تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قال ابن عطاء : شرف لك بانتسابك إلينا ، وشرف لقومك بالانتساب إليك.

قال جعفر : ذكر لك بنسبتك إلينا ، وذكر لقومك بحسن قدومهم بك واتباعهم لسنتك.

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨))

قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) : فلما قاموا على دعاويهم الباطلة وكلماتهم المزخرفة وبدعهم الباردة فأصروا على إيذاء أوليائنا وأحبائنا غضبنا وسلّطنا عليهم جنود قهرياتنا ، وأمتناهم في أودية الجهالة ، وأغرقناهم في بحار الغفلة ، وجرّدنا قلوبهم عن أنوار المعرفة ، وطمسنا أعين أسرارهم حتى لا يروا لطائف برّنا على أوليائنا.

قال سهل : لما أقاموا مصرّين على المخالفة في الأوامر وإظهار البدع في الدين وترك السنن اتباعا للآراء والأهواء والعقول نزعنا نور المعرفة من قلوبهم وسراج التوحيد من أسرارهم ، ووكلناهم إلى ما اختاروه ، فضلّوا وأضلّوا.

(إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) أي : بأنه كلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأنه كان متصفا بصفاته ، ومشكاة لأنوار قربه ووصاله وولايته ونبوته ومعرفته ومحبته وعصمته وتوفيقه.

قال يحيى بن معاذ : أنعمنا عليه بأن جعلنا ظاهره إماما للمريدين ، وباطنه نورا لقلوب العارفين.

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ

٢٨١

الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨))

قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي : كل خلة لا تكون لله تتولد منها العداوة في الدنيا والآخرة ، والمتحابون في الله لا يقع بينهم العداوة ؛ إذ ارتفعت من بينهم أسباب الكونيين والعالمين ، وهم مقدّسون بتأييد الله ورعايته عن كل خلاف يورث الوحشة.

قال ابن عطاء : كل وصلة وأخوة منقطعة إلا ما كان لله وفي الله ؛ فإنه كل وقت في زيادة ، بأن الله يقول : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي : في انقطاع وبغضة إلا المتقون ؛ فإنهم في راحة أخوتهم يرون فضل ذلك وثوابه ، ثم خاطب الله سبحانه هؤلاء المتقين بقوله : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) : ليس عليكم خوف الفراق ولا حزن الأصحاب.

قال ابن عطاء : لا خوف عليكم اليوم في الدنيا وخوف مفارقة الإيمان ، (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) في الآخرة بوحشة البعد والمفارقة.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١))

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) (٦٩) : مشاهدون آياتنا التي هي مشكاة أنوار صفاتنا ، وكانوا مسلمين منقادين بجبروتنا بنعت المحبة ، (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) : ادخلوا جنان مشاهدتي ، (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) : مسرورين بوصالنا.

قال سهل : بلذة النظر ؛ لما منّ عليهم من التوحيد عند تجلي المكاشفة لأوليائه ، فهو البقاء مع الباقي ، ألا ترى كيف خصّهم بالإيمان على شرط التسليم؟! ثم زاد في وصف أحوالهم في جنة مشاهدته بقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) : ما تشتهي الأنفس الروحانية القدسية الروحية العاشقية بجمال القدم التي ترى جمال الحق بعين الصورة ، فإذا ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين هو وصال الحق والنظر إلى جماله أبد الآبدين.

قال سهل : فيها ما تشتهي الأنفس من ثواب الأعمال ، وتلذّ الأعين مما يفضل الله به من التمكين في وقت اللقاء.

قال جعفر : شتّان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذّ الأعين ؛ لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات واللذات في جنب ما تلذّ الأعين كأصبع تغمس في البحر ؛ لأن شهوات الجنة لها حدود نهاية ؛ لأنها مخلوقة ؛ ولا تلذّ الأعين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي ـ جلّ

٢٨٢

وتعالى ـ ولا حدّ لذلك ولا صفة ولا نهاية.

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩))

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : قارن ثواب الجنة بالأعمال ، وأخرج المعرفة واللقاء والمحبة والمشاهدة من العلل ؛ لأنها اصطفائية خاصة أزلية ، يورثها من يشاء من العارفين الصديقين.

وقال ابن عطاء : الجنة ميراث الأعمال ؛ لأنها مخلوقة ، فوازى المثل والكتاب ميراث الاصطفائية ؛ فإنهما صفتان من صفات الحق.

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

قوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) : وصف الله سبحانه نفسه وإحاطته ببطون المغيبات وحقائق المضمرات بالعلم القديم ، وسماعه حركات صميم أسرار الخلق بسمعه القديم المنزه عن الإصغاء ، وكيف يخفى عليه ما أبدع وأوجد في بطون القلوب والغيوب! بل له كرام كحّل عيونهم بنور نوره ، حتى يروا حقائق الأمور الغيبية كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنّه ينظر بنور الله» (١) ، والملائكة يسمعون من الحق بالإلهام بعد ما وقع الغيب لله الخاص له.

والعارف الصادق له درجتان في ذلك : درجة الملائكة التي هي الإلهام ، ولهم خاصية الرؤية والفراسة بنور الله ، وهو أن يكون متصفا بعلمه وصفاته ، وهذه الآية وعيد وتحذير لمن كان له قلب يخطر عليه شيء غير ذكر الله.

قال يحيى بن معاذ : من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء من السماوات والأرض فقد جعل ربه أهون الناظرين إليه ، وهو من علامات النفاق.

قال الله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) : ما يسرون من الذنوب ، (وَنَجْواهُمْ) : ما يخفون من المعاصي ، (بَلى) وكرام الكاتبين شهدوا على ظواهرهم وأنا شاهد على

__________________

(١) رواه الترمذي (٥ / ٢٩٨) ، والبخاري في التاريخ الكبير (٧ / ٣٥٤).

٢٨٣

بواطنهم ، قال الله تعالى : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.)

قال أبو بكر بن طاهر : من لم يزجره عن المخالفات رؤية الحق وسماعه فإنه لا يزجره شيء غير ذلك.

وقال أيضا : دلّ قوما من عباده إلى الحياء منه ، ودلّ قوما إلى الحياء من الكرام الكاتبين ، فمن استغنى بعلم نظر الله إليه والحياء منه أغناه ذلك عن الاشتغال بكرام الكاتبين.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) : أمر الله سبحانه حبيبه الأول صلاة الله عليه أن ألق رغام الهوان على أنوف أهل الخيال من الكفرة والمشبهة والزنادقة والثنوية والنصارى واليهود والمشركين بإظهار تنزيه عزّة أوّليته ، وتقديس جلال قدسه من علل الحدوثية ، وأوصاف المخلوقية حتى يموتوا في غمار الغفلة من ضربات قدس الألوهية وقهر الجبارية أي : إن كنتم تزعمون لله المنزه القديم شيئا لا يليق بجلاله فأنا أول من يقدسه من طرآن علل الحدثان عليه ، وأنا أول من أفنى من حياتي فيما أسمع منكم له فيه ، وهذا كما قال الله تعالى في وصف السماوات والأرض والجبال كيف تخشّعت من أقوال الكفرة فيه بقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) ، ويل لمن يتقاعد بعقله من الجمادات في معرفة الله ، وإشارة أوليته عليه‌السلام في عبودية الله إشارة إلى بدو وجوده في إتيانه من القدم بنور القدم وانقياده في أول تجلي جلاله ، وهذا كما قال الصادق : «أوّل ما خلق الله نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل كلّ شيء ، وأوّل من أوجد الله عزوجل من خلقه ذرية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأوّل ما جرى به القلم لا إله إلا الله محمد رسول الله» (١) ، قال : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) : أحقّ بتوحيد الله ، وذكر الله تأكيد تقديسه بقوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٣١١) بأوله فقط.

٢٨٤

وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، ذكر غلبة قهره على السماوات والأرض والعرش والكرسي ، حتى عرفوا أن ما يرون من أعظم الخلق يكون عاجزا في خضوعه لسلطانه كيف يليق به ما تصف الكفرة ، نزّه نفسه عن ذلك بقوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، منزّه عمّا وصف به الموحدون والعارفون ، فكيف عما وصف به الجاهلون.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : عظّم أقدار العارفين بهذه الآية ؛ حيث شاهدوا جلاله وجماله بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم وعقولهم ، وهم يخبرون حقائقها بألسنة عجيبة ربّانية إلهامية ، يصفون الحق بها بما يليق بوحدانيته ، وهم يعرفونه بما عرفهم نفسه تعالى ، ولولا قول الله سبحانه في وصفهم بهذه الحالة وما وصفهم بالعلم به لعجبت من الحدثان كيف شاهدوا حق الحقيقة وكيف عرفوا حقيقة الحق.

قال الصادق : هم يعلمون أن الحق غير موصوف بصفات الخلق ، أقرّوا باللسان بوحدانيته ، وآمنوا بقلوبهم ، وعملوا ما أقرّوا به ، وعملوا لمن أقرّوا له بالربوبية علما بأنه لا يستحق العبودية سواه.

قوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) : أمر الله سبحانه حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصفح عن الجاهلين بأن يعذرهم من حيث جهلهم بالله ، ومن حيث إنه قهرهم وطردهم ، وبأنهم يعرفون خصائصه ، ومعنى قوله : (وَقُلْ سَلامٌ) أي : لاطفهم في دعوتك إياهم إليّ ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) قدرك بعد أن أعرفهم منازلك بتوفيقي لهم ، لعل فيض كرمي يدركهم ، وهذا تأديب لدعاة الخلق إلى الحق.

قال ابن عطاء : أعذرهم في جهلهم بحقك ، وتركهم لحرماتك ، وسلّم عليهم ؛ ليسلموا من توابع البلاء.

سورة الدخان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣))

(حم) : الحاء الوحي الخاص إلى محمد ، والميم محمد عليه‌السلام ، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبر من سرّ في سرّ ، لا يطّلع على ذلك السر الذي بين المحب والمحبوب أحد من خلق الله ، ألا ترى كيف قال سبحانه : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، وذلك إشارة إلى وحي السر

٢٨٥

في السر ، وجملتها قسم أي : بحقّ الوحي السري والمحب والمحبوب والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ، الليلة المباركة ليلة المعراج التي وصل الحبيب إلى الحبيب ، وذلك مبارك عليه ؛ حيث رأى ربه ، وأنزل على قلبه القرآن من سماء الأزل إلى روحه ، ووصل إليه بركات جماله وخطابه ، سمع من الحق كلامه شفاها ، ونزل إليه من الحق أنوار كلامه ، وكلمه تسعين ألف كلمة ، وما نزل القرآن في أي وقت كان إلا وذلك الوقت مبارك عليه وعلى أمته ، وليلة نصف شعبان ليلة يتجلى الحق بعزته وجلاله للعالمين ، ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى ينزل من السماء في ليلة النصف من شعبان» (١) ، وما بارك تلك الليلة ؛ حيث يصل بركات جماله إلى كل ذرة من العرش إلى الثرى ، وفي تلك الليلة اجتماع جميع الملائكة في حظيرة القدس.

قال ابن عطاء : ليلة مباركة لمجاورة الملائكة ومقارنتهم.

وقال سهل : أنزل القرآن في هذه الليلة من اللوح المحفوظ على روح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الروح المبارك ، فسمّى الله الليلة مباركة لاتصال البركات بعضها ببعض.

قال جعفر الصادق : هذا من العلوم المكتومة ، إلا أن العلماء يخبرون عنها بلطائف الفهوم ، فالحاء هو وحي كتابه المنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والميم كتابه إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أيضا : إن نزوله كان ليلة القدر.

وقال الأستاذ في (حم) : فالحاء تشير إلى حقه ، والميم تشير إلى محبته ، ومعناه : وحقي ومحبتي لعبادي وكتابي العزيز إليهم إني لا أعذّب أهل محبتي بفرقتي ولا بشيء دونها.

وقال في قوله : (لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) : لأنها ليلة افتتاح الوصلة لأهل القربة.

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨))

قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤) : يفصّل في تلك الليلة أمور الخلق من العرش إلى الثرى ، ويجددها على العقول والأرواح والقلوب على عيون الملائكة قضيات الأولية ؛ لإدراك فهومهم صورة المقدرات ، ويعطى كل ذي فضل جزاءه من القربات والمداناة ، ويوصل بركات جماله إلى كل ذرة في العالم ، فتحملها ببركاته حتى تلد في أوان

__________________

(١) رواه العقيلي في الضعفاء (٣ / ٢٩).

٢٨٦

المواليد بنيرات أفعاله وواضحات آياته ، ألا ترى كيف تحمل الأشجار من نسائم اللواقح ، وتضع حملها في الربيع ، فتهتزّ الأرض بأنواع الرياحين ، وذلك من بركة وصول شمال جماله إليها ، ألا ترى كيف قال : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)؟!

قال ابن عطاء : يعطي كل عامل بركات أعماله ؛ فيلقي على لسان الخلق مدحه ، وعلى قلوبهم هيبته.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) : بيّن أن الشك في الله يوجب الغفلة عن الله.

قال محمد بن حنيف ـ رحمة الله عليه ـ : من استولت عليه الغفلة أدّاه ذلك إلى الشك ، ومن لزم الشك كان بعيدا عن عين الصواب ، قال الله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ.)

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١))

قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١٠) : ظاهر الآية دخان الكفرة من الجوع في الظاهر ودخان بواطنهم ودخان النفس الأمّارة والأهواء المختلفة التي تغير سماء قلوبهم بغبار الشهوات وظلمة الغفلات.

قال سهل : الدخان في الدنيا قسوة القلب والغفلة عن ذكر الله.

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠))

قوله تعالى : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) : ضعف الإيمان ما يكون عند نزول البليات ، بل الإيمان الأصلي ما يكون أعظم في العافية مما يكون في البلاء ، ولا ينكشف العذاب والحجاب إلا بصدق الافتقار والحياء من الله في النظر إلى غيره.

وقال بعضهم : لا يستكشف العذاب إلا بتمام الإيمان وصحة الالتجاء والرغبة والدعاء.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣))

٢٨٧

قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) : أخبر الله سبحانه بهذه الآية أن المفارقة من الأضداد واجبة.

قيل : إن بعض أصحاب الجنيد وقع له إنكار عليه في مسألة جرت له معه ؛ فبكّر إليه ليعارضه فيها ، فلما دخل على الجنيد نظر إليه وقال : يا فلان (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨))

قوله تعالى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) : خاطب الله موسى بأن يرفع تقاضي سره حقائق المقادير ولا يتفحص ، ولا يغوص في بحار الربوبية ، حتى لا يستغرق بنعت الفناء في قلزم العدم ، ولا يخرج منه أبدا إلى سواحل النبوة ؛ فإن بحار الألوهية لو تكون متلاطمة يستغرق فيها الأولون والآخرون أي : لا تشوشها حتى تغرق المدعين بالربوبية والسلطنة في أول بواديات بحار القهريات.

قال سهل : أي : اجعل قلبك ساكنا في تدبيري ، (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي : فإن المخالفين قد غرقوا في التدبير.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١))

قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) : كيف تبكي السماء والأرض على من يدّعي الأنائية في ساحة كبرياء الأزل ، والسماوات والأرضون في عظمها تصير هناك أقل من خردلة من هيبة عزة جبروته وملكوته ، فغارت عليهم السماوات والأرض ؛ إذ ادّعوا ما ليس لهم في أمر الربوبية ، وهي تبكي على العارفين الذين لا يجترئون أن يصفوا معروفهم بجميع الألسنة حياء منه ، إذا فارقوا من الدنيا تبكي السماوات والأرض بمفارقتهم حين لا تصعد عليهم أنوار أنفاسهم ولا يجري عليها بركات آثارهم كما روي في الحديث أن : «السماء والأرض تبكي بموت العلماء» (١).

قال بعضهم : كيف تبكي السماء على من لم يصعد إليه منه طاعة؟! وكيف تبكي الأرض على من يعصي الله عليها؟! معناه ما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ، ولا مواضع عبادتهم من الأرض.

__________________

(١) ذكره ابن كثير في التفسير (٤ / ١٤٣) بنحوه.

٢٨٨

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٢) أي : على علم بصفاتنا ، ومعرفة بذاتنا ، ومشاهدة على أسرارنا ، وبيان على معرفة العبودية والربوبية ودقائق الخطرات من القهريات واللطفيات في زمان المراقبات.

قال الواسطي : اخترناهم على علم منا بجناياتهم وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا بهم ؛ ليعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات.

وقال الخراز : علمنا ما أودعنا فيهم من خصائص برّنا ، واخترناهم بعلمنا على العالمين.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١))

قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) : أرجى آية للعارفين هذه الآية ؛ حين فصل الله بينهم وبين الحدثان ، وأوصلهم إلى مشاهدته ووصله بنعت القربان.

قال بعضهم : يوم يفصل بين كل عامل وعمله ، ويطلب بإخلاص ذلك وبصحيحه ، فمن صحّ له مقامه وأعماله قبل منه وجزي عليه ، ومن لم يصلح له أعماله كان عمله عليه حسرة.

(إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : إن يوم القيامة يوم يكشف السرائر والضمائر ، من كان ميله إلى غير الله يحتجب به عن الله ، ولا ينقذه ذلك عن البعد منه إلا من كان محفوظا برعايته ، محروسا بعنايته ، مجتبى بسوابق الاصطفائية الأزلية.

قال سهل : من رحم الله عليه في السبق فأدركته في العاقبة بركة تلك الرحمة ، حيث

٢٨٩

جعل المؤمنين بعضهم في بعض شفعاء.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (١) أي : إن المفردين عن الأكوان وما فيها بنعت التجريد والتوحيد والتبري من غير الله واستحسانه في محبة الله بعين الرغبة فيه هم في مقام وصلة الحق ، حين لا يجري عليهم اضطراب الفراق ، ولا يحجبهم غير الحق في مقام الأشواق ، آمنين منه به حين ألبسهم أنوار كماله وجلاله وجماله.

قال جعفر الصادق : كانوا في الدنيا على خوف العذاب ووجل الفراق وذلك مقام المتقين في الدنيا ، فأورثهم ذلك أمانا وأمنا أن يسلب ذلك منهم.

وقال أيضا : المقام الأمين وصلة الجبار.

وقال بعضهم : المقام الأمين مجالسة الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧))

قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) : افهم يا فهم لو تدرك حقائق أمور المعارف لا تتهمني بالجهل فيما أقول لك ؛ فإن الموت الأصلي هو العدم ، وكيف يموت من أوجده الحق بنور القدم ، الموتة الأولى هي عدمهم قبل وجودهم ، فبعد الوجود لا يكون القدم بالحقيقة ، إنما يجري عليهم أطوار فنون امتحانات الحق كالذهب ساعة في طين ، وساعة في نار ، وساعة في بوتقة ، وساعة في سواد ، وساعة في بياض حتى يعود إلى ما خرج من المعدن ، فأطوار الخليقة إلى الأبد في تقلبها بقاء في بقاء ، وكيف يفنى بالحقيقة من أوجده الحق من مكمن الغيب إلى قضاء ربوبيته ، فإذا أحضرهم في ساحة كبريائه ويتجلى لهم بالبداهة من عين الجبارية والقهارية يكونون في محل الفناء وفي فناء الفناء من عليات سطوات ألوهيته ، فإذا صاروا فانين ألبسهم الله لباس بقائه ؛ فيبقون ببقائه أبد الآبدين ، فإذا الاستثناء وقع على

__________________

(١) لما ذكر وعيد الكفار أردفه بآيات الوعد فقال : «إن المتّقين» قال أهل السنة : كل من اتقى الشرك صدق عليه أنه متق ، فوجب أن يدخل الفساق هذا الوعد فقال : (في مقام أمين) وقرأ أهل المدينة والشام بضمّ ميم «مقام» على المصدر ، أي في إقامة وقرأ الباقون فتح الميم أي في مجلس أمنين آمنوا فيه من الغير. تفسير ابن عادل (١٤ / ١٧٦).

٢٩٠

التحقيق لا على التأويل فيأرب موت هناك ؛ ويأرب حياة هناك ؛ لأن الحدث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القدم ، ألا ترى إلى إشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف قال : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١).

قيل للجنيد : أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال : لا ، ولكنهم مبقون ببقاء الحق ، والباقي على الحقيقة من لم يزل ولا يزال باقيا ، ثم بيّن الله سبحانه أن هذه الكرامات فضل منه عليهم ؛ حيث اختارهم بما في الأزل ، وأخرجها من علل الاكتساب بقوله : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي : عطاء واصطفائية لا جزاء للأعمال المعلولة.

قال الواسطي : هو الفضل لا استحقاق بعمل العبد وكسبه وحركته.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨))

قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) : افهم أن الكلام الأزلي ما فارق من الأزل ، وكيف يحل القديم في الحديث؟! وهو مستحيل من كل الوجوه ، لكن لما أراد أن يخبر عن نفسه ألبس نور كلامه لسان حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيحتمل كلام الحق بنور الحق ، فإذا الحق مع الحق لا مع غيره ؛ فلسانه فعل الحق ، وفعل الحق مجرى نور صفاته ، جعله فصيحا بتيسره ، وسهّل عليه جريان لسان الحديث به ؛ لعلهم يدركون من لسانه معاني صفات الحق ، فإن الله لو أسمعهم بغير الوسائط لماتوا جميعا.

قال ابن عطاء : يسّر ذكره على لسان من شاء من عباده ، فلا يفتر عن ذكره بحال ، وأغلق باب الذكر على من شاء من عباده ، فلا يستطيع ذكره بحال.

قال جعفر الصادق : لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يلفظ بحرف من القرآن ، وأنّى لهم ذلك؟! وهو كلام من لم يزل ولا يزال.

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩) أي : انتظر وقوع مقاديري عليهم ؛ فإن في رؤيتها عبر العارفين وموعظة المتقين.

قال جعفر : الانتظار معدن الإيمان ، وهو سبيل أهل الحق إلى الحق ، النبي بنبوته ، والولي بالولاية.

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ١٦١).

٢٩١

سورة الجاثية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

(حم) : الحاء يدل على أن في بحر حياته حارت الأرواح ، وفي ميادين محبته هامت الأسرار.

قال الأستاذ : أي : بحياتي ومودتي لا شيء أحبّ على أحبائي من لقائي.

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣))

قوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : في السماوات والأرض ظهور أنوار قدرته وسنا جماله لأبصار العارفين وبصائر المحبين.

قال سهل : علامات لمن أيقن بقلبه ، واستدل بكونها على مكون هذه الآيات الظاهرة.

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨))

قوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) أي : ما بان في السماوات والأرض بان في خلق الإنسان والحيوان أيضا ، فما بان في السماوات والأرض للمؤمنين بان في خلق الإنسان والحيوان للموقنين ؛ لأن ما بان في خلق الإنسان حقيقة مباشرة الصفة في الفعل ، وذلك يوجب حقيقة اليقين ، وبين اليقين والإيمان فروق كثيرة ، وحقيقة الإيمان هو اليقين ؛ حين باشر الأسرار بظهور الأنوار ، ألا ترى كيف سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«اللهمّ إنّي أسألك إيمانا يباشر قلبي ويقينا ليس بعده كفر» (١).

قال بعضهم : في شواهد القدرة وآثار الصنع دلالات وآيات على وحدانيته ، فمن استشهد بها على وحدانيته فهو الموحّد ، ومن كان نظره إلى القادر الصنانع المبدي لها ثم يرجع إلى الصنع والقدرة فهو العارف.

__________________

(١) رواه الطبراني في الأوسط (٦ / ١١٨).

٢٩٢

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

قوله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) : اتخذوها هزوا لما لم ينكشف لهم أنوار الشاهد في الشواهد ، لم يتمتعوا بلطائفها ، وصارت لهم زيادة الحجاب.

قال ابن عطاء : من لم يجد في طاعة الله ولم يصرف همه إلى الدخول فيها بشرط الأمر والخروج منها بشرط الآداب نزع الله حب الطاعة من قلبه ، وردّه إلى حوله وقوته ، قال الله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) ، علمها علم استدلال لا علم حقيقة.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧))

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) : تسخير ما في السماوات والأرض التمتع بمشاهدة مكونها فيها ؛ لأنها منه بدت منورة بنوره.

قال النهرجوري : سخر لك الكون وما فيه ؛ لئلا يسخرك منها شيء ، وتكون مسخرا لمن سخر لك الكل ، فمن ملّكه شيئا منها وأسرته زينتها وبهجتها فقد جحد نعمة الله عنده ، وجهل فضله وآلاءه عنده ؛ إذ خلقه حرّا من الكل عبدا لنفسه ، فاستعبده الكل ، ولم يشتغل لعبودية الحق بحال.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ

٢٩٣

ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) : شريعته منهاجه إلى الحق ، وذلك المنهاج جامع ؛ إذ فيها جميع شرائع الأنبياء ومقامات الأولياء أي : أنت لا تحتاج إلى من مضى من الأولين ؛ فأنت أكمل الخلق اتبع ما اختار الله لك من الطرق المستقيمة ؛ لذلك قال : «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة البيضاء ، لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي» (١).

قال سهل : المنهاج سنن من كان قبلك من الأنبياء والأولياء ؛ فإنهم على منهاج الهدى والشريعة هي الشارع الممتد الواضح إلى طريق النجاة وسبيل الرشاد.

قال الصادق : الشريعة في الأمور محافظة الحدود فيها.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : من نظر إلى ما وصل إليه مما ابتلي به المريدون ، فقد اتخذ هواه إلها ؛ إذ بنفسه محجوب ، ومن باب المشاهدة مطرود ، وذلك بإضلال الحق إياه بما سبق في علمه بأنه يكون محجوبا منه به ، قال الله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ.)

قال سهل : من اتبع مراده لم يسلك مسالك الاقتداء ، وآثر شهوات الدنيا على نعيم الآخرة ، ثم طمع أن له في الآخرة ما للمؤمنين من الدرجات الرفيعة والمنازل السنية.

وقال في قوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) : ضلّ عليه علم نجاته ، ثم إن الله سبحانه أكد أمر ضلاله بقوله : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) : ختم على سمعه وقلبه ختم الضلال والغيرة والقهر القديم ، وغطى بصره بعمى الكفر.

قال سهل : ختم على سمعه ، فحوى عليه سماع خطابه ، وحرّم على قلبه فهم خطابه وعلى عينه مشاهدة آثار القدرة في صنعه.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (١ / ٢٠٠) بنحوه.

٢٩٤

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧))

قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : يحييكم بمعرفته وتجليه ، ويميتكم باستتاره ، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لمشاهدته.

قال سهل : يحييكم في بطون أمهاتكم ، ثم يميتكم بجهدكم ، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لمشاهدته.

قال سهل : يحييكم في بطون أمهاتكم ، ثم يميتكم بجهلكم ، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة أولكم وآخركم لا ريب فيه.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) (١) : هذا إذا بدا سلطان أنوار عزته تجثو على بساط القيامة من ركوب عظمته عليهم ، لا يتكلم منهم إلا من له انبساط.

وقال سهل : على ركبها يجادل عن نفسها عند الموافق الصادق ، يجتهد في تحقيق صدقة ، والجاحد يجحد في الدفع عن نفسه ، وكلّ محكوم عليه بالكتاب الذي أملاه مداده ريقه ، وقلمه لسانه ، وقرطاسه جوارحه.

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) : كتاب الحفظة منقوش ما سبق به

__________________

(١) فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ، فإن أهل الموقف جاثون على الرّكب ، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام ، قلت : ولعل هذا فيمن يناقش الحساب ، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه ، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم. البحر المديد (٣ / ٤٧٩).

٢٩٥

القدر ، يشهد بما جرى على العبد.

قال ابن عطاء : حكم الأزل ينطق عليهم بتصحيح ما في كتبهم وتحقيقها.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : حقيقة الحمد لله لا لغيره ، وهو مستحقّ الحمد ؛ إذ النعم بالحقيقة ، وهو المنعم لا غيره ، (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، ففي الحق الكبرياء عن الحدثان ؛ لأنه هو المستحق للكبرياء ، وكبرياؤه ظاهر في كل ذرة من العرش إلى الثرى ؛ إذ هي كلها مستغرقة مقهورة في أنوار كبريائه ، يعزّ بعزّة الأولياء ، ويقهره بقهر الأعداء ، حكيم في إبداع الخلق وإلزامهم عبوديته التي هي شرائعه المحكمة بحكمه.

قال سهل في قوله : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) : العلو والقدرة والعظمة والحول والقوة ، له في جميع الملك ، فمن اعتصم به أيّده بحوله وقوته ، ومن اعتمد على نفسه وكّله الله إليها.

سورة الأحقاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

(حم) : إشارة الحاء والميم إلى حمايته أسرار الواصلين عن حركات الضمائر ؛ لأنها حمائم أبراج الملكوت والجبروت ، حمد نفسه بما أولاهم لهم ، ومنّ عليهم حتى ارتفع حمده عن الحدثان ؛ إذ حمده لا يستطيعه أحد من خلقه أي : بحمدي على نفسي وحمايتي قلوب العارفين هذا تنزيل مني ، وأنا العزيز الغالب بقهري على سلب أرواح العاشقين بجمالي وجلالي ، وأنا الحكيم في اصطفائيتك من اصطفائيته كل نبيّ ورسول ووليّ وملك مقرّب ، يا حبيبي ويا محبي حكمت في نفسي أن أوصلكم إلى وصالي ، وأسقيكم من بحار حياتي شرابات أنوار القيومية الباقية الأزلية الأبدية.

قال الأستاذ في قوله (حم) : حميت قلوب أهل عنايتي ، فصرفت عنها خواطر التجويز ، وأثبتها في شاهد اليقين بنور التحقيق ، فلاحت فيها شواهد برهانهم ، وأضفنا إليها لطائف إحساننا ، فكمل مناها من عين الوصلة ، وغذيناها بنسيم الأنس في ساحات القربة.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا

٢٩٦

عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨))

قوله تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) : كان في علم الله في أزل أزله أنه يوجد الكون من العدم ، فأوجده بحق العلم السابق ، وذلك الحق حقّ سوابق إرادته الأزلية على وجود الأكوان والحدثان ؛ لتحقق بأنوار حقائق اصطناعه حقائق أنوار قلوب العارفين ، وليتطرقوا بوسائط الشواهد إلى مشاهد جلاله وجماله ؛ لئلا يحترقوا بالبديهة في بروز سطوات قدسه وكبريائه.

قال ابن عطاء : خلق السماوات والأرض ، وأظهر فيهما بدائع صنعه وبوادي قدرته ، فمن نظر إليهما فرأى فيهما آثار الصنع فهو لتيقظه ، ومن نظر وشاهد الصنائع فهو لتحققه.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : بيّن الله سبحانه أن حال حبيبه عليه الصلاة والسلام حالة معروفة في الملكوت والعالمين ، وهي ما جرت على جميع الأنبياء والمرسلين من كشوف أسراره ، وبروز أنواره ، وظهور نفسه لهم ، وإخباره عن نفسه ، وملكه إياهم ليدعوا العباد إلى ساحة قربه وخدمته ، أي : ما كنت بأول من الأنبياء والرسل ، ولست عجيبا بحالتي ونبوتي ؛ فإن النبوة سنة الله التي جرت على إخواني من الأنبياء والرسل ، وهي معروفة بأنه دعا الخلق بلسان الأنبياء إلى طاعته ومعرفته

٢٩٧

ومشاهدته ، وما أعلم ما حكم في الأزل علىّ ولا عليكم ؛ فإنه شاهد القلوب وعلام الغيوب ، أوجد من العدم بنور القدم ، ولا أدري أين استغرق في بحار وصال جماله الأبدي ، فهناك لجج تغيب في ذرة منها جميع الأرواح العاشقة والأسرار الوالهة والقلوب الحائرة ، وما أدري كيف يفعل بكم فيما جرى من السعادة والشقاوة في الأزل ؛ فإن علم العواقب عنده ، لا يطّلع عليه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل ؛ لأنه من علم ما استأثره لنفسه خاصة ، وليس لأحد منه نصيب إلا لمن أظهر له شيئا منه ، كقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.)

قال سهل : ما كنت عجيبا في المرسلين ؛ فإني لم أدعوكم إلا إلى التوحيد ، ولم أدلكم إلا على مكارم الأخلاق ، وبهذا بعث الأنبياء وصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل.

قال الواسطي في قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : إن الله تعالى ستر أمر الروح على جميع خلقه ، وستر ماهيته ذاته ، وستر ما يعامل به الخلق عند معاينته فقال : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ.)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) : ما قال القوم هذا القول حتى شاهدوا بقلوبهم وعقولهم وأرواحهم وأسرارهم مشاهدة الحق سبحانه ، فإذا رأوه قالوا : (رَبُّنَا اللهُ) ، كطلاب الهلال سكتوا في طلبه ، فإذا رأوه يقولون : هذا الهلال ، وصاحوا ، وصفقوا ، وضحكوا لهذا القول منهم بعد كشف مشاهدة الحق لهم ، فلما رأوه أحبوه ، وعرفوه ، وشربوا من بحار وصاله وجماله وجلاله شربات المحبة والشوق ، وتمكنوا شربها حتى استقاموا بقوتها في موازاة رؤية أنوار الآزال والآباد ، واستقاموا في مراد الله منهم ، وأداء حقائق عبوديته ، فلا يتبقى عليهم خوف الحجاب ولا حزن العتاب ، قال الله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٣).

قال ابن طاهر : استقاموا على ما سبق منهم من الإقرار بالتوحيد ، فلم يروا سواه منعما ، ولا شكروا سواه في حال ، ولا رجعوا إلى غيره ، وثبتوا معه على منهاج الاستقامة.

وقال جعفر : استقاموا مع الله بحركات القلوب مع مشاهدات التوحيد.

وقال بعضهم : أفردوا الله بالملك والربوبية والقدرة ، واستقاموا على هذه الشروط ، فلم يخالفوه.

٢٩٨

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) : وصّى الإنسان بالإحسان إلى أبويه ؛ لأنهما أسباب وجوده ومصادر أفعال الحق ، بدا منهما بدائع قدرته ، وأنوار ربوبيته ؛ فحرمتهما حرمة الأصل ، ومن صبر في طاعتهما رزقه الله حسن المعاشرة على بساط حرمته وقربته.

٢٩٩

قال بعضهم : أوصى الله العوام ببرّ الوالدين لما لهما عليه من نعمة التربية والحفظ ، فمن حفظ وصية الله في الأبوين وفقته بركة ذلك لحفظ حرمات الله تعالى ، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظة عليها توصل بركاتها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) : وصف الله الصدّيقين في طرفين من أعمارهم أنهم في عنفوان شبابهم ، وأشد أسنانهم أهل الاجتهاد والرغبة في الطاعات ، وفي أربعين سنة هم أهل الكمال في العقول والفهوم والاستعداد لقبول الوحي والإلهام والكلام والكشف والعيان ، ألا ترى كيف عرف شأنه الصديق رضي الله عنه حين بلغ أربعين سنة في صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول شبابه بما أخبر الله عنه بقوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) : ألهمني رشد التوفيق ، وألبس قلبي ولساني نور عرفانك وقوة فيض مشاهدتك ، أشكر بهما نعمة مشاهدتك ومعرفتك وصحبة رسولك ؛ فإنه أعظم النعم منك عليّ وعلى والدي.

قال ابن عطاء : خاطب الله الأنبياء ، وبعثهم عند كمال الأوصاف وتمام العقول ، وهو الوقت الذي أخبر الله تعالى عن تمام خلقه عباده ، (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.)

وقال سهل في قوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي : ألهمني التوبة والعمل بالطاعة.

وقوله تعالى : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) : العمل الصالح المقرون بالرضا بذل النفس لله والخروج مما سوى الله للوصول إلى مشاهدة الله.

قال سهل : العمل المرضي ما كان أوائله على الإخلاص مقيدا باتباع السنن.

قوله تعالى : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) : اجعلهم أولياءك وأهل معرفتك وطاعتك.

قال سهل : اجعلهم لي خلف صدق ، ولك عبيد حقّ.

وقال محمد بن علي : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) : وصف الله أهل معرفته من الجن كيف حبست ألسنتهم هيبة الخطاب وحشمة المشاهدة ، وهكذا من ألبس أنوار الهيبة والعظمة يخرس لسانه عن الانبساط والمخاطبة وإفشاء السر ، وهذا بعد شهود القلوب أنوار الغيوب بنعت إصغاء الأسرار إلى وقوع الخطاب وكشف النقاب.

قال محمد بن سليمان : ليس في مقام الحضرة إلا الخمول والذبول والسكون تحت

٣٠٠