تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

١
٢

سورة التوبة

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧))

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

افهم أن الوفاء بالعقود ، وعهود المعرفة والمحبّة والعبودية ، لا يأتي إلا ممن شاهد الربوبيّة حين خرج من العدم بنور القدم ، ومن خلا من المحبّة ، وعشق القديم فليس له عهد ، والوفاء بالعقد.

وكيف يكون منهم الوفاء وهم عن ساحة الكبرياء مطرودون إلى الأبد هم من وصال الحقّ غير مقبولين ، قد برء الحق من أهل الرعونات الذين يعبدون أنفسهم وهواها ، والدنيا وزينتها وجاهها ، وقبولها ألزمهم سمات الفراق ؛ لخروجهم من عهد الأزل والميثاق ، يا ليتهم لو أعلموا أداء الفرقة لفنوا من آلام البعد ، وأي داء أشدّ من داء الفراق ، وأنشد في هذا المعنى :

وكلّ مصيبات الزمان رأيتها

سوى فرقة الأحباب هينة الخطب

تقبّل الله ورسوله كلّ عذر سوى الشرك ؛ لأنّ الشرك ظلم عظيم ، حيث ساوى الحدث بالقدم ، ووقعت الفرقة بالبداهة بعد العهود.

٣

وما أشد ذلك لا سيّما إذا كانت بغتة على غير رقبة في أزمنة السليمة :

فتنبّأ بخير والدّنا مطمئنّة

وأصبحت يوما والزمان تقلّبا

كانوا في زمان العهود على رجاء الوصول ، فجازتهم طوارق الغيرة ، وأسقطتهم عن نيل المنية ، وكأن سراج الوصل أزهر بيننا ، فبهت به ريح من البين فانطفأ.

ثمّ أنّ الله سبحانه رأى نقض عهودهم بعد أن أمهلهم في زمان يمكن تدارك ما أفاقوا ، وذلك ما قال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) (١).

وأشفع عليهم بنقض العهد بين جمهور الخلائق ، بقوله : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) : عرف عباده يوم عيد الأكبر يعني : يوم كانت الأرض والسماء واحدا ، بل العرش والكرسي والأرض سواء لكشوف جلاله لنبيّه وأوليائه.

قال عليه‌السلام : «إذا كان يوم عرفة إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة ...» (٢).

بأنه تعالى برئ من المشركين المحجوبين بهواهم عن الله ورسوله ، برئ منهم ؛ لأنّ الحبيب يوافق حبيبه في كل مراده ، وهكذا يقتضي غيرة التوحيد.

قال ابن عطاء : كلّ من أشرك مع الله فيما لله غير الله فهو منه بريء ، ثم من كرمه ورحمته ما أخرجهم عن مربع الرجاء بالكلّية ، وما قطع حبال الوصال بالجملة حين استتابهم بقوله : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي : إن رجعتم من حظوظ أنفسكم من الدنيا إلى حظوظ قلوبكم من مشاهدتي ، فهو خير لكم ، فإنّ الخير كلّ الخير في وصالي وقربتي.

و «التوبة» عند أهل الإشارة : ذهاب الحدثان على الجنان عند مشاهدة قدم الرحمن.

قال أبو عثمان : التوبة مفتاح كلّ خير (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ

__________________

(١) إشارة إلى أن للنفوس في أرض البشرية سيرا وسياحة لتكميل الأوصاف الأربعة من النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية التي تتولد بازدواج الروح العلوى الروحاني المفرد والقالب السفلى المركب من العناصر الأربعة. فالنباتية تولد الماء. والحيوانية تولد الريح. والشيطانية تولد النار. والإنسانية تولد التراب فلتكتمل هذه الصفات أرخيت أزمة النفوس في مراتع الدنيا ونعيمها إلى البلاغة. تفسير حقي (٤ / ٤٨١).

(٢) رواه ابن خزيمة في صحيحه (٤ / ٢٦٣).

٤

الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧))

قوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) : وصف الله سبحانه المخالفين بأنّ ليس لهم رعاية أهل الجنّة ، ولا يحترمون أهل المعرفة ؛ لقلّة معرفتهم بحرمات أهل الحضرة ، وما منّ الله عليهم من الكرامات السنيّة.

قال محمد بن الفضل : حرمة المؤمن أفضل الحرمات ، وتعظيمه أجلّ الطاعات ، قال الله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً).

قوله تعالى : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : بيّن الله تعالى أن من يخشى غير الله ، فلا وزن له في المعرفة ، صغّر الأعداء في عيون الأولياء ؛ لئلا يفزعوا منهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وملأ قلوبهم من أنوار هيبته وإجلاله ، وحذّرهم من المداهنة في الدين ، وعرّفهم عجز الخلق بعد تعريفهم عزّته وجلاله ، أي : تخشونهم ، وهم هباء في بطش قهر ربوبيّتي ، فأنا أهل أن تخشوا مني ، فإنّي بوصف الجبروت قهّار قهر كلّ من يبارزني في محاربة أوليائي ، وأضاف خشيتهم إلى نفسه بلفظ الجمع على معنى الذات والصفات ، ألا ترى إلى قوله : (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) : اسم الله : اسم عين الجمع ، وهو عين الذات والصفات.

قال بعضهم : الخشية للذات ، والخوف للصفات.

قال الله : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ).

وقال : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) [الرعد : ٢١].

٥

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) : خاطب المدّعين الذين يظنّون أن الحقيقة تحصل بمجرّد الدعوى دون التحقّق بالمعنى بالتفريع عند حسابهم ومخاييلهم ، وعرّفهم أن من لم يكن باذلا لوجوده لله ، مخلصا في معرفته بنعت زوال عوارض البشرية ، والصدق في صحبته أهل الولاية ، فهو على غلط من حسبانه ، وفي سهو من حسابه ، وذلك تمام الاية بقوله : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) (١) ، ثم حذّرهم عن دعوى المحال ، وما في ضمائرهم من غبار الخيال ، بقوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) : جمع الله سبحانه جملا من الخصال الحميدة من الفرائض والسنن ، والإيمان والمعرفة ، والثقة بوجوده فيمن يجوز له عبارة مجالس أنس العارفين والمحبّين والعابدين والمطمئنين والمراقبين.

وتلك العمارة تكون بخلوّ قلبه عمّا دون الله عند دخوله في مساجد الله ، وطهارة سرّه عن شواغل الطبيعة ، وغبار الوسوسة.

قال بعضهم : عمارة المسجد بعمارة القلب عند دخوله بصدق النيّة ، وحسن الطوية وطهارة الباطن لله ، كما طهرت ظاهرك بأمر الله ، ودخول المسجد بالخروج عن جميع الأشغال والموانع ، فذلك من عمارة المساجد.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا

__________________

(١) بطانة ، أي : جاهدوا وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولم يتخذوا من دونهم بطانة ، أي أصحاب سر يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم ، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين ، دون موالاة من عاداهم. البحر المديد (٢ / ٣٨٨).

٦

آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

قوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) : أنّ الله سبحانه وصف المهاجرين في الاية المتقدّمة ، بخروجهم مما دون الله لوجدان رضوانه ، وبشارته بلقائه وغفرانه ، وهو تعالى لمّا وجدهم أسارى سلب مشاهدته ، ومقيّدين بأسر محبّته ، ولم ير في قلوبهم من العرش إلى الثرى غير أنوار الإيقان والعرفان ، بشّرهم بنفسه بلا واسطة ، وإذا كان المبشّر واسطة بين الأحباب والحبيب ، فهو عظيم كما قيل :

لو لا تمتّع مقلتي بلقائه

لوهبتها لمبشّري بإيابه

لا سيما والحبيب هو مبشّرهم بنفسه ، وبشارته خطاب مع كشف المشاهدة ، ومن يطيق أن يسمع بشارته بوصاله مع كشف جماله أن يبقى عند حسن شهوده ، ولذّة خطابه ، وهذا كما أنشد :

تراءيت لي بالغيب حتّى كأنّما

تبشرني بالغيب أنّك بالكفّ

أراك وبي من هيبتي لك وحشة

فتؤنسني باللطف منك

وتحيي محيا أنت في الحبّ حتفه

وإذ أعجب كون الحياة مع الحتف

بشّرهم برحمته ، ورحمته كشفت جماله بلا حجاب ، وهو أول درجة العارفين ، ثم بشّرهم بالرضوان ، وهو الوصال بنعت المؤانسة بلا كدورة الهجران ، ثم بشرهم بدخولهم في جنات قربات الصفات والذات ، بنعت تحصيل علوم الأزال والاباد من رؤيتها ، والبقاء في نعيمها بنعت الدواء ، وأي نعيم ، وأي جنّة أشرف من تجلّي جلاله ، وجماله لعرفانه.

بشّر المؤمنين بالرحمة ، وبشر المطيعين بالجنّة ، وبشر العارفين بالرضوان والوصلة ، وأيضا بشر التائبين بالرحمة ، وبشر الصادقين بالمشاهدة ، وبشر المحبّين بالمجاورة.

قال أبو عثمان : هو الذي يستجلب رضوانه ، ورضوانه يوجب مجاورته ، ومجاورته توجب النعيم الدائم.

قال الله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ). ويقال : إن القلوب مجبولة على حب من يبشّر بالخير ، فأراد الحق سبحانه أن تكون محبّة العبد

٧

له سبحانه على الخصوص ، فتولّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة ، فقال : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ).

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) : أخبر سبحانه أن الأولياء والأصفياء لا تخلو قلوبهم من قوارع خطرات الامتحانية ، مع شرفهم بالولاية ، واصطفائيتهم بالكرامة ؛ ليعلم الحقّ أن ولايتهم غير مكتسبة بالأعمال ، وهذا تعريفه تعالى مواضع نعمه لهم ، واختياره لهم المنازل الرفيعة في الأزل ، ومعنى الاية أي : حيث تبرأتم من حولكم وقوّتكم ، وافتقرتم إليّ ، وفررتم مني إليّ ، ونصرتكم على عدوّكم بحولي وقوّتي حين شاهدتم عزّة أزليتي ، وجلال أبديتي ، وحين نظرتم إلى حولكم وقوتكم ، واحتجبتم بها عن مشاهدة قدرتي تركتكم مع أنفسكم.

قال جعفر : استجلاب النصر في شيء واحد ، وهو الذلّ والافتقار والعجز ، لقوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) : لم تقوموا فيها بأنفسكم ، ولم تشهدوا قوّتكم وكثرتكم ، وعلمتم أن النصر لا يوجد بالقوة ، وأن الله هو الناصر المعين ، ومتى علم العبد حقيقة ضعفه نصره الله ، وحلول الخذلان بشيء واحد ، وهو العجب.

قال الله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) ، فلما عاينوا القدر من أنفسهم دون الله ، رماهم الله بالهزيمة ، وضيّق الأرض عليهم.

٨

(ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) : موكولين إلى حولكم وقوّتكم وكثرتكم ، فلما رأى تقصيرهم بصرف عيونهم عن مشاهدة الله إلى أنفسهم طرفة عين ، وندموا على ذلك ، ورجعوا بعد الامتحان إلى ساحة الرحمن ألبسهم الله أنوار قربه ، وكساهم سنا قدرته وهيبته ، ولذّت قلوبهم بحسن عنايته حتى قويت بها في احتمالها أثقال عبوديته (١) ، وبيّن ذلك بقوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : والإشارة فيه إلى أن قلب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لم يخل أيضا من شواهد امتحانه ؛ لأنّ الحق حق ، والخلق خلق ؛ ولذلك قال : (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ).

كان عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك يقول : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (٢).

(سَكِينَتَهُ) : زيادة أنوار كشف مشاهدة الله له حين خاف من مكر الأزل ، فأراه الله اصطفائيته الأزلية ، وأمنه من مكره لا أنه ينظر من الحقّ إلى نفسه طرفة عين ، لكن إذا غاب في بحار القدم لم ير للحدث أثرا ، ورأى الحدثان متلاشية في قبض بطش العظمة ، ففزع منه به ، فاواه الله منه إليه حتى سكن به عنه سكينته بالدنو ، حيث قال : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [النجم : ٨] ، وثباته بدنوّ الدنو ، بقوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] ، فلمّا وصفه بالمرتبة الأعلى ، والمشاهدة الأدنى ، وسكينة قربه الأصفى ، زاد في وصفه حين لم ير في مشاهدة القدم ما خرج من العدم ، بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] سكينته كانت من رؤية الذّات ، وسكينة المؤمنين من رؤية الصفات.

قال بعضهم : السكينة التي أنزلها الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي التي أظهر عليها ليل المسرى عند سدرة المنتهى ، فما زاغ ، وما طغى ، بل السكينة إقامة مقام الدنوّ ، بحسن الأدب ناظرا إلى الحقّ ، مستمعا منه ، مثنيا به عليه ، بقوله : «التحيات لله» (٣).

والسكينة التي نزلت على المؤمنين ، هي سكون قلوبهم إلى ما يأتيهم به المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من

__________________

(١) قال القشيري : يعني نصركم يوم حنين حين تفرّق أكثر الأصحاب ، وافترت أنياب الكرّة عن نقاب القهر فاضطربت القلوب ، وخانت القوى أصحابها ، ولم تغن عنكم كثرتكم ، فاستخلص الله أسراركم ـ عند صدق الرجوع إليه ـ بحسن السكينة النازلة عليكم ، فقلب الله الأمر على الأعداء ، وخفقت رايات النصرة ، ووقعت الدائرة على الكفار ، وارتدّت الهزيمة عليهم فرجعوا صاغرين.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) رواه البخاري (١ / ٢٨٦) ، ومسلم (١ / ٣٠١).

٩

وعد ووعيد ، وبشارة وحكم.

وقيل : السكينة المقام مع الله بفناء الحظوظ.

قال الأستاذ : السكينة استحكام القلب عند جريان حكم الرب بنعت الطمأنينة ، وبخمود آثار البشريّة بالكلّية ، والرضا بالبادي من الغيب من غير معارضة واختيار.

ويقال : السكينة الفرار على بساط الشهود بشواهد التأديب ، بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقّة ، ولا تحرك عرق بمعارضة حكم ، وذكر تمام نعمه بإنزال الملائكة عليهم بقوله : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها).

وفي لطيف الإشارة «الجنود» : روادف آثار قوّة تجلّي الحقّ بغير الاحتجاب ، ونعت الانقطاع.

قال الأستاذ : الجنود ههنا وفود اليقين ، وزوائد الاستبصار ، ثم إن الله سبحانه وصف من كان مجبولا في الأزل بسمة السعادة ، وبقي في حجاب النكرة ، يخرجه بأنوار سوابق حكمه من ظلمات قهره ، بقوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) : كشف لهم ما غاب عنهم من أنوار معدن الغيب ، وهداهم بها إلى محلّ شهود الحضرة ، ومنّ عليهم بكشف المشاهدة ، وأوصلهم إليه بالرحمة ، وسترهم بوصله عن غير الفرقة ، وذلك قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : ما أكرم مولانا تعالى سبقت رحمته ومغفرته لعباده في الأزل ، مع علمه بما يبدو منهم من العصيان ، ولم يكن عليهم غضبا ، ولم يسلب منهم غفرانا ، سبحانه ما ألطفه سبحانه.

قال الأستاذ : ردّهم من الجهل إلى حقائق العلم ، ثم نقلهم من تلك المنازل إلى مشاهد اليقين.

ثم إن الله أعلمنا بفضله أن من لم يكن خاطره مطهرا بمياه التوحيد من بحر التفريد من أدناس الوساوس ، ورياء الناس لا يصلح لمقام القرب والاستئناس ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) : بيّن أن من بقي في قلبه في عبودية خالقه نظر إلى غيره ، أو إلى نفسه لا يجوز أن يدنو من مجالس أوليائه ، فإنّ صحبته تشوّش خواطرهم ، وتنجّس بنفسه أنفاسهم ، وحذّر العارفين أيضا من صحبة المخالفين ؛ لأنهم غرائس الله ، ولا يجوز أن ينظر إليهم.

قال الجنيد : الصوفية أهل بيت لا يدخل فيهم غيرهم ، والإشارة فيه أيضا أن من عكس فيه آثار قهر القدم ، أوقعه في بحر رؤية النفس ، وتلك الرؤية نجاسة بقيت في قلبه ، ولا يقرب بها من مواقف القدسية من عالم الملكوت والجبروت.

قال أبو صالح حمدون : المشرك في عمله ، من يحسّن ظاهره لملاقاة الناس ، ومجاورتهم

١٠

ويظهر للخلق أحسن ما عنده ، وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنها ، بما أظهر عليها من زينة العبادات ، وينجّس باطنه بمخالفة ما أظهره من الرياء والشهوات ، وسائر المخالفات ، فذاك المشرك في عبادته ، النجس باطنه ، ولا يصلح لبساط القدس إلا المقدّس ظاهرا وباطنا ، سرّا وعلنا ؛ لأن الله تعالى قال : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، ومن كان نجسا ، فإن الأمكنة لا تطهّره ، وستر الظاهر عليه لا ينظّفه.

وقال الأستاذ : فقدوا طهارة الإسرار بماء التوحيد ، وبقوا في قذرات الظنون والأوهام ، فمنعوا قربان المساجد التي هي مشاهد القرب.

ثم إنّ الله سبحانه وعد العارفين بأن يكسوهم كسوة غنى بقائه ؛ حتى لا يحتاجوا للنظر إلى سواه بقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) : إذا أخرجتم أهل الدنيا من بين سفير الأعلى من المقرّبين الذين نعوتهم الفقر ، وسماتهم التصوّف والعبادة ، ويخطر على قلوبكم انقطاع مواساتهم لكم ، فأنا أغنيكم عمّا سواي ، وأرزقكم من غير وسيلة تحتجبون بها عني.

قال الأستاذ : توقّع الإرفاق من الأسباب ، من قضايا انغلاق باب التوحيد ، ومن لم يفرد معبوده بالقسمة يبقى في فقر سرمدي.

ويقال : من أفلح بعفو وكرم مولاه ، واستمطر سحاب جوده غناه عن كلّ سبب ، وكفاه كلّ تعب ، وقضى له كلّ سؤل وأرب ، وأعطاه من غير طلب.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ

__________________

(١) أي : فقرأ بسبب منع المشركين من الحرم ، وكانوا يجلبون لها الطعام ، فخاف الناس قلة القوت منها ، إذا انقطع المشركون عنهم ، فوعدهم الله بالغنى بقوله : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من عطائه وتفضله بوجه آخر. وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ، وأسلمت العرب كلها ، وتمادى جلب الطعام إلى مكّة ، ثم فتح عليهم البلاد ، وجلبت لهم الغنائم ، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض ، وما زال كذلك إلى الان ، وقيده بالمشيئة ؛ لتنقطع الامال إلى الله ، ولينبه على أنه متفضل في ذلك وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض ، وفي عام دون عام. البحر المديد (٢ / ٣٩٤).

١١

يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) : عبر من بقي في رؤية المقتدى عن رؤية الحقّ ، وإن كان وسيلة منه ، فكان في إفراد القدم من الحدوث إلى النظر إلى الوسائط شرك ، وتصديق ذلك تمام الاية قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) : غيرة الوحدانية ما أبقت في البين غير أمن الشواهد والايات ، وجميع الخلق.

قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١] ، ولما رأى عليه‌السلام غيرة القدم على شأن استهلاك الغير ، زجر من مدحه ، وتجاوز في المدح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح» (١) ، وتحرّك في تفريد سرّه من رفع الحدثان ، حين تكلّم في الصحو بعد السكر ، وأخبر عن فناء الكل في الكل ، وقطع مسالك الصورة عن إفراد القدم ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل» (٢) ، بعد أن كان مأمورا بمتابعة الخليل عليه‌السلام ، بقوله تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٣٢].

قال أبو يزيد في «مقالة التوحيد» : إيّاك أن تلاحظ الحبيب والكليم والخليل ، وتجد عند الله سبيلا.

وسئل الشبليّ عن وصف جبرائيل عليه‌السلام ، فقال : والله ما خطر على قلبي منذ شهر أنّ الله خلق جبرائيل ، وأخبر عن فناء شهوده في شهود الله.

قال بعضهم في هذه الاية : سكنوا إلى أمثالهم ، فطلبوا الحقّ من غير مكانه ، وطرق الحقّ خلق جبرائيل ، وأخبر عن فناء شهوده في شهود الله. قال بعضهم في هذه الاية : سكنوا إلى أمثالهم ، فطلبوا الحقّ من غير مكانه ، وطرق الحقّ واضحة لمن كمل بنور التوفيق ، وأبصر سبل التحقيق ، ومن عمي عن ذلك كان مردودا عن طريق الحقّ إلى طرق الضالين من الخلق.

وقد وقع أنهم معيّرون وموبّخون بقلّة عرفانهم أهل الحقائق ، وركونهم إلى أهل التقليد ، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد ، وهكذا شأن من اقتدى بالزرّاقين من أهل السالوس المتزيّنين بزيّ المشايخ والعارفين المتحقّقين ، وتخلّف خلف الجامعين للدنيا ، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ، ونحن رؤساء الطريقة ، يضحك الله الدهر ملجأهم حيث علموا أن الولاية بالنسب ، حاشا أن من لم يذق طعم وصال الله ، وقلبه معلّق بغير الله يكون

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٢٧١).

(٢) تقدم تخريجه.

١٢

من أولياء الله.

قال الجنيد : إذا أراد الله بالمريد خيرا ، هداه إلى صحبة الصوفية ، ووقاه من صحبة القراء ، ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم ، ولم يتعرضوا لأولياء الله ، ولم يقصدوا إسقاط جاههم يكفيهم شقاوتهم ، لا سيما ويطعنون الصدّيقين والعارفين ، قال الله تعالى في شأنهم : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) : كيف يطفئون نيّرات حسناتهم ، وأنوار شموس الصفات ، التي تبرز من جباه وجوههم ، ولاليء خدودهم ، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية ، وسماوات القيّوميّة ، ويزيد نورهم على نور ؛ لأنه تعالى بلا نهاية ، ولا منتهى لصفاته.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) : إنّ الله سبحانه سنّ سنّة أزليّة ، ألّا يجد أحد سبيله إلّا يفيض له أستاذا عارفا بالله وبعبوديته وربوبيته ، فيدلّه إلى منهاج عبوديته ، ومعارج روحه وقلبه إلى مشاهدة ربوبيته ، ويكون هو واسطة بينه وبين الله ، وإن كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، بغير علّة ، ولا سبب جعله واسطة للتأديب ، لا للتقريب ، وصيره شفيعا للجنايات ، لا شريكا في البدايات ، هداه نور القرآن ، ودينه حقيقة البيان مع إظهار البرهان.

قيل : جعل الله الوسائط طريقا لعباده إليه ، وبعثهم أعلاما على الطرق ، ونورا يهتدون به ، وعمّر بهم سبيل الحقّ ، وحقيقة الدين ، قال الله تعالى : (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) : وبّخ الله البخلاء بقلّة الإنفاق ، وخروجهم عن سبيل الوفاق ، ولا يكون ذلك إلّا من مواريث النفاق ، وتأثير الفراق.

قال بعضهم : من بخل بالقليل من ملكه ، فقد سدّ على نفسه باب نجاته ، وفتح على نفسه طريق هلاكه.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا

١٣

يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) : جعل الله أيام الفراق ممدودة ، وجعل أيام الوصال بلا حساب ، ولا انقطاع ، وجعلها على التأبيد.

قال الله تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٣] ، وجعل لأيّام العبادة منقطعا ، وجزاؤها بمشاهدته لهم لم يجعل له منقطعا.

قال الله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] : حثّ بهذه الاية المشتاقين إلى الفرح بوصاله ، وزيادة شوقهم إلى كشف جماله ، حيث جعل أيام التفرقة القليل ، وحسن وصالهم الخليل :

دنا وصال الحبيب واقتربا

وطربا للوصال وأطربا

كان في الكتاب الأزلي لأيام العبودية حصر ؛ لأنّها زمان الامتحان ، وهي من أوصاف الحدثان ، فإذا خرجت من أماكن الكونين لا يبقى إلا أنوار جمال الرحمن المنزّهة عن تغاير الملوان ، وعن الانقلاب والدوران ، وحدود المكان ، ومضيّ الزمان ، لا يكون هناك إلا كشف جمال الأزل بجلال الأبد ، وكشف جلال الأبد بجمال الأزل ليس عنده مساء غروب بالفناء ، ولا صباح علل البداء.

وقت العارف في كشف جمال وجهه ليس وقت الأزمنة ، بل تسرمد استغراقه في بحار القدمية ، وطيرانه بأجنحة البقاء في هواء الأبديّة ، ولا يجري عليهم طوارق الزمان ، ولا علّة الحدثان ، ما أطيب أيام الوصال للمشاهدين كشف الجمال ، وطوبى لأعين قوم أنت بينهم فهن من نعمة من وجهك الحسن.

والإشارة في قوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كشف أوقات السرمدية بنعت تجلّي الأزليّة لوقت مرور القضاء والقدر ، اليوم عبارة عن طلوع الشمس وغروبها ، وليس في جلال القدم مشرق الحدث ، ومغربة المشارق هناك آزال ، وآزال الازال ، والمغارب آباد وآباد الاباد ، الدهر الدهار ، والفلك الدوّار فانيان في قدم الرحمن ، أوجد من العدم وقتا بقدر يوم ، فخلق الخلق في ذلك اليوم.

١٤

وقوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (١) وجعل بكرمه ورحمته منها شهور القربات ، وزيادة للمدانات ، ومناسكا للعبادات ، وشرّفها لكشف المشاهدات ، ومنعهم فيها عن التمتّع والتنعّم ، وأمرهم فيها بالتعطّف ، وأمهل فيها الخارجين من السنّة ؛ لتأهّبهم أهبّة الأولية والأبرار إلى جوار الرحمة ، وما سواهما من الأيّام والشهور ، رفاهية لأهل الأنس ، ومطايبة لأهل البسط ، وكذلك تلك الحرمات على أهل القربات ، وقال : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) إلى الطريق المستقيم إلى الله ، وشهادة وصال الله ، وكشف مشاهدة الله ، وحذّرهم فيها عن مخالفة الله ، بقوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ، بمنعها عن المجاهدات ، وطلب المشاهدات ، وإعطائكم حظها من الشهوات.

قال بعضهم : ظلم نفسه من أطلق عناقها في طرق الأماني من اتّباع الشهوات ، وارتكاب السيئات ، والتخطّي إلى المحارم.

من نفوسهم من المخاييل الشيطانية التي هيجتهم إلى الاستبداد بارائهم الفاسدة في استبداعهم طهي الباطل ، وهم رأوها من أنفسهم مستحسنة ، من قلة عرفانهم بطريق السنة الإلهية.

قال الواسطي : خيرهم على ما فيه هلاكهم ، ولم يعذبهم ، بقوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ).

وسئل جعفر الصادق عن قوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ).

قال : هو الرياء ، ثم حث المؤمنين بترك الدنيا ولذّتها ؛ لأجل مشاهدته ، وحسن رضاه بقوله : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي : اخترتم موضع الكرامات ، وظهور الايات عن كشف المشاهدات.

قال يحيى بن معاذ : الناس من مخافة النصيحة في الدنيا وقعوا في فضحية الاخرة.

قال الله : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) ، ثم وصف الدنيا بالقلة والدناءة ، ووصف الاخرة بالشرف والمنزلة ، بقوله :

(فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي : ما وجد العارف الصادق في الدنيا من القربة والمعرفة ، والوجه والحالة والفضل والكرامة في جنب ما تجده من الحضرة بعد

__________________

(١) لمّا علم أنهم لا يداومون على ملازمة القرب أفرد بعض الشهور بالتفضيل ، ليخصّوها باستكثار الطاعة فيها. فأمّا الخواص من عباده فجميع الشهور لهم شعبان ورمضان ، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة ، وجميع البقاع لهم مسجد ، تفسير القشيري (٣ / ٩٥).

١٥

وصوله إليها ، وما يرى من وصال الحق ، وكشف جماله أقل من قطرة في البحار.

قال النهر جوريّ : الدنيا بحر ، والاخرة ساحل ، والمركب واحد ، وهو التقوى ، والناس سفر.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢))

قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) : من كان مصطفى بتأييد الأزل لا يحتاج إلى نصرة أحد غير الله ، ومن أعزه الله بعزته ، جعله ناصرا له ، وهو مستغن عن نصرته ، وناصره تشرف نصرته ، أو نصرة الخلق قائم بنصرة الحق ، ومن انقطع إلى الله من الخلق ، أعانه الله على كل همّه ، ويصل إلى كل نعمة. وصف تعالى نصرته لنبيه عليه‌السلام حين أوى إليه في دخوله مع صاحبه في الغار ، بكشف جماله ، وإبراز نور منه لصاحبه ، أي : من كان قادرا بنصرة من كان مخفيا وراء نسج العنكبوت على أعدائه بلا مددكم ولا عددكم ، وأيضا هو ينصره ، ويجعله غالبا على كافة الخلائق مما أعطاهم من راية نصرة الأزلية ، وأعلام دولة الرسالة والنبوة.

قيل : نصره الله حيث أغناه عن نصرتكم ، بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، ومن كان في ميدان العصمة ، كان مستغنيا عن نصرة المخلوقين ، ألا تراه لما اشتد الأمر كيف قال : بك أصول فإنك الناصر والمعين.

ومعنى قوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) (١) إشارة إلى خاصية الصدّيق لصحبته الحبيب ، إذ كان مشرب من مشارب بحار نبوته ، وسواقي أنهار رسالته التي جرت

__________________

(١) روي أن المشركين طلعوا فوق الغار يطلبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فقدوه من مكة ، فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» فأعماهم الله عن الغار ، فجعلوا يترددون حوله فلم يروه. وقيل : لما دخل الغار بعث الله حمامتين ، فباضتا في أسفله ، والعنكبوت نسجت عليه. البحر المديد (٢ / ٤٠٤).

١٦

من قلزم القدم.

ولو لا تلك الأهلية لما كان فردا في الصحبة ، وكان الصدّيق في منزل ما كان محمد ، وكان الله ولم يكن معه شيء من شقائق قدسه ، وبرق من بروق أنوار أنسه ، خرجا من تلك الأنوار ودخلا بها في الغار ، وعرّف الحبيب الصدّيق خصائص المعيّة معه حين ورد عليه طوارق الامتحان ، وأخرجته من رؤية الحدثان ، بقوله : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي : لا يحزن بتغير الاصطفائية ، وانكسار حصون العصمة ، فهو معناه بمعنى القدرة والعلم الأزلي ، وعناية الأبدية ، وظهور مشاهدته من حيث القلب والروح والعقل ، بوصف المناجاة والمداناة.

وقال ابن عطاء في قوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ).

قال : في محل القرب في كهف الأنوار في الأزل.

وقال في قوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) : ليس من حكم من كان الله معه أن يحزن.

وقال الشبليّ : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) : تشخصه مع صاحبه ، ووحّد الواحد بقلبه مع سيّده.

وقال ابن عطاء في قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) معناه : إن الله معنا في الأزل حيث وصل بينا ، ووصل الصحبة ، ولم يتفضل.

قيل في قوله : (لا تَحْزَنْ) : كان حزن أبي بكر رضي الله عنه ؛ إشفاقا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : شفقة على الإسلام أن يقع فيه وهن.

وقال فارس : إنما نهى عن الحزن ؛ لأن الحزن عنه ، وإنما هو تعريف أن الحزن لا يحل بمثله ؛ لأنه في محل القربة.

وقيل : أخرجتهما الغيرة إلى الغار عليهما الحق ، فسترهما عن أعين الخلق ؛ لأنهم كانا في مشاهدته يشهدهم ويشهدونه ، ألا ترى كيف يقول عليه‌السلام لأبي بكر رضي الله عنه : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (١) مشاهدا لهما ، وعونا وناصرا.

ويقال في قوله : (نَصَرَهُ اللهُ) من تلك النصرة أبقاه إياه فيما أبقاه به من كشوفاته في تلك الحالة ، ولو لا نصرته لتلاشى تحت سطوات كشفه.

ويقال : صحيح ما قالوا للبقاع دون ما خطر ببال أحد ، أنّ ذلك الغار يصير مثوى ذلك السيد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ولكن يختص بقسميه ما يشاء ، كما يختص برحمته من يشاء.

ويقال : علقت قلوب قوم بالعرش ، فطلبوا الحق منه.

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٣٣٧) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٥).

١٧

وهو تعالى يقول : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) أنه سبحانه تقدس عن كل مكان ، ولكن هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد ، وينشد :

يا طالب الله في العرش الرفيع به

لا تطلب العرش إن الحبّ فاره

لي نكتة عجيبة في قوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحبه : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) هذا نفى الاتحاد بالوحدانية ، كما نفى عن عيسى وأمه حين زعموا النصارى أن الله ثالث ثلاثة ، فقال : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) [المائدة : ٧٣] نفى الإلوهية عن الروح والصدّيقية ، كما نفى هاهنا عن سيد المرسلين ، وسيد الصدّيقين حتى لا يظن ظان أن من العرش إلى الثرى لم يكن في ساحة الكبرياء والأزلية أثر ؛ لأن الألوهية القديمة ممتنعة عن الانقسام والافتراق والاجتماع ، وتحقيق ذلك قوله :

(إِنَّ اللهَ مَعَنا) وتلويح ذلك نفي الاتحاد ، وإظهار الانبساط ، ودليل الإشارة بقوله : (لا تَحْزَنْ) أثبت الحزن في طلب أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك الحزن حزن فوت الحال ، والوقت في زمان البأس والابتلاء ، وعرف عليه‌السلام أن الوقت والحال لا يفوت عنا ، فهو تعالى معنا بالكشف والوقت والحال ، بقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) ، ثم زاد في حدث الكشف والوصال حيث حزن صاحبه لأجلها بقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) إشارة أن سكينته نزلت من عند الله على قلب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلك زيادة وضوح الكشف والمداناة ، النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مستقيما في الأحوال كلها ، وما حزن لأجل الفوت ، ولكن أنزلت السكينة عليه ؛ لأجل زيادة استقامة قلب الصدّيق ، وذهاب الحزن عنه ؛ ليستضيء نورها من جمال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو أنزلت على الصدّيق بغير واسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لذاب تحت إشراق سلطان أنوار القدم ؛ لأن تلك البرهاء في تلك الأوقات لا يحتملها إلا المرسلون من أولي العزم ، كما قال : أنزل سكينة أبي بكر على محمد ، وإن كان البهاء راجعا إلى الله سبحانه ، ويحتمل أن السكينة نزلت على أبي بكر ، فأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت السكينة عليه ، قيل ذلك.

قال بعضهم : السكينة لأبي بكر ما ظهر له على لسان المصطفى صلوات الله عليه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (١).

قال بعضهم : السكينة سكون القلب إلى ما يبدو من مجاري الأقدار.

وقال ابن عطاء : يحتمل أن أبا بكر لم يكن محزونا ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشفقته عليه ، حذر ما

__________________

(١) تقدم تخريجه.

١٨

يجوز أن يكون في ذلك الحال ، فقال له : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا).

قال أبو بكر بن طاهر : دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخص أسمائه وأرفعها ، وقدّم اسمه على صفتهما.

وقال موسى : (إِنَّ مَعِي رَبِّي) [الشعراء : ٦٢] : فدعاه باسم التربية ، وهو من عموم الأسماء ، وقدّم اسمه على اسم ربه ، فقال : (إِنَّ مَعِي رَبِّي) : فلذلك عصم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشرك ، وابتلى أمة موسى عليه‌السلام بعبادة العجل.

وههنا أن موسى عليه‌السلام كان غيورا ، فلم ير في البين أحدا من غيره على لجّه ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من حد الغيرة هاهنا ؛ لأنه كان غنيّا بالمشاهدة ، وكان موسى في محل الافتقار إلى المشاهدة.

وقال الكليم : (إِنَّ مَعِي رَبِّي).

قال الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ مَعِي رَبِّي) ، فوقع موسى في رؤية الصفات ، حيث سمى بالرب ، ووقع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤية الذات بما سماه باسم الجمع ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) ، وزاد عليه نعمته بقوله :

(وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) هذه الجنود جنود عساكر تجلّي جمال الأزل ، أنزلت على أسراره ؛ لأنها تطيق حملها ، فإن في الكون لم يكن لتلك الجنود محل قبولها.

وقال جعفر في قوله : (بِجُنُودٍ) اليقين والثقة بالله ، والتوكّل عليه.

ويقال : كان الرسول عليه‌السلام (ثانِيَ اثْنَيْنِ) بظاهر شبحه ، ولكن كان مستهلك الشاهد في الواحد بسره ، ثم وصف منّته سبحانه على الكل ، بإذهابه ظلمة الطبائع ، وإخراجه أنوار الشرائع ، بقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) جعل الدعاوى الباطلة فانية تحت أنوار التوحيد ، والحقيقة كلمة انفراده بفردانيته ، وعلوّه بنعت التنزيه والتقدير عن ظنون خلقه ، بأنه عزيز بعز الكبرياء ، وحكيم في اختصاص أوليائه بكشف البقاء ، ثم إن الله سبحانه حث الجميع على التسارع ببذل القلوب والأرواح والأشباح إلى ميادين الوحدانية والفردانية ؛ لرؤية جماله ، وكشف جلاله ، وإدراك وصاله ، بقوله :

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أي : انفروا إلى أبواب الأزل خفافا بالعقول القدسية ، وثقالا بالقلوب الملكوتية ، وأيضا خفافا بالأرواح الروحانية ، وثقالا بالقلوب السماوية ، وأيضا خفافا بالإرادات الصادقة ، وثقالا بالمحبة المفرطة ، وأيضا خفافا بالإيمان ، وثقالا بالإيقان ، وأيضا خفافا بالأنس ، وثقالا بالقدس ، وأيضا خفافا بأنوار المودة ، وثقالا بأمانات المعرفة ،

١٩

وأيضا خفافا بالتجريد عن الحدثان ، وثقالا بأنوار التوحيد إلى جمال الرحمن.

وأيضا خفافا بنعوت الافتقار ، وثقالا بكسوة غنى العزيز الغفار ، وأيضا خفافا بالقناعة ، وثقالا بالتوكّل ، وأيضا خفافا بالبسط ، وثقالا بالقبض.

قال ابن عطاء : خفافا بقلوبكم ، وثقالا بأبدانكم.

وقال أبو عثمان : خفافا وثقالا في وقت النشاط والكراهية ، فإن البيعة على هذا وقعت. كما روي عن جرير بن عبد الله قال : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنشط والمكره.

وقال بعضهم : خفافا إلى الطاعات ، وثقالا إلى المخالفات ، وجاهدوا بأموالكم للفقراء ألا تمنعوهم حقوقهم ، وجاهدوا بأنفسكم الشياطين ؛ كيلا تستولي عليكم.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣))

قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) إن من سنّة الله سبحانه إذا أراد أن يفتح كنزا من كنوز غرائب علمه ، ونوال قربه ، ولطائف وصلته على أحد من أحبائه وأصفيائه وأنبيائه ، أوقعهم في محل الامتحان ، وأجرى عليه زلة من زلل الحدثان ؛ حتى يضيق صدره بالغيبة ، ويذوق قلبه مرارة الفرقة ، وتذوق روحه من الندامة ، ويطيح عقله من حشمة العتاب ، ويزول شبحه من دار الاحتجاب ، فيطلع الله شمس عزة جلاله من مطلع قلبه ، ويتنسم صبح الوصال من مشرق روحه ، وتبدو أنوار الصفات من روازن أسراره ، وتشرق سبحات الذات في أرض فؤاده ، وتتنور مجامع عقله بظهور سنا أفعاله ، فيرى العبد في البسط بعد القبض مشاهدة بديهية ، ووصلة أبدية ، وخطابا سرمديّا يطير بأنوارها في الازال والاباد ، وتصير ذلته زلفى ، وذنبه كشف وصلة ، ويقابل الله من ذنبه لجميع حسنات العالمين ؛ لأنه مصطفى في الأزل بمحبته ، ومجتبى بنوال قربه في القدم ، وتكون سيئاته حسنات ، وزلّاته زلفات ؛ لأنه مختار الله في أرضه ، وعروسه بين عباده ، جميع حركاته تقع حسنة ، وأفعاله تكون عند الله مستحسنة ، وهكذا شأن الأحباب ، المحب يعتذر لزلة حبيبه ، ويعشق على غيرة معشوقه ؛ لأن من كان حسنا ، فما يبدو منه أيضا يكون حسنا :

فإن نطقت جاءت بكلّ ملاحة

وإن سكتت جاءت بكلّ جميل

ملاحته ، وحسن وجهه يعتذر لذنبه في وجه شافع يمحو إساءته عن القلوب بالمعاذير :

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

ما حطّك الواشون عن رتبة

عندي وما ضرّك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا

عليك عندي بالذي عابوا

٢٠