تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

السبب والاشتغال بالوسيلة ، ألا ترى كيف دعا العارف من التفرقة إلى الجمع بقوله : (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ؛ لأن من بلغ إلى الحق فالرجوع إلى غيره ، وإن كان وسيلة الحسنة فهو شرك ، وشكر المفرد معرفة المشكور بنعت الاعتراف بالعجز عن شكره ؛ لأنه تعالى أجلّ وأعظم من أن يشكره أحد سواه ، وشكر الوالدين ؛ لأنهما مدارج أفعال الربوبية ، وإذا شكرت الفعل شكرت الصفة ، وإذا شكرت الصفة شكرت الذات ، وإذا كنت كذلك فقد وصلت إلى عين الجمع ، فالأول جمع الجمع ، وهو قوله (أَنِ اشْكُرْ لِي) ، والثاني عين الجمع ، وهو قوله : (وَلِوالِدَيْكَ) ، فإذا كنت مشاهد الكل في عين الجمع فصار عين الجمع جمع الجمع ، كذلك أدق الإشارة بقوله : (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ؛ لأن عين الجمع وجمع الجمع واحد في صورة التوحيد لا في حقيقة التوحيد ؛ لأن حقيقة التوحيد إفراد القدم عن الحدوث.

وقال ابن عطاء : اشكره حيث أوجدك ، وكثيرا ما سمعت سيدي الجنيد يقول في خلال كلماته : (اشكر من كنت منه على بال حين خلقك ، واشكر والديك إذ ههنا سبب كونك ، فمن استغرقه شكر المسبب قطعه عن شكر السبب ، ومن لم يتحقق في شكر المسبب رد إلى شكر السبب).

قال الأستاذ : شكر الحق بالتعظيم والتكبير ، وشكر الوالدين بالإشفاق والتوقير.

[سورة لقمان (٣١) : آية ١٥]

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

قوله تعالى : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) : والمعروف ههنا أن تعرفهما مكان الخطأ والغلط في الدين عند جهالتهما بالله.

قال بعضهم : عاملهما معاملة جميلة ، وقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) : إذ قال فلا تطعهما نفى عنه متابعة المغالطين وحثّه على متابعة المنيبين إليه من الصادقين.

قال ابن عطاء : صاحب من ترى غلبة آثار أنوار خدمتي عليه.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦))

قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) : كيف يخفى على موجد الأشياء شيء وهو منشئه ؛

١٢١

فهذا تنبيه منه لإحاطة علمه القديم بكل ذرة من العرش إلى الثرى ظاهرها وباطنها ؛ حتى يفرغ المراقب الصادق من اطلاع الحق بوصف العظمة والكبرياء على نوادر الخطرات وبطون الحركات ، فإن كان خاطره بادرا من قهره سبحانه تستتر في جريانه في صخرة النفوس أو في سماء الأرواح أو في أرض القلوب ، يظهره الحق إلى عرصة العقل لعين السر ، فيحاسبه بذلك ، ويعرفه مكان نفعه وضره ؛ ليعرف صاحبه وصف جلال علمه كيف يحيط بأسرار الضمائر وبطون الخواطر ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (١٦)!

قال عبد العزيز المكي : مثال (حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) مجتمعة أو في سبع سماوات وأرضين متفرقة يأتي بها الله مجتمعة على صاحبها ؛ لأن الله لطيف خبير لطف أفعاله عن أن يدركه أحد بعقل.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨))

قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : الأمر بالمعروف أن ترشد الخليقة إلى الحقيقة بعد ما ذقت طعم القربة ، والنهى عن المنكر زجرك نفسك عن النظر إلى ما دون خالقها.

وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : اصبر على طوارق القهر وامتحان الريب ، واسكن تحت جريان القضاء والقدر ؛ فإن ذلك من عزائم الحقيقة والمعرفة ، وأيضا : واصبر على ما أصابك من لطائف كشف جماله وحقائق أنوار ذاته وصفاته ، ولا تفش تلك الأسرار بالغلبة والسكر حين يظهر الشّطّاح السكران دعوى الأنائية ، فإن كتمانها من عزائم أهل الصحو في المعرفة.

قيل : الأمر بالمعروف الدلالة على الرشد ، والنهي عن المنكر المنع عن الغي.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

قوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : إن العارف إذا شرب من بحر الوحدانية شربة فرح بوجه الحق وكاد أن يتبختر بالعز والكبرياء من صولة الحال ، فيؤدبه الله بأن يلقي عليه عزة الوحدة ، فيفنيه تحت أنوارها حتى يخرجه من حد السكر إلى حد الصحو ؛ فتكون خطواته خطوات أهل التمكين لا خطوات أهل التلوين ، وكل مريد يشرب

١٢٢

من سواقي صفاء العبودية شربة تفرحه بفرحة الوقت وصفاء الذوق ، فيهيجه إلى الزفرات والشهقات ، ولا يجوز ذلك له ؛ فإن أصواته ممزوجة بخطوات الطبيعة ، مخلوطة بهواجس النفسانية ، فإذا صاح صارت صيحته صيحة الطبيعة لا صيحة الحقيقة ؛ لذلك نهاه الله بقوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩).

قال سفيان الثوري : صوت كل شيء تسبيح إلا صوت الحمير ؛ فإنها تصيح لرؤية الشيطان ؛ لذلك سماه الله منكرا.

وقال الأستاذ في قوله : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : كن فانيا عن شواهدك ، مصطلما عن حولك ، مأخوذا عن قوتك وحولك ، منتسقا بما استولى عليك من كشوفات سرّك ، وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من حمار غفلتك : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) في الإشارة أنه يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحق.

وقالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) : النعمة الظاهرة : الخلق الحسن ، والخلق الحسن ، والأدب الحسن ، والظرف ، والهيئة اللطيفة ، ومتابعة السنة ، والاجتناب عن المعصية ، والتواضع في أولياء الله ، والعبادة الصافية ، والعافية والصحة والسلامة ، وأن تكون مكسوا بشمل نور الروحانية والربانية ، والنعمة الباطنة : الفطرة السليمة ، والاستعداد لقبول الغيب والعقل الكامل والفطنة والذكاء والحكمة والفهم وطمانينة النفس وصفاء الروح ، واتصال الذكر على الدوام والإيمان والإيقان والعرفان والإخلاص والتوحيد ، وثمرات هذه الأشياء الوجد والحال والمراقبة والأنس والحياء والمحبة والشوق والعشق ، فإذا بلغ الرجل إلى هذه المراتب يهيئ الله له بالظاهر مجالسة الأولياء مع السماع بصوت طيب وموضع طيب فيه وجه حسن ، والطيب والريحان بلا كدورة ولا فترة ولا صحبة الأضداد ، ويلقي في قلبه بروق نيران الأشواق المهيجة لسره إلى مواصلة الحق بنعت المحبة والأنس ، فهو ممن أسبغ الله عليه نعمه الظاهرة والباطنة.

قال بعضهم : النعم الظاهرة العافية والأمن ، والنعم الباطنة الرضا والغفران.

١٢٣

قال الجنيد : النعم الظاهرة الأخلاق ، والنعم الباطنة المعرفة.

قال أبو بكر الوراق : النعم الظاهرة استواء الخلق ، والنعم الباطنة حسن الخلق ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : «اللهمّ كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي» (١).

قال بعضهم : النعمة الظاهرة اتباع ظاهر العلم ، والنعمة الباطنة طلب الحقيقة في الاتباع.

وقال الأستاذ : النعمة الظاهرة نفس بلا ذلة ، والباطنة قلب بلا غفلة.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦))

قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : من بذل وجوده لوجدان وجود الحق سبحانه وهو يعرفه وتكون معرفته مستفادة من مشاهدته لا بتقليد العلم والأدلة العقلية فقد استمسك بعروة المحبة الأزلية لا يتكدر بعلل الحدثان ، والإحسان مشاهدة الربوبية في العبودية ، والعروة الوثقى المحبة المتصلة بالألوهية.

قال سهل : من يخلص دينه لله ويحسن آداب الإخلاص ، وقال العروة الوثقى هي السنة.

وقال أبو عثمان : العروة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أيضا : هي كتاب الله وسنة رسوله.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) : افهم كيف تنفد كلمات الحق وكلماته الأزلية السرمدية وللعارف بكل نفس منه من الحق سبحانه بالمثل ألف خطاب ، ولا ينقطع عنه خطابه أبدا ، ولكل خطاب له وجد وله

__________________

(١) رواه ابن حبان في الصحيح (٣ / ٢٣٩) ، والديلمي في الفردوس (١ / ٤٨١).

١٢٤

كشف وعيان وبيان وبرهان ولسان وعلم وحكمة وعمل وإخلاص وعجز وإدراك.

قال ابن عطاء : كلماته علم كتابه وعجائب حكمته.

وقال أبو سعيد الخراز : كلام الحكماء لا ينقطع عن عيون الحكمة كما أن ماء العين لا ينقطع عن عينه ؛ لأن حكم الحكيم تلقين من رب العالمين من خزائنه ، وخزائنه لا تنفد ، ألا تراه يقول : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ)!

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠))

قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) : بيّن سبحانه أن وجوده الأزلي لا يتغير بوجود الخلق وعدمهم ، وقدرته شاملة للإيجاد والإعدام.

قال أبو سعيد الخراز : ليس على الحق أثر من الكون من إيجادهم وعدمهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣))

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) الصبّار : من اتصف بصفة صبره ، والشكور : من اتصف بصفة شكره ؛ لأنه بصفات صبره وشكره يحتمل بلاءه ويشكر نعمه ، والصبار : من كان الصبر له مقاما ، وكذلك الشكور لا أن يكون هما له خطرات ، بل يكونان له وطنات.

قال أبو حفص : الصبّار الذي لا يغيره تواتر المحن والبلايا عليه ، ولا يورثه ذلك جزعا ولا شكوى.

وقال أبو عثمان : الصبّار الذي عوّد نفسه للهجوم على المكاره.

وقال ابن عطاء : الشكور الذي يكون شكره على البلاء كشكره على النعماء.

١٢٥

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : لله علوم ، منها عامّ ، ومنها خاصّ ، ومنها خاص الخاص ، فالعلم العام : علم الشريعة ، وعلم الخاص علم الحقيقة ، وعلم خاص الخاص علم السر ، وهو علم الغيب ، ومن علم الغيب ما يطّلع عليه الأنبياء والأولياء والملائكة بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، ومنه ما استأثر لنفسه لا يطّلع عليه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل بقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ، ومنه أيضا علم الساعة ، وهذه الآية برمتها ، أما الساعة خاصة سرّها عن جميع الخلق حتى أكد الأمر بقوله : (أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] ، إلا أن أماراتها بانت من لسان صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه ، ولا تخفى هذه الأمارات إلى وقوع الساعة على بعض أولياء أمته ، حتى قال يوسف بن الحسين رحمة الله عليه : علمت متى ينزل عيسى عليه‌السلام ، ومن أي قبيلة يتزوج.

وأما قوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) : لا يعلم أحد في أي لحظة ينزل ، ولكن كثيرا ما سمعت من الأولياء يقول : يمطر السماء غدا أو ليلا فيمطر ، كما قال : كما سمعنا أن يحيى بن معاذ كان على رأس قبر ولي وقت دفنه ، وقال لعامة من حضروا إن هذا الرجل من أولياء الله إلهى إن كنت صادقا فأنزل علينا المطر ، قال الراوي : فنظرت إلى السماء وما رأيت فيها راحة سحاب فأنشأ الله سبحانه سحابة مثل ترس فمطرت فرجعنا مبتلين.

قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) : وسمعت أيضا من بعض أولياء الله أنه أخبر ما في الرحم من ذكر أو أنثى ، ورأيت بعيني ما أخبر ، ولكن الله سبحانه يطلع على ما في الرحم ، بل ماء الرجل والمرأة أي : شيء يخلق منه حين نزل ولا يعلمه غيره ، وربما سمعت حديث واقعة الغد منهم قبل المجيء ، وبما قالوا أني أموت بموضع كذا ، ومنهم أبو الغريب الأصفهاني ـ قدس الله روحه ـ مرض في شيراز في زمان الشيخ أبي عبد الله بن حنيف ـ قدس الله روحه ـ وقال : إذا مت في شيراز فلا تدفنوني إلا في مقابر اليهود ؛ فإني سألت الله أن أموت في طرطوس ، فبرئ ومضى إلى طرطوس ومات بها رحمة الله عليه.

وقال القاسم في قوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) : من كافر ومؤمن ومطيع وعاص ، وهذا دليل على أن الله يعرف الأشياء بالوسم والرسم ، الرسم يتغير ، والوسم لا يتغير.

١٢٦

وقال سهل في قوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) : ما له في الغيب من المقدور له وعليه.

وقال في قوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي : على أي حكمة تموت من السعادة أو الشقاوة (١) ، والله أعلم.

* * *

سورة السجدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))

(الم) (١) : الألف إشارة إلى الإعلام ، واللام إشارة إلى اللزوم ، والميم إشارة إلى الملكة ، أعلم من نفسه أهل الكون ، وألزم العبودية عليهم ، وملكهم قهرا وجبرا حتى عبدوه طوعا وكرها ، فمن علم وقع في الاسم ، ومن عبد وقع في الصفة ، ومن تسخر لمراده كما أراد وقع في نور الذات ، وعلى هذا من الله سبحانه تنزيل كتابه أنزل على عبده إشارة للخصوص وعبارة للعموم بقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) ، لا يتعلل بعلل الكون.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦))

قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٤) : أفرد نفسه لعباده بأنه لهم ولي ولا شفيع ، لا غير حتى لا يلتفتوا إلى الأسباب ، ثم ينبههم بحقيقة ذلك فقال : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ.)

قال القاسم : أو لا تنبهون أن من أسقطته الملك لا يصلح لخدمة الملك ، ثم بيّن سبحانه

__________________

(١) أي : أين تموت ، فربما أقامت بأرض ، وضربت أوتادها ، وقالت : لا أبرحها ، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يحطر ببالها. البحر المديد (٥ / ٤٥).

١٢٧

أن أمر العباد في العبودية يكون بمشيئته وإرادته لا لغيره مدخل في تدبير العباد بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ، ينزل الوحي إلى حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة أخيه جبريل عليه‌السلام لنظام الشريعة وانتظام الحقيقة والطريقة لا لطبع البشر ومقالة أهل البدع ، فيه أثر والإشارة فيه أن تدبير العباد عند تدبيره لا أثر له إذا أراه العباد في قضائه وقدره منفسخة ؛ إذ تدبيره إرادته وإرادته مشيئته المقرونتان بالعلم الأزلي الذي لا يشوبه علل الحدثان.

قال سهل : طوبى لمن رزق الرضا بتدبير الله له ، وأسقط عنه سوء تدبيره ، ورده إلى حال الرضا بالقضاء والاستقامة في جريان المقدور عليه أولئك من المقربين.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢))

قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) : أوجد الأشياء بأمره ، وألبسها نور أمره ، وأحسن خلقها بحسن فعله ، لا يدخل نقص القبح في أفعاله ؛ لأنه أحكمها وركبها ودبرها بعلمه الأزلي وجلاله الأبدي ، ولا يرجع إليه علة فالقبيح قبيح من جهة الامتحان ، وحسن من حيث صدر من أمر الرحمن ، ذكر الحسن في جميع الأشياء ، ولم يذكر ههنا في الإنسان ، ثم قال : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٧) ، وهو معدن الخصوصية المستعدة لمباشرة صفته بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، ثم ذكر تسويته بكمال الصفة بقوله : (ثُمَّ سَوَّاهُ) : سوّاه بتجلي أنوار جميع صفاته حتى صدرت صورة آدم من الغيب منعوتا بأنوار الصفات ومتصفا بسناها ، ثم ذكر أخصّ الخصائص ، وهو ما سقط من حسن تجلي ذاته في صورته بقوله : (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) ، حتى يكون مجموعها مشكاة أنوار الذات والصفات ، ويفيض الحسن من آدم إلى العالم ؛ لأنه المعدن الثاني من الحسن ، والمعدن الأول من الحسن حسن الأزل ، فأي حسن يبقى في حسن آدم وذريته ، ذكر حسن الأشياء ، ولم يذكر ههنا حسن غيره ؛ لأنه موضع محبته واختياره الأزلية ، كقول القائل :

وكم أبصرت من حسن ولكن

عليك من الورى وقع اختياري

قال الواسطي في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي : روح اخترته على الأرواح ،

١٢٨

وهو روح مكنه من صحبته وآثر قربه.

وقال أيضا : الجسم يستحسن المستحسنات ، والروح واحدية فردانية ، لا يستحسن شيئا لسقطه أبدا.

وقال ابن عطاء في قوله : (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) : قوّمه بفنون الآداب ، ونفخ فيه الروح الخاص الذي فضّله على سائر الأرواح لما كان له عنده من محل التمكين ، وما كان فيه من تدبير الخلافة ومشافهة الخطاب (١).

قال الأستاذ : أحسن صورة كل أحد ، فالعرش ياقوتة حمراء ، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، وجبريل طاوس الملائكة ، والحور العين كما في الخبر من جمالها وشكلها ، والجنان كما في الأخبار ونص القرآن ، فإذا انتهى إلى الإنسان قال : (خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ، ولكن (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة : ١١٩] ، و (خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ، ولكن قال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.)

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) : قطع مشيئة الخلائق عن مشيئة الأزل ، ولو أراد أن يكون كلهم عارفين به يكون ؛ ولكن وقع خاصية الأنبياء والأولياء بنعت الاصطفائية من إرادته ، ووقع الأضداد من إرادته سابق لطفه لأهل لطفه ، وسابق قهره لأهل قهره.

قال ابن عطاء : لو شئنا لوفقنا كل عبد لطلب من مرضاتنا ، ولكن حق القول بالوعد والوعيد ليتم الاختيار.

وقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣) : إن جهنم فم قهره انفتح ليأخذ نصيبه ممن له استعداد مباشرة القهر ، كما أن الجنة فم لطفه ، انفتح ليأخذ من له استعداد مباشرة لطفه ، فاللطيف يرجع إلى اللطيف ، والكثيف يرجع إلى الكثيف ، لذلك مضى القسم في الأزل في الوعيد ؛ لأن الحدث لا ينفك عن حظ القدم فالعارف الصادق إذا

__________________

(١) أضافه إلى نفسه ، تشريفا ، إشارة إلى أنه خلق عجيب ، وأن له شأنا ومناسبة إلى حضرة الربوبية ، ولذلك قيل : من عرف نفسه عرف ربه. وقد تقدم في سورة الإسراء ، في الكلام على الروح ، وجه المعرفة منه. البحر المديد (٥ / ٥١).

١٢٩

كان في جهنم فإن جهنم له مأوى قهره ، وقهره مأوى لطفه ، ولطفه مأوى أنوار جوده وجوده ، مأوى أنوار وجوده فيرى مقصوده في العذاب كما كان أيوب عليه‌السلام يرى رؤية المبلي في بلائه.

سئل الشبلي عن هذه الآية ، فقال : يا رب أملأها من الشبلي ، واعف عن عبيدك ليتروح الشبلي بتعذيبك كما يتروح جميع العباد بالعوافي.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥))

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) : وصف الله سبحانه أهل معرفته الذين إذا سمعوا خطابه سقطوا على وجوههم في جناب كبريائه وعظمته حبّا له وشوقا إليه ، ولا يكون هذا إلا وصف الوالهين من عشقه ، الصادقين في توحيده ومعرفته.

قال القاسم : إذا وعظوا بها خرّوا سجّدا عند أوقاته ، وذلك صفة المؤمنين ، ومن أبى ذلك في أوقاته لا يلحقه اسم الإيمان ولا وسمه.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) : وصف سبحانه أهل ودّه ومحبته وعشقه وشوقه الذين إذا ناموا ناموا بالحق من كمال سكرهم ، وإذا انتبهوا من ركضة آلام حزن فوت وصاله ولذيذ مناجاته ، فانصرفت جنوبهم عن مضاجعهم بغير اختيارهم كأن الأرض ألقتهم من نفسها ، وذلك مما ينكشف لهم من أستار الملك والملكوت ، ويظهر لهم أنوار مشاهدة الحق ويفتح لهم أبواب قربه ووصاله ، ثم زاد في وصفهم بقوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) ؛ خوفا من هجرانه وإجلالا لجلاله وطمعا في وصاله ، (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) : يعني يبذلون أرواحهم وأشباحهم لله ، ثم ذكر ما يجازيهم من جمال قربه وكشف لقائه بقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) : قرة أعينهم أنوار جماله وجلاله ، وذلك جزاء احتراقهم في حبه بقوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.)

قال سهل في قوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) : إن الله وهب لقوم هبة ، وهو أن أذن لهم في مناجاته ، وجعلهم من أهل وسيلته وصفوته وخيرته ، ثم مدحهم على ذلك إظهارا لكرامته بأن وفّقهم بما وفّقهم له فقال : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ.)

وقال ابن عطاء : جفت جنوبهم وأبت أن تسكن على بساط الغفلة ، وطلبت بساط

١٣٠

القربة والمناجاة ، وأنشد :

جفّت عيني عن التغميض حتّى

كأنّ جفونها عنها قصار

كأنّ جفونه سملت بشوك

فليس لنومه فيها قرار

أقول وليلتي تزداد طولا

أيا ليلي لقد بعد النّهار

وقال جعفر : خوفا منه وطمعا فيه.

وقال بعضهم : خوفا من القطيعة وطمعا في الوصلة.

وقال ابن عطاء : قرت أعينهم بما سبق لهم من حسن الموافقة مع ربهم.

وقال سهل : قرت أعينهم بما شاهدوا من ظاهر الحقائق وباطنها الذي يكشف لهم من علم المكاشفة مراده ، وتمسكوا به ، فقرت بذلك أعينهم ، وسكنت إليه قلوبهم.

وقال الجنيد : تجافت جنوب العارفين عن أنفسهم ، وتقطعت قلوبهم للحق ، وجنبت أسرارهم بالصدق.

قال محمد بن علي الباقر : تجافت جنوب الزهّاد من نعيم الدنيا لما وجدوا من حلاوة نعيم العقبى وجنوب العارفين عن التدبير والاختيار ؛ فاستقروا على أحكام الرضا.

وقال ابن عطاء : أخفى لهم من مبارزة ما تعجز النفوس عن التفكر فيها فلن تأملها.

قال الأستاذ : أما الأحباب فالليل لهم إما طرب في التلاقي أو هرب الفراق ، فإن كانوا في أنس القربة فليلهم أقصر من اللحظة ، كما قالوا بوصال مجدد ووداد :

زارني من هويت بعد بعاد

بوصال مجدد وودادي

وإن كان الوقت وقت مقاساة فرقة وانفراد بكونه فليلهم طويل كما قالوا :

كم ليلة فيك لا صباح لها

أفنيتها قابضا على كبدي

قد عصت العين بالدموع وقد

وضعت خدّي على بنان يدي

وقال قوم : خوفا من العذاب وطمعا في الثواب.

وآخرون : خوفا من الفراق وطمعا في التلاقي.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨) : أفمن كان

١٣١

عارفا بذاته وصفاته كمن كان جاهلا بجلاله وقدرته ، لا يستويان أبدا كما لا يستوي البصير والأعمى.

قال ابن عطاء : من كان في بصيرة الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمات الفسق والطغيان.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣))

قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) : العذاب الأدنى حرمان المعرفة ، والعذاب الأكبر الاحتجاب عن مشاهدة المعروف ، وأيضا العذاب الأدنى المعرفة ، والعذاب الأكبر النكرة.

وقال بعضهم : العذاب الأدنى الهوان ، والعذاب الكبر الخذلان.

قال أبو الحسن الوراق : العذاب الأدنى الحرص في الدنيا ، والعذاب الأكبر هو أن يعذبه الله عليه.

وقال بعضهم : العذاب الأدنى التعب في طلب الدنيا ، والعذاب الأكبر شتات السر.

قال الأستاذ : العذاب الأدنى وقفة في سلوكهم ، والأكبر حجبه عن مشاهدة مقصودهم ، قال قائلهم :

أدّبتني بانصراف الطرف يا ثقتي

فانظر إليّ فقد أحسنت تأديبي

ويقال : العذاب الأدنى الخذلان في الزلة ، والأكبر الهجران في الوصلة.

ويقال : العذاب الأدنى تكدر مشاربهم بعد صفوها ، كما قالوا :

لقد كان ما بيني زمانا وبينه

كما بين ريح المسك والعنبر الورد

والعذاب الأكبر لهم تطاول أيام العذاب من غير تبين آخرها وبقاء ضرهم ونفاد صبرهم وقيام قيامتهم ، كما قالوا :

تطاول عهدنا بالأمر حتّى

لقد نسجت عليه العنكبوت

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا

١٣٢

يَسْمَعُونَ (٢٦))

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : لما شاهدوا جلالنا وجمالنا عيانا بنعت المعرفة والمحبة ، وصبروا فيما وجدوا من كشف الذات والصفات وما أفشوها عند الأغيار ، جعلناهم أئمة المعارف والكواشف ، يمدون طلابي إليّ بنوري.

قال أبو عثمان : لما صبروا على حقوق العبادة.

وقال أيضا : لما صبروا مع الله في جميع الأحوال.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) : سوق مياه معرفته من بحار تجلي جلاله إلى أرض القلوب الميتة الجرزة (١) ؛ فينبت به فيها نرجس الوصلة وياسمين المودة ورياحين المؤانسة وبنفسج الحكمة وزهرة الفطنة ، وورد المكاشفة وشقائق الحقيقة.

قال ابن عطاء : تصل بركات المواعظ إلى القلوب القاسية المعرضة عن الحق فتتعظ بتلك المواعظ.

قال الأستاذ : الإشارة منه تسقى حقائق وصلتهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها ، فيعود عودها مورقا بعد ذبوله حاكيا بحاله حال حصوله.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ) : فأعرض عنهم حين لا يكونون في عينيك من أهل المعرفة ، وأقبل علينا لتستأنس بمشاهدتنا عن مشاهدة الأغيار ، (وَانْتَظِرْ) كشوف جلالنا لك وتخليصك من شرهم ، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠) : الحجاب والعتاب والهجران والعذاب.

قال بعضهم : لا تشغل سرك بهم ، وانتظر بركات الموارد عليك من أنواع الكرامات إنهم منتظرون منا المقت والبعد.

قال الأستاذ : أعرض عنهم باشتغالك بنا وإقبالك علينا وانقطاعك إلينا ، وانتظر زوائد

__________________

(١) يعني : اليابسة الملساء التي ليس فيها نبات ، يقال : أرض جرز أي : أرض جدب لا نبات فيها ، يقال جرزت الجراد إذا أكلت ، وتركت الأرض جرزا. بحر العلوم للسمرقندي (٣ / ٣٨٦).

١٣٣

وصلنا وعوائد لطفنا ؛ إنهم منتظرون هواجم مقتنا ، وخفايا مكرنا ، وعن قريب يجد كل منتظر محتضر.

سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) : كان عليه الصلاة والسلام ألطف خلق الله من الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين ، وأعرفهم به ومن كمال معرفته طار بجناح الربوبية في الربوبية ، وشاهد مشاهد الألوهية ففي كل شهود له منها لذة وحلاوة كادت توقفه عن طيرانه من جلال لذتها فخوفه الله من نفسه أن يحتجب به عنه فينقطع عن سفر الآزال إلى الآباد.

وقال ابن عطاء : أي أيها المخبر عني خبر صدق والعارف في معرفة حقيقة اتق الله في أن يكون لك التفات إلى شيء سواي.

قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) : عرّفه مكان الوحي منه إليه معرفة حقيقة لا معرفة إبهام ، فإن من موجبات معرفة الوحي ألا يكون للنفس والقياس فيه سبيل ولا يدخل فيه حظ النفس بحال بل فيه اتباع حقيقي بلا اعوجاج ولا اضطراب.

وقال سهل : قطعه بذلك عن اتباع أعدائه ، وأمره بالاتباع في كل أحواله ؛ ليعلم أن أصح الطريق شريعة الاتباع والاقتداء.

وقال الأستاذ : أي : أيها المشرق حالا المفخّم قدرا منا ، المعلى رتبة من قبلنا ، يأيها المرقّى إلى أعلى الرتب الملقى بأسنى القرب ، يأيها المخبر عنا المأمون على أسرارنا المبلّغ خطابنا إلى أحبابنا : اتق الله أن تلاحظ غيرنا معنا ، وتستأنس شيئا من دوننا.

وقال في قوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) : اتبع ولا تبتدع ، واقتد بما أمرك ، ولا تبتدئ باختيارك غير ما اختياره لك.

قوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي : توكل عليّ فيما أجزيك بمشاهدة وصالي ، وحلاوة رؤية جمالي أن تبقى فيها ؛ فإني أبلغك منك ومما تخدمني إليّ أبدا إلى محل الكمال ، ولا تقرع من غشيان غمار بحار البلاء فإن المبلى معك في البلاء.

١٣٤

قال ذو النون : التوكل التفويض لأمر الله.

وقال بعضهم : اعتمد على من دعاك إليه وضمن لك الكفاية ، وكّل إلى الله أمرك وكفى بالله وكيلا.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : إن الله سبحانه أخبر أن القلب واحد لا يحتاج إلى قلب سواه ، فإن القلب خلق على استعداد قبول وقائع أنوار جميع الذات والصفات ، وفيه عقل قدسي يعرف الأشياء بحقيقتها ، ونفس هي مجرى الأقدار الفعلية القهرية من الله ، وفيه روح لطيف قدسي مخاطب من الله بجميع طرق المعارف ، وفيه سر هو مرآة كشوفات الغيب ، فإذا هدي القلب ميادين ربوبية الأزل والأبد لا يحتاج إلى شيء سواه ؛ فإنه الكون الأصغر بالصورة ، وفي المعنى الكون الأكبر ومن عرفه فقد عرف الحق ، وعرف ما دونه من العرش إلى الثرى ، فالقلب الحقيقي ما لم يكن بينه وبين الحق حجاب ولا يكون شغله بشيء سوى الله.

قال الصادق : قلب يرى به أمور الدنيا وقلب يعلم أمور الآخرة وذو القلب الصحيح السليم من كان قلبه حرّا من الاشتغال بشيء سوى الحق.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) : ما صدر من الحق فهو حق حقيقي لا يشرب بشيء من الحدثان من الهواجس والوسواس ، وهو يهدي بنفسه العارف إلى سبيل معرفة الصفات ، ثم إلى طرق معرفة الذات.

قال جعفر : والله يقول الحق ؛ لأنه الحق ، ومنه بدت الحقائق وكلامه حق.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : نفس المؤمن تطلب حظها والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب حظ الله من أنفسهم ، وحظ الحق منهم أولى من حظ أنفسهم فيهم.

١٣٥

قال سهل : من لم ير نفسه في ملك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم ير ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع الأحوال لا يذوق حلاوة سنته بحال ؛ لأن النبي هو الأولى بالخلق من أنفسهم وأموالهم ، ألا ترى الله يقول : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين» (١).

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) : الميثاق الغليظ الذي أخذ الله من الأنبياء ميثاق المحبة ألا يشتغل أحد منهم بغيره من العرش إلى الثرى ، ويوافق بعضهم بعضا فيما أخبر الحق بلسانهم من نفسه ، فأخذ الميثاق من الجميع بالوسائط ومن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفاحا بلا واسطة ، بيّن فضله على الجميع ، ثم بيّن فضل شيخ الأنبياء وفضل الخليل والكليم وعيسى عليهم‌السلام.

وقال بعضهم : أخذ ميثاق النبيين بالعموم على لسان السفر والوسائط ، وأخذ ميثاق الرسول مشافهة بلا واسطة ، فأظهر الأنبياء مواثيقهم لعمومها ، وأخفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميثاقه ؛ لأنه في محل الخصوص ، فأخبر الله عنها كفاية بقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبا وقال : «لو تعلمون ما أعلم» (٢) ، كذلك مواثيق خصائص الأحباب يكون سرّا لا يطّلع عليهم سواهم.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا

__________________

(١) ذكره ابن كثير في التفسير (٢ / ٣٠٢).

(٢) رواه البخاري (١ / ٣٥٤) ، ومسلم (٢ / ٦١٨).

١٣٦

بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) : إن الله سبحانه أراد بذلك السؤال أن يعرّف الخلق شرف منازل الصادقين ، فربّ قلب يذوب من الحسرة حيث ما عرفهم وما عرف قدرهم.

قال الله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [التغابن : ٩] ، ولصدقهم استقامت أسرارهم مع الحق في مقام المحبة والإخلاص.

قال القاسم : لا سؤال أصعب من سؤال الصادق عن صدقه ؛ فإنه يطالب بصدق الصدق ، وعجز المخلوق أجمع عن الصدق ، فكيف يبحث عن صدق الصدق؟!

قال الواسطي : الباطن منه أن يسألهم عن التوسل إلى من لا وسيلة إليه إلا به ، عندها تذوب جسومهم ، وينقطع آمالهم ، وصار صدقهم كذبا ، وصفاؤهم كدرا ، واستوحشوا من مطالعته فضلا عن التزين به وذكره.

قال سهل : يقول الله تعالى لهم : عملتم وماذا أردتم؟ فيقولون : لك عملنا ، وإياك أردنا.

فيقول : صدقتم. فوعزته لقوله لهم في المشاهدة صدقتم ألذ عندهم من نعيم الجنة (١).

__________________

(١) التّغابن : فاعل من الغبن في البيع والشراء على الاستعارة ، وهو أخذ الشيء بدون قيمته.

وقيل : الغبن : الإخفاء ، ومنه غبن البيع لاستخفائه ، والتفاعل هنا من واحد لا من اثنين ، ويقال : غبنت الثوب وخبنته ، أي : أخذت ما طال منه من مقدارك : فهو نقص وإخفاء. انظر : اللباب لابن عادل (١٥ / ٣٠٨).

١٣٧

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢))

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : أسوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة المحبة ، وقدوة الشوق ، وطريق المعرفة التي يبلغ المقتدي إلى الحق بلا حجاب وإلى محبته الكبرى ، لقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ.)

قال محمد بن علي : الأسوة في الرسول الاقتداء به والاتباع بسنته وترك مخالفته في قول وفعل.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣))

قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا) : إن الله سبحانه وصف العارفين بالرجولية في حمل أمانة الأزل ، وعرض الأكبر عاهدوا الله ألا يختاروا شيئا من العرش إلى الثرى ، وصدقوا عهدهم ، وبلغوا إلى منازل الأمن : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، فمن بقي في سيره ولم يصل إلى الوصال وهن في عزم وفاء العهد فهو منتظر لتمام سعيه واستيفاء حظه من الله ، ومن معرفته وخدمته ، ومراقب لكشف جمال الحبيب ، ليأخذ يده ويبلغه إلى مراده من مشاهدته ، ليس المنتظر أقل درجة ممن قضى نحبه ؛ فإنهم كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره.

قال محمد بن علي : خص الله الإنس من بين الحيوان ، ثم خص المؤمنين من الإنس ، ثم خص الرجال من المؤمنين ، فقال : (رِجالٌ صَدَقُوا) ، فحقيقة الرجولية الصدق ، ومن لم يدخل في ميادين الصدق فقد خرج من حد الرجولية.

قال بعضهم : منهم من يبذل وسعه ومجهوده في الطاعة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) التوفيق من ربه ، (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣) : ما غيروا عن محبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تغيرا.

أو قيل : ما استعانوا بغيره في مهماتهم بعد أن ضمن الله لهم الكفاية في كل الحوائج.

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ

١٣٨

فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) : لما صدقوا في عهدهم يجازيهم الله بأن يزيد صدقهم في محبته ، ويزيد صدقهم في شوقه ، ثم يزيد صدقهم في عشقه ومعرفته هذا في الدنيا ، ويجازيهم مشاهدته وكشف جماله في الآخرة.

قال الأستاذ : يجزي الله الصادقين في الدنيا بالتمكين والنصرة على الأعداء ، وفي الآخرة بجميل الثواب وجزيل المآب.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢))

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) أي : ومن يقنت لله لحب لقائه وللرسول لحقوق صحبته ، والإيمان به ، ومتابعته ، والعمل الصالح ألا يطلبن الدنيا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) الأولى : من الأجر حب الرسول لقاءهن ، وأجر الآخرة كشف مشاهدة الله ، وحسن جواره ، والرزق الكريم ظهور مشاهدته لهن على الدوام بلا حجاب.

قال ابن عطاء : من يختار صحبة الرسول منهن على الدنيا فهي من القانتات ، وهي التي تخضع للرسول وتذل له ولا تخالفه وتعمل صالحا وتتبع مراد الرسول فيما يريده.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

١٣٩

تَطْهِيراً) (٣٣) : الرجس ههنا حيث ما دون الله في صحبة رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهن مخصوصات بالصديقية من الله سبحانه ، وهن مقدسات حيث قدس الله أرواحهن وأشباحهن بنظر الاصطفائية إليهن في إنشائهن.

قال أبو بكر الوراق : الرجس الأهواء والبدع والضلالات (وَيُطَهِّرَكُمْ) من دنس الدنيا والميل إليها.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) : المنقادين لأمر الله بحسن الإرادة ، (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : المشاهدين حضرته بنعت الإيقان ، (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) : القانتين هم المتمكنون في العبودية ، (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) : الصادقين في محبة الله المتصفين بصدقه الأزلي الذي لا يتكدر بطريق الامتحان ، (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) : الصابرين في الغيبة تحت أثقال الشوق ، والصابرين في الحضرة في مشاهدة الله تحت جريان سطوات عزته ، بألا يبتغوا من الحق سر القدم من حدة السكر كما فعل موسى حيث قال : من مني أنت يا رب ، (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) : المذابين تحت سلطان عظمته وقهر سلطان كبريائه ، (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) : المباذلين أنفسهم لقربان القدم ، (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) : الفاطمين أنفسهم عن النظر إلى ما دون الله وحب ما سوى الله ، (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) : الساترين عورات الحقائق عن نظر الأغيار ، (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) : الذاكرين في البداية بنور الأفعال ، ثم الذاكرين بالأسماء ، ثم الذاكرين بالنعوت ، ثم الذاكرين بالصفات بنعت رؤية أنوارها ، وإدراك أسرارها ، وفي النهاية الذاكرين الذات في الحالين ذاكرين الذات قبل مشاهدة الذات صرفا وعيانا ، وذلك ضمن ظهور أنواره في قلوبهم ، الذاكرين ذاته في عيانه كفاحا ؛ لأن الذات لا يتناهى ، فهم في أول الكشف مرهونون بما بدا لهم من جلال ذاته ويفنون ، فإذا فنوا استغاثوا

١٤٠