرض والسماء.

تم بحمد الله وتوفيقه

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ١١٩).

٥٣٩
٥٤٠