تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِ) بيّن أن مراد الحق سابق على كل مراد لا تتغير سوابق مقاديره ، فإذا جاء ما قد يظهر حقيقة القضية الأزلية.

قال الواسطي : من ذكر القسمة ، وما جرى له في السبق ينقطع عن السؤال والدعاء ، ويعلم أن المقضي كان من الحق وبالحق.

قوله تعالى : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) آياته أنبياؤه وأولياؤه ، وهم أعظم الآيات ، إذ يتجلى الحق من وجوههم بنعت العزة والكبرياء للعالمين ، وأي منكر أعظم ممن ينكر على هذه الآيات الساطعة ، والبراهين الواضحة.

قال سهل : أظهر آياته في أوليائه ، وجعل السعيد من عباده من صدقهم في كراماتهم ، وأعمى أعين الأشقياء عن ذلك ، وصرف قلوبهم عنهم ، ومن أنكر كرامات الأولياء ؛ فإنه ينكر قدرة الله ، فإن القدرة تظهر على الأولياء بالآيات لا هم بأنفسهم يظهرونها ، والله يقول : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) (٨١).

قوله تعالى : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) بيّن الله سبحانه أنه لا ينفع إيمان المنكرين أولياءه وأنبياءه عند معاينة جزاء إنكارهم ؛ فإنه بجلاله وعزته منتقم لأوليائه من أعدائه.

قال سهل : السنة مشتقة من أسماء الله : السين سناء الله ، والنون نور الله ، والهاء هداية الله ، بقوله : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي : فطرة الله التي جبل عليها خواص عباده هداية منه لهم ؛ فهم على سنن الطريق الواضح إليه.

سورة فصلت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣))

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : معنى الحاء والميم أن هذا الخطاب وهذا التنزيل من الحبيب الأعظم إلى المحبوب الأعظم ، وأيضا هو قسم أي : بحياتي ومجدي هذا التنزيل نزل من عين الرحمانية الرحيمية الأزلية الأبدية ، نزل برحمتي على عبادي ومحبتي لهم ، وأيضا بحياتك ومشاهدتك يا حبيبي ويا محبوبي هذا تنزيل أنزلت إليك بالرحمة

٢٤١

والكرم عليك وعلى أمتك.

قال سهل في قوله : (حم) : قضى في اللوح المحفوظ وكتب فيه ما هو كائن.

وقال الأستاذ : أي : بحقي وحياتي ومجدي في ذاتي وصفاتي إن هذا تنزيل من الرحمن الرحيم.

(بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤))

قوله تعالى : (بَشِيراً وَنَذِيراً) : بشيرا لمن أقبل إلى الله بنعت الشوق ، وطلب معرفة جلاله وجماله ، وكشف لقائه أن مأمولهم حصل لهم ، ونذيرا لمن أعرض عنه ، وأقبل إلى نفسه ، وينظر إلى طاعته ومعاملته ، وأيضا بشيرا للأولياء بنيل المقامات ، ونذيرا لهم يحذرهم من المخالفات لئلا يسقطوا من الدرجات.

قال محمد بن علي : بشيرا بمطالعة الرجاء ، ونذيرا بمطالعة الخوف.

وقال سهل : بشيرا للعاصين بالغفران والشفاعة ، ونذيرا للمطيعين ؛ ليستعملوا آداب السنن في طاعتهم.

قال الأستاذ : بشيرا لمن اخترناهم واصطفيناهم ، ونذيرا لمن أغويناهم وعن شهود آياتنا أعميناهم.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥))

قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي : قلوبنا في أكنان قهريات الأزليات وفي بطش جبروت العظمة ألقتها في غيابات الغيّ وظلمات الريب ، وأبعدتها عن مشاهدتك وما أخبرتنا من أحكام العبودية وأنوار الربوبية ، وفي آذاننا وقرا لضلالة وغشاوة الغفلة ، لا تسمع خطاب الخاص بفهم الخاص وسمع الخاص ، وبيننا وبينك حجاب الشقاوة وغطاء الغباوة والغواية.

قال سهل : أي : قلوبنا في أغطية الإمهال ، فمالت إلى الشهوة والهوى ، ولم تسمع داعي الحق ، وفي آذاننا وقر أي : بها صمم من الخير ، ولا يسمع هواتف الحق.

وقال بعضهم : قلوبهم في حجاب من دعوة الحق ، وأسماعهم في صمم من نداء الحق ، كلّت ألسنتهم عن ذكر الحق ، وجعل بينهم وبين الحق حجاب الوحشة ، وهو الحجاب الذي لا يرفع أبدا.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ

٢٤٢

وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

قوله تعالى : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي : استقيموا في إقبالكم إليه بنعت التفريد عن الأكوان والحدثان وعن وجودكم ، واصبروا في ساحة كبريائه حين شاهدتم أنوار عظمته وجلاله حتى يجري عليكم أحكام الفناء في بقائه وقميص الاستقامة لم يحظ للحدثان ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استقيموا ولن تحصوا» (١) ، وقال «شيّبتني هود وأخواتها» (٢) ؛ لما فيه من قوله : (فَاسْتَقِمْ) ، فإذا وقع عليكم العلم بمعرفته فاستغفروه من إدراككم وعلمكم به ومعاملتكم له ووجودكم في وجوده ؛ فإنه تعالى أعظم من درك الخليقة ، وتلاصق الحدثان بجناب جلاله.

قال بعضهم : الاستقامة مساواة الأحوال مع الأفعال والأقوال ، وهو ألا يخالف الظاهر الباطن والباطن الظاهر ، فإذا استقمت واستقامت أحوالك فاستغفر من رؤية استقامتك ، واعلم أن الله هو الذي قوّمك لا أنك استقمت.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦))

__________________

(١) رواه ابن ماجه (١ / ١٠١) ، وأحمد (٥ / ٢٧٦).

(٢) رواه الطبراني في الكبير (٦ / ١٤٨) ، وابن عدي في الكامل (٢ / ٢٤٧).

٢٤٣

قوله تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) : يوم القضاء ويوم القدر ويوم الأمر ، والقول ويوم الظاهر والباطن أي : تجحدون من أوجد سبع أرضين في يومين لكم ، وتكفرون نعمته ، وتقبلون إلى غيره.

(ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩) أي : صاحب هذه النعم ، ثم زاد ذكر نعمته عليهم بقوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) : رواسي أوتاد الأرض من الأولياء ، مشرفون على قلوب الخلائق بسر من الله معهم ، ونور منه في قلوبهم ، (وَبارَكَ فِيها) بإظهار آياته فيها ، وخلق منافع الكل فيها ، (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) (١) : أرزاق الخلائق بكل خلق منهم عنده رزق ، فرزق الروحانيين المشاهدة ، ورزق الربانيين المكاشفة ، ورزق الصديقين المعرفة ، ورزق العارفين التوحيد ، ورزق الأرواح الروح ، ورزق الأشباح الأكل والشرب ، وهذه الأقوات تظهر من الحق لهم في هذه الأرض التي خلقت معبدا للمطيعين ومرقدا للمقبلين وقبرا للعارفين ، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) : يوم ظهر نور الفعل العام ، ويوم ظهر نور الفعل ، ويوم ظهر نور الصفة ، ويوم ظهر نور الذات ، الأول : نور الإرادة ، والثاني : نور المشيئة ، والثالث : نور القدرة ، والرابع : نور القضاء والقدر ، فنور الأفعال بركة على الأشباح ، ونور الفعل الخاص بركة على القلوب ، ونور الصفة بركة على العقول ، ونور الذات بركة على الأرواح ؛ فأقواتها على مقادير تلك البركات ، وهذان اليومان مع الأول أربعة ، ثم بيّن أنه تعالى قدّر هذه المقادير فيها على سنن مستوية بقوله : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠) ، لا يزيد الرزق بالسؤال ولا ينقص ، وفيه تأديب لمن لم يرض بقسمته ، وبيّن أن ما سبق منه في الأزل من السعادة والشقاوة لا يتغير بجهد الجاهدين وسؤال السائلين ، بل جفّ القلم بما أنت لاق ، ثم ذكر صنيعه المبارك في تسويته السماء وتزيينها بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، بسط نور قدمه عليها ، فسوّاها سبع سماوات ، كما بسط نور قدرته على الأرضين ، فلما أدخل في السماوات والأرضين روح فعله وكساها نور قدرته وقهرهما بجبروته دعاهما إلى خدمته ، (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) أي : ائتيا من العدم إلى ساحة القدم ، وائتيا بما قدرنا فيكما من أنوار فعلنا ، (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) طوعا : من حيث الحدوثية والعجز ، أو كرها من حيث أنكما تعلمان أنكما لا

__________________

(١) أي : حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار معين ، تقتضيه الحكمة والمشيئة ، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار ، وجعل الأقوات مختلفة في الطعم والصورة والمقدار ، وقيل : خصابها التي قسمها في البلاد. البحر المديد (٥ / ٣٩١).

٢٤٤

تطيقان حمل وارد أمري وطاعتي بالحقيقة ، فتشققا من قهري ، ائتيا وإن أنتما خائفان من قهر سلطاني وبطش جبروتي ، وأيضا ائتيا طوعا من حيث باشركما روح فعلي ، فيقسمان على العجز ، وائتيا كرها من حيث الحدوثية والعجز ، أو كرها من حيث إن عليكما لباس ربوبيتي وما وجدتما من سر الألوهية ونظرتما إلى ذلك وظهور جرأتكما بنعت البقاء ؛ فإن عليكما نور صفاتي ، وأنتما خارجان من عز الربوبية ، فائتيا وإن عليكما كسوة جباريتي حتى تكونا في جلال كبريائي أقل من خردلة ، فلما سمعا خطاب الغيرة ولم يبق فيهما كره (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) في حمل أنوار ضيائك ؛ حيث عجزنا عن حمل أمانتك وأنوار صفاتك التي حملها الإنسان ، ثم بيّن أن خلقهن أيضا كان في يومين حتى يكون ستة أيام ، كما قال سبحانه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، فأتمهن جميعا في يومين : يوم أشرقت أنوار القدم عليها ، ويوم طلعت شمس البقاء عليها ، (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) بما أودعها من خزائن أسراره ولطائف أنواره وحقائق مقاديره التي لا يطلع عليها إلا من يكشف له منها شيئا من الأنبياء والأولياء والملائكة ، ثم خصّ السماء الدنيا من بينهن بالزينة وشرف إلباسه إياها أنوار قدرته الخاصة ، وأفعاله المقدسة من الشمس والقمر والنجوم بقوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) : زينها بأنوار الكروبيين كما زيّن الأرض بالأنبياء والأولياء ، أيضا زيّن سماء قلوب العارفين بشموس تجلي الذات وأقمار تدلي الصفات ونيرات سيادات أسرار الملكوت والجبروت.

قال سهل بن عبد الله في قوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) : أي : قضى خلقها في يومين ، كما قال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ.)

وقال في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : استوى أمره على الأرض والسماء وما بينهما وما تحت الثرى.

قال ابن عطاء : استوى علمه فيما قرب منه وبعد إذ لا قرب ولا بعد.

وقال القاسم في قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) : الرواسي الأجل من الأولياء الذين هم المشرفون على الخلق ؛ لأنهم الخواص منهم وقيل في قوله : (مِنْ فَوْقِها) أي : من فوق عامة الأولياء وأشرافهم نظرهم أصح وبركاتهم أعم ولا يشرف عليهم أحد إلا القطب الذي هو الواحد في العدد وبه قوام كل الأولياء والرواسي دونه.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) قال : زيّنا قلوب العارفين بأنوار المعرفة وجعل فيها مصابيح الهداية وضياء التوحيد.

٢٤٥

وقال جعفر : زيّنا جوارح المؤمنين بالخدمة.

وقال الجنيد : زيّنا الجنة بنور مناجاة العارفين وزهرة خدمة العابدين.

قال الأستاذ في قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) : الجبال أوتاد الأرض في الصورة ، والأولياء أوتاد الأرض في الحقيقة ، فبارك فيها البركة والزيادة ، يأتيهم المطر ببركة الأولياء ، ويندفع عنهم البلاء ببركتهم (١).

وقال في قوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) : جعل نفوس العابدين أرضا لطاعته وعبادته ، وجعل قلوبهم فلكا لنجوم علمه وشمس معرفته ، فأوتاد النفوس الخوف والرجاء والرغبة والرهبة ، وفي القلوب ضياء العرفان وشموس التوحيد ونجوم العلوم والعقول والنفوس والقلوب بيده ، يصرفها على ما أراد من أحكامه.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١))

قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) : هذه الهداية ظهور برهان بنوة الأنبياء بالبراهين الساطعة والدلالات الواضحة بالظاهر ، لكن لم يسبق لهم الهداية الأزلية ، وبتلك الهداية تقبل هذه الهداية ، فالسوابق تؤثر في العواقب ، والعواقب لا تؤثر في السوابق ، فكان جبلة القوم جبلة الضلالة ، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلالة.

قال الواسطي : لحاجة ما سبق فيهم من شؤم الجبلة.

قال ابن عطاء : ألبسوا لباس الهداية ظاهرا عواري ، فتحقق عليهم لباس الحقيقة ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فردوا إلى الذي سبق لهم في الأزل.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ

__________________

(١) وقال القشيري أيضا : أي : جبالا مرتفعات ، وجعلنا بها الماء سقيا لكم ، يذكّرهم عظيم منّته بذلك عليهم. والإشارة فيه إلى عظيم منّته أنّه لم يخسف بكم الأرض ، وإن عملتم ما عملتم (٨ / ١٧).

٢٤٦

الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

قوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) : من باشر المعصية تظهر آثارها على جوارحه ، لا يقدر أن يسترها ، ولو كان عالما بنفسه يستغفر في السر عند الله حتى تضمحل آثارها ، ولا يرى من وجوده تلك الآثار صاحب كل نظر.

قال أبو عثمان الحيري : من لم يذكر في وقت مباشرته الذنوب شهادة جوارحه عليه يجترئ على الذنوب ، ومن ذكر ذلك جبن عن مباشرتها ، وربما تلحقه العصمة والتوفيق ، فتمنعانه عنها.

قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) : فزيّن الكل النفس والشيطان ، النفس تزين لهم الشهوات ، والشيطان يزين لهم التسويف والإمهال ، وهذا ما بين أيديهم وما خلفهم.

قال الجنيد : النفس لا تألف الحق أبدا.

وقال ابن عطاء : النفس قرين الشيطان وإلفه ومتبعه فيما يشير إليها ، مفارق الحق مخالف له لا تألف الحق ولا تتبعه.

قال الله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من طول الأمل ، (وَما خَلْفَهُمْ) من نسيان الذنوب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) : وصف الله أهل التمكين من العارفين الذين شاهدوا الله بالله ، وعاينوه به ، واستقاموا في محبته ، فتعرضت لهم الأكوان

٢٤٧

والحدثان ، فرفعوا أبصارهم عنها ، ولم يستحسنوها في ديوان المعرفة من النظر إلى الخلق والخليقة ، وقالوا : (رَبُّنَا اللهُ) أي : يكفينا الله من كل ما سواه ، استقاموا بالله لله في الله ؛ فإن عين الألوهية تحرق مطالعيها من العرش إلى الثرى ، فإذا أراد الله استقامة المستقيمين من أهل شهوده ألبسهم أنوار بقائه وصمديته ، فيسبحون بنور البقاء في بحار الأزليات الأبديات.

قال ابن عطاء : استقاموا على إفراد القلب بالله.

وقال أيضا : استقاموا على المشاهدة ؛ لأن من عرف الله شيئا لا يهاب غيره ، ولا يطالع سواه ، فتركوا المنازعة والاعتراض مع الحق.

سئل الشبلي عن هذه الآية ، فقال : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ) هو خالقنا ، فاستقاموا معه على بساط المعرفة ، وداموا بأسرارهم على سرير الجنة ، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) بانقطاع المدة (أَلَّا تَخافُوا) من دار الهوان ، (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من دار الامتحان ، (وَأَبْشِرُوا) (١) بدوام النعيم ، وهو لقاء الله تعالى الذي ليس بعده بؤس ولا شدة.

صدق الشيخ في هذا التفسير ، وعجبت ممن استقام مع الله في مشاهدته وإدراك جماله كيف يطيق الملائكة أن يبشروه ، أين الملك والفلك بين الحبيب والمحب ليس وراء بشارة الحق بشارة ، فإن بشارة الحق سمعوها قبل بشارة الملائكة في نداء الأزل بقوله : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) ، ليس لهم خوف القطيعة ، ولا لهم حزن الحجاب ، وهم في بشر مشاهدة الجبار ، قول الملائكة معهم تشريف للملائكة ههنا ؛ لأنهم يحتاجون إلى مخاطبة القوم ، وهم أحباؤنا في نسب المعرفة من حيث الحقيقة ألا ترى كيف سجدوا أبانا قال الله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، هم أحباؤنا ، ونحن أحباء الله ، والله تعالى أحبنا في الأزل ، واختارنا بالمعرفة والمشاهدة.

قال جعفر : من لاحظ في أعماله الثواب والأعواض كانت الملائكة أولياؤه ، ومن تحقق في أفعاله وعملها على مشاهدة أمرها فهو وليه ؛ لأنه يقول : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا.)

قال الأستاذ : استقاموا على دواء الشهود وعلى انفراد القلب بالله.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣))

__________________

(١) قال محمد بن علي الترمذي : تتنزل عليهم ملائكة الرحمة ، عند مفارقة الأرواح الأبدان ، ألا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان ، التي توعدون في سالف الأزمان. البحر المديد (٥ / ٤٠٢).

٢٤٨

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣) أي : ممن عرف الله بعد أن رآه وأحبه واشتاقه ، وعشق به ودعا الخلق إليه من حيث هو فيه وصدقه في حاله ، يدعو الخلق إلى الله بلسان الأفعال وصدق المقال وحلاوة الأحوال ، ويذكر لهم شمائل القدم وخلق الربوبية ، ويعرفهم صفات الحق وجلال ذاته ، ويحبب الله في قلوبهم ، وهذا عمله الصالح ، ثم يقول بعد كماله وتمكنه إنني واحد من المسلمين من تواضعه ولطف حاله خلقا وظرافة ، وإن كان إسلامه من قصارى أحوال المستقيمين.

قال سهل : أي : ممن دلّ على الله وعلى عبادة الله وسنة رسول الله واجتناب المناهي وإدامة الاستقامة مع الله.

وقال حسن بن أبي الحسن البصري : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا خيرة الله ، هذا أحب الخلق إلى الله ، أجاب الله دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال إنني من المسلمين ، هذا خليفة الله.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : بيّن الله سبحانه ههنا أن الخلق الحسن ليس كالخلق السيئ ، وأمرنا بتبديل الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة ، وأحسن الأخلاق الحلم ؛ إذ يكون به العدو صديقا والبعيد قريبا ، حين دفع غضبه بحلمه وظلمه بعفوه وسوء خاتمته بكرمه ، وفي مظنة الخطأ أن من كان متخلقا بخلقه متصفا بصفاته مستقيما في خدمته صادقا في محبته عارفا بذاته وصفاته ليس كالمدعي الذي ليس في دعواه معنى.

قال ابن عطاء : لا يسوّي بين من أحسن الدخول في خدمتنا والخروج منها وبين من أساء الأدب في الخدمة ؛ فإن سوء الأدب في القرب أصعب من سوء الأدب في البعد فقد يصفح عن الجهّال الكبائر ، ويأخذ الصديقين باللحظ والالتفات.

وقال الأستاذ : أي : ادفع بالخصلة التي هي أحسن السيئة يعني بالعفو عن المكافآت بالتجاوز والصفح عن الزلة.

(وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

قوله تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : بيّن الله

٢٤٩

سبحانه ألا يبلغ أحد إلى درجة الخلق الحسن وحسنات الأعمال وسيئات الأفعال إلا من يصبر في بلاء الله وامتحانه بالوسائط وغير الوسائط ، ولا يحتمل هذه البليات إلا ذو حظّ من مشاهدته وذو نصيب من قربه ووصاله ، صاحب معرفة كاملة ومحبة شاملة ، وكمال هذا الصبر الاتصاف بصبر الله ، ثم الصبر في مشاهدة الأزل ، فبالصبر الاتصافي والمشاهدة الأبدية والحظ الجمالي يوازي طوارق صدمات الألوهية وغلبات القهارية.

قال بعضهم : لا يطيق أحد الهجوم على المعارف إلا من يصبر على احتمال النوائب والشدائد فيها ، ولا يرى لنفسه قيمة ، ولا لروحه خطرا ؛ إذ ذاك يمكنه مجاورة المعارف والهجوم عليها.

وقال ابن عطاء : لا يوفق لجميل الأخلاق إلا الصابرون على خفض الخلاف.

وقال الجنيد في قوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظّ من عناية الحق فيه.

قال ابن عطاء : ذو معرفة بالله وأيامه.

وقال الجريري : أي : ذو علم بالله ، وذو فهم منه ، وراجع إليه في كل أحواله ، ثم داوى الحق سبحانه المتصبرين في احتمال البلاء ، وعليهم جذب الصبر والتحمل بالاستعانة بعد طيران خطرات الشيطان على قلوبهم بقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) : علّم حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يدفع شرّ الشيطان عن نفسه حين ألقاه سهم الغيرة عن كنانة مخائيله وحيله ، وهذا تعليم لأمته ؛ إذ كان شيطانه أسلم على يده أي : فروا إلى الله إذا نزغكم قهر الله يدفع عنكم شر الشيطان ، ويؤويكم من قهره بلطفه ، ألا ترى كيف استعاذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه إليه بقوله : «أعوذ بك منك» (١).

وقال بعضهم : من طرد الشيطان عن نفسه بنفسه فهو قرينه أبدا ، ومن طرده بالالتجاء إلى الله والاستعاذة به منه لم يجعل الله للشيطان عليه سبيلا ؛ فإن الله يقول : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ.)

وسئل أبو حفص : بماذا يتخلص المؤمن من الشيطان؟ قال : بتصحيح العبودية ؛ ألا ترى الله يقول : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)

وقال الأستاذ : لا يتخلص العبد من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة بالله وصدق الاستغاثة فيه.

__________________

(١) رواه النسائي في الكبرى (١ / ٤٥٢).

٢٥٠

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) : أظهر الليل ؛ ليطلع على العاشقين صبح وصال جماله ، ويؤنسهم إلى مجالس مشاهدته وحجال أنسه ورياض قدسه ، وجعل النهار ؛ لظهور أنوار صفاته في لباس آياته ، وليشرفهم على رؤية نيرات ملكوته وجبروته ، خلق الشمس والقمر مرآتين ، يتجلى من مرآة الشمس للناظرين إليه والعارفين به من أنوار ذاته ، ويتجلى من مرآة القمر للعاشقين من سنا صفاته ، ثم حذرهم أن يلتفتوا إلى الوسائط ، وحثّهم على أن يرجعوا إليه بالكلية كالخليل في أوائل مقام الالتباس ، (قالَ هذا رَبِّي) ، فإذا عزم الأمر وبلغ صرف الرؤية قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.)

قال عبد العزيز المكي في هذه الآية : سبحان الذي من عرفه لا يسأم عن ذكره! سبحان الذي من أنس به استوحش من غيره! وسبحان الذي من أحبّه أعرض بالكلية عما سواه! ثم أكد التخويف عليهم في وقوفهم على الوسائط ، (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٣٨) ، وصف المتمكنين من الكروبيين والعارفين من أهل الملكوت بأنهم مستغرقون في بحار ربوبيته ، يسبحون فيها بلذائذ الأذكار والأفكار لمزيد الكواشف وأنوار المعارف ، يتجردون عن الأكوان والحدثان في جمال الرحمن ، يستأنسون به ، لا يسأمون منه ؛ إذ الأنس والوحشة منفيان عن ساحة كبريائه ، وهذا شكاية عن المحجوبين به عنه.

قال أبو عثمان : إن الله مستغن عن عبادة عبيده ومجاهدتهم ؛ فإن لله عبادا من الملائكة لا يفترون عن عبادته دائما أناء الليل والنهار ، ولم يذكرهم ، ولم يجعل لعبادتهم جزاء ولا قيمة.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠))

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ

٢٥١

وَرَبَتْ) (١) : كل قلب مستعدّ لقبول وبل المحبة والمعرفة ، فيكون بلا زرع الحكمة قبل نزول مطر لطفه ، فإذا وصل إليه بحر قرب الحق سبحانه اهتزّ بنبات الحقائق والدقائق ، وتبهج بنور الحكمة ، والمقامات السنية ، ورياض لطائف العلوم الإلهية التي نطق بها صاحبه بلسان الحق والحقيقة ، فأحيا بعبارتها وتعبيرها القلوب الميتة والصدور الخامدة ؛ فهو تعالى أحيا قلوب العارفين بنظره ، وبنظر العارفين يحيى قلوب المريدين ، وهم وسائل حياة القلوب من الحق للخلق ، كما أحيا الأرض الميتة بالمطر أحيا بهم قلوب العالمين ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) ، فهذا المثل ضربه الله للمعتبرين بلطيف صنعه ونعيم لطفه.

قال عمرو بن عثمان المكي : إن لله تبارك وتعالى قلوبا في أوعية من الأجسام أودع فيها ودائع ، وأخفاها عن الخلق ، فإذا أنزل عليها مياه رحمته وبركات نظره استخرج ودائعه ، فعرّف القلوب محل تلك الودائع ، وأظهر على النفس بركاتها ، وألقى على الحق هيبة صاحبها ، فهو في هيبة عند الخلق وانكسار عند نفسه وشفقة ونصيحة للخلق وخوف دائم من ذنوبه ، وذلك من آيات الله الظاهرة ، وهو حقيقة قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ) إلى قوله : (إِنَّ الَّذِي) أحيا تلك النفوس بتلك الودائع قادر أن يحيى ببركة نظره قلوبا غفلت عنه وأنفسا ماتت عن القيام بخدمته.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) : خوّف الله أهل الطامات الذين يديرون رؤوسهم عند العامة ويزعقون ويخرّقون ثيابهم ، ويجلسون في الزوايا ، ويتزهدون ، وينظرون في تصانيف المشايخ ، ويتقوّلون عليها ما يتخيلون ، ويتزخرفون عند العامة ، وينتظرون دخول الأمراء عليهم ، ويدّعون المكاشفة والأحوال والمواجيد ، لا يخفى على الله كذبهم وزورهم وبهتانهم ونياتهم الفاسدة وقلوبهم الغافلة ، وعلى أوليائه من الصديقين والعارفين الذين يرون خفايا قلوب الخلق بنور الله ، لو رأيتهم كيف يفتضحون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، وترى أهل الحق ينظرون إلى الحق بأبصار نافذة نورية وأرواح شائقة وقلوب عاشقة ، (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، قال الله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، ثم حذّرهم بقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠) من الفتاوى بغير علم واستبداع الضلالة في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الله : (وَلا

__________________

(١) (اهتزّت) أي : تحركت (وربت) انتفخت ؛ لأن النبات إذا دنا أن يظهر ارتفعت به وانتفخت ، ثم تصدّعت عن النبات ، وقيل : تزخرفت وارتفعت بارتفاع نباتها ، البحر المديد (٥ / ٤٠٧).

٢٥٢

تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ، ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء الملحدين وشبههم بالفراعنة ، وشبّه قلوبهم بقلوب الذئاب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج في أمّتي أقوام لسانهم لسان الأنبياء وقلوبهم كقلوب الفراعنة» (١) ، وفي موضع آخر قال : «قلوبهم كقلوب الذئاب ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، أفتوا بغير علم ضلّوا وأضلّوا» (٢).

قال أبو عبد الله بن جلا : معنى هذه الآية إن الذين يخبرون عنا على غير سبيل الحرمة فإنه لا يخفى علينا جرأتهم علينا ، ونعذبهم في دعائهم.

وقال ابن عطاء في هذه الآية : إن المدعي عن غير حقيقة سيرى منا ما يستحقه من تكذيبه على لسانه وتفضيحه في أحواله.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) : عزيز من حيث امتنعت أسراره عن تفهم الأفهام وإدراك الأوهام ؛ لأنه كنوز غيب الذات والصفات ، وهو صفات الأزلية ، مفاتيح كل صفة ، لا يدركه بالحقيقة عوض الفطن ، ولا تحويه الخواطر والذهن ، لا يزيله أباطيل الأولين ولا ترهات الآخرين ؛ لأنه لا يحل في الحدثان ، ولا يفارق عن ذات الرحمن ، فإذا كان الحق موصوفا به أزلا وأبدا فكيف تغيره الحوادث؟! وكيف تخلفه الأزمنة والدهور؟!

قال ابن عطاء : عزيز ؛ لأنه لا يبلغ أحد حقيقة حقه ؛ لعزّه في نفسه ، وعزّ من أنزله ، وعزّ من أنزل عليه ، وعزّ من خوطب به من أوليائه وأهل صفوته.

وقيل : البعد أوهام العباد عن حقيقته.

قال ابن عطاء : كيف يأتيه الباطل وهو الحقيقة ونزل من عند الحق؟! وهو كلامه ، فكيف يلحقه باطل وبه تتحقق الحقائق ، وبه تصحّ أحوال المتحققين؟! وهو الحق على كل الأحوال ، والباطل ضده ، فكيف يجتمع المتضادان وهما متباينان من كل الوجوه؟!

قال أيضا : كيف يكون لباطل عليه سبيل وهو من حقّ بدأ وإلى حقّ يعود؟! وهو

__________________

(١) هو من الأحاديث التي ذكرها المصنف في كتبه.

(٢) كسابقه.

٢٥٣

الحق ، فلا يتحقق به إلا محقق.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) (١) : هدى لعقول العارفين إلى معدنه ، وهو ذات القديم ، وشفاء القلوب العاشقين المشتاقين ، وأرواح مرضى المحبة وسقمى الصبابة ؛ لأنه حبيبهم ، وكتاب مشوقهم ، يستلذونه من حيث العبارات ، ويعرفونه من حيث الإشارات.

وقال جعفر : شفاء لمن كان في ظل العصمة ، وعمى على من كان في ظلمة الخذلان ، فكما وصف الله أهل خالصته وما يقع لهم بخطابه وصف المنكرين كلامه والجاحدين وجوده بأن في آذان قلوبهم وأسماع عقولهم وقر الخذلان والضلالة ، ولا يرون جمال خطابه بأن ليس في عيونهم أنوار لحمل مشاهدته ، ولا سنا عزّ هدايته بقوله : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) ، إذا لم يروا جمال القرآن بنور الفهم والإيمان زاد طغيانهم بالإنكار عليه ؛ لأنهم في مكان الضلالة ، وهو بعيد من أن يسمعوا بوصف الفهم والإدراك والمتابعة.

قال ذو النون : من واقر سمعه ، وأصمّ عن نداء الحق في الأزل ، لا يسمع نداءه عند الإيجاد ، وإن سمعه كان عليه عمى ، ويكون عن حقائقه بعيدا ، وذلك أنهم نودوا عن بعد ، ولم يكونوا بالقرب.

__________________

(١) الضمير للقرآن ؛ يعنى أن الله تعالى هدى من استعد للإيمان إلى الإيمان بسبب القرآن ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] ؛ والمقصد هداية الله تعالى بسببه ، فوصفه بصفته ؛ لقوته في السببية.

٢٥٤

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠))

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) : وصف الله من لم يعرفه ولم يعرف لطائف برّه بأوليائه ويكون مقلدا في الدعاء ومعرضا بسرّه عنه وبظاهره عن طاعته ليس هو يدعوه بالحقيقة ، إنما يدعو مراده ، فإذا حصل مراده قام على تكلفه وتقليده ، وإن لم يحصل مراده ويمسه بلاؤه يفرّ منه ، ولا يدعوه ، ولو كان على محل التحقيق في دعائه ومعرفته بربه فإنه لا يفرّ من بلائه ، ولا يقنط من رحمته ؛ فإن العارف الصادق يستلذّ بلاءه ، كما يستلذّ نعمه في لسان الخلائق.

لنا فيه إشارة ؛ وذلك أن العارف المشتاق الذي من كمال شوقه يريد أن يشرب جميع بحار الأزل والأبد والربوبية والألوهية والذات والصفات المنزهة عن مباشرة الحدثان بشرية واحدة وهو لا يقدر ؛ لأنه تعالى منزّه عن أن يحيط به أحد من خلقه وإن كان نبيّا مرسلا ، فإذا وجد نفسه أنه يسهل عليها شربها على قدر مذاقها وزيادة يستقيم في طلبها ، وإذا نظر إلى امتناع الألوهية عن إدراكه ييأس ويقنط عن أن يدركه بالحقيقة ، وهذا إذا كان هو مطالعا في بطون الأزل وأكناف القدم وغيوب الأبد ، لو رأيته يا عاقل كيف يفرّ من الحق وهو غضبان عليه معربدا شطاحا بتكلّمه عن سرّ الانبساط ، ويخاصمه ، وهذا كله من حيرته في الله واشتياقه إلى درك الحقائق.

قال سهل في قوله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) : يملّ العبد من ذكر ربه وشكره وحمده والثناء عليه.

وقال أبو عمرو الدمشقي : لا يسأم العارف من مناجاة معروفه ، بل لا يصبر عنه لحظة ولا نفسا.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) : رسم ظاهر الآية أن المضطرب في المعرفة إذا أنعم عليه من نعم الكرامات

٢٥٥

اشتغل بها عن الحق ، وفرح بما وجد منه ، واحتجب عن مشاهدته ، وإذا لم ينل مأموله من الكرامات وجزاء الطاعات فيدعو ويتضرع ، ويسأل مأموله على الرغبة في جميع الأنفاس ، وإشارة الحقيقة في الآية إذا ألبس الحق أنائيته العارف ويكون مستقلا بقدرته ، متصفا بصفاته ، ينظر من القدم إلى ما بدا من القدم ، فيسكر ، ويخرج بدعوى الأنائية ، وذلك حين ينسى القدم في نفسه بما غلب من القدم عليه ، وإذا زاد الحق عرفانه بإفراد قدمه عن الحدوث وبمعرفة فنائه في بقائه وما ترى فهو هو تعالى لا غير يرجع إلى معادن العبودية ، ويكون متضرعا عاجزا فانيا في سبحات جلاله ، يكدي على باب الربوبية بنعت الفقر والافتقار إلى ذرة من معرفته.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : أظهر الآيات ، وجعلها مرآة لصفاته وذاته سبحانه ، ويتجلى منها أنوار الذات والصفات للشاهدين مشاهدة القدم ، سرّ يسرّ في حقائق التوحيد ، وظاهرا يرونه من الآيات في زمان العشق في لباس الفعل ؛ استقامة للمحبة ؛ والتباسا لأمر الحقيقة ، ولو ظهر بنعت الألوهية ظاهرا وباطنا لتعطلت الأشباح ، ولفنيت الأرواح ، واضمحلت النفوس والعقول ؛ لأن بروز سطوات الأحدية لا تحتمله الآيات ولا الأشباح ولا الأبصار ولا الأفكار ، ذكر في الأول آيات ومقصوده صفاته التي تشرق أنوارها في آفاق الأسرار ، والآيات العالم الفعلي ، والمقصود من الصفات ظهور الذات لنظار حقيقة الحقيقة ، وإلا فأين الآيات في ظهور الصفات ، والذات الآيات للعيون ، والصفات للقلوب ، والذات للأرواح ، وسرّ القدم للأسرار ، لا ينكشف السر ، والعارف الصادق إذا كان في عين الجمع لا يرى شيئا إلا ويرى الحق بعينه ؛ لأنه في حقيقة الحقيقة ، ما بدا منه هو فعله ، وفعله غرق في صفاته ، وصفاته قائمة بذاته ، فإذا شاهده في نفسه كما شاهده في آياته يختلط الأمر ، ويغيب الحدث في القدم ، ويحلّ عليه سكر الأنائية ، فيدّعي الربوبية ؛ لأن مشاهدة الآيات تقتضي العشق والمحبة ، ومشاهدة الحق في مرآة النفس تقتضي الاتحاد من تأثير مباشرة سر التجلي ، وهذا حال الحلاج ـ قدس الله روحه ـ حيث قال : أنا الحق. وحال الأول حال الواسطي ؛ حيث قال : ضحكت الأشياء للعارفين بأفواه القدرة بل بأفواه الرب. لو ترى يا شاهد مشاهدة الحق في الآيات ترى أنوار العظمة والكبرياء من عيون الآساد وأنياب الثعابين ، وترى أنوار جماله من أوراق الورد والنرجس والياسمين ووجوه الحسان ، وتسمع أصوات الوصلة من ألحان الطيور والبلابل والعنادل ، وأصوات الرياح والسحاب والإنسان

٢٥٦

والأوتاد ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «الورد الأحمر من بهاء الله ، من أراد أن ينظر إلى بهاء الله فلينظر إلى الورد الأحمر» (١).

قال تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) أي : سنريهم هذه الحقائق في الآيات وفي أنفسهم ؛ حتى يتبين لهم أنها هي الحق بعينه لا الآيات ولا الآفاق ولا الأنفس إن لاح الحق من الحق لأهل الحق ، وتأكيد ذلك برهان ظهوره من كل شيء وشهوده على كل ذرة من العرش إلى الثرى بنعت التجلي ، وتبسم صبح الأزل في عيون المشاهدين جلاله.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) أي : ظاهر من كل شيء بسطوع نور أزليته منه لكل مستأنس شاهد به فيه ، ثم بيّن أن المحرومين في الأزل بسبق الشقاوة لا يرونه حقيقة وبيانا وكشفا وعيانا وعزّا وسلطانا وبرهانا بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي : إنهم مطموسون عن مشاهدته بلطمات قهره ، فهم في شكّ وريب من حيث عماهم وجهالتهم ، ثم أكّد أمر ظهوره على الكل بقوله : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤) : أحاط علمه وقدرته وجلاله وجماله بكل شيء من العرش إلى الثرى ، لكن لا يراه بنعوتها إلا العاشقون الوالهون العارفون.

قال القحطبي (٢) : لا يزال العبد يرتقي من حال إلى حال حتى يبلغ إلى الأحوال السنية العلية ؛ فيرى الله قائما بالأشياء ، ثم يرقى به من ذلك الحال حتى يرى الأشياء فانية في رؤية الحق ، ويتيقن أن القديم إذا قورن بالحدث لا يثبت له أثر ، وإن جلّ قدره وعظم خطره ، وهو معنى قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ، وهو النظر إلى الكون بمشاهد الحق ، ثم النظر إلى الحق بالفناء من الكون ، وهو أن تصير النعوت نعتا ، ولا يشهد إلا حقّا صرفا.

وسئل أبو عثمان عمن يقول بالشاهد؟ فقال : لا أنكر القول بالشاهد لمن يشهد الأشياء كلها شيئا واحدا.

وقال الواسطي : ظهر من كل شيء بما أظهر منه ، وإظهاره الأشياء ظهوره بها ، فإذا فتّشها لا يحد غير الله ، قال الله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ

__________________

(١) رواه الديلمي في الفردوس (١ / ١٧١).

(٢) أبو القاسم القحطبي : الصوفي كان أحد الصلحاء الصوفية بطرسوس ، وذكره أبو عمرو الطرسوسي. بغية الطلب في تاريخ حلب (٤ / ٣٧٥).

٢٥٧

الْحَقُ) دون غيره ؛ ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة تكلّمت بها العرب كلمة لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل» (١).

وقال بعضهم : يرى الأشياء عدمها وجودها ووجودها عدمها ، كما أن كل قرب بعد ، وكل بعد قرب ؛ لأن إحاطة القدرة بالشيء وجود الشيء.

وقال الواسطي في قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : لو شهدوا شواهد الحق فيما جرى عليهم من المخالفة والموافقة لما اضطربوا فرحا ولا حزنا نفيا للشرك والمقارنة.

وقال أيضا : أوائلها للطائعين والعابدين ، طالعوه ، وراقبوه ، وأواخرها للواجدين ، شاهدوه على آباده وسرمده الذي فيه فناء معاينهم.

وقال ابن عطاء : آيات الحق بادية لمن كحّل بنور التوفيق ، ونظر إليها بعين التحقيق ، وكل ما أظهر الله تعالى من خلقه ناطق بتوحيده إما صريحا وإما دليلا منه للحق إن شاهدوا ونظروا عن بصر وبصيرة ولا دليل عليه وإليه سواه ، فإن الكل حدث وهو القديم ، ومتى يستدل بالحدث على القديم؟!

سورة الشورى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤))

(حم (١) عسق) (٢) : هذه الأحرف رمز الله مع حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يخبره بهنّ ومن كان أهله من سرّ الذات والصفات والأفعال ، الحاء رمز الحياة الأزلية ، والميم رمز محبة القديم ، والعين رمز عينية ذاته وعلمه القديم وعيانه لأهل العيان ، والسين رمز سرّه وسرّ سرّه وغيبه وغيب غيبه وسنا سبحات وجهه وكشفه لأهل الكشوف ، والقاف عن قديمية وجوده ، وقوله القديم الذي منه بدأ العالم ، وآدم بالحاء الحياتي ، أحيا قلوب العارفين حين تجلت منها حياته لها ، وبالميم المحيى بملك الأرواح المحبين بحلاوة محبته ، التي برقت سناها في عيونها ، ثم بسرّ الحرفين ورمز النعتين حمى أسرار الواصلين عن خطرات الريب ، وكاشف لها أسرار الغيب ، ومن العين عاين ذاته وصفاته للعالمين به وبأوصافه ونعوته ، وبالسين سار سنا برق سبحاته في

__________________

(١) رواه مسلم (٧ / ١٧٦٨) ، والترمذي (٥ / ١٤٠).

٢٥٨

أسرار السابقين ، وبالقاف ظهر قاف كبرياء قدم ذاته وقيوميته صفاته للقائمين به في قربه عند ظهور قيامه عليهم ، وافهم أن الحروف على أوائل السور رموز الحق ، أخفى أسرارها عن غير أهلها ، ثم أخفى من تلك الخفيات هذه الأحرف على أوائل هذه السورة بأن رفع عن السين نقوش الشين ، فأراد بالسين الشين وبيان (حم) عشق أي : يحيى الأزلي ، وجمال الأبدي عشق العاشقون ، وأنا عشيقهم ، وبرمز العشق أخاطبهم ، حتى لا يطّلع على أحوالها أهل الرسوم فيهلكوا ، لأن من بين العاشق والمعشوق ارتفع حشمة الربوبية وكلفة العبودية في مقام المشاهدة ، ثم أقسم الحق بهذه النعوت أي : بحياتي يا حبيبي ومجدي وجمالي وملكي ومحبتي لك والأولياء أمتك يا محب يا محمد ، وبعلو شأني وعلمي المحيط وعزي وعياني ، وخلقي يا عارف يا عالم يا عالي الهمة يا عزيز ، وبسنائي وقدسي وسرمديتي ، وسبق وجودي على كل شيء ، يا صاحب سري ، ويا سبّاق كل سابق بالشرف والفضل والتقدم ، ويا سبّاح بحر قدسي وأنسى ومقدمي وقيوميتي وقيامي على كل شيء ، وبقولي الحق ، وبقدرتي القديمة ، وبقضائي وقدري ، وبعشقي يا عاشقي ، وبصدقي يا صادق ، إن هذه الإشارة قد أشرتها إليك ، كذلك أشرتها إلى أنبيائي قبلك وأوليائي وأهل خالصتي ، وذلك قوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) : عزيز بعزي عززتك وعززت أوليائي ، وبحكمتي اصطفيتك واصطفيت أحبائي ، وأعطيتك وأعطيتهم حكمي ومعرفتي ، ومنعت عنك وعن أهل محبتي كيد الكائدين وغلبة الجاهلين.

قال ابن طاهر : الحاء من الحكيم ، والميم من الملك ، والعين من العالم ، والسين من السيد ، والقاف من القادر ، هو الذي (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) : يوحى إليك أنباء من قد سلف من الأمم ، ويوحي إلى الذين من قبلك فضلك وفضل أمتك.

وقال أبو بكر الوراق : الحاء حلمه حليم ملكه ، والعين علوه وعلمه ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته ، يقول : بحلمي وملكي وعلوي وعلمي وسنائي وقدرتي أني لا أعذّب من عرف ربوبيتي وأحسن ظنه فيّ وأحبّ الرجوع إليّ.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ

٢٥٩

مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨))

قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) : ينهانا الله سبحانه عن عظيم قدره وجلال عزه ، وبأنه سبحانه خلق قوما من الجهلة ، وأطلقهم في مهمة الضلالة حتى وقعوا في مقالة السوء ، ويقولون على الله ما لا يعلمون من أعظم افترائهم ، تكاد السماوات تنشق من فوقهن من الغضب عليهم ، وذلك بعد أن ألبسها الله إقرار قدرته ، وأدخلها روح فعله حتى عقلت عبودية صانعها ، وعرفت قدسه وطهارته عن قول الزائغين وإشارة الملحدين ، والملائكة يقدسون الله عما يقولون فيه من الزور والبهتان والدعاوى والباطلة ، ويستغفرون للمؤمنين الذين لم يبلغوا حقيقة عبوديته ، (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : غفر ذنوب المقبلين ورحمهم بأن يرزقهم قربه ووصاله.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) : وليّ كل وليّ ، في الأزل أجادهم بتجلي القدم من موت العدم ، تولى أسرارهم بنعت حفظها من قهره ، ويحيى بجماله قلوبهم عن موت الجهل به ، بعد أن عرّفهم نفسه ، وألبس أرواحهم أنوار حياته ، وفيه شكاية عن المشغولين بغيره ، الباقين في حجاب الوسائط ، يعرض نفسه بنعت الجلال والجمال على المقصرين ؛ ليجذب بحسنه وجماله قلوبهم إلى محبته وعشقه ، ويحييها بنور أنسه وسنا قدسه.

قال ابن عطاء : الحق يتولى أولياءه في كل نفس برعايته وعناية طربه ، ومن كان الحق متوليا سعاياته وحركاته كان في أصون صون وأحرز حرز ، وهو الذي يحيى القلوب بمشاهدته وبالتجلي بعد الاستتار.

وقال الواسطي : يحيى القلوب بالتجلي ، ويميت الأنفس بالاستتار.

وقال سهل : لا يحيى النفوس حتى تموت.

قال بعضهم : قلوب أهل الحق مصانة عن كل معنى ؛ لأنها موارد الحق ، ولما بيّن أن

٢٦٠