تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قال ابن عطاء : علما بربه ، وعلما بنفسه ، وأثبت لهم علمهم بالله علم أنفسهم ، أثبت لهم علمهم بأنفسهم حقيقة العلم بالله ، لذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (١).

ثم بيّن سبحانه أنهما مخصوصان بما ذكرنا من علوم الحقائق ، وكل واحد منهما مخصوص بعلم من الله فورث سليمان علم أبيه الذي علمه الله من علوم الإلهية بقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ورث ما عند أبيه من علم العشق والمحبة والشوق وخصائص سره زيادة على ما علمه الله ، والولي الصادق العارف يرث من شيوخه علوم الحقائق بعد كونه مستعدا لذلك ، فيصير تلك الحقائق مقاماته إذا كان صادقا مستقيما في الإرادة ، لذلك قال عليه‌السلام : «العلماء ورثة الأنبياء» (٢).

قال ابن عطاء : ورث منه صدق اللجوء إلى ربه ، وتهمة نفسه في جميع الأحوال.

ثم بيّن سبحانه أن سليمان أخبر الخلق عما وهبه الله من علمه بمناطق الطيور بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) ؛ لأن المتمكن إذا بلغ درجة التمكين يجوز له أن يخبر الخلق بما عنده من موهبة الله لزيادة إيمان المؤمنين ، والحجة على المنكرين ، قال تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] ، وافهم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعا هي خطابات من الله سبحانه للأنبياء والمرسلين والعارفين والصديقين والمحبين يفهمونها من حيث أحوالهم ، ومن حيث مقاماتهم ؛ فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها صرفا قطعيّا ، ويمكن أن ذلك يقع لولي ، ولكن أكثر فهوم الأولياء بها أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم بما يقع في قلوبهم من إلهام الله لا بأنهم يعرفون لغاتها بعينها ، وفي إشارة الحقيقة الطيور الأرواح الناطقة في الأشباح ينطق بالحق من الحق ، ونطقها تلفظ رموز الأسرار بلغة الأنوار ، ولا يسمعها إلا ذو فراسة صادقة قلبه وعقله شاهدان مشاهدة الحق ولطف الإشارة ، علمنا مناطق أطيار الصفات التي تعبر علوم الذات ، وأيضا علمنا منطق أطيار أفعاله التي تخبر عن بطون حكم الأزليات ، لذلك قال : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي : أوتينا كل شيء علما بالله ، وطريقا إلى الله (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) إخبار عن رؤية المتفضل في فضله غير محجوب بالفضل عن المتفضل.

__________________

(١) ذكره المناوي في «فيض القدير» (١ / ٢٢٥) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٣٤٣).

(٢) رواه البخاري (٦٨) ، وابن حبان (١ / ٢٨٩).

٦١

قال أبو عثمان المغربي : من صدق مع الله في جميع أحواله فهم عنه كل شيء ، وفهم عن كل شيء فيكون له في أصوات الطيور ، وصرير الأبواب علما بعلمه وبيانا بتبيينه.

قال الأستاذ : من كان صاحب بصيرة ، وحضور قلب بالله يشهد الأشياء كلها بالله ، ومن الله ليكون مكاشفا بها من حيث الفهم ؛ فكأنه يسمع من كل شيء ، وتعريفات الحق سبحانه للعبد بكل شيء من كل شيء لا نهاية له ، وذلك موجود فيهم محكي عنهم ، وكما أن صوت الطبل مثلا دليل يعرفون لسماعه وقت الرحيل والنزول ، فالحق سبحانه يخص أهل الحضور بفنون التعريفات من سماء الأصوات ، وشهود أحوال المرئيات في اختلافها كما قيل :

إذ المرء كانت له فكرة

ففي كلّ شيء له عبرة

وما قاله الأستاذ ـ رحمة الله عليه ـ دليل على قول خادمه : نشقني الله ما نشق أولياء وأنبياءه ، فقد أشرط أن أصوات الطيور والوحوش وغيرها لا يعرف نعتها ومعينها إلا الأنبياء والأولياء ، يعرفون معناها بغير نعتها ، وهذا كما قال أهل التفسير في قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) جعل ذلك من الطير كمنطق بني آدم إذ فهمه عنها.

وقال مقاتل : كان سليمان عليه‌السلام جالسا إذ مرّ به طير يصوت ، فقال لجلسائه : هل تدرون ما يقول هذا الطائر الذي مرّ بنا؟ قالوا : أنت أعلم ، فقال سليمان : فإنه قال لي : السلام عليك أيها الملك المسلط على بني إسرائيل أعطاك الله سبحانه الكرامة ، وأظهرك على عدوك ، إني منطلق إلى فروخي ، ثم أمر بك الثانية ، وأنه سيرجع إلينا الثانية ، فانظروا إلى رجوعه ، قال : فنظر القوم طويلا إذ مرّ بهم ؛ فقال : السلام عليك أيها الملك ، إن شئت أن تأذن لي كي ما أكسب على فروخي حتى يشبعوا ثم آتيك فافعل ما شئت فأخبرهم سليمان بما قال فأذن له.

وقال فرقد السبخي (١) : مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ، ويميل ذنبه ؛ فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ فقالوا : الله ونبيه أعلم ، فقال : يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنياء العفاء ، فهذا وأمثالها معروف من سليمان ومن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك معجزة فوق الكرامة ، ومما خصّ الله سليمان به العلم بنطق النملة والحشرات ؛ ليكون أدق في الفهم وأرق للسمع لكن صورة النملة وحركاتها بغير صوتها من حقائق الأفعاليات ، خطاب من الحق للأولياء والصديقين ، فلما لطف الأمر بعد قوله (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا) ، وعرف قولها هاج سره إلى مزيد الشكر ، وقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) سأل لسان الشكر من الحق ؛ فإنه كان عالما بأن شكره لا يمكن إلا به ، وقوله : (وَأَنْ أَعْمَلَ

__________________

(١) فرقد السبخي أبو يعقوب العابد ، مات سنة ١٣١ ه‍.

٦٢

صالِحاً تَرْضاهُ) أي : أسرع إليك بنعت الشوق إلى لقائك ، واترك ما دونك لك (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩) أي : اجعلني مستأنسا للعارفين ، ومحبوبا للمحبين ، وفهم قوله : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) إن ضحك سليمان كان ظاهره تعجبا من قول النملة ، وباطنه فرحا بما أعطاه الله من فهم كلام النملة.

قال الجنيد : قال سليمان لعظيم النمل : لم قلت للنمل : ادخلوا مساكنكم أخفت عليهن مني ظلما ، قال : لا ، ولكن خشيت أن يفتنوا بما يرون من ملكك ؛ فيشغلهم ذلك عن طاعة ربهم.

وقال ابن عطاء : في قوله : (وَأَدْخِلْنِي) : حببني إلى عبادك الصالحين.

قال سهل : ارزقني خدمة أوليائك لأكون في جملتهم ، وإن لم أصل إلى مقامهم.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) (٢٠) دقيقة الإشارة أن طير الحقيقة لسليمان طير قلبه ، فتفقده ساعة ، وكان قلبه غائبا في غيب الحق ، مشغولا بالمذكور عن الذكر فتفقده وما وجده ، فتعجب من شأنه أين قلبه إن لم يكن معه؟! وما كان في الكونين ، فظن أنه غائب عن الحق ، وكان في الحق غائبا ، وهذا شأن غيبة أهل الحضور من العارفين ساعات لا يعرفون أين هم ، وهذا من كمال استغراقهم في الله فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١) لأعذبنه بالصبر على دوام المراقبة والرعاية والغيبة في بحر النكرة في المعرفة ليفنى ، ثم يفنى عن الفناء أو أذبحته بسيف المحبة أو بسيف العشق ، أو ليأتيني من الغيب بسواطع أنور أسرار

٦٣

الأزل ، وعلى صورة الظاهر نكتتها أن سليمان أحب الهدهد ؛ لأنه رأى ذلك الهدهد في مكان العشق ، ورأى عليه آثار العشق ؛ فاستأنس به ، وكان للهدهد خاصية أنه عرف مواقيت صلاته ، ورأى الماء بين الطين والحجر ، وكان يدل الجن على الماء لوضوئه وطهارته حيث نزل ، وكان بين هدهد سليمان ، وهدهد بلقيس عشق ، فغاب عن سليمان عند نزوله ، وتلاقيا الهدهدان ؛ فلما تفقده علم أنه عند معشوقه ، فغار عليه إذ اشتغل بغيره من خدمته فطلبه ، وأمر العقاب أن يأتي به فطار العقاب ، ورأى هدهد سليمان عند هدهد بلد سبأ ، فأتى به على سليمان عليه‌السلام ؛ فقال : لأعذبنه عذابا شديدا ، أي : لأحبسنه في موقع فراقه عن معشوقه ، فلما جاء إليه الهدهد تحير في شأنه إيش يقول : فعلم أن سليمان في مقام أنس الله وعشقه ، ويحب أن يستأنس بمستحسن فاحتال بأن يذكر عند سليمان ما رأى من حسن بلقيس وعظيم شأنها ليكون ذلك طريقا له إلى قرب محبوبه ، فلما مهد ذلك مع نفسه تعظم في شأنه ، واجترأ من حيث جرأة العشيق (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) فلما قال : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) تعجب سليمان ثم أسرع في قوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) فلما سمع سليمان قوله وجرأته عنده ، علم أنه تكلم من رأس العشق ، ويجلب قوله عجائب ، فلما أخبر تمام الحكاية سكن سليمان عنه ، واشتغل بإتيان بلقيس ، وجعله رسولا بينه وبين بلقيس ، وما أطيب رسول العاشق والمعشوق ، إذ كان عاشقا ، انظر إلى ظرافة الهدهد ، ولطافة كلامه عند سليمان كيف ذكر (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً) مرتين ساير ما رأى من الملك والبلاد والعساكر.

ثم ذكر محاسنها بألطف الإشارة بقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، وما ذكر وصف جمالها بالتصريح ؛ لأنه علم أن ذلك من سوء الأدب ، ولا تعجب ذلك ؛ فإن الأنبياء والأولياء إذا استأنسوا بعالم الملكوت ، لم يصيروا من رؤية المستحسنات ، ألا ترى كيف كان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه يحب الوجه الحسن ، ومن فرط حب الله ، قال : «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء» (١).

وحاشا أنهم يلتفتون إلى شيء لا يكون وسيلة إلى الله ، وأحسن وسيلة إلى الله عند العارف الفعلي الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والطيب ، ورؤية كل مستحسن في العالم من الأرواح والأشباح والجواهر والأعراض ؛ لأن حسنها صدر من معدن حسن الأزل ، ولذلك قال عليه‌السلام برؤية الحسن : «إن أحسن الحسن الوجه الحسن ، والصوت الحسن ،

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢٦ / ١٣١) ، والنسائي (١٢ / ٢٨٨).

٦٤

والخلق الحسن» (١).

وقال ذو النون : من استأنس بالله استأنس بكل شيء مليح ، ووجه صبيح ، وبكل صوت طيب ، وبكل رائحة طيبة.

قال الجنيد في قوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ) : لأفرقن بينه وبين إلفه.

وقال جعفر : لأبتليه بشتات السر.

وقال جعفر الخلدي : لألزمته صحبة الأضداد ، فإن ذلك من أشد العذاب.

قال بعضهم : لأبعدنه من مجالس الذاكرين.

جئنا إلى قصة العشق في إشارة قوله سبحانه حاكيّا عن قول الهدهد : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) الإشارة فيه أن القوم وقعوا في بحر عشقها فخدموها بالعشق ، وهي كانت تحب وجهها ، فهم بالحقيقة يسجدون لشمس الحسن ، ثم هاج سر الهدهد بنعت غيرة التوحيد إلى إفراد القدم عن الحدوث ؛ فقال : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) هذا التوحيد ذكر الهدهد ؛ لأنه علم أن حال سليمان بداية العشق ، ونهاية التوحيد ، فذكر ما وافق حاله أنه عليه‌السلام إذا شغله الصافنات الجياد ، قال : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣) [ص : ٣٢ ، ٣٣].

(قالت يأيها الملؤا إني القي إلى كتب كريم (٢٩) إنه من سليمن وإنّه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣))

قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣٠) حكى الله سبحانه عن قول بلقيس حين ألقي إليها الكتاب أن ذلك الكتاب كتاب كريم ، وذلك أنها استنشقت منه رائحة المحبة ، لذلك قالت : إنه كتاب كريم ، وكان الكتاب مختوما بخاتم الملك فألهمها الله منقوش الخاتم الذي هو اسم الله الأعظم.

__________________

(١) ذكره المناوي في «فيض القدير» (٢ / ٤١٧) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٢٦١) بنحوه.

٦٥

قالت : إنه كتاب كريم ، وأيضا لما قرأت : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) عرفت أنه كلام الله ، ولا يشبه كلام الخلق ، وقالت : كتاب كريم ؛ فانبسطت من باء (بِسْمِ اللهِ) إشارة بدء القدم والبقاء اللذين هما أصل جميع الصفات القديمة القائمة بذات الحق سبحانه من عرفه بالقدم والبقاء فقد عرفه بجميع الذات والصفات ، وتلك المعرفة لا تكون إلا لمن شاهد مشاهدة الأزل والأبد ، وعرفت من السين إشارة سنا الحق وأسراره ، ومن الميم ملكه ومحبته ، وإشارة الهيمنة المشاهدة المحيطة بكل ذرة من العرش إلى الثرى من حروف الله إشارة عين الذات الواحد الفرد من الألف ، ومن اللامين الجلال والجمال ، ومن إلهام الهوية ، وغيوبات الغيب ، ووجدت في الكلمة وجوب العبودية للربوبية ليصل برحمة الرحمانية العامة في الدنيا والآخرة ورحمة الرحيمية الخاصة في الآخرة لأهل الخصوص ، وعلمت أنها بجميعها مقام الاتصاف من اتصف بها سهل عنده بتلفظها مراد أراده من معنى الإجابة القدرة بالأشياء بالآيات والكرامات.

قال الواسطي في قوله : (كِتابٌ كَرِيمٌ) : مختوم مزين بزينته ، وقيل : كرامة الكتاب ابتداؤه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وقيل : كرامته عنوانه.

وقال الحسين في (بِسْمِ اللهِ) : قولك منك بمنزلة «كن» منه ، وإذا أحسنت أن تقول : (بِسْمِ اللهِ) تحققت الأشياء بقولك : (بِسْمِ اللهِ) كما تحقق بقوله : «كن» ، وقيل في قوله : (كِتابٌ كَرِيمٌ) : لأن الرسول كان طيرا ، فعلمت أن من يكون الطير مسخرة له [فهو] عظيم الشأن.

(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) لما وجدت في الكتاب تلك الكرامات ، عرفت عظم شأن سليمان وجلاله ، وما عليه من أنوار الحسن والجمال ، فمال قلبها

٦٦

إلى العشق والمحبة ؛ فأرادت ألا تكون مخذولة حين دخل في بلدها سليمان ، ولا تتأذى بنفسه في محبته ، فإن العاشق لا يريد إيذاء معشوقه ، ومن إشارة المعرفة إذا دخل سلطان الوجد والمحبة والمعرفة ، والمشاهدة في قلوب العارفين ، أغار ما دون الله من العرش إلى الثرى ، ولا يبقى فيها إلا نور بلا ظلمة وصفاء بلا كدورة ، وجمع بلا تفرقة ، وذكر بلا فترة ، وعشق بلا شهوة ، وصدق بلا غفلة ، ويقين بلا شك ، وإخلاص بلا رياء ، ويصير أوصاف النفس الأمارة محمودة ، وصارت أبواب القلوب على الشياطين مسدودة ، ويكون الروح مشاهد الحق بلا حجاب.

قال جعفر الصادق : أشار إلى قلوب المؤمنين أن المعرفة إذا دخلت القلوب زال عنها الأماني والمرادات أجمع ؛ فلا يكون للقلب محل لغير الله.

قال ابن عطاء : إذا ظهر سلطان الحق ، وتعظيمه في القلب تلاشى الغفلات ، واستولى عليها الهيبة والإجلال ، ولا يبقى فيه تعظيم شيء سوى الحق ، فلا يشتغل جوارحه إلا بطاعته ، ولسانه إلا بذكره ، وقلبه إلا بالإقبال عليه.

وسئل أبو يزيد البسطامي عن نعت العارف (١)! فقال : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها.)

قال الواسطي في قوله : (أَفْسَدُوها) أي : عطلوها عما سواه ، (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) كل ما كان أعز في عينه وقلبه صار ذليلا طريدا عن قلبه ، وحق لهم ذلك ، وقد غيبهم الحال عن كل وارد في الحال ؛ فأسرارهم عن سرهم نافذة ، وأماكنهم عن مكانهم غائبة ؛ لأن الحق لاحظهم بعناية القدرة ، واشتمال التولي والنصرة ؛ فحمل عنهم ما حملهم من أثقال هداية وولاية.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ

__________________

(١) وفي رواية «المعرفة» ، كما في كتابنا : «سلطان العارفين» (ص ٢٢٢) ..

٦٧

عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ) الإشارة في قوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) الهاء راجع إلى العرش لا إلى الله ، وكأن القائل به في درجة الاتحاد والأنائية والاتصاف وعين الجمع وجمع الجمع ؛ لأن المتصف بالقدرة يجري عليه تصاريف الملك بغير رجوعه إلى الله بنعت العبودية والخضوع والدعاء كصنيع من كان في محل العبودية ؛ لأن من شاهد الربوبية يجري عليه أوصاف الربوبية بغير اختياره وتكليفه (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، فإذا سأل فأجيبه ، ويحصل مراده بالدعاء ، فهو في درجة الكرامات لا في درجة الاتحاد والاتصاف ، ووصف الله «آصف» بأنه كان عالما بالكتاب ، والإشارة فيه أنه كان عالما بعلوم الظاهر ، وعالما بعلوم الباطن ، وعرف معاني الاسم الأعظم في الكتاب الذي أنزل الله على موسى وهارون وإبراهيم وداود وسليمان ، وأدق الإشارة فيه أن ما كان عنده من علم الكتاب ما كان يطلع عليه من علم أسرار الله المكتوم في ألواح النور ، وذلك العلم كان مكاشفا لقلبه بنعت السرمدية ، لذلك قال : (عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ، قوله : (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) أيضا فيه إشارة عين الجمع ؛ لأن ما كان عنده ؛ فهو عند الله ، فإذا قال الله : (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) والانبساط منه إليه ، وهو أشرف في الفضل ، وفيه جواز الكرامات للأولياء في زمان الأنبياء ، والعلم بالاسم الأعظم.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الاسم الأعظم الذي دعا آصف يا حي يا قيوم» (١).

قال بعضهم : هو آصف ، نظر إلى عين الجمع ، وتكلم عن عين حقيقة جمع الجمع ؛ فقال : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) ، والهاء راجع إلى الحق أي : بالله وعونه ونصرته ، وقيل : على لسان

__________________

(١) ذكره الطبري في تفسيره (١٩ / ١٦٣).

٦٨

الجمع أيضا (أَنَا آتِيكَ بِهِ) أي : الله يأتيك به كأنه يقول : إن الله قادر على أن يأتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.

قال بعضهم في قوله : (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) أي : له نظر في الغيب ، وعلم بمجاري الغيوب ؛ فعلم أن الله يريد أن يأتي سليمان بذلك ؛ فأخبر عن حقيقة الغيب.

ثم أخبر سبحانه عن رؤية سليمان فضله ، والثناء عليه ، والشكر له خاصة مفردا عن النظر إلى الأغيار (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) في قوله هذا من فضل ربي غيرة سليمان على آصف ، ودفع النظر عن الوسائط ، وهذا أيضا من غيرة التوحيد ، فأشار بهذا اللفظ أن آصف وصنيعه عامل من عمل حضرته خلقه الله لنصرته ونفاذ مراده.

قال أبو حفص : من رأى فضل الله عليه أرجو ألا يهلك ، قوله : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) فيه بيان أن شكر الشاكرين منصرف عن المشكور الأزلي إليهم لا إلى الحق ؛ فإنه تعالى منزه عن شكر الشاكرين ، وصبر الصابرين ، ومعرفة العارفين ، وطاعة المطيعين ، إسلام المسلمين ، وكفر الكافرين بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٤٠) ، واستعمال لفظ الكرم ، والغنى هاهنا من إشارة علم المجهول إذ استغنى الحق بجلال عزته عن كفر الكافر ، وإسلام المسلم ؛ فقد أسقط الكل عن شرائع الربوبية ومشاهد القدسية وبقي الحق للحق منفردا بنفسه ، مستغنيا عن غيره ، وإذا كان الأمر كذلك ؛ فهو كريم يتفضل على الجميع ، ويؤديهم إلى ساعة غنى بقائه وقدمه ، إذ لا يضر به كفر الكافر ، ولا ينفع به إيمان المؤمن ؛ فإذا اشتمل بغناه ، وكرمه من العرش إلى الثرى ، ولا يعاقب أحدا من حيث استغنائه وكرمه.

قال الجنيد : الشكر فيه علة ؛ لأنه يطلب لنفسه المزيد ، وهو واقف مع ربه على حظ نفسه ، قال الله : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي : طالبا للمزيد.

وقال الواسطي : في الشكر إبطال رؤية الفضل ، كيف يوازي شكر الشاكرين فضله ، وفضله قديم ، وشكرهم محدث ، (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) ؛ لأنه غني عنه ، وعن شكره.

وقال الشبلي : الشكر هو الخمود تحت رؤية المنة.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١))

قوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠).

امتناع سر الأزلية عن مطالعة الخليقة ؛ فإذا كان كذلك من ينجو من مكره ، والحدث لا

٦٩

يطلع على سوابق علمه في القدم ، فمكره وقهره صفتان من صفاته لا يفارقان من ذاته أبدا ، قد أمر العارف قبل وجود العارف ، ولا يعرفه منه إلا ما أراد منه ، فكلما بقي عنه مستورا ، وهو لا يعرف شأنه حتى وقع عليه ؛ فهو مكر ، ومن يخلو عن مكره نفسا ، وأن قهره مباشر وجوده بنعت الإحاطة ، وحقائقه مندرجة تحت غيوب خواطر القلوب ، وهي أخفى من دبيب النمل ، ولا يعرفها إلا المرادون الواصلون المحفوظون برعاية الأزل والأبد.

قال جعفر الصادق : مكر الله أخفى من دبيب النمل على صخرة سوداء في ظلمة ظلماء.

قال النوري : المعصية لا تخلو من الخذلان ، والطاعة لا تخلو من المكر.

وقال الشبلي : اخترنا طريقة التصوف ؛ سلامة من مكر الله ، فإذا كله مكر.

وقال النوري : المكر لا يعرفه إلا الواصلون ، فأما المريد فإنه لا يعلم ذلك ؛ لأنه في حرقة.

قال ابن عطاء : ما كان منه في القرب ؛ فهو مكر ، وما كان منه في البعد ؛ فهو حجاب.

وقال الشبلي : المكر نعم الظاهر ، والاستدراج نعم الباطن.

وقال الجنيد : المكر هم المشي على الماء ، والمشي في الهواء ، وصدق الوهم ، وصحة الإشارة ، وإجابة الدعاء في كل هذا مكر لمن علم.

وقال النوري : لولا المكر لما طاب عيش الأولياء.

وقال بعضهم : في طريق الله ألف قاطع من قطاع الطريق ، وألف خادع وماكر موكل بالمريد السالك ، ولكل موكل غدر ، ومكر وخداع خلاف الآخر ؛ فإذا حاك السالك غدر الموكل معه بشيء يعطيه يمنعه عن قصده وإرادته ، ويحجبه عن مولاه.

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

قوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) بيوت أسرارهم خربت بمباشرة شهوات الطبيعة ، ومتابعة النفس الأمّارة.

٧٠

قال أبو عثمان : قلوبهم قاسية بما عصوا.

وقال سهل : الإشارة في البيوت إلى القلوب ؛ فمنها عامرة بالذكر ، ومنها خراب بالغفلة ، ومن ألهمه الذكر ؛ فقد خلّصه من الظلم (١).

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أعظم الحمد علم الحامد بعجزه عن حمد الحق.

قال : فإن حمد الحامدين عند حمده مصروف عليهم ؛ لأنه سابق بحمده في الأزل إظهارا لاستغنائه عن حمد الحامدين ، وقد وجب الحمد عند كل نعمة ، وأعظم النعمة ذهاب النفس الأمّارة من قلب العارف ؛ لأنها أعظم الحجاب بينه ، وبين الحق وأهل هذا الحمد الذين اصطفاهم الله لمشاهدته في الأزل ، ووصاله إلى الأبد ؛ فسلامه عليهم من سوابق نعمة الأزلية المقرونة باصطفائيتهم فالسلام والاصطفائية أزليتان وأبديتان.

قال الحسين : ما من نعمة إلا الحمد أفضل منها ، والحميد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمحمود الله ، والحامد العبد ، والحمد حاله الذي يوصل بالمزيد.

قال ابن عطاء : من سلم الله عليه في أزله سلم من المكاره في أيده.

قال جعفر بن محمد : سبحان من اصطفاهم لمعرفته ، وسلّم عليهم قبل المعرفة.

وقال الواسطي : لم يجعل الحق وسيلة إلى نفسه غير نفسه ، ولا اختصاصا غير ذاته ؛ إذ يقول : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) فلم يجعل هاهنا اسم نعت ، وجعل اسم حقيقة ؛ لأن الهاء تخبر عن حقيقة الذات لا غير.

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ

__________________

(١) وفي قوله تعالى : (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) [النمل : ٥٧]. أي : المرآة التي هي صورة الدنيا إجمالا ، كما أن آدم إجمال العالم ؛ لكن لمّا كانت الشهوات والزين من الأمور السالفة الدنيّة ؛ قيل للمرأة : صورة الدنيا بإضافة الصورة إلى الدنيا ، ولمّا كانت المعالم والشواهد من الأمور العالية الشريفة ؛ قيل أن آدم صورة العالم ؛ لأن أصل العالم علم ، ثم أدخل ألف الإشباع ؛ وهو علم لوجود الله تعالى على أن العالم أعم من الدنيا ؛ لأن الدنيا ؛ إنما هي عالم الكون والفساد الذي مبدؤه مقعر السماء السابعة ، ومنتهاه نهاية الأرضين.

٧١

يَعْدِلُونَ (٦٠))

قوله سبحانه وتعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خلق سماوات الأرواح ، وأرض القلوب (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : مياه المعرفة من بحر الاصطفائية ، (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) أنبتنا به بساتين المحبة المنورة بنور المشاهدة.

قال ابن عطاء : إذا بهج السر بما ظهر على قلب العبد من الرب ، والبهجة نور يظهر ، فلا يبقى معها شيء من الظلمة لا ظلمة الجهل ، ولا ظلمة الريب والشك ، ولا اشتغال بشيء آخر ، وعلامته السكون بالله ، والانقطاع إلى الله ، والاعتماد عليه.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١))

قوله سبحانه وتعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) جعل قرار أرض القلوب بأنوار الغيوب لنوازل واردات المشاهدات ، وكشف القربات ، ولسكون الأرواح الملكوتية فيها (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أجرى في خلال عقولها أنهار أنوار معرفته لإنبات زواهرات المحبة والمودة والزلفة (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) رواسي تلك القلوب غلبات استيلاء استواء أنوار شهود جلاله على دوام الأنفاس ، وقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) جعل بين بحر مشاهدته القديمة بحر الأرواح المقدسة حواجز الإرادة ، وبرزخ امتناع ذات القديم الأزلي عن النماذج بالحدوثية.

وقال جعفر : من جعل قلوب أوليائه مستقر معرفته ، وجعل فيها أنهار الزوائد من بره في كل نفس ، وأثبتها بحبال التوكل ، وزيّنها بأنوار الإخلاص واليقين والمحبة ، وجعل بينهما حاجزا ، أي : بين القلب والنفس لئلا يغلب عليه النفس ظلمانها فيظلمها ، فجعل بينهما التوفيق والعقل.

قال الأستاذ : نفوس العابدين قرار طاعتهم ، وقلوب العارفين قرار معرفتهم ، وأرواح الواجدين قرار محبتهم ، وأسرار الموحدين قرار مشاهدتهم ، وفي أسرارهم أنوار الوصلة ، وعيون القربة بها يسكن ظمأ اشتياقهم ، وهيجان قلقهم ، واحتراقهم ، (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) من الخوف والرجاء والرغبة والرهبة.

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢))

٧٢

قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) المضطر مستغرق في بحار شوقه ، متحير في أودية النكرة ، دهش في ميادين المعرفة ، واله في سراب الحيرة ، يريد أن يفنى في الحق ، ويغلب عليه محبة الوصال ، وعشق الجمال ، والأنس بالجلال ، غائب عن الخليقة ، واله بكشف الحقيقة ، مجاب الدعوة بكشف الوصلة ، يريد عشقه بعد معرفة جماله وجلاله ، وعشقه بوصاله بنعت الافتقار إلى نوال دنوه ، يرى بحار مشاهدته ، وهو عطشان إلى قطرة منها ، ويقول بوصف الاضطرار :

لإن كان يهدى برد أنيابها العلا

لأفقر منّي إنّني لفقير

وهذا الفقير بكرمه لمخلص من نفسه وجود الحدثان وجميع الحجاب والفراق وآلام البعد ، ألا ترى كيف قال سبحانه : (وَيَكْشِفُ السُّوءَ.)

قال سهل : المضطر هو المتبرئ من الحول والقوة والأسباب المذمومة.

قال ابن عطاء : أحوال المضطر أن يكون كالغريق أو كالمتعطل في مفازة قد أشرف على الهلاك.

قال عمرو المكي : أوجب الله على الداعين له بصفة خصوص الإجابة ، وهو المضطر.

قال الله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ.)

وقال الحسين : من شاهد اضطراره ؛ فليس بمضطر حتى يضطر في اضطراره عن مشاهدة اضطراره بمشاهدة من إليه اضطراره.

وقال الأستاذ : فصل بين الإجابة ، وكشف السوء ؛ فالإجابة بالقبول والكشف بالطول ، الإجابة بالكلام ، والكشف بالإنعام ، ودعاء المضطر لا حجاب له ، ودعاء المظلوم لا رد له ، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ، ومعنى قوله : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) هذا وصف التمكين بعد التلوين ، والتجلي بعد الاستتار ، والحضور بعد الغيبة ، والغنى بعد الفقر ، والكشف بعد الحجاب ، والوصال بعد الفراق ، والوصلة بعد الحيرة ، يجعل العارفين ملوكا بعد كونهم مكدين على باب جلاله ، مفتقرين إلى وصاله بكشف جماله ، فإذا كانوا مستقرين على مساند الوصال في مجالس الجمال سكارى من شراب المؤانسة بين ياسمين القربة لا يذكرون أيام الفراق بعد الوصال كما قال القائل :

كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى

ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا

قال الأستاذ : كما وعد للمضطر الإجابة ، وكشف السوء ، وعده أن يجعله من خلفاء الأرض (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٦].

٧٣

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣))

قوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يهدي العارفين بنور نوره إلى نور نوره حين غلب عليهم ظلمات النكرة بوسائل بحر الأفعال وبرها : (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يرسل رياح الكشف بين يدي نزول مطر بحال قربه ووصاله.

قال بعضهم : من يدلكم على عدو نفوسكم ، وفساد طباعكم ، ويزيل عنكم وساوس قلوبكم ، ويعينكم على استقامتها إلا الله ، ومن يرسل رياح فضله بين يدي أنوار معرفته إلا الله ، وهل يقدر عليه أحد سواه.

قال بعضهم : من يرسل رياح كرمه على قلوب أهل صفوته ، فيطهرها من أنواع المخالفات ، ثم زيّنها بأنوار الإيمان ، ويرديها برحمة التوفيق إلا الله.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨))

قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٤) لا يخفى عليه ما تكن صدور أوليائه من شكاياتهم عنه ، (وَما يُعْلِنُونَ) من خفي المناجاة وقت اضطرارهم بنعت الشوق إلى وصاله.

٧٤

قال الجنيد : ما تكن صدورهم من محبته ، وما يعلنون من خدمته.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩))

قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) التوكل عند العارف البقلي السكون على اصطفائيته السابقة بعد اطلاعه عليها حين عرف نعت الرضا عن الله في مشاهدة الله.

قال بعضهم : التوكل سكون القلب إلى الله ، واطمئنان الجوارح عند مصادمة المهولات حينئذ يظهر للمتوكل الثقة بالله.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) الميت من ليس له استعداد قبول معرفة الحقيقة بغير الدلائل ، والأصم من كان أذن قلبه مسدودة بغواشي القهر ، ومن كان بهذه الصفة لا يقبل إلا ما يليق بطبعه وشهواته.

قال بعضهم : الميت على الحقيقة من خلى عن المعصية ورد إلى الحول.

وقال يحيى بن معاذ : العارفون بالله لله أحياء ، وما سواهم موتى (١).

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) إذا

__________________

(١) أخطأ بوهمه من أنكر بهذه الآية سماع الصالحين ، فإن الجمهور على حياة الروح ، وسماع المسلمين منهم بالأحياء ، وجواز التوسل والاستغاثة بهم بعد الممات ، وانظر كتابينا : «الدلائل الواضحات في جواز التوسل والاستغاثة بالأولياء بعد الممات» ، وكذا جمع المقال في إثبات الكرامات في الحياة وبعد الانتقال».

٧٥

نفخ نفخ القهر في ناقور الهيبة حين تلاطمت بحار العظمة اضمحلت الأكوان والحدثان في سطوات عظمة الرحمن ، فهناك أهل معرفته ، ومحبته وشوقه لا يفزعون من رؤية ملك العظائم ؛ لأنهم في أكناف الوصلة مستأنسون بجمال المشاهدة ، وهم المستثنون بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ) ، وهم الذين (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وقال : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٣].

ثم بيّن سبحانه أن الكل في ميادين عظمته ، وجلال كبريائه ، يفنون في أنوار سطوات قدمه بقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧).

قال بعضهم : صاغرين خاضعين لعظمته وكبريائه.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أعلمنا الحق سبحانه من غلبة سلطان عظمته وكبريائه على قلوب الخليقة يوم القيامة بحيث لا يعلمون انقلاب الكون من صولة شهود عظمته على وجوههم ، وأيضا هذا وصف العارفين في طيران أرواحهم إلى الملكوت بأجنحة أنوار الجبروت حين أشباحهم مستقيمة في نعوت الخليقة في مقام العبودية.

قال ابن عطاء : الإيمان ثابت في قلب العبد كالجبال الرواسي ، وأنواره تخرق الحجب الأعلى.

قال جعفر : ترى الأنفس جامدة عند خروج الروح ، والروح تسري في القدس لتأوي إلى مكانها من تحت العرش.

وقال جعفر الصادق : نور قلوب الموحدين ، وانزعاج أنين المشتاقين (تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) حتى يشاهدوا الحق ؛ فيسكنوا.

قال جعفر الخلدي : حضر الجنيد مجلس السماع مع أصحابه وإخوانه ، فانبسطوا وتحركوا ، وبقي الجنيد على حاله لم يؤثر فيه ، فقال له بعض أصحابه : ألا تنبسط كما انبسط إخوانك؟ فقال الجنيد : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ.)

قال الأستاذ : كثير من الناس اليوم من أصحاب التمكين الساكنين بنفوسهم السائحين

٧٦

في الملكوت أسرارهم.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢))

قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) مقام العبودية لكل عارف شعبها على قدر مواجيده ومعرفته ومشاهدته ، فالكامل منهم أن يكون عبوديته حفظ الأسرار من النظر إلى الأغيار ، وبذل وجوده بنعت الشوق إلى الله لله ؛ لأن هذا حد الانقياد في جنات المراد ، ألا ترى إلى قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩١) من الباذلين أنفسهم بنعت الفناء لله في الله.

قال بعضهم : العبودية لباس الأنبياء والأولياء.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أوجب على حبيبه الحمد بظفره بمشاهدة الحق ، ونور كبريائه عند سقوط حجة أعدائه ، آياته ظهور أنوار سطوات عزته لانهزام النفوس الأمّارة في هياكل البشرية عن جنود الأرواح القدسية.

قال الأستاذ : عن قربة آياته فطوبى لمن رجع قبل وفاته ، والويل على من رجع بعد ذهاب الوقت وفواته.

* * *

سورة القصص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤))

(طسم) (١) اطلاع الحق على أسرار المحبين ، وتجلي قدسه بنعت سنا الأزل لفؤاد المقربين ، فما أطيب هيجان سر الموحدين إلى طيب وصال بساتين ملكوت الغيب وجبروت النور ، طوبى لهم وحسن مآب.

٧٧

وقال الأستاذ : الطاء يشير إلى طهارة نفس العارفين عن عبادة غير الله ، وطهارة قلوب العارفين عن تعظيم غير الله ، وطهارة أرواح المواجدين عن محبة غير الله ، وطهارة أسرار الموحدين عن شهود غير الله.

قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) إن فرعون النفس الأمّارة تكبر في الأرض القلوب من قوة ما عليها ، من قوة لباس القهر ، وغلبت على الهواء ، واستولت على العقل القدسي بإنفاذ شهوات الإنسانية الشيطانية ، ثم هيجت صاحبها بعد تطاولها بالدعاوى الباطلة كدأب فرعون أخبر عن نفسه ما ليس فيه بعد أن احتجب بجهله عن الحق.

قال الجنيد في تفسير هذه الآية : ادعى ما ليس له.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) حقيقة الإشارة إلى تخليص الأرواح الملكوتية عن حبس شهوات الناسوتية ، لنجعلها في سبيل معارف الآزال والآباد قادة للعقول الهائمة بنعت الذكر والفكر في طلب الوصول في ميادين الآيات ، وتكون وارثة لمواريث المشاهدات ، أراد الحق سبحانه أن يكون القوم أئمة المعارف وسادات الكواشف يقتدي بهم في الطريقة بطلب الحقيقة.

قال الجنيد في قوله : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) هداة نصحاء خيار أبرار أتقياء سادة نجباء حكماء كراماء أولئك الذين جعلهم الله أعلاما للخلق منشورة ، ومنارا للهدى منصوبة ، هم علماء المسلمين ، وأئمة المتقين ، بهم في شرائع الدين يقتدى ، وبنورهم من ظلمات الجهل يهتدى ، وبضياء علومهم في المسلمات يستضاء ، جعلهم الله رحمة لعباده ، وبركة في أقطار بلاده ؛ يعلم بهم الجاهل ، ويذكر بهم الغافل ، من اتبع آثارهم اهتدى ، ومن اقتدى بسيرتهم سعد ، أحياهم الله حياة طيبة ، وأخرجهم من الدنيا على السلامة منها ، خواتيم أمورهم أفضلها ، وآخر أعمالهم أكملها.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨))

٧٨

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) رأى الحق سبحانه أم موسى في أول الخطاب فزعة ضعيفة الحال في رؤية أنوار إحاطة الحق بجميع الوجود ؛ فأمرها أن ترضعه ، وبعد ذلك أمرها بأن تلقيه في البحر بغير الإرضاع تسليما محضا ، لكن سبقت حكمته الأزلية في نظام تدابير الخليقة أي : إذا خفت عليه ، فألقيه في بحار الرضا والتسليم ، وانظري بعيون الأنوار إلى مشاهد الأقدار ؛ فإني أربيه بكشف مشاهدتي ، ولذة خطابي ، وأجعله من المخبرين عني ، وأجعله إماما لطلاب وصالي ، قال الله تعالى : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.)

قال الجنيد : إذا خفت حفظه بواسطة ؛ فسلميه إلينا ، وأقطع عنه شفقتك ، وتدبيرك ليكون مسلمة إلى تدبيرنا فيه ، وحفظنا له.

قال أبو بكر بن طاهر : أي : لا تخافي خلف الوعد ، ولا تحزني على غيبوبة الولد.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

قوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) إن الله سبحانه ألبس وجه موسى نور قدسه ، ولطائف ملاحة نور محبته ؛ فرأت امرأة فرعون ذلك النور والبرهان على وجه موسى ، فقالت : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي) ؛ لأني أرى في وجهه أنوار صفات الحق ، ولك أن تراها بعين اليقين والإيمان ، وحقيقة ذلك أن وجوه الأنبياء والأولياء مرائي أنوار الذات والصفات ، ينتفع بتلك الأنوار الكافر والمؤمن ؛ لأن معها لذة حالية نقدية ، وإن لم يعرفوا حقائقها.

قال ابن عطاء : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي) أشارت إلى الحق ، (وَلَكَ لا) ؛ لأنك كفرت وأشركت.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١))

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) وقع على أم موسى ما وقع على آسية بأنها رأت أنوار الحق من وجه موسى ، فعشقت عليه ، ولم يبق في فؤادها صبر من الشوق إلى وجه موسى ، وذلك الشوق من شوق لقاء الله ، فغلب عليها شوقه ، وكادت تبدي سرها (إِنْ

٧٩

كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) ، وقوله : (فارِغاً) من هلاك موسى لكن لم يكن فارغا من الشوق إلى لقاء موسى ؛ لأن شوق موسى وسيلة إلى شوق الله ، وكشف لقائه ، فلما قل صبرها في فراق موسى ثبّت الله قلبها بكشف جماله صرفا ، وذلك قوله سبحانه : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠) من المشاهدين جمالنا وجلالنا.

قال ابن عطاء : أصبح فؤاد أم موسى فارغا عن الاهتمام بموسى لما أيقنت من ضمان الله لها فيه بقوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) ، (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي : تظهر ما أوحي إليها في السر من حفظ موسى ورده إليها ، ومنعه أيدي الظلمة عنه.

قال فياض : الصدر معدن الآفة ، والقلب معدن الصحة ، والفؤاد برزخ بين الصدر والقلب ، والقلب معدن الأنوار.

وقال جعفر الصادق : الصدر معدن التسليم ، والقلب معدن اليقين ، والفؤاد معدن النظر ، والصدر معدن السر ، والنفس مأوى كل حسنة سيئة.

قال بعضهم : في قوله : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) لولا أن أيدناها بالتوفيق والصبر لأبدت ما في ضميرها من الوجد بولدها ، وافهم أن الصدر معدن نور الإسلام ، والقلب معدن نور الإيقان ، والفؤاد معدن نور العرفان ، والعقل معدن نور البرهان ، والنفس معدن القهر والامتحان ، والروح معدن الكشف والعيان ، والسر معدن لطائف البيان ، ذكرت ذلك بمفهوم خطاب الغيب موافقة لأئمتي وسادتي.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) سقى الله روح موسى ألبان المعرفة من ثدي الوصلة ، حين أخرجنا من العدم بنور القدم ، وحرم عليها مراضع الأكوان والحدثان ، ومنعها من الاستئناس بغيره من العرش إلى الثرى ؛ لذلك أشار في القصة (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ولولا رضاعه الأول لاشتغل بإتيان غير مرضعته ، فسقيه لبن المعرفة فطامه عن كل شيء سواه.

قال بعضهم : إشارة إلى العارف ؛ فإنه لا يصلح لبساط القربة من لم يكن مرضعا برضاعة الأنس ، فمن كان رضيع مخالفة ، أو رضيع وحشة ، فإنه لا يصلح لبساط القربة ، ألا ترى الكليم لما كان فيه تدبير الخصوصية بالكلام كيف حرم عليه المراضع.

٨٠