تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ـ رضي الله عنهم ـ في الأزل وسابق علم القدم ، ويبقى رضاه إلى أبد الأبد ؛ لأن رضاه صفته الأزليّة الباقية الأبدية ، لا يتغير بتغير الحدثان ، ولا بالوقت والزمان ، ولا بالطاعة والعصيان ، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى أبد الأبد ، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية والشهوات ؛ لأن أهل الرضا محروسون برعايته ، لا تجري عليهم نعوت أهل البعد ، وصاروا متصفين بوصف رضاه ، فرضوا عنه كما رضي عنهم ، قال الله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ، وهذا بعد قذف أنوار الأنس في قلوبهم بقوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ.)

قال ابن عطاء : رضي الله عنهم فأرضاهم ، وأوصلهم إلى مقام الرضا واليقين والطمأنينة ، فأنزل الله السكينة عليهم ؛ ليسكن قلوبهم إليه.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥))

قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) : انظر كيف شفقة الله على المؤمنين الذين يراقبون الله في السراء والضراء ويرضون ببلائه ، كيف حارسهم عن الخطرات ، وكيف أخفاهم بستره عن صدمات قهره ، وكيف جعلهم في كنفه حتى لا يطّلع عليهم أحد ، وكيف يدفع ببركتهم البلاء عن غيرهم ، وفي الآية رمز إعلام ورعاية الكبرياء للمريدين.

قال سهل : المؤمن على الحقيقة من لا يغفل عن نفسه وقلبه ، يفتش أحواله ، ويراقب أوقاته ، فيرى زيادته من نقصانه ، فيشكر عند رؤية الزيادة ، ويتضرع ويدعو عند النقصان ، هؤلاء الذين يدفع الله بهم البلاء عن أهل الأرض ، والمؤمن من لا يكون متهاونا بأدنى التقصير ؛ فإن التهاون بالقليل يستجلب الكثير.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

قوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ

٣٢١

كَلِمَةَ التَّقْوى) : سكينة الرسول كشف القدس ، وسكينتهم نزول قلوبهم منازل الأنس ، وكلمة التقوى كلمة الله التي سبقت في الأزل أنهم أهل السعادة لا أهل الشقاوة ، وتلك الكلمة بقيت بنعوتها وأنوارها في قلوبهم ، (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) ؛ لأنهم سابقون بها في الأزل من غيرهم الذين حجبهم الله من رؤية نورها ، وكانوا أهل الكلمة من حيث الاصطفائية ؛ إذ نزلت عند لب التوحيد من سماء التفريد على أغصان ورد قلوبهم ، فترنمت بألسنتهم الصادقة من بطنان أفئدتهم بكلمة التقديس والتوحيد.

قال أبو عثمان : كلمة التقوى كلمة اليقين ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ألزمها الله السعداء من أوليائه المؤمنين ، وكانوا أحق بها في علم الله ؛ إذ خلقهم لها وخلق الجنة لأهلها.

قال الواسطي : كلمة التقوى صيانة النفس عن المطالع ظاهرا وباطنا.

قال الجنيد في قوله : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) : من أدركته عناية السبق في الأزل جرت عليه عيون المواصلة ، وهو أحق بها ؛ لما سبق إليه من كرامته الأول.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) : إشارة الآية مع المشتاقين إلى مشاهدة الحق بأنهم يدخلون حرم الربوبية آمنين عن جريان العبودية عليهم ، آمنين من ذل الحجاب بعد كشف النقاب ، والاستتار وقع على المشيئة الأزلية السابقة بحسن العناية لهم ، وفي نفس الآية أنه لو يريد أن يلبسهم وصف الصمدية حتى لا يفنوا في الوحدانية لقدر ، وهو هكذا يفعل ، لكن رمز الاستتار يورث هيبة الحق ؛ إذ صار عروس القدر غير منكشف لأهل الحدث ، أدّب الجمهور برؤية الله مع رؤية القدر السابق ؛ حتى لا يسقط عنهم شروط الهيبة والمراقبة.

سئل بن عبد الله : ما هذا الاستتار من الله؟ قال : تأكيدا في الافتقار إليه ، وتأديبا لعباده في كل حال ووقت تنبيها أن الحق إذا استثنى مع كمال علمه ألا يجوز له الحكم من غير استثناء مع قصور علمه.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ

٣٢٢

مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) : كان بنفسه أبلغ الهداية للخلق ؛ فإنه مصارف آياته وبرهانه.

قال الله : (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ، ومعه نور الصفة ؛ لأنه كان قلبه مشكاة نور القرآن ، قال الله : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) ، وقال : (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ، ودينه بيان معرفة الله والآداب في حضرته ، وبهذه الصفة شهد الله أنه أرسله بهذه الأوصاف ، وأثبت رسالته بشهادته بقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) (١) : شهادته أزلية شهد على اصطفائيته في الأزل ، ثم وصف أصحابه وأحبائه ومتابعيه إلى يوم القيامة باختصاصات شريفة وأخلاق كريمة وعلامات صحيحة وآداب جميلة بقوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي : معه في الأزل باصطفائية الولاية بنعت الأرواح ، لا برسم الأشباح ، ومن خاصية صفتهم أنهم أهل الهيبة والغلبة على أعداء الله والرحمة والكرم مع أولياء الله ، قال الله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : ثم زاد في وصفهم بقوله : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) : راكعين على بساط العبودية من رؤية أنوار العظمة ، ساجدين على بساط الحرمة من رؤية الجمال ، يطلبون مزيد كشف الذات ، والدنو والوصال والبقاء مع بقائه بغير العتاب والحجاب ، وهذا محل الرضوان الأكبر بقوله : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) ، ثم وصف وجوههم أن يتلألأ منها أنوار مشاهدته التي انكشفت لهم في السجود حين خضعوا في ملكوته من رؤية عظائم جبروته

__________________

(١) واعلم أنه قد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في كل من الآيتين المذكورتين ، وأول الحروف في الآية الأولى : الثاء المثلثة في ثم ، وآخرها : الصاد المهملة في صدوركم ، وأولها في الثانية : الميم في محمد ، وآخرها : الصاد أيضا في الصالحات ، وليس في القرآن آية حوت الحروف كلها غيرهما ، ومن دعا الله تعالى بهما ؛ استجيب له. والمراد : من قرأهما ، ودعا عندهما ؛ استجيب له ؛ لأنهما لجمعهما الحروف كلها ؛ كانت بمنزلة القرآن كله ، وقد صحّ أن الدعاء مستجاب ، مستجاب عند ختم القرآن ، ولمّا كانت هذه الحروف مما أنزله الله تعالى على آدم عليه‌السلام ، وكان آدم قد تكلّم بسبعمائة ألف لغة على ما جاء في بعض الروايات : كان من تكلّم بتلك الحروف ؛ كمن تكلّم بتلك اللغات كلها ؛ لأن كلّا منها مشتملة على تلك الحروف ، وقد ضم إليها الحروف الأربعة الفارسية التي هي : الباء ، والجيم ، والزاي ، والكاف المعجمة التي تكلّم بها بعض القبائل ؛ ولذا كانت اللغة الفارسية ملحقة باللغة العربية ؛ فجعلت كل منهما لسان أهل الجنة.

٣٢٣

بقوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ، ثم وعدهم بنيل مرادهم من وصاله ، وكشف جماله لهم أبد الآبدين بلا وحشة ولا فترة في آخر السورة بقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) : إيمانهم رؤية نور الغيب بالغيب ، وتصديق الغيب برؤية الغيب ، وعملهم الصالح الخروج من الحدثان شوقا إلى جمال الرحمن ، ومغفرة الله لهم أنه غفر لهم تقصيرهم في العبودية ؛ إذ لم يطيقوا أداء حقوقها كما يليق بالحق ، وقصور إدراكهم وحقيقة الربوبية بالأجر العظيم بأن يجلسهم على بساط قربه ، ويلبسهم لباس نور وصله ، ويتوجهم بتاج المحبة ، ويسقيهم من شراب الدنو والزلفى ، قال سبحانه : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.)

قال القاسم في قوله : (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) : أرسل الرسول وعظّم حرمته بإضافته إلى نفسه ، فمن لم يعظّم من عظّمه الله فهو لقلة معرفته بعظمة الله ، أرسله مبينا للشريعة ، مبينا أحكامه ، داعيا إليه ، وجعل طاعته طاعته ، لم ينفصل الرسول عن الحق في الإيجاب والنفي والبلاغ والمشاهدة ، ولم يتصل به من حيث الحقيقة.

وسئل الحسين : متى كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيّا وكيف جاء برسالته؟ فقال : نحن بعد في الرسول والرسالة ، والنبي والنبوة ، أين أنت عن ذكر من لا ذاكر له في الحقيقة إلا هو؟ وعن هوية من لا هوية له إلا بهويته؟ وأين كان النبي عن نبوته حيث جرى العلم بقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ، والمكان عليه والزمان عليه ، فأين أنت عن الحق والحقيقة؟ ولكن إذا أظهر اسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة عظم محله بذكره له بالرسالة ، فهو الرسول المكين والسفير الأمين ، جرى ذكره في الأزل بالتمكين بين الملائكة والأنبياء على أعظم محل وأشرف حال.

قال سهل في قوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) : المؤمن من وجهه الله بلا فناء مقبلا عليه غير معرض عنه ، وذلك سيماء المؤمنين.

وقال عامر بن عبد قيس : كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله ، وكذلك وجه الكافر وذلك قوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ.)

وقال بعضهم : ترى على وجوههم هيبة ؛ لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم.

قال ابن عطاء : ترى عليهم خلع الأنوار لائحة.

وقال عبد العزيز المكي : ليست هي النحولة ، وهي الصفوة ، لكنه نور يظهر على وجوه العابدين ، يبدو من باطنهم على ظاهرهم ، يتبين ذلك للمؤمنين ، ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي ، والله أعلم.

٣٢٤

سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) : هذا وعيد لمن حكم بخاطره بغير علم بالفرق بين الإلهام والوسواس ، والكشف والخيال ، وهواجس النفس وخطاب العقل ، ولسان السر والنور بخردل من خرافات خاطره ، ويحكم بها من الجهل بكلام الله وسنة رسوله ، ويلزم المستمعين من أبناء جنسه أنها هي الحق ومقصوده الرياء والسمعة ، فإذا قال أحد ما قال الله ورسوله لا ينفكّ عما انتحله من إلقاء العدو وحديث النفس ، فيلزم عليه وعيد الحق وتحذيره بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) عن عذاب البعد وعما يقوله ؛ فإنه تعالى سميع لقوله ، ويجازيه بأن يحرم عليه مقالة الحكمة ، عليم بنيته الكاذبة ، ويجازيه بالنار والشنار ، ولا يخلو الإنسان من هذه العلل النفسانية الشيطانية ، وإن كان صدّيقا فإنها مواضع الامتحان من قهر الله الذي قهر به عباده ، وفيه من الأدب للمريدين ألا يتكلموا بين يدي شيوخهم ، خاصة أنهم يتكلمون بالمعارف ؛ فإنه سبب سقوطهم من أعين الأكابر.

قال سهل : لا يقولوا قبل أن يقول ، وإذا قال فأقبلوا منه منصتين له مستمعين إليه ، واتقوا الله في إمهال حقه وتضييع حرمته ؛ إن الله سميع لما يقولون ، عليم بما يعملون.

قال بعضهم : لا تطلبوا وراء منزلته منزلة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) : أعلمنا الله سبحانه بهذا التأديب أن خاطر حبيبه من كمال لطافته ومراقبته ، جمال ملكوته كان يتغير من الأصوات الجهرية ، وذلك من غاية شغله بالله وجمع همومه بين يدي الله ، فإذا صوت أحد بالجهر عنده خاصة أن يكلم كان يتأذى قلبه من صوته ، ويضيق صدره من ذلك ، كأنه يتقاعد

٣٢٥

سره لحظة عن السير في ميادين الأزل والأبد (١) ، فخوّفهم من ذلك ؛ فإن تشويش خاطره صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب بطلان أعمالكم : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) ، فإن من العرش إلى الثرى لا يزن عند خاطره ذرة ، واجتماع خاطر الأنبياء والأولياء لمحة أحبّ إلى الله من أعمال الثقلين ، وفيه حفظ حرمة رسول الله ، وتأديب المريدين بين يدي أولياء الله.

قال ابن عطاء : زجر عن الأذى ؛ لئلا يتخطى أحد إلى ما فوقه من ترك الحرمة.

وقال سهل : لا تخاطبوه إلا مستفهمين.

قال الأستاذ : أمرهم بحفظ حرمته ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته ، ثم وصف الله المتأدبين بآداب الله أنهم أهل التقوى الذي هو نور من الله في قلوبهم ، فقدّس سرائرهم من العجب والخطرات المذمومة ، وأنهم ينظرون بذلك النور عظم حرمات حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما شرفه الله به من المنازل السنية والدرجات العلية ، بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) ، ثم بيّن أن لهم مغفرة بأنهم مستورون عن أعين الشياطين ، محفوظون من مكائدهم بما منّ الله عليهم من رعايته وعنايته ، وكشف مشاهدته بقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣).

قال الحسين : من امتحن الله قلبه بالتقوى كان شعاره القرآن ، ودثاره الإيمان ، وسراجه التفكر ، وطيبه التقوى ، وطهارته التوبة ، ونظافته الحلال ، وزينته الورع ، وعلمه الآخرة ، وشغله بالله ، ومقامه مع الله ، وصومه إلى الممات ، وإفطاره من الجنة ، وجمعه الحسنات وكثرة الإخلاص ، وصمته المراقبة ونظره المشاهدة.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) : شكا الله عن ترك آداب بعضهم في صحبة رسوله ، وبيّن أن الصبر في حفظ حرمته سبب نيل درجاتهم في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل ، وإعادة النداء مع قرب العهد ؛ للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه ، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه ؛ أي : لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدّ يبلغه صوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل يكون كلامه عاليا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيّته عليكم لائحة ، وسابقته لديكم واضحة. البحر المديد (٦ / ١٠١).

٣٢٦

قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر وفي مجالس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات الأعلى والخير في الأولى والعقبى ، ألا ترى الله بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) إلخ.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩))

قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) : جعل قلوبكم مستعدة لقبول معرفته ، ثم قذف فيها أنوار قربه ، وزيّنها بنقوش محبته ، زيّن عروس التوحيد بزينة المشاهدة في أعين أزواجهم ، وجذبها به إلى بساتين الغيب ، حتى رأوا لطائف بره وعجائب ملكه وملكوته ، ثم منّ عليهم بأن بغضهم العصيان والفسوق بتكريهه إليهم ، كما أنه حببهم أعمال الإيمان بتحبيبه إليهم بغير علة ولا سبب بل فضلا ومنّة ؛ حيث أرشدهم إلى نفسه ، وحبّب إليهم قربه ووصاله بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧).

قال سهل : حبّب إليكم العمل بأوامر الإيمان ، وزيّن في قلوبكم تلك الأوامر ، ثم زاد في تأكيد ما ذكرنا أن ذلك الرشد وحب الإيمان فضل منه وكرم بقوله : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) : فضله اصطفائيتهم في الأزل ، ونعمته قربه ومعرفته.

قال سهل : بفضل الله عليهم فيما ابتدأهم به ، وهداهم إليه من أنواع القرب والزلفى.

قال الواسطي : المؤمن يكره العصيان ، ولكن يغيب عن شاهده ؛ ليغلب عليه شواهد شهوته ، فيأتيها ، وذلك إنفاذ قضيته وتنبيه على ضعفه.

قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) : إشارة الحقيقة في الآية أن وقائع الغيب عند كشوفها في صدور الأولياء على خلاف مذاق الروح والقلب والعقل والسر ؛ لوجود إتيانها من الغيب بالبديهة ، فبعضها للروح ، وبعضها للسر ، وبعضها للعقل ، وبعضها للقلب فما وقع في السر فهو أعظم مما وقع على الروح ، وما وقع على الروح أعظم مما وقع على القلب ، وما وقع على القلب أعظم مما وقع على العقل ؛ لأن واقعة السر

٣٢٧

كشف الأولية والآخرية من الأزل والأبد ، ونوادره الشطح والعلم المجهول ، وما وقع على الروح من كشف الجمال والجلال وعجائبه الشوق والمحبة والسكر والانبساط ، وما وقع على القلب من كشف العظمة ولطائفه الهيبة والإجلال وعلوم الصفات وحكم الربوبية ، وما وقع على العقل من كشف نور الأفعال ونتائجها الأذكار والأفكار والمعاملة والعبودية ، وهذه الأحكام عند أربابها مختلفة باختلاف كواشفها ، ولبعضها على بعض معارضة من جهة غرائبها ؛ فإصلاح بينهم لا يكون إلا بالكتاب والسنة وموازينهما ؛ لا أن يعلمها بفرق بيان موارد الأسرار وعجائب الأنوار ، قال الله تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) ، وقال : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩) أي : أصلحوا شأنكم في سير المقامات والأحوال بكلام الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لتستقيموا في شرائع المعارف.

قال سهل في هذه الآية : هو الروح والقلب والعقل والطبع والهوى والشهوة ، فإن بغى الطبع والهوى والشهوة على العقل والروح والقلب فليقاتله العبد بسيوف المراقبة وسهام المطالعة وأنوار الموافقة ؛ ليكون الروح والعقل غالبا والهوى والشهوة مغلوبا.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) : افهم أيها العاقل أن الله سبحانه خلق الأرواح المقدسة من عالم الملكوت ، وألبسها أنوار الجبروت ، فمواردها من قربه مختلفة ، لكن عينها واحدة ، وخلق هياكلها وأشباحها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها ، وزيّنها بنور قدرته ، ونفخ فيها تلك الأرواح ، وجعل بين الأرواح والأجسام والنفوس الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح ، ولا من قبيل الأجسام ، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكنها ، فأرسل الله عليها جند العقول ؛ ليدفع بها شرها ، فإذا امتحن الله عباده المؤمنين هيّج نفوسهم الأمّارة ؛ ليظهر حقائق درجاتهم من الإيمان والآخرة ، فأمرهم أن يعينوا العقل والروح والقلب على النفس حتى تنهزم ؛ لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضهم بعضا ، ثم بين أن في الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنجاة إذا كان مقرونا بالتقوى الذي يقدس البواطن من البغي والحسد بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠) ، فإذا فهمت ما ذكرت علمت أن حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد ؛ فإنهم كنفس واحدة ؛ لأن مصادرهم مصدر

٣٢٨

واحد ، وهو آدم عليه‌السلام ، ومصدر روح آدم نور الملكوت ، ومصدر روح آدم نور الملكوت ، ومصدر جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال ؛ لذلك تصعد الروح إلى الملكوت ، والجسم إلى الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام : «كلّ شيء يرجع إلى أصله» (١).

قال أبو بكر النقاش : سألت الجنيد عن الأخ الحقيقي؟ فقال : هو أنت في الحقيقة إلا أنه غيرك في الهيكل.

وقال أبو عثمان الحيري : أخوة الدين أثبت من أخوة النسب ؛ فإن أخوة النسب تقطع بمخالفة الدين ، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) : بيّن الله سبحانه أن أكثر الظنون يؤول إلى الفساد ، وأنها بعينها مأثمة ؛ لأنها من قبل النفس الأمّارة التي ليس لها النظر إلى العيوب ؛ فتهيم في المخاييل الشيطانية ، وذلك أن الشيطان يلقي فيها عيب المؤمنين ، ويهيجها بظنون مختلفة ، وبيّن سبحانه أن بعض الظن حقيقة إذا كان ليس من قبل النفس ، بل يكون ذلك من رؤية القلب ما جرى في الغيب ، فيتفرس بنور اليقين ؛ ولذلك وصف المؤمنين بذلك بقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ.)

قال ابن شمعون : الظن ما يتردد في النفس من حيث أملها باستدلالها على حظها بوصفها ، فيتردد ، ولا يقف ، فيمكن من الإيواء إليه ، فما كان هذا وصفه فهو ظنّ.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي : ليس الكريم من يكون ذا نسب ، إن الكريم من عرف الله وهابه وخضع له ، وعرف نفسه أنه خلق من التراب وما للتراب وربّ الأرباب ، ولا يفتخر بنفسه على أحد بل الفخر بالله ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» (٢).

__________________

(١) ذكره المناوي في فيض القدير (٦ / ٢٩٥) بنحوه.

(٢) رواه ابن ماجه (٢ / ١٤٤٠) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٦٦٠).

٣٢٩

قال جعفر : الكريم هو المتقي على الحقيقة ، والمتقي المنقطع عن الأكوان إلى الله.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦))

قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) : الإسلام ظاهر العبودية ، والإيمان مشاهدة الربوبية ، ومحله القلب ، بقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، والإسلام الحقيقي بنعت الخضوع ، واستعمال الأمر لا ينفكّ من الإيمان ؛ فإن أصله الإيمان ، وهو متولد منه ، أمّا ما يكون بالتقليد والأعراض فهو أوصاف أهل النفاق.

قال سهل : ليس في الإيمان أسباب ، إنما الأسباب في الإسلام ، والمسلم محبوب إلى الخلق ، والمؤمن غنيّ عن الخلق.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) : نفى الله ـ سبحانه ـ المنة عن الحدثان ؛ إذ لا يصلح أن يكون لأحد قدرة بإنشاء شيء من نفسه ، فإذا بيّن ذلك صرف المنة إلى نفسه بأن له المنة الأزلية ، حيث أوجد الخلق بلا علة ، بل فضلا ورحمة منه ، فمن أقبل إليه يرجع نفعه إليه ؛ لأن ساحة الكبرياء منزّهة عن علل الخليقة ، والعجب أن يكون الحدث محل منته القديمة ومنته لا يحتمل غيره.

قال الواسطي : لفظة المنة في محل التلبيس ؛ لأن العباد إن لم تصحبهم رؤية المنة هلكوا ؛ ولأن رؤية المنة حجاب كبير ، وفي رؤية المنة استدراج عظيم ، وكيف وهو لا يمنّ على أحد يعرفه ، وإنما المنّ على من حجبه ذكر المنن جواب في الحقيقة لمن منّ عليه ، ألا ترى إلى قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) ، وفي كرمه لا يجوز المنة على أحد من النّاس ؛ إذ المنة تقع على من هو خارج من ملكه ، فالمن على [شيء] يستحيل ، وما علمت أن الكريم في الحقيقة لا يمنّ لا سيما إذا كان الممتن عليه من خدمه.

٣٣٠

قال الحسين في قوله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) : هذا جواب لما سلف من قولهم لا أن أحدا يستطيع حمل مننه ، فكيف يمن على من خطر له عنده ، ولا أثر منه عليه ، وأعجب منه ألا يمن على أحد إلا بالمخلوق ، ولا وزن للكون عنده ، فكيف يمنّ بمن لا وزن له على أحد؟! عجبت من مقالة أكابر المشايخ بأن منة الله على العبد حجاب ومكر إن أرادوا بالمنة الفعل واصطناع الكريم يكون ذلك مكرا ؛ لأن العبد إذا كان في رؤية النعمة فهو محجوب من رؤية المنعم ، وإن أرادوا بالمنة صفته الأزلية بأنه منان على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، فإن ذلك ليس بحجاب ؛ إذ منانيته كشوف وصفه بنعت تعريف نفسه لعباده ؛ ليعرفوه بالصفة لا بالغير ؛ ولذلك قال الجنيد ـ قدّس الله روحه ـ : إن منّ العباد تفزيع ، وليس من الله تفزيع ، وإنما هو من الله تذكير النعم ، وحثّ على شكر المنعم ، ثم بيّن سبحانه أن المتكلفين بإسلامهم على حبيبه عليه الصلاة والسلام من جهلهم بالله وبأنفسهم ؛ إذ ليس لهم منة ؛ لأنهم عجزة أنفسهم ، والمنة لمن هو منزّه عن الخلل والنقصان ، وهو محيط بكل ذرة بعلم أزليّ ، ويعلم حقائق الأشياء ؛ إذ هو موجدها بقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) : ليس له غيب ؛ إذ الغيب شيء مستور ، وجميع الغيوب عيان الله ، وكيف يغيب عنه؟! وهو موجده ، يبصر ببصره القديم ما كان وما لم يكن ؛ إذ هناك العلم والبصر واحد.

سورة ق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧))

(ق) : قف ، أقسم الله سبحانه بذاته وصفاته ، قاف قاف كبرياء قدمه ، الذي هو أصل وأصل كل أصل ، (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) : الذي هو مخبر عن جميع الذات والصفات ، المشتمل على حكميات الأفعال ، المقدس عن تغاير الأزمنة والدهور ، الذي كشف بيان ما يقع لأرواح العارفين وأسرار الواصلين ، وقلوب المحبين ، وعقول الصديقين ، وصدور المقربين ، ظاهره ظاهر البيان من حيث العبودية ، وباطنه باطن العيان من حيث الربوبية ، وحرف القاف

٣٣١

كناية عن كل اسم فيه القاف ، مثل القديم والقادر والباقي والقيوم والقوي والقاهر والمقتدر والقريب أي : بقربي عن قلوب العارفين ، وقرب أرواحهم وأسرارهم من مشاهدة بقائي وقدمي ، وبقصد كل ذي قصد بنعت الإرادة والشوق إلى مشاهدتي ، وأيضا أي : بقيامي على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، وبقيامهم بقيوميتي إلى الأبد ، وأيضا أي : بالقلم القادر الذي رقّم القرآن على أوراق لوح الملكوت ، وأيضا أي : بحرقة قلوب العاشقين والشائقين والمشتاقين إلى جمالي ، والقرآن الذي يشوقهم إلى قربي ، وأيضا أي : بقسمي الاصطفائية لأنبيائي وأوليائي والمقربين في سوابق علوم قدمي ، أنا أقرب إلى قلوب الفرّارين مني من عروق قلوبهم ، أكشف بكشف جمالي قساوة قلوبهم ، وأقرّبهم مني حتى يشتاقوا إليّ ، وأيضا بقربك مني يا محمد يا قرة عيون الأنبياء والأولياء والمرسلين والعارفين والصديقين وما أنزلت إليك من القرآن المجيد قف عند قوام كبريائي ، ولا تغص في قاموس «قلزم» قدمي ؛ حتى لا تستغرق في قعر بحر بقائي ، فينقطع منك قوافل الحدثان ، ويبقوا عن محل القربان ، بل قف في مقابلة قمر جمالي ؛ لتشرب قهوات ودادي وعشقي في مشاهدة برقان جلالي ، وتبقى ببقائي ، وتلقى عجائب قرآني المجيد على قلوب القائمين في مقام الاستقامة ، يا فهم إنما يتعلق بحرف القاف ما يكون فيه القاف من جميع كلمات الله ، وما كان وما يكون في أفعاله ، فهذا القاف القاسم عليه رمز جميعا ، فإذا قال سبحانه : (ق) : أعلم بذلك حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع معانيها من خبر الذات والصفات والأفعال ، وهو عرف بالله ما قال الله فيه بأقل لمحة ، فإنها تنبئ عن جميعها ، وهذا رمز بين المحب والحبيب ، ألا ترى كيف أنشد العاشق لمعشوقه :

فقلت لها قفي قالت لي قاف

فكنت عن الوقوف بعاشقها

والمعاني التي فيه بحرف القاف ، وهو فهم بها عنها ما كان في خاطرها من الوقوف على مراد عاشقها ، فإذا قال سبحانه : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) فعلم عليه الصلاة والسلام سرّ ما بين الخافقين ، وما يصل إليه في ليلة المعراج من الحق من الدنو فيما بين قاب قوسين من القرب وكشف النقاب ، (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي : بهذين القسمين عجب أقرباؤك أنك من بين البريات تكون حاملا أمانات الذات والصفات ، وأنت منذرهم ، وأنت منهم بالظاهر ، (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي : شيء عجيب ؛ إذ ظهر أنوار القدم مما خرج من العدم ، ولو يعلموا أن الله سبحانه اصطفاه من بين البرية لحمل أمانة رسالته ، وكشف جماله وقربته.

قال سهل : أقسم بقوته وقدرته.

وقال ابن عطاء : أقسم بقوة قلب حبيبه صلوات الله وسلامه عليه ؛ حيث حمل الخطاب

٣٣٢

والمشاهدة ، ولم يؤثر ذلك فيه ؛ لعلوّ حاله.

وقال سهل في قوله : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) : المشرف على سائر الكلام.

وقال الحسين : المطهر لمن اتبعه عن دنس الأكوان وهواجس الأسرار.

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨))

قوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (١) : بيّن الله سبحانه أنه بجلاله وقدره أظهر نوره مشكاة السماوات والأرض ، وبرز بنوره من نيرات السماوات ومن الجبال والبحار والأشجار وجميع المستحسنات لبصائر العارفين الراجعين إليه بنعت الشوق والمحبة ، ويريهم تلك الأنوار ؛ ليزيد علمهم ومعرفتهم به ، ويجدد عليهم أذكار نعم مشاهدته.

قال سهل : اعتبارا واستدلالا على توحيدهم لربهم وشكرهم له وذكرا لمن كان له قلب حاضر مع الله ، وعلمه يكتسب به علم الشرع ، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي : مخلص القلب بالتوبة إلى ربه وإدامة الذكر له بواجباته.

وقال الحران : المنيب المجيب القريب.

قال بعضهم : التبصرة معرفة من الله عليه ، والذكرى عدها على نفسه في كل حال وأوان ؛ ليشتغل بالشكر فيما عومل به عن النظر إلى شيء من معاملته.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

__________________

(١) راجع بقلبه إلى ربه ، مطيع له تعالى ، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله ، فيعتبر ، ويعلم أن من قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام ، قادر على إحياء الأموات وبعثها ، وحسابها وعقابها.

الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال ؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله ، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن ، فيقع الإنكار عليهم ، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم في الظاهر كل ممزق ، يجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم ، أفترى على الله كذبا أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة وهي حياة الروح بمعرفة الله في عذاب الحجاب والضلال ، عن معرفة العيان بعيد ، ما داموا على ذلك الاعتقاد ، ثم يهددون بما يهدد به منكرو البعث ، والله تعالى أعلم. البحر المديد (٥ / ١٢٦).

٣٣٣

قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) : زاد تذكير نعمه على عباده بأن نزّل من سماء قربه مياه المعرفة ، ونور المشاهدة ، وبيان المكاشفة على قلوب المقبلين إليه ، وأنبت فيها نبات العقول والعلوم والحكم والمعارف قوة للمريدين وقوتا لقلوب الطالبين ، قال الله تعالى : (رِزْقاً لِلْعِبادِ.)

قال ابن عطاء : أنزلنا من السماء الفهم والعلم والمعرفة ، فربينا بها قلوب أولى الألباب وأهل المعرفة والفهم ، فهو الخطاب ، واستعملوه ، وألبسوا به ، واتبعوه ، فأنبت الله بذلك الماء في قلوبهم معرفته ، وعلى لسانهم ذكره ، وعلى جوارحهم خدمته : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠))

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) : أراد الله سبحانه ظهور نفسه لعشاقه ، فخلق آدم على ما كان في علمه ، ثم أظهر منه ما غاب عن الوجود من نور غيبه ، وبيّن أنه عالم بما يجري في سره وما توسوس به نفسه ، وكيف يخفى عليه ما خلقه ، وهو مبدئه بجوده ، جلّت عظمته من أن تخفى عليه ذرة من العرش إلى الثرى ، ألا ترى أوّل الخطاب كيف قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) ، ذكر الخلق ليعلم المخاطب أن ما توسوس به نفسه أيضا هو مخلوقه ، وتحقيق الإشارة ودقائق الرمز بيان فيه أن نفسه هو ، فيظهر ما كان في مكمن مقاديره الغيبية ، ولو يرى الإنسان نفسه ، فيرى هو أنه نفسه ، ألا ترى كيف أخبر عن كمال قربه بنعت الاتحاد بقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ؛ ولذلك قال سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (١) ؛ إذ لا نفس إلا هو إن فهمت ما قلت وإلا فاعلم أن الفعل قائم بالصفة ، والصفة قائمة بالذات ، فمن حيث عين الجمع ما هو إلا هو ، ولا تظن الحلول ؛ فإنه بذاته وصفاته منزّه عن أن يكون له محل في الحوادث ، هذا رمز العاشقين ، ألا ترى إلى قول مجنون العشق الإلهي :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٠٨).

٣٣٤

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

قال أبو سعيد الخراز في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : هم قوم صاروا مع الله بلا سبب ولا طلب ولا هرب ؛ لأنه مدركهم ، وهو معهم يعلم ما في ضمائرهم ، ويشهد حركات ظاهرهم ، ألم تسمع إلى قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.)

وقال الواسطي في قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي : نحن أولى به وأحق ؛ إنا جمعناه بعد الافتراق ، وأنشأناه بعد العدم ، ونفخنا فيه الروح ، فالأقرب إليه من هو أعلم به منه بنفسه.

وقال أيضا : بي عرفت نفسك ، وبي عرفت روحك ، كل ذلك إظهار النعوت على قدر طاقة الخلق ، فأمّا الحقيقة فلا يحتملها العبد سماعا.

قوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) : سائق نفس العارف شوقه إلى جمال الحق ، وشاهد شوقه كشف مشاهدة شوقه بنعت الاطلاع على حرقة فؤاده ، فشهد له أنه وليّ مقرب يجلسه على بساط أنسه أبد الآبدين.

قال الواسطي : سائقها الحق ، وشهيدها الحق.

قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) : يا ليت لو علم الغافل هناك غاية أمره ؛ إذ كان غافلا عن مشاهدة الغيب ، فصار له منكشفا ؛ فيرى ما يرى مشاهدة وعيانا ، وثبت له حقيقة العيان بلا علة الاستدلال ؛ ليفرح بوجدانها حتى يطير من الفرح بكشفها ما يزيل عن قلبه هم العذاب وحزن العتاب ، فإذا حصل المقصود فأنّى العذاب خطر ؛ إذ الاحتراق بالنار بعد اليقين والعيان سهل على من يسّره الله عليه ، وبيّن سبحانه أنه إذا رفع غواشي قهره عن أبصار الغافلين صارت أبصارهم نافذة في رؤية الغيوب ، فيرون ما يفرح به قلوب العارفين في الدنيا من كشف عجائب الملكوت وأنوار الجبروت ، فأين أنت من العذاب والعقاب عند كشف النقاب وسماع الخطاب ومن ليس بغافل عن كشف عيان العيان وبيان البيان ، ومن يطّلع على حقيقة الحقيقة هاهنا حتى أتى بساط الأعظم

٣٣٥

ومجلس الأقرب ، هناك ينكشف أنوار الألوهية وسناء القدوسية ، فيكحل عيون الكل ضياء مشاهدته ، فيذهب من البين الدليل والاستدلال والمخاييل والمحال والإيمان والإيقان ، بل يبقى العيان والعرفان أبدا ، وهذا كما قال السيد الضرغام الأمير الهمام علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (١).

قال الواسطي : من كشف عنه خطأ الغفلة أبصر الأشياء كلها في أسر القدم.

وقال أيضا : أي : علمك نافذ في المقدورات ، وحكمك ماض على الخلائق.

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي : لا يتغير قولي الذي سبق في الأزل بحسن العناية في اصطفائية أنبيائي وأوليائي إلى الأبد ، ولا أسقطهم عن درجتهم التي اخترتها لهم في الأزل ؛ إذ استحال مني كون الظلم ، وأيضا أي : لا تغير الأقوال عند اطلاعي بها ، ولا يقدر أحد على أن يخفى إصدار كلامه عني ما في ضميره ، قال الله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، والكون ملكي أتصرف فيه كما أشاء ، ولا يرجع إليّ ظلم ولا جهل ؛ إذ هما من أوصاف الحدث ، وأنا منزّه عن أوصاف الحدثان.

قال سهل : ما يتغير عندي حكم قد سبق علمي فيه ، فيكون بخلاف ما سبق العلم.

وقال ابن عطاء : ما يظهر في الوقت هو الذي قضينا في الأزل لا مبدل له.

وقال الأستاذ : لا تبديل لحكمي ولا تغيير لقضائي ، وما أنا بظلام للعبيد ، وتصرفي فيهم تحت ملكي ، فلي كل ما أفعله ، ولا مني ظلم ؛ لأن الظلم ترك الأمر ، وهو ليس بمأمور.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١))

قوله تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) : إن الله سبحانه وعد جهنم أن يملأها من الجن والإنس ، فيملأها ثم يقول : هل امتلأت ، وهي تستزيد ؛ لأن ما يلقى فيها كحلقة تلقى في اليم ، وإن جهنم تشتاق إلى الله كما تشتاق إليه الجنة ، فإذا رأى الله سبحانه حالها من الشوق إليه يضع أثقال سطوات قهر القدم عليها بنعت تجل ، فتملأ من العظمة ، وتصير عند عظمة الله كلا شيء في شيء ، ويا رب طبب في قلوب الجهنميين في تلك السّاعة من رؤية ظلال عظمته ، ومن رؤية أنوار قدم القدم ، لهم فيها زفير وشهيق ، فحينئذ

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٠٣).

٣٣٦

يصير نيرانها وردا ريحانا من تأثير بركة ظهوره لها :

يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى

إليكم تلقي طيبكم فيطيب

وما ذاك إلا حين خبرت أنها

تمر بواد أنت منه قريب

تصديق ما ذكرنا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتّى وضع الجبّار قدمه على النار فتقول قط قط» (١). (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢))

قوله تعالى : (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أي : فاز منه إليه حافظ أنفاسه حتى لا يتيقن إلا الله وفي الله.

قال سهل : هو الراجع قلبه من الوسوسة إلى السكون إلى الله ، والحفيظ المحافظ على الطاعات والأوامر.

قال المحاسبي : الأوّاب الراجع بقلبه إلى ربه ، والحافظ قلبه في رجوعه إليه أن يرجع منه إلى أحد سواه.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦))

قوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) : هذا وصف من وعده الله جنان مشاهدته ووصاله وقربه ووصفه بالخشية والإنابة ، والخشية هي العلم بإحاطته بعلمه القديم بكل شيء ، ورؤية جلاله الذي ورث في قلبه الخشية والإجلال ، فإذا رآه بهذه الصفات العظام رجع من وجوده إلى وجود الحق.

قال الواسطي : الخشية أرقّ من الخوف ؛ لأن المخاوف العامة لا تعاين إلا عقوبة ، والخشية هي نيران الله في الطبع فيها نظافة الباطن للعلماء ، ومن رزق الخشية لم يعدم الإنابة ، ومن رزق الإنابة لم يعدم التفويض والتسليم ، ومن رزق التفويض والتسليم لم يعدم الصبر على المكارة ، ومن رزق الصبر على المكاره لم يعدم الرضا.

وقال بعضهم : أوائل العلم الخشية ، ثم الإجلال ، ثم التعظيم ، ثم الهيبة ، ثم الفناء ، ثم وصف الله ما لهم في قربه وجواره من المشاهدة والوصال بقوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي : لهم ما يشاءون مما وصل إلى قلوبهم من الأماني والعلم بوجودي ، ولدينا مزيد مما

__________________

(١) رواه الخطيب البغدادي في التاريخ (٥ / ١٢٧).

٣٣٧

لا يطلعون ولا يعرفون مني إلى الأبد ، وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١).

قال عبد العزيز المكي : لهم في الجنة ما يحقق أمانيهم من النعيم ، ثم نزيدهم من عندنا ما لا تبلغه الأماني ، وهو الرؤية ، وذلك أجلّ وأعلا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤))

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) : أثبت الله سبحانه رؤية أنوار حكمته الأزلية وسناء الكبرياء والعظمة وظهور قهر الجبارية لمن له قلب ، وله إلقاء السمع ، وله شهود السرّ ، والقلب عبارة عن نقطة دائرة الفطرة القدسية التي خلقها الله من نور فعله الخاص ، وهو يتجلى لها من نور صفته ونور ذاته ، وهناك لطيفة كبرى ، وهي سر النقطة ، حولها دائرة العقل ، وراء الدائرة حواشي فعله ، ألقي تحتها ستر الصفات ، ثم تحت ذلك الستر ظهور الذات لها ، فهو بذاته وصفاته حافظ فعله الخاص ، أليس ستر الفعل العام على غاشيتها ، وحولها عالم الملك والشهادة ، وباطنها كشف الصمدية وجلال الأزلية ، وبينها وبين الحق لم يبق حجاب امتناع قدمه عن إحاطتها ، وذلك الكشف والعيان من بدو وجودها إلى أبد الأبد لا ينقطع ؛ لذلك قال الشبلي : وقتي مسرمد ، وتجري بلا شاطئ ، سقط عنها أضداد التجلي ؛ إذ لم يبق بين الحق وبينها جريان الحوادث ، ولتلك اللطيفة عيون وأسماع ؛ إذ كل وجودها سمع وبصر ، فجميع سمعها وبصرها مشغول بخطاب الله ورؤيته ، فألقت سمعها لأصوات وصلة الأزلية ، شهدت أبصارها بمشاهدة القديم ، ثم نورث الهيكل بالحضور والخدمة ، وطلب مزيد الصفاء والقرابة ، وجعلتها مركب سيرانها وطيرانها إلى عالم الملكوت ، ورأت من روزنة البصر ما رأت بلا واسطة ، وسمعت بسمع الظاهر ما سمعت بلا وسيلة ، فإذا رأى صاحب هذا القلب شيئا من عجائب صنعه صار خاضعا لعظمته ، خاشعا

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١١٨٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤).

٣٣٨

لهيبته ، مطيعا لأمره ، جعلنا الله وإياكم من أصحاب القلوب ، وأقرّ عيوننا بأنوار الغيوب.

قال الحسين : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) : لا يخطر فيه إلا شهود الربّ.

وقال ابن عطاء : قلب لاحظ الحق بعين التعظيم ، فذاب له ، وانقطع إليه عما سواه.

وقال الواسطي : ذكرى لقوم واحد ، لا لسائر الناس ، لمن كان له القلب أي : في الأزل ، وهم الذين قال الله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.)

وقال القاسم : هم الأنبياء ؛ فإن الله خلقهم للمشاهدة ، يشهدون له بقلوبهم عند إقبالهم وإدبارهم بأنه المنشئ والمبدئ والمعيد.

قال الحسين : بصائر المبصرين ، ومعارف العارفين ، ونور العلماء الربانيين ، وطرق السابقين الناجين والأزل والأبد ، وما بينهما من الحدث غيره : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ.)

وقال ابن عطاء : هو القلب الذي يلاحظ الحق ، فيشاهده ، ولا يغيب عنه خطرة ولا فترة ، فيسمع به ، بل يسمع منه ، ويشهد به ، بل يشهده ، فإذا لاحظ القلب الحق بعين التخويف رعب وارتعد وهاب ، وإذا طالعه بعين الجمال والجلال هدأ واستقرّ.

وقال : قلب لاحظ الحق بعين التعظيم ، فذاب ، وانقطع إليه عما سواه ، وإذا لاحظ القلب الحق بعين التعظيم لان وحسن.

وقال بندار بن الحسين : القلب مضغة ، وهو محل الأنوار ، ومورد الزوائد من الجبار ، وبها يصح الاعتبار ، جعل الله القلب للجسد أميرا ، وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) ، ثم جعله لربه أسيرا ، فقال : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.)

وقال جعفر : إذا همّ القلب عوقب على المكاره ، ولا يعرفه إلا العلماء بالله.

وقال الصبيحي : خاطب أصحاب القلوب ؛ لأن القلوب في قبضة الحق يقلبها كيف يشاء ، وسّعها ، وصفّاها من البين ، ونقّاها ، وشرحها ، وفسحها ، ثم حشاها بمودته وإيمانه ويقينه ؛ ولذلك خاطب القلوب بخصائص ما أودع فيها.

وقال بعضهم : للقلوب مراتب ، فقلوب في قبضة الحق مأسورة وبكشفه مسرورة ، وقلوب المحبين إليه والهة ، فقلوب طائرة بالشوق إليه ، وقلوب هاجت بالشغف هيمانا ، أو قلوب اعتقدت فيه الآمال ، وقلوب إلى ربها ناظرة ، وقلوب تبكي من الفراق وشدة الاشتياق ، وقلوب ضاقت في دار الفناء وسمت إلى دار البقاء ، وقلوب خاطبها في سرها ، فزال عنها مرارة الأوجاع ، وقلوب سارت إليه بهمتها ، وقلوب صعدت إليه بعزائم صدقها ، وقلوب تقدمت بخدمته في الخلوات ، وقلوب مرّت في الهدايات ، وابتغت من الله العناية ،

٣٣٩

وقلوب شربت بكأس الوداد ، فاستوحشت من جميع العباد ، وقلوب ساقت في الطريق إليه ، وقلوب انقطعت بالكلية إليه ، فهذه مراتب القلوب في السلوك والقصد فهو متبع قصده.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) : أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكّر الخاشعين من عظمته والخائفين من رؤية كبريائه بالقرآن ؛ لأنهم أهله وأهل القرآن أهل الله وخاصته ، يعرفون حقائق الخطاب ، وهم يدركون موعظة الله ، ويفزعون بها من الله ، ويتابعون مواضع الخطاب بنعت العبودية ، وهم بالقرآن يرتقون إلى سعادته ، فيرون الحق بالحق بلا حجاب ، ويصعدون به إلى الأبد.

قال أحمد بن حمدان : ألا يتعظ بمواعظ القرآن إلا الخائفون على إيمانهم وإسلامهم ، وعلى كل نفس من أنفاسهم أنهم في محل البعد والهلاك ، قال الله : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.)

قال الأستاذ : إنما يؤثر التخويف والإنذار في الخائفين ، فأما من لا يخاف فلا ينفع فيه التخويف ، وطير السّماء على وكارها تقع (١).

سورة الذاريات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) : أقسم الله سبحانه بعواصف تجلي عظمته وكواشف أنوار كبريائه التي تفرق أسرار العارفين في هواء القدم ، والبقاء حتى لا يبقى من وجودها من صولة ظهور القيومية في سماء الهوية أثر ؛ لغلبة القدم على الحدث وبشمال جماله الذي يأتي بنسيم الوصلة إلى

__________________

(١) انظر : تفسير القشيري (٧ / ٣٠٤) ، والبحر المديد (٧ / ٥٣).

٣٤٠