تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قال الحسين : على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غناه بالله ، وكلما ازداد افتقارا ازداد غنى.

قال الواسطي : من استغنى بالله لا يفتقر ، ومن يتعزّز بالله لا يذل.

وقال جعفر الصادق : أنتم الفقراء بذل العبودية والله الغني بعز الربوبية ؛ لأن الربوبية القهر والغلبة والعبودية الخضوع والاستكانة.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : الخوف عموم والخشية خصوص ، وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته والعبودية له ، وحقيقة الخشية وقوع نور جلال الحق في العارفين ممزوجا بسنا التعظيم ورؤية الكبرياء والعظمة ، ولا يحصل ذلك إلا لمن شاهد القدم والأزل والبقاء والأبد ، فمن زاد علمه بالله زادت خشيته ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام : «أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه» (١).

قال ابن عطاء : الخشية أتم من الخوف ؛ لأنها صفة العلماء.

وقال النصرآبادي : خشية العلماء من الانبساط في الدعاء والسؤال.

قال حارث : العلم يورث الخشية ، والزهد يورث الراحة ، والمعرفة تورث الإنابة.

وقال الواسطي : أوائل العلم الخشية ثم الإجلال ثم التعظيم ثم الهيبة ثم الفناء ، فإذا فنيت هربت ثم نست حتى نسيت أفعالها.

وقال الأستاذ : الفرق بين الخشية والرهبة أن الرهبة خوف يوجب هرب صاحبه فيجري في تفرقته ، والخشية إذا حصلت كبحت صاحبها ، فيبقى مع الله ، فقدمت الخشية الرهبة في الجملة.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٣١) بنحوه.

١٦١

مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣))

قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) : منّ الله على عباده المصطفين في الأزل بمعرفته ومحبته بأن أعطاهم كتابه وعلمهم عجائبه وغرائبه ، فالاصطفائية تقدمت الوراثة اصطفاء بمحبته ومشاهدته ، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده ، وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به واصطفائيته إياهم ، وهو محل القرب والانبساط ؛ لذلك قال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) ، ذكر (ثُمَ) للتأخير ، ثم قسّمهم على ثلاثة أقسام : ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية ، ألا ترى أنه ذكر الاصطفائية ، ثم ذكر الظالم وقرنه بالمقتصد والسابق ، فالظالم عندي ـ والله أعلم وأحكم ـ الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات وطلب كنه الألوهية بنعت إدراكه ، فأي ظالم أعظم منه إذ طلب شيئا مستحيلا ، ألا ترى الله سبحانه كيف وصفه بهذا الظلم بقوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق وكمال عشقه ومحبته وجلاله وجماله ، وأيضا الظالم من أظهر سرّ الأسرار من غلبة المواجيد عن الخلق ، وأيضا الظالم من أخرج قدم المعرفة من جادة الرسوم من كمال سكره ؛ لأنه خرج من حد التمكين ، وأيضا الظالم الذي غلب عليه عشق الأزل ، ويريد أن يكون الأزل بعينه ، وهذا نعت متحد ، وأي ظالم أعظم من الحادث الذي يدّعي الأنانية على نعوت الحدوثية ، وإن كان معذورا من جهة السكر والوله ، وأيضا الظالم الذي وقف في مقام لذة المشاهدة عن السير في الألوهية ، وأيضا الظالم الذي احتجب منه به ولا يعرف أن ذلك مكر الأزل ، وأيضا الظالم الذي يحب الحق لراحة مشاهدته ، وأيضا الظالم الذي يطلب منه الكرامات والآلاء والدرجات ، وأيضا الظالم الذي آثر البقاء على الفناء ، والمقتصد ـ والله أعلم ـ الذي عرف الحق بالحق وجعل الخلق للحق ، ولا يتجاوز عن حدود العبودية إلى عالم الربوبية ، والمقتصد أيضا الذي استوت أعماله وأفعاله وأقواله وسكره وصحوه وفناؤه ، والسابق الخيرات هو المستقيم في جميع الأحوال وصحوه أكثر من سكره وبقاؤه أقوى من فنائه ، وهو السابق في الأزل بالتقدم على أهل الاصطفائية من أهل الولاية ، وأيضا الظالم المريد والمقتصد المحب والسابق العارف.

وقال الحسن البصري : السابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته

١٦٢

وسيئاته ، والظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته.

قال جعفر الصادق : فرّق المؤمنين ثلاث فرق ، سماهم مؤمنين أولا عبادنا ، أضافهم إلى نفسه تفضلا منه وكرما ، ثم قال : (اصْطَفَيْنا) ، جعلهم كلهم أصفياء مع علمه بتفاوت معاملاتهم ، ثم جمعهم في آخر الآية يدخلون الجنة فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) ، ثم بدأ بالظالمين إخبارا أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف كرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية ، ثم ثنّى بالمقتصدين ؛ لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره ، كلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص.

قال الجنيد : لما ذكر الميراث دلّ على أن الخلق فيه خاصّ وعامّ ، وأن الميراث لمن هو أقرب وأصح نسبا ، فتصحيح النسبة هو الأصل.

قال : الظالم الذي يحبه لنفسه ، والمقتصد الذي يحبه له ، والسابق هو الذي أسقط عنه مراده لمراد الحق فيه ، فلا يرى لنفسه طلبا ولا مرادا لغلبة سلطان الحق عليه.

سئل النوري عن قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا) على ماذا عطف بقوله [ثم]؟ قال : عطف على إرادة الأزل والأمر المقضي ، قال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا) من الخلق الذين سبقت لهم منا الاصطفائية في الأزل.

وقال عبد العزيز المكي : المغفرة للظالمين ، والرحمة للمقتصدين ، والقربة للسابقين.

وقال الحسين : الظالم الباقي مع حاله ، والمقتصد الفاني في حال ، والسابق المستغرق في فناء حاله.

وقال النصرآبادي : لا ميراث إلا عن نسبة صحح النسبة ، ثم ادّعى الميراث.

وقال أيضا : ميراث الكتاب للذين فهموا عن الله خطابه ، فكل فهم على قدره ، فالظالم فهم منه محل المغفرة والثواب والعقاب ، والمقتصد فهم منه محل الجزاء والأعواض والجنان ، والسابق استغرقه التلذذ بالخطاب عن أن يرجع منه إلى شيء سواه.

وقال أبو يزيد : الظالم مضروب بسوط الأمل ، مقبول بسيف الحرص ، مضطجع على باب الرجاء ، والمقتصد مضروب بسوط الحسرة ، مقتول بسيف الندامة ، مضطجع على باب الكرم ، والسابق مضروب بسوط المحبة ، مقتول بسيف الشوق ، مضطجع على باب الهيبة.

قال أبو يزيد : الظالم في ميدان العلم ، والمقتصد في ميدان المعرفة ، والسابق في ميدان الوجد.

قال محمد بن علي : الإيمان للظالمين ، والمعرفة للمقتصدين ، والحقيقة للسابقين.

قال ابن عطاء : الظالم معذب ، والمقتصد معاتب ، والسابق ناج مقرّب.

١٦٣

قال بعضهم : الظالم لنفسه آدم ، والمقتصد إبراهيم ، والسبّاق محمد صلوات الله عليهم.

وقال الأستاذ : الظالم من نجم كواكب عقله ، والمقتصد من طلع بدر علمه ، والسابق من درت شمس معرفته.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) : أهل المعرفة إذا دخلوا جنان المشاهدة ، وأدركوا أنوار المكاشفة ، وجلسوا على بساط القربة ، وشربوا شراب الزلفة ، وفازوا من آلام الفرقة في حجال الوصلة هيجهم حالهم إلى حمد خالقهم ، والثناء عليه بما أولاهم من لطيف كراماته وسنا مشاهداته حين فازوا من هجوم الأحزان في قلوبهم من خوف أليم

١٦٤

الفراق وطريان النفاق بعد حقيقة الاشتياق ، وأقروا بأن ذلك من لطفه الخاص بلا امتحان بقوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) ، ثم بينوا ألا يلحقهم فيما وجدوا من نعم الله نصب المعاملات ولا لغوب الطبعيات.

قال النصرآبادي : ما كان حزنهم إلا تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم ، فلما نجوا منها حمدوا وقالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.)

وقال أبو سعيد الخراز : أهل المعرفة في الدنيا كأهل الجنة في الآخرة ، قال الله حاكيا عن أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) ، وإنما أحزانهم للاشتغال بالأعراض ، فتركوا الدنيا في الدنيا ، فتنعموا ، وعاشوا في الدنيا بعيش الجنانين.

قال الواسطي في قوله : (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) : شكر الله العبد رضاه بما أجرى عليه ، وشكر العبد ربه أن يرى النعمة من الله ابتداء وانتهاء.

قال أبو بكر التيمي : إن كانت أعمالك مكتسبة فبفضل الله عملت ، والفضل غير مكتسب ، وإن كان مكتسبا لم يسمّ فضلا ؛ ألا ترى الله يقول : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) ، وافهم أن ذلك الحزن الذي نجا القوم منه وحمدوا الله بإخراجهم عنه هو الحزن الذي صدر من رؤية قهر الأزل ، فلما فروا من الله إلى الله فازوا من قهره بلطفه ، ولا يبقى لهم استتار ، بل يبقون في المشاهدة بلا حجاب وامتحان واضطراب.

قال ابن عطاء : حزن إبهام العاقبة.

سورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦))

(يس) (١) : افهم أن حروف يس كحروف الطواسين وحروف الحواميم وغيرها من حروف التهجي ، الياء إشارة إلى يد القدرة الأزلية ، والسين إلى سنا الربوبية ، أقسم سبحانه بثلاث صفات : بالقدرة ، وسنا الربوبية ، والكلام الأزلي بقوله : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) ، مخاطبة المواجهة بعد شرف القسم بنفسه وصفاته ؛ لأن المقسم به قديم ، فأقسم بالقدم لا بشيء خرج من العدم لشرائفه وفضائله.

قيل : الياء يشير إلى يوم الميثاق ، والسين يشير إلى سره مع الأحباب ، فقال : وبحق يوم

١٦٥

الميثاق وسري مع الأحباب والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين يا محمد.

قال جعفر الصادق : يا سيدا مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ؛ لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيّد» (١) ، ولم يمدح بذلك نفسه ، ولكن أخبر عن معنى مخاطبة الحق إياه بقوله : (يس.)

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨))

قوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) : حق القول الأزلي في الأزل إن أكثر الخلق لا يعرفونه ؛ لأنه غريب الأزل ، والأزلي لا يعرفه إلا الأزلي ، والحمد لله الذي حكم على الأكثر بالشقاوة ، وما حكم على الأقل الذين عرفوه به لا بغيره ، وهم أوراق بساتين قدسه ونسائم نرجس أنسه.

قال ابن عطاء : حق القول على أهل الشقاوة في الأزل ، إنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع خطابه من أسمعه الحق في الأزل نداء السعادة ، فإذا سمع نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب لما سبق له من إجابة لنداء الحق.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) : سدّ ما خلفهم سدّ قهر الأزل ، وسدّ ما بين أيديهم شقاوة الأبد ، فينفسه منهم من نفسه لا جرم أنهم في غشاوات الغيرة ولا يبصرونه أبدا.

قال ابن عطاء في (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) : وهو طول الأمد ، وطمع البقاء ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) : وهو الغفلة عما سبق منه من الجنايات ، وقلة الندم والاستغفار عليه أعماه تردده في الغفلات عن الاعتذار لما سبق منه من الجنايات.

وقال الأستاذ : أغرقناهم اليوم في بحار الضلالة ، وأحطنا بهم سرادقات الجهالة ، وفي الآخرة نغرقهم في النار والأنكال ، ويضيق عليهم الحال بالسلاسل والأغلال.

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٢١٥) ، ومسلم (١ / ١٨٤).

١٦٦

إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١))

قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) : الإنذار لا يؤثر إلا في أصحاب الذكر ؛ لأنهم في مشاهدة عظمة المذكور يفزعون منه بأقدار ما شاهدوه من العظمة والكبرياء ، فبركة موعظة الصادق تزيد لهم تعظيم الله وإجلاله ، وتابع الذكر تابع السنة ، ثم تابع الحال والوقت والوجد حتى فني هو في ذكره ، وفني ذكره في رؤية مذكوره ؛ لأنه شاهد العظمة بنعت الفناء في الحضرة حين غاب عن الخلق بقوله : (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) علم الرحمن في غيب الرحمن ، (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (١١) لما جرى عليه من وقفة الحال وكشف المشاهدة الكريمة الأزلية الأبدية.

قال الحسين : أشرف منازل الذاكرين من نسى ذكره في مشاهدة المذكور ، وحفظ أوقاته من الرجوع إلى الرؤية والذكر.

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥))

قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ) : العبودية ممزوجة بالفطرة ، والمعرفة فوق الخليقة والفطرة ، وهذا المعنى مستفاد من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «كلّ مولود يولد على الفطرة» (١) ، ولو كانت المعرفة ممزوجة بالفطرة لما قال : «فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصّرانه» (٢) ، بل المعرفة تعلق بكشف جماله وجلاله صرفا بالبديهة بغير علة ولا اكتساب بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ.)

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٤٦٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٧).

(٢) تقدم في سابقه.

١٦٧

قال ابن عطاء : الفطرة جعل الأشخاص في قبضة القدرة والأرواح في قبضة العزة.

قال بعضهم : العبد الخالص من عمل على رؤية الفطرة لا غير ، وأجل منه من يعمل على رؤية الفاطر.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) : ضاق صدر حبيب النجار ـ قدس الله روحه ـ لأجل قومه الذين شاهدوا قتله ، وضاقت صدورهم لأجله حتى تبرأ لأمر فراقهم ، إنه في رؤية الخلق بعد خلاصه من الخلق.

قال حمدون القصار : لا يسقطه عن النفس رؤية الخلق بحال ، ولو سقط عنها في وقت لسقط في المشهد الأعلى في الحضرة ، ألا تراه في وقت دخول الجنة يقول : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) ، تحدثه نفسه إذ ذاك برؤية الخلق.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) : خلق الأصناف من العرش إلى الثرى بغير رؤية ولا تفكّر ، بل على ما سبق في علمه في الأزل لا على مثال ، ولا على أشخاص ، وهو منزه أن يكون له شبيه أو نظير.

قال عبد العزيز المكي : خلق الأزواج كلها ثم قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ؛ ليستدل بذلك أن خالق الأشياء منزه عن الروح مستغن عنه.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ

١٦٨

كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧) : عرّف الله سبحانه أهل معرفته نفسه بآيات المكاشفات وطلوع شموس المشاهدات والغيبة والاستتار بعده ، حين هم في ضياء المشاهدة ونور المكاشفة ، فيقبض منهم أنوار المواجيد والحالات قبضا يسيرا بحيث لا يعرفون ذهابه حتى بقوا في الحجاب ، فإذا دحا ليل الفقدان عليهم وهاموا في أودية الحيرة من طلب شمس المشاهدة فتلك الشمس تجري لمستقر لها تنكشف شمس الجلال من مشارق الآزال على أوقاتهم بمقادير الإرادة الأزلية ، فيكون الوقت سرمدا بغير فترة ولا انتقال بقوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٨) ، فإذا غابت عنهم شمس الذات طلع عليهم قمر الصفات في أبراج قلوبهم على منازل المقامات بقوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ) (١) ، يبدو لهم في أوائل الأحوال أنوار الصفات ، فيزيد لهم وضوحا

__________________

(١) قال حقي : (منازل) وهى ثمان وعشرون مقسومة على الاثني عشر برجا ، ينزل القمر كل ليلة في واحدة من تلك المنازل لا يتخطاها ولا يتقاصر عنها فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس ، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة إن كان تسعة وعشرين وقد صام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية أو تسعة رمضانات خمسة منها كانت تسعة وعشرين يوما ، والباقي ثلاثين وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شهرا العيد لا ينقصان» أي حكمهما إذا كانا تسعا وعشرين مثل حكمهما إذا كانا ثلاثين في الفضل وقد صح أن دور هذه الأمة هو الدور القمري العربي ـ

١٦٩

وكشفا ، فيربيهم على سنن الواردات حتى صاروا في مشاهدة بدر كمال الصفات ، فإذا كادوا يفنوا في تلك الحالة يغيب عنهم أنوار الصفات حتى يبقى لهم اللمعان والبروق ، ويصير البدر لهم هلالا ، فيتراءون هلال جمال الصفات بأبصار قلوبهم في سماء اليقين ، وهذا من لطف الله لهم الذي يربيهم على قدر الأحوال في مقامات مشاهدة الذات والصفات قبضا وبسطا حتى لا يفنوا.

قال الأستاذ : نهار الوجود يدخله على ليالي التوقف ، ويقود بيد كرمه عصا من عمى عن سلوك رشده ، فيهديه إلى سواء طريقه.

وقال في قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) الإشارة منه أن العبد في أوان الطلب رقيق الحال ضعيف اليقين مختصر الفهم ، فيتفكر حتى تزداد بصيرته ويكمل حاله ، ثم يصير كاملا ، ثم يتناقص ، ويدنو من الشمس قليلا قليلا ، وكلما ازداد من الشمس دنوّا ازداد في نفسه نقصانا إلى أن يتلاشى ويخفى ولا يرى ، ثم يبعد عن الشمس ، لا يزال يتباعد حتى يعود بدرا من الذي يصرفه على ذلك إلا أنه تقدير العزيز العليم ، فشبه الشمس عارف أبدا في ضياء معرفته صاحب تمكين غير متلون يشرق بروج من سعادته دائما ، لا يأخذه كسوف ، ولا يستره سحاب ، وشبه القمر عبد يكون أحواله في التنقل ، صاحب تلوين له من البسط ما يرقيه إلى حد الوصال ، ثم يردّ إلى الفترة ، ويقع في النقص بما كان به من صفاء الحال ، فيتناقص ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه عن وقته ، ثم يجود عليه الحق سبحانه ، فيوفقه لرجوعه عن فرقه وإفاقته عن سكرته ، فلا تزال تصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال ، ويرزق صفة الكمال ، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال ، كذلك حاله إلى أن يحق له بالمقسوم ارتحاله ، فكما قالوا : [إن كنت أدري فعلى بدنه من كثرة التلوين إليّ من أنه] ، وفي معناه أنشدوا :

كلّ يوم تتلون غير هذا بك أجمل

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧))

قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (٥٥) : إذا دخل أهل الجنة في الجنة وتنعموا بها يكشف الله جماله لهم بالبديهة ، فيكونون في شغل من المشاهدة عن نعيم الجنة ناظرين إلى الحق بالحق ، ويفرحون بما نالوا من جماله وجلاله.

قال ابن عطاء : شغلهم في الجنة استصلاح أنفسهم لميقات المشاهدة ، وهذا من أعظم

__________________

ـ الذي حسابه مبني على الشهر لا الدور الشمسي الذي مبنى حسابه على الأيام.

١٧٠

الاشتغال.

وقال الجنيد : أحيا أقواما بالراحة (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] ، فهم متقلبون في الراحة واللقاء والرضوان والمشاهدة ، ثم منّ عليهم زيادة منه ، فقال : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) : شغلهم حظوظ الأنفس عن هذا المعدن وهذا المشهد.

وسئل بعض المشايخ عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثر أهل الجنة البله» (١) قال : لأنهم في شغل فاكهون ، شغلهم النعيم عن المنعم.

وقال الحسين : إن الحق قطع أهل الجنة بتجليه عن الالتذاذ بالجنة ؛ لأنه أفناهم بتجليه عنها ؛ لئلا تدوم بهم اللذة ، فيقع بهم الملك فرجوعهم إلى إياهم بعد تجلي الحق لهم يوفر اللذة عليهم ، والحق لا يلتذّ به.

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠))

قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨) : سلام الله أزلي الأبد غير منقطع من عباده الصادقين في الدنيا والآخرة ، لكن في الجنة يرفع عن آذانهم جميع الحجب ، فسمعوا سلامه ، ونظروا إلى وجهه كفاحا.

قال ابن عطاء : السلام جليل الخطر ، عظيم المحل ، وأجله خطر ما كان في المشاهدة والمكافحة من الحق حين يقول : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) : من استقام عليه فقد ظهر عليه سرّ الربوبية ، وشغله ذلك السرّ به عن الطاعة والمعصية ، قد حضر لي نكتة أن السلام يكون بالقول والكلام من رب رحيم يربيهم بمشاهدته ويرحمهم ؛ لئلا يحجبهم عن جماله أبدا.

قال الأستاذ : الرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حالة ما سلم عليهم ليكمل لهم النعمة.

(وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧))

__________________

(١) رواه الديلمي في الفردوس (١ / ٣٦٢) ، وابن عدي في الكامل (٣ / ٣١٣).

١٧١

قوله تعالى : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) : طلب الحق منهم ما خلق في فطرتهم من استعداد قبول طاعته أي : اعبدوني بي لا بكم ، فهذا صراط مستقيم حيث لا تنقطع العبودية عن العباد أبدا ، ولا يدخل في هذا الصراط اعوجاج ولا اضطراب.

قال النوري : الأنفاس ثلاث : نفس في العبودية ، ونفس بالربوبية ، ونفس بالرب.

قال الواسطي : من عبد الله لنفسه فإنما يعبد نفسه ، ومن عبده من أجله فإنه لم يعرف ربه ، ومن عبده بمعنى أن العبودية جوهرة تظهرها الربوبية فقد أصاب.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩))

قوله تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) : من عمّره الله وذهب أوقاته بالغفلات ، ولا يظهر بالمشاهدات نقص وضعف في ميادين العبودية والربوبية.

قال أبو بكر الوراق : من عمّره الله بالغفلة فإن الأيام والأحوال تؤثر فيه حالا فحالا من طفولية ، وشباب ، وكهولية ، وشيبة إلى أن يبلغ ما حكى الله عنه من قوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) ، ومن أحياه الله بذكره فإن تلوين الأحوال لا يؤثر فيه ، فإنه متصل الحياة لحياة الحق ، حي به ، ويقر بهن ، قال الله : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً.)

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧))

قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي : من كان عارفا بالله وبصفاته ، عاشقا بوجهه ، مشتاقا إلى لقائه ، والها في جماله ، ذاهلا في عظمته وكبريائه ، متصفا بحياته.

قال ابن عطاء : أي من كان في علم الله حيّا أحياه الله بالنظر إليه والفهم عنه والسماع منه والسلام عليه.

قال الجنيد : الحي من يكون حياته بحياة خالقه ، لا من يكون حياته ببقاء هيكله ، ومن يكون بقاؤه ببقاء نفسه فإنه ميت في وقت حياته ، ومن كان حياته بربه كان حقيقة حياته

١٧٢

وفاته ؛ لأنه يصل بذلك إلى رتبة الحياة الأصلية ، قال الله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا.)

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١))

قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) : إن في خلق الإنسان ووجوه الحسان من علامات قدرته أكثر مما يكون في الكون ؛ لأن الكونين والعالمين في الإنسان معجون وفيه عمله معلوم ، ولو عرف نفسه فقد عرف ربه ؛ لأن الخليقة مرآة الخليقة تجلت في الخليقة لأهل المعرفة ، وربّ قلب ميت يحيا بجماله بعد موت جهالته ، وإحياؤه بمعرفته.

قال الواسطي : ضرب الأمثال في القرآن إعلاما لصحة الطرق للموحدين على حدة ، وللعالمين على حدة ؛ ليعلموا أن قليلا من روائح نفحاته خير من كثير توحيدهم ومعاملاتهم.

وقال في قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي : من يحيى القلوب الميتة بالقسوة والإعراض عنه ، فيردها إلى التفويض والتسليم والتوكل والإقبال عليه.

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢))

قوله تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : الفهم فيه أن الأمر بالقول ، والقول القديم سبب إيجاد الكون ، ولا يكون الكون إلا بإرادة المكون ، وإرادته قبل الأمر ، فلو كان القول وافق الإرادة لصار الكون قديما ، لكن بقوته الأزلية وجلاله الأبدي أراد وجود الأشياء إلا في وقت معين ، فالأشياء مطيعة له بإجباره الأزلي عليها وغلبة سلطانه على متون العدم بعزة القدم ، لا إرادة لها ؛ إذ الأمر كله يتعلق بجبروته.

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

قوله تعالى : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : منزّه عن النقائص الحدثية ، لا شريك له في ملكه ، من قدرته بدء الأشياء ، وإلى قدرته رجوع الأشياء (١).

__________________

(١) الملكوت هو الملك العظيم على ما يقتضيه الزيادة التركيبية ؛ كالعظموت بمعنى : العظمة الزائدة.

والرهبوت بمعنى : الرهبة الشديدة ، والرحموت بمعنى : الرحمة الغالبة ، وعلى هذا المراد بالملك العظيم هنا هو : ملك الروح ؛ لأنه أعظم من ملك الجسد ؛ لأن الجسد من عالم الصورة ، والروح من عالم المعنى ، والمعنى أوسع من الصورة ، وإن كان كل من الروح والجسد مخلوقين على ما دلّت عليه النصوص.

١٧٣

قال الحسين : أبدى الأكوان بقوله (كُنْ) إهانة لها وتصغيرا ؛ ليعرف الخلق إهانتها ، فلا يركنوا إليها ، ويرجعوا إلى مبدئها ومنشئها ، فشغل الحق زينة الكون ، فتركهم معه ، فاختار من خواصه خصوصا أعتقهم من رقّ الكون ، وأحياهم به ، فلم يجعل للعلل عليهم سبيلا ولا للآثار منهم طريقا.

سورة الصافات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩))

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) (١) : والقلوب المتآلفة في مقام المحبة صفت بنعت الإقبال إلى جمال الأزل ، وهي قلوب المحبين ، وأيضا صفوف العقول المقدسة صفت في مقام العبودية لمشاهدة الربوبية ، وهي عقول العارفين ، وأيضا الأرواح العاشقة صفت في حظائر القدس في مقام الأنس ، وهي طيور الله في بساتين الله ، وهي أرواح الموحدين ، (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) : إلهامات الحق التي تأتي على خواطر أهل الحق (١) ، (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) : الملائكة التي تلم على قلوب الحاضرين في الحضرة بوحي الله ، فأقسم الحق بهذه النيرات أنه تعالى واحد لا انقسام في ذاته ولا افتراق في صفاته ، لا تكون وحدانيته من حيث العدد ولا ألوهيته من حيث المدد ، فأظهر وحدانيته بنعت التجلي والظهور للوحدانيين بقوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) ، ثم أوضح طرق الدليل إليه بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) : المشارق مطالع قلوب العارفين التي تطلع منها أنوار الحق للأرواح والعقول ، ثم بيّن أنه تعالى زيّن سماء الظاهر بالكواكب ، وزيّن سماء الأرواح بأنجم المعارف ونور الكواشف بقوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) : من نور معرفة العارفين ينزجر الشياطين المتمردة ولا

__________________

(١) أقسم بطوائف الملائكة ، الصافّين أقدامهم في مراتب العبادة ، كل على ما أمر به ، فالزاجرات السحاب سوقا إلى ما أراد الله ، أو : عن المعاصي بإلهام الخير. أو : الشياطين عن التعرّض لهم. البحر المديد (٥ / ٢٢٤).

١٧٤

يطيقون إلقاء الخواطر الرديئة.

قال ابن عطاء : زيّن قلوب أوليائه بكواكب المعرفة ، وهي الأنوار الظاهرة.

قال الحسين في قوله (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) : دلّهم على الوحدانية ؛ ليكونوا وجدانيي الذات ؛ ليصلحوا لمعرفة الواحد ، فمن لم يتحد بإسقاط كل العلائق عنه لا يصلح لمعرفة الواحد.

وقال أيضا : الواحد لا يعرفه إلا الآحاد من العباد.

(إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨))

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) : جاء الشيطان إلى قلب العارف فألقى من بعيد إليه وسوسة كاد أن يختطف حظّا من حظوظ مواجيد العارف ، وأن يشوش وقته ، فلحقه نور غيرته فأحرقه ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ.)

(وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها

١٧٥

يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤))

قوله تعالى : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٩) : الجميع في حيز الجزاء الكفار يجزون بالعذاب ، والمؤمنون يجزون بالثواب ، والمخلصون خارجون من علل الفريقين ، هم مختارون بالولاية ، مختصون بالمشاهدة ، لهم مقام معلوم في القربة والوصلة بقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) (٤١) ، رزقهم جمال الحق أبد الآبدين بلا حجاب ولا حساب ، والمخلص في المعرفة الخارج بنور الربوبية عن علل الحدوثية.

وقال أبو بكر بن طاهر : صحة البقاء مع الله إخلاص العبودية لله ، وفناء رؤية العبد مع الله ببقاء حظّه من الله.

وقال الأستاذ : الإخلاص أن تلاحظ محل الاختصاص.

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣))

قوله تعالى : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٥٥) : من شاهد الحق يكون مطلعا على ما دون الحق ، واطلاع أهل المعرفة على الغيب من قوة نور جمال الحق في أبصارهم ، فيبصرون

١٧٦

مغيبات الغيب بنظر الغيب.

قال القاسم : الاطلاع اطلاعان : اطلاع التخصيص فيه الحياة والبقاء ، واطلاع التخصيص فيه الفناء والهلاك.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧))

قوله تعالى : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٤) : جاء ربه بقلب محبّ مملوء من شوق الله منقاد لأمر الله ، ومراد الله فار منه إليه ، سالم مما دون الله من العرش إلى الثرى ، مقدس من شوائب الطبيعة ، قيل أي : مستسلم مفوض في كل حال إلى ربه ، راجع إليه بسره لا تتخالّه الأكوان بما فيها.

سئل الجنيد بم ينال سلامة الصدر؟ قال : بالوقوف على حق اليقين.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨))

قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) (٨٨) : لما طلب القوم من الخليل عليه‌السلام المطايبة والعيش النفساني من قلة معرفتهم بحاله فأخرج غرائب معاني العشق والمحبة في صورة العلم التي يكون حجة عليهم وامتناعه من صحبتهم لأنسه بالله ، فحكى الحق سبحانه عنه : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) ، وهذا إشارة يعني طالع أنجم الصفات التي تطلع من مشارق الذات ، أي : شاهد جمال القدم ، واستغرق في بحر المحبة ، فأخبر عن آلام لدغات حيات المحبة والمودة التي أسقمته بدائه ، (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩) : سقيم مشاهدة الأزل ، ومريض جمال الأبد ، ولا أقدر أن أشتغل بسواه ، وإني أطلب مداواة سقمي ممن أسقمني.

قد لسعت حية الهوى كبدي

بلا طبيب لها ولا راقي

إلا الجيب الذي شغفت به

فعنده رقيتي وترياقي

قال ابن عطاء : (إِنِّي سَقِيمٌ) مما أرى من مخالفتكم وعبادتكم الأصنام.

قال بعضهم : إني سقيم القلب ؛ لفوت مرادي من خليلي ؛ فإن الحبيب أبدا سقيم القلب

١٧٧

في القرب والبعد.

وأنشد :

وما في الدهر أشقى من محبّ

وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكيا في كلّ حين

مخافة فرقة أو اشتياق

فيبكي إن نأوا شوقا إليهم

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

فتسخن عينه عند التباني

وتسخن عينه عند التلاقي

وقيل : (إِنِّي سَقِيمٌ) شائق إلى لقاء الحبيب (١).

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

قوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٩٩) : لما حصر صدره من معاشرة الحدثان ، وضاق قلبه في محل الامتحان ، واشتاق سره إلى مشاهدة الرحمن ، قال إني ذاهب مني إلى ربي ، أي : إني أخرج من الحدثان إلى عالم العرفان ، أسير في بيداء الأزل إلى الأبد ، سيهديني ربي طرق الذات والصفات ؛ فأكون فانيا فيه باقيا به معه.

قال الخراز : لما فني الموجود وانقطع القدرة ثبت المشهود بلا شاهد قال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) ، بالرجوع عما سواه ، فلا ذاهب في الحقيقة إليه إلا من أعرض عن الأكوان وما فيها ، فمن بقي فيه ذرة من الكونين يكون ذهابه لعلة.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢))

قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) : لما استوى الولد خلة أبيه وكل حقائقه صار أهلا لقربان الحق ، وفداء كشف جماله ، وذلك أيضا محل امتحان الخليل به ؛ فإنه لما وجده أهل الحق استأنس به ، فغار به الحق ، وأراد أن يتجرد سره من الغير حتى لا يبقى بين الخليلين شيء من الحدثان.

قال ابن عطاء : لما سعى في الطاعة سعيه وقام بحقوق الله حسب ما رضي به الخليل وقرت عينه بقيامه بحقوق مولاه أنس الخليل به ، وفرح بمكانه ، فقيل له اذبحه فإنه لا يصلح

__________________

(١) فأوهم أن مراده أنه مريض الجسد وأراد أنه مريض القلب سبب آلهتهم ، مقسم الفكر في أمرهم لأنه يريد أمرا عظيما وهو كسرها ، ومادة «سقم» بتقاليبها الخمسة.

١٧٨

للخليل أن يفرح إلى شيء دون خليله ، ولا يفرح بسواه ، فابتلي بذبحه ، ثم لما سلّم وقام مقام الاستقامة واتّبع الأمر فداه بذبح عظيم.

قال الواسطي : نقل الله إبراهيم من حال البشرية إلى غيرها ، وهو أنه لما امتحنه بذبح ابنه أراد أن يزيل عن سره محبة غيره ، ويثبت في قلبه محبته ؛ لأن وجود محبة الله في قلب إبراهيم مع رحمة الولد محال ، فنظر إلى أقرب الأشياء إلى قلبه ، ووجد ابنه أقرب ، فأمر بذبحه ، وليس المبتغى منه تحصيل الذبح ، إنما هو إخلاء السر منه ، وترك عادة الطبيعة ، وحينئذ نودي : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي : قد حصلت ما طالبناك به وافيا ، وحصل لنا منك ما أردناه ، ولما وجد الذبيح رؤية المبلى في البلاء ومشاهدته ولذة وصاله وجد نفسه في موقع البلاء على محل حلاوة شهود جمال الحق إياه مستلذة ببلائه حين شاهدته بوصف الاستئناس به بنعت سقوط الآلام عنها ، فسلمها إلى مولاها بوصف الرضا والتسليم ، وأخبر عن كمال استقامة حاله في الصبر والرضا ، وذلك قوله : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، صفا حاله في سكر وصال الحق ، فاجترأ على استقبال البلاء ، وأسقط التجلد عن صفة وجوده ، استعان بالله في الصبر في بلائه حيث استثنى بقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)

قال أبو سعيد الخراز : أسرع الإجابة بقوله : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ؛ لأنه قد أخلاهما من علم ما يراد بهما ؛ كيلا يعرجا على رؤية السلامة ، فيزول معنى البلاء ، ومن يقع موضع الخصوص لا يتقرب بالصبر على حقيقة موجودة.

قال رويم : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، يقبح الخليل مخالفة خليله أو التقصير في أمره ، وهلاك الولد وذهابه أهون من مخالفة من اتخذك خليلا.

وقال بعضهم : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، فإني قد شاهدت من قلبي رشدي وجوارحي كلها راضية بما أمرت به.

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥))

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : لما استوى سرهما في كمال التسليم صرعه في مذبح العشاق الذين قتلوا بسيوف المحبة حتى استوفيا حظوظ العبودية في دعواهما من شهود أنوار الربوبية.

قال جعفر : أخرج إبراهيم من قلبه محبة ابنه إسماعيل ، وأخرج إسماعيل من قلبه محبة الحياة.

١٧٩

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦))

قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) : أخبر سبحانه أن هذا بلاء ظاهر أي : هذا بلاء في الظاهر ، ولكن لا يكون في الباطن بلاء ؛ لأنه في الحقيقة بلوغ منازل المشاهدات ، وشهود لأسرار حقائق المكاشفات ، وهذه من عظائم القربات ، وأصل البلاء ما يحجبك عن مشاهدة الحق لحظة ، ولم يقع هذا البلاء بين الله وبين قلوب المصطادين بشبكات محبة القدم قط ؛ فإن قلوبهم تحت غواشي أنوار سبحات وجهه فانية ، وكيف يقع عليها البلاء وهي تفنى في جمال الحق؟! إن كنت تريد بلاءهم فإنه تعالى بلاؤهم ، وذلك البلاء لا ينقطع عنهم أبدا ، ويمنع هذا البلاء جميع البلاء عنهم.

قال الجريري : البلاء على ثلاثة أوجه : على المخالفين نقم وعقوبات ، وعلى السابقين تمحيص وكفارات ، وعلى الأولياء والصديقين نوع من الإخبات.

قال الحسين : البلاء من الله ، والعافية من الله ، والأمر عزّ الله ، والنهي إذلاله.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩))

قوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) : سمى الحق الذبح عظيما ، وفي ذلك إشارة لطيفة ، وهو أن العاشق الصادق أراد كل وقت أن يذبح نفسه لمعشوقه ، وإذا كان المعشوق صادقا في عشق عاشقه يمنعه عن ذبح نفسه عنده ، بل يذبح نفسه لعاشقه ، فلما قدس ساحة جلال الكبرياء عن علة الحدثان فداه له مكان نفسه الذبح ؛ إعلاما لكمال محبته له ، ولذلك سماه عظيما ؛ لأنه صدر من العظيم لعظيم محبته وعشقه لعشاقه وأخلائه وأحبائه.

قال بعضهم : عظيم محلها عند الله ؛ لأنه قتل عليها نبي ابن نبي ، وأحيا عليها نبي ابن نبي ، كذلك ذكر في التفسير أنها كانت الشاة التي تقبل من أحد ابني آدم فرتع في الجنة إلى زمان إبراهيم ، ففدى به ابنه إسماعيل.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا

١٨٠