تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥))

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٢) : ظاهره وعيد ، وإشارة النازعات في الحقيقة إلى صولات صدمات تجلّي العظمة على قلوب العارفين ، بنزع الأرواح العاشقة عن المعادن الحدوثية إلى معادن ، وطوارقات تجلّي الكبرياء ، فتذروها في هواء الآزال والآباد ، حتى لا يبقى إلا وجهه ، ولا يدوم إلا ملكه.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٢) : هي الأرواح الشائقة.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) (٣) : هي الأرواح العارفة ، تسبح في بحار ملكوته ، وقاموس كبرياء جبروته ، تطلب منها جواهر أسرار الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) (٤) : هي أنفاس الشائقين ، وهموم العارفين العاشقين يصاعدها لعالم الملكوت ، وجناب الجبروت ، تسابق كل هبة.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) : هي العقول القدسية ، تدبر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة (١).

(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧))

قوله تعالى : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٦) : طير روح كليمه في وادي قدس آزاله وآباده ، وطوى لها بعد إصفار القديم والبقاء ، فدنا منه ، وأغرقه في بحر جماله وجلاله ، وأسكره شهود العين ، بوصف كاد أن يكون هو هو من حيث الاتحاد والاتصاف ، فاستوفى جميع وجوده حظ الربوبية ، وبقي سمعه من الاتصاف بصفته ، فناداه حتى يكون جامعا في الاتصاف والاتحاد ، فلما كاد أن يدعي الأنائية من حدة السكر ، فناداه حتى يفيق من سكر سكره ، ولا يتجاوز عن حده ، فناداه أين أنت يا موسى؟ أنا ، أنا وأنت ، أنت ، وأحاله إلى

__________________

(١) قال القاشانى أقسم بالنفوس المشتاقة التى غلب عليها النزع إلى جناب الحق غريقة في بحار الشوق والمحبة والتي تنشط من مقر النفس وأسر الطبيعة أى تخرج من قيود صفاتها وعلائق البدن من قولهم نور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد أو من قولهم نشط من عقاله والتي تسبح في بحار الصفات فتسبق إلى عين الذات ومقام الفناء في الوحدة فتدبر بالرجوع إلى الكثرة أمر الدعوة إلى الحق والهداية وأمر النظام في مقام التفصيل بعد الجمع انتهى ثم إن النفوس الشريفة لا يبعد أن يظهر منها آثار في هذا العالم سواء كانت مفارقة عن الأبدان أولا فتكون مدبرات.

٤٨١

فرعون حتى يكون مشغولا عن حدة الاتحاد ، ولولا الرسالة والإبلاغ لفني في شهود الكبرياء ؛ لذلك قال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (١٧) ، حيث يدّعي ما ليس له ، إذ هو رأى على نفسه عكس قهر القدم ، فظن أنه هو في الربوبية ، ولم يعرف أن القهر يمنعه عن الوصول إلى الأزل بالاتصاف ، فإغراء موسى عليه ؛ ليدمر عليه بعزته ، ويكذبه بالعلامة الصحيحة الإلهية الربانية مثل العصا واليد البيضاء ، وإرسال موسى إلى فرعون موضع الامتحان والتعريف بالامتنان والفرقان بين العرفان والخذلان ، ونجاة أهل الإيمان من بين أهل الطغيان.

قال سهل في قوله : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) : جوّع نفسه طائعا تعبدا ، ثم نادى ؛ ليكون النداء أبلغ.

وقال أبو عثمان : طوى أياما قبل القصد ، ثم قصد طاويا مقدسا ، فطوى الوادي المقدس ، فناداه ربه على التقديس.

قال الصبيحي في قوله : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) : الإشارة إلى فرعون ، وهو المبعوث إلى السحرة ، فإن الله لم يرسل أنبياءه إلى أعدائه ، ولم يكن لأعدائه من الخطر ما يرسل إليهم أنبياءه ، ولكن يبعث إليهم الأنبياء ؛ ليخرج أولياءه المؤمنين من بين أعدائه الكفرة.

(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩))

قوله تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩) : فيه بيان أن : المزكّى المطهّر هو المهدي يخشى الله لوجود علمه بالله ، ومن كان جاهلا بالله لم يخش من الله ، وهذا امتحان من الله ؛ لقطع حجته ، ولم تخف على الله سوء عاقبته.

قال ابن عطاء : هل لك أن أطهرك من الجنايات التي تلطخت بها ، وأردّك إلى حد العبودية التي بها الفخر والنجاة.

٤٨٢

وقال الترمذي : الخشية ميراث صحة الهداية ، ألا ترى الله يقول : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى.)

قوله تعالى : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢٠) : انظر كيف أشار سبحانه رمزا عجيبا في هذه الآية أنه أراه آية صرفا ، ولو أراه أنوار الصفات في الآيات لم يكفر ، ولم يدّع الربوبية ؛ إذ هناك موضع المحبة والعشق والإذعان ؛ لأن رؤية الصفات تقتضي التواضع ، ورؤية الذات تقتضي العربدة ، فكان هو محجوبا برؤية الآيات عن رؤية الصفات ، فلما لم يكن معها حظ شهود نور الصفة لم ينل على رؤيتها حظ المحبة ، ولم يأت منها الانقياد والإذعان ؛ لذلك قال سبحانه : (فَكَذَّبَ وَعَصى) (٢١).

قوله تعالى : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤) : ألبس الله نعوت قهره نفس فرعون ، وظهرت تلك النعوت لها بوصف الشهوة والحلاوة من تأثير مباشرتها ، فسكرت نفسه بشرب القهر ، فصارت متمردة عاصية كافرة ، تدّعي الربوبية ، ولم يعلم الكافر أنها لباسات عارية.

سئل الواسطي : لماذا خلق الله المعاصي وأظهرها وأظهر هذه الألفاظ التي لا تليق بالربوبية؟ قال : لأنه لم يؤثر على الذات ما أظهر في الحدث من الصفات ؛ لأن الصمدية ممتنعة عن الإشارات فضلا عن العبارات.

قوله تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٢٥) : لما لم يكن صادقا افتضح في الدنيا والآخرة ، وهكذا كل من يدعي ما ليس من المقامات.

قال بشر : أنطق الله لسانه بالعريض من الدعاوي ، وأخلاه من حقائقها.

وقال السري : العبد إذا تزين بزي السيد صار نكالا ، ألا ترى كيف ذكر الله في قصة فرعون لما ادعى الربوبية ، (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) ، كذّبه كل شيء حتى نفسه.

(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٤١) : خاطب العباد بهذه الآية في أوائل مقاماتهم حين وجب عليه تزكية النفوس عن شره هواها والميل إلى حظوظها ؛ لأنهم في وقت قصودهم إلى الله لا يجوز لهم الرخص والرفاهية ، فقد وجب عليهم الإعراض عن حظوظ أنفسهم خوفا من الاحتجاب بها عن الوصول إلى الله ، ولعلمهم بأنه تعالى يحيط بحركات شهوات نفوسهم الخفيّة حين تميل

٤٨٣

بخفاياها إلى مرادها مما دون الله ، فإذا جاهدوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقام مشاهدته ، وهي جنّة العارفين ، فإذا بلغوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى نهي النفس عن الهوى ، فإن نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية ، فجانست الأرواح الملكوتية ، فشهوات نفوسهم هناك من تآثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق ، فتشتهي الأنفس ما تشتهي الأرواح ، الأرواح في الغيوب ، والنفوس في القلوب ، فنظرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس ، والأرواح جنات ، تظهر فيها أنوار شهود الحق ، وأين الكافر والمعطل والمدعي من هذا المقام؟! وهم خلقوا من الجهالة ، فيموتون في الضلالة ، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين ، وعيش نفوسهم عيش الجنانيين ، والله قادر بذلك ، يختص برحمته من يشاء ، قال الله تعالى : (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ؛ ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلم شيطاني» (١) ، وقال : «نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح» (٢).

قال بعضهم : من تحقّق في الخوف ألهاه خوفه عن كل مفروح به ، وألزمه الكمد إلى أن يظهر له إلا من خوفه.

وقال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء ، وبعض الصديقين ليس كلهم ، وإنما سلم من الهوى من ألزم نفسه الأدب.

سورة عبس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) : بيّن الله سبحانه هاهنا درجة الفقر وتعظيم أهله وخسة الدنيا وتحقير أهلها ، وأن الفقر إذا كان نعت الصادق في المعرفة والمحبة كان شرفا له ، وهو من أهل الصحبة ، ولا يجوز الاشتغال بصحبة الأغنياء ودعوتهم إلى طريق

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

٤٨٤

الفقر إذا كانت سجيّتهم لم تكن سجية أهل المعرفة ، فإذا كان حالهم كذلك لا يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد ، فالصحبة معهم ضائعة ، ألا ترى كيف عاتب الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية.

وقوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (٧) : كيف يتزكّى من خلق على جبلة حب الدنيا والعمى عن الآخرة والعقبى.

قال أبو عثمان : أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجالسة الفقراء ، وحثّه على تعظيمهم ، ونهاه عن صحبة الأغنياء ، بقوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (٦).

قال الواسطي في قوله : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) : استهانة بمن أعرض عنه (١).

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣))

قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) : لعن الله الكافر ، وعظم كفره حين لم يعرف صانعه ، ولم يعرف نفسه التي لو عرفها عرف صانعها ، وكذلك عرّفه ماهية نفسه بقوله : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي : قدّره أصنافا وأطوارا ، وفي كل صنف وطور له خلقة.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) : يسّر له طريق الهداية والضلالة.

قال الوسطي : ما أجهله بالمعرفة ، وذلك لجهله بالموارد والمصادر.

قال ابن عطاء : يسّر على من قدر له التوفيق طلب رشده واتباع نجاته.

وقال أبو بكر بن طاهر : يسّر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه.

قال جعفر : ما أجهله ، وأعماه عن الحق.

قوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي : لم يف بالعهد الأول حين خاطبه الحق بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، ولم يأت بمراد الله منه ، وهو العبودية الخالصة.

قال القاسم : ذكر أوائله وأواخره وإرادته ، وإن كان ذلك من عنده ، ثم أمره بالتبتل إليه

__________________

(١) أي : وليس عليك بأس في ألّا يزّكّى بالإسلام حتى تهتم بأمره ، وتعرض عمن أسلم وأقبل إليك ، وقيل : «ما» استفهامية ، أي : أيّ شيء عليك في ألّا يزكّى هذا الكافر. البحر المديد (٧ / ٨).

٤٨٥

ورؤية منته.

قوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) (٢٦) : صب ماء المعرفة على قلوب العارفين ، وشققها نبات الحكمة ، وأزهار المحبة.

قال ابن عطاء : صبّ من ماء معانيه على قلوب أهل معاملته صبّا ، فانشقّ منها معرفة ووجدا ، ثم أنبت فيها محبة وحكما وفهما.

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٣٤) : أكّد الله أمر نصيحته لعباده ألا يعتمدوا إلى من سواه في الدنيا والآخرة ، فإن ما سواه لا يفقده من قبض الله ، حتى يفرّ مما دون الله إلى الله.

قال الأبهري : يفر منهم إذا ظهر لهم عجزهم ، وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنهم ، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد سوى ربه الذي لا يعجزه شيء ، ولكن من فسحة التوكل ، واستراح في ظل النفوس.

قوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) : لكل واحد منهم شأن يشغله ، وللعارف شأن مع الله في مشاهدته يغنيه عما سوى الله.

قال يحيى بن معاذ : إذا شغلتك نفسك في دنياك وعقباك عن ربك ، أما في الدنيا ففي طلب مرادها ، واتباع شهواتها ، وأما في الآخرة فقد أخبر الله عنها بقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) ، فمتى تفزع إلى معرفة ربك وطاعته؟

قال الأستاذ : العارف مع الخلق ، ولكنه مفارقهم بقلبه ، وأنشد :

ولقد جعلتك في الفؤاد محدّثي

وأبحت جسمي من أراد جلوسي

قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) (٣٩) : وجوه العارفين مسفرة بطلوع أسفار صبح تجلّى جمال الحق فيها ، ضاحكة من الفرح بوصولها إلى مشاهدة حبيبها ، مستبشرة بخطابه ، ووجدان حسن رضاه ، والعلم ببقائها مع بقاء الله.

قال ابن طاهر : كشف عنها ستور الغفلة ، فضحكت بالدنو من الحق ، واستبشرت بمشاهدته.

قال ابن عطاء : أسفرت تلك الوجوه بنظرها إلى مولاها ، وأضحكها رضا الله عنها.

٤٨٦

قال سهل : منورة بنور التوحيد ، واتباع السنة ، ثم وصف وجوه الأعداء والمدّعين وقال : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (٤٠) : عليها غبرة الفراق يوم التلاقي ، وعليها قترة ذل الحجاب ، وظلمة العذاب ، نعوذ بالله من العتاب.

قال السري : ظاهر عليها حزن البعاد ؛ لأنها صارت محجوبة عن الباب مطرودة.

قال سهل : غلب عليها إعراض الله عنها ، ومقته إياها ، فهي تزداد في كل وقت ظلمة وقترة.

وقال الأستاذ : عليها غبرة الفراق ، وترهقها قترة ذلّ الحجاب.

سورة التكوير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣))

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) : الإشارة في هذه الآيات إلى ظهور تجلّي الذات والصفات في قلوب العارفين ، فهناك تكوّرت شموس أرواحهم من غلبة نور عظمة الذات ، وانكدرت نجوم عقولهم من صولة أنوار الصفات ، وسيّرت جبال قلوبهم من أثقال واردات محبتها ، وتعطّلت نفوسهم في سطوات جلالها ، فهناك سجّرت بحار التوحيد ، وحشرت طيور التفريد ، ولا يبقى إلا وجه ذي الجلال والإكرام ، ولكل عارف في كل حالة من هذه الأحوال له قيامة.

قال الحسين : تطمس الشمس بعد تنويرها ، وتغور البحار بعد تفجيرها ، وتنسف الجبال بتسييرها ، وتدرس العشار بعد تعطيلها ، وتخمد الجحيم بعد تسعيرها ، وتطوى الصحف بعد النشر ، وتحشر الوحوش من القبر ، وتزلزل الأرض ، وتخرج أثقالها للعرض على الجبّار ، وذلك أصعب مقام المخالفين ، وأهون مقام الموافقين ، فطوبى لمن أثبت في ذلك المقام.

قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (٧) : زوّجت الروح الناطقة بالنفس المطمئنة ، فتكونان في جنان القرب أبدا ، كما تكونان في الدنيا في مقامات المراقبات ، وصفاء المعاملات.

قال سهل : تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح ، فمرحت في نعيم الجنة ، كما كانتا

٤٨٧

متآلفتين في الدنيا على أدائه الذكر.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (١٣) : قرّبت جنان المشاهدات لأهل المداناة ، ووصلت حجال الوصلات بأهل الحالات.

قال القاسم : زخرفت بسرور البقاء واللقاء ، وحسن الجزاء ، ورضا المولى ، ومواصلة العطاء.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤) : علمت نفوس العارفين بتعريف الله إيّاها حقيقة أنفاسها التي صدرت منها بنعت الأشواق إلى جمال القدم أي شيء صنعت في الملكوت ، وكيف حرقت حجاب الجبروت ، وكيف وصلت إلى قرب القرب ودنو الدنو ، وكيف فعل بها الحق من إرادتها في ميادين الذات والصفات ، وتعريفها عين العين ، وحقيقة الحقيقة ، وعلمت أن ما صدر من الحدثان يرجع إلى الحدثان ، فإن الحدوثية لا تليق بجناب الربوبية ، وهكذا.

قال الواسطي : أيقنت تلك الأنفس أن كل ما عانت واجتهدت وعلمت لا تصلح لذلك المشهد ، وأنه من أكرم بخلع الفصل نجا ، ومن قرن بجزاء أعماله هلك وخاب.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (١٦) : أقسم الله بنيرات عالم الملكوت إذا شاهدت عرائس الصفات في روازنها ، ونظرت إلى قلوب المشتاقين ، وجذبتها بنورها إلى أعلى عليين ، فلما بلغت الأرواح إلى سرادق الدنو تخنس باستتارها بعد تجلّيها ، وتكنس باحتجابها بعد انكشافها ؛ لذوبان الأرواح في نيران الأشواق ، وهيجان الأشباح إلى عالم الأفراح ، وأقسم بظلمة ليالي الهجران في وقت الاستتار في قلوب العارفين ، وبطلوع صبح أنوار مشاهدته بنعت الوصال في فؤاد المحبين ، وأيضا أقسم بطيران الأرواح القدسية بجناح المحبة والمعرفة في هواء الهوية ، وهذا كنوسها إذا هامت بوجوهها في غيب الغيب ، فإذا وصلت إلى قاف القدم ، وتذورت بسطوات الأزلية تخنس ، وتفر من صدمات القيّومية إلى

٤٨٨

عالم الأمر والحكم ؛ لأن الحدوثية تزول عن موازاة القدم ، وأيضا أقسم بسير هذه الأرواح العاشقة في طرقات العلوم المجهولة ، فتستفيد منها ما يكون بخلاف العلوم الرسومية.

قوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) أي : أين تمضون مما بيّنت لكم في كتابي من طرق السعادة والمواصلة والمداناة وكشف المشاهدات ، تذهبون من هذا الطريق المبارك ، وتهلكون في أودية الظنون والحسبان ، هذا رشد ، فاسلكوا مسلك الرضا بالطاعة ، وسيروا في ميادين الموافقة.

وقال الواسطي : الخلق كلهم مقبوضون تحت رقّ الملك ، محجوبون لعزة الملك على قوله : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) ، وهو الذي يطمس الرسوم ، ويعمى الفهوم ، ويترك الأجسام قاعا صفصفا ؛ لأنه لا يلحق الإشارة ، فإن الكون أقل خطرا وأضعف أثرا من أن يكون لها سبيل إلى تحقيق الإشارة ، فأين تذهبون من ضعف إلى ضعف ، ارجعوا إلى فسحة الربوبية ؛ ليستقر بكم القرار.

قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : أغرق الحق مشيئة الحدثان في بحار مشيئة الأزلية ؛ إذ مشيئة الخلق صادرة من مشيئة الأزل ، هو منزّه عن أن يكون في مشيئته مشيئة غير مشيئة الأزلية ، فإذا سقطت مشيئتة الحدث ارتفعت الاختيارات والتدابير ، واستنارت طرق الرضا والتوكل والتفويض ، وبانت حقائق الفردانية ؛ إذ الحدثان اضمحلت في جناب عزة الرحمن.

قال الواسطي : أعجزك في جميع أوصافك وصفاتك ، فلا تشاء إلا بمشيئته ، ولا تعمل إلا بقوته ، ولا تطيع إلا بفضله ، ولا تعصي إلا بخذلانه ، فماذا يبقى لك ، وبماذا تفتخر من أفعالك ، وليس من فعلك شيء.

سورة الانفطار

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢))

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) : إذا ظهر سلطان كبريائه تنشق سماوات القلوب ، وتتناثر

٤٨٩

نجوم العلوم ، وتتفجّر بحار الأرواح والعقول ، ويخرج ما في القبور والصدور من معاني الحقائق ، ولطائف الدقائق ، علمت النفوس الروحانية ما قدمت من بذل وجودها بنعت السوق ، وما أخّرت من بقايا رمقاتها لاصطياد طيور التجلّي والواردات.

قال أبو عثمان : ما قدمت من خير ، وأخّرت من شرّ.

وقال بعضهم : ما قدّمت من حقّ ، وأخّرت من باطل.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٦) : عجبت من هذا الخطاب الذي فيه تهديد المخالف ، ومواساة الموافق كيف يخاطب بخطاب مع المخالف الذي فيه مواساة الموافق ، فيه ما فيه من إشارات علومه المجهولة ، ورموزات كنوزه الغيبية التي لا يعرفها إلا دهش في الوحدانية ، هائم في رؤية الفردانية ، مشرف بالحق على ما للحق من مكنون سره ، ولطائف برّه التي بحلاوتها يغر كل مغرور ، وينشط كل مجترئ في اقتحامه في شاقات البليّات ، وبيان ذلك ظاهر في قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ، يلقيهم جواب سؤاله ؛ ليقولوا : كرمك يا ربنا غرّنا.

قال ابن عطاء : ما قطعك عن صحبة مولاك.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو قيل لي ما غرّك بي؟ قلت : جهلي بك غرّني لا غير.

قال منصور بن عمار : لو قيل لي ما غرّك بي؟ قلت : يا رب ما غرني إلا ما علمته من فضلك على عبادك ، وصفحك عنهم.

وقال يحيى بن معاذ : لو قيل لي ما غرك بي؟ قلت : برّك بي.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) : خلقك فسواك بعلمه عليك في القدم ، فخرجت على وفق ما علمت ، فصرت مستويا بما يعلم الأزل متّصفا بصفاتي ؛ إذ كل صفة مني أورثت صفة فيك ، وبصورة الروح الناطقة الأولية ركّبك ، وهي تنورها منك لا يتفاوت بين صورتك وروحك في الخليقة والصورة ، فإن صورتك الظاهرة منقوشة بنقش صورة الروح ، وأيضا : ركّبك في صورة المحبة والولاية والخلافة والمعرفة والجهل بحقائق وجودي ووجودك ، الذي لو عرفته عرفتني ، وأطعتني بمعرفتك لي.

قال الجنيد : تسوية الخلق بالمعرفة ، وتعديلها بالإيمان.

وقال ذو النون : (خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) ، فأوجدك ، فسخّر لك المكنونات أجمع ، ولم يسخّرك لشيء.

قال الواسطي في قوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) : صورة المطيعين

٤٩٠

والعاصين ، ومن ركّبه على صورة الولاية ليس كمن صوّره على صورة العداوة.

قال الحسين : من قصده بنفسه صرف عنه حظه ، ومن قصده به فهو المحجوب عن نفسه ؛ لأنه يقول : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) : في أي حالة ما شاء أنشأك ؛ لأنه خلق آدم بألطاف بره ، وباشره بإعلاء قدره ، وأظهر الأرواح بين جلاله وجماله ، وخصّه بنفخ الروح فيه ، وكساه كسوة ، لولا أنه سترها لسجد لها كل ما أظهر من الكون ، فمن راداه برداء الجمال فلا شيء أجمل من كونه ، ومن راداه برداء الجلال أوقعه الهيبة على شاهد.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) : الأبرار في نعيم الوصال ، والفجّار في جحيم الفراق.

قال جعفر : «النعيم» : المعرفة ، و «المشاهدة» ، و «الجحيم» : النفوس ، فإنّ لها نيرانا تفقد.

قال ابن الورد : «النعيم» : الذكر والمعرفة ، و «الجحيم» : المعصية والسكون إلى النفس.

وقال الخواص : طاب النعيم إذا كان منه ، وطاب الجحيم إذا كان به.

قوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩) : دعا الله بهذه الآية العباد إلى الإقبال عليه بالكلية بنعت ترك ما سواه ، فإن الملك كلّه لله في الدنيا والآخرة ، (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.)

قال الواسطي : ذهبت الرسالات والكلمات والسعايات ، فمن كانت صفته في الدنيا كذلك فقد أفرد التوحيد.

وقال أيضا : الأمر اليوم ويومئذ ولم يزل ولا يزال لله ؛ ولكن الغيب بحقيقته لا يشاهده إلا الأكابر من الأولياء ، وهذا خطاب العام إذا شاهدوا الغيب تيقّنوا أن الأمر كلّه لله ، فأما أهل المعرفة فمشاهدتهم للأمر اليوم كمشاهدتهم يومئذ ، لا تزيدهم مشاهدة الغيب عيانا على مشاهدتهم له تصديقا ، كقول عامر بن عبد العيس : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، وكحارثة أخبر لحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «كأنّي أنظر وكأنّي وكأنّي» (١).

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٧٣).

٤٩١

سورة المطفّفين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١))

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) : هذا وعيد للمطفّفين كلام الأولياء في مجالستهم يسرقونه ويتبعونه في سوق سالوسهم ، فويل الحرمان له من البلوغ إلى درجاتهم ، وتفتضح عنده الخلق ، وأيضا هذا خطاب مع النفس الأمّارة تسترق من ديوان حقائق القلوب حظوظ الأرواح المشاهدة غيب الحق ، وتبدلها بهواجسها الشيطانية.

قال أبو عثمان : حقيقة هذه الآية والله أعلم عندي : هو من أحسن العبادة على رؤية الناس ، ويمشي إذا خلا.

قال الله : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (٤) أي : أنهم لا بدّ لهم من المحاسبة ، والرجوع إليّ بأعمالهم.

قوله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) : وصف الله قلوب المخالفين بالقسوة والرين ، وذلك ميراث متابعتهم شهوات أنفسهم ، والشهوة إذا غلبت على القلب أطبقت القلب بغاشية الغفلة ، فصار القلب محجوبا من أنوار الذكر ، مملوءا من الخطرات المذمومة التي تحجبه عن مشاهدة الغيب ، فمن كان هاهنا من الغيب ورؤية الحق محجوبا فزاد حجابه عند يوم القيامة ؛ لذلك وصفهم الله بقوله سبحانه وتعالى :

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١) ، حجبهم عن الله ظنونهم وحسبانهم

__________________

(١) لا يقتضي الحجاب مطلقا ، فإنه يقيّد بيوم القيامة ، فقد ينكشف عنهم عماهم ، وإن كان ذلك دون ـ

٤٩٢

وتشبيههم وخيالهم وشهواتهم وغفلاتهم.

قال ابن عطاء في قوله : (كَلَّا بَلْ رانَ) : الطاعة على الطاعة حتى يحجب قلبه عن مشاهدة المنة ؛ لأن العجب والرياء بالطاعة يورثان نسيان المنة وترك الحرمة.

قال الواسطي : الكافر في حجاب لا يرونه ، والمؤمن في حجاب يرونه في وقت دون وقت ، ولا حجاب له غيره ، وليس يسعه سواه ما اتصلت بشرية بربوبية قط ، ولا فارقت عنه.

قال سهل : حجبتهم عن ربّهم قسوة قلوبهم في العاجل ، وما سبق لهم من الشقاوة في الأزل ، فلم يصلحوا لبساط القرب والمشاهدة ، فأبعدوا وحجبوا ، والحجاب هو الغاية في البعد والطرد.

قال ابن عطاء : الحجاب حجابان : حجاب بعد ، وحجاب أبعاد ، فحجاب البعد : لا تقريب فيه أبدا ، وحجاب الأبعاد : يؤدب ، ثم يقرب كآدم عليه‌السلام.

قوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١) : كتاب الأبرار كتاب مرقوم برقم الله ، رقّمه بسعادتهم الأزلية ، وولايتهم الأبدية ، وذلك الكتاب عنده لا يطّلع عليه إلا المقربون المخاطبون بحديثه وكلامه ، المكاشفون لهم حقائق الغيبة.

قال أبو عثمان المغربي : «الكتاب المرقوم» : هو ما يجري الله على جوارحك من الخير والشر ، رقمها بذلك الرقم ، وهو لا يخالف ما رقم به ، وذلك الرقم معلّق بالقضاء والقدر والقدرة بمشيئته عليه ، ولا رجوع له عن ذلك ، ولا حيلة له فيه ، فهو في ذلك معذور في الظاهر غير معذور في الحقيقة ، هذا لعوام الخلق ، وأما للخواص والأولياء وأهل الحقائق فإنه رقم الله على كل شيء أوجده ، لم يشرف على ذلك الرقم إلا المقرّبون ؛ فهم أهل الإشراف ، فمن شاهد ذلك الرقم من المقرّبين عرف صاحبه بما رقم به من الولاية والعداوة ، فيخبر عنه وهو الإشراف والفراسة ، كما كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان في الأمم متكلمون فإن يك في أمّتي فعمر» (١) أي : ممن أشرف على حقائق الرقم ، وعلى معاني

__________________

ـ انكشاف بصائر أهل النعيم ؛ لأن محلّ أهل النعيم ؛ وهو الجنة ، وكذا أبدانهم لطيف قابل لكل نور ذاتي ، ونعيم صفاتي ، وأمّا محلّ أهل الجحيم ؛ وهو النار ، وكذا أجسامهم ، فكثيف ليس بمقابل لذلك ، فليس لهم نعيم صفاتي أصلا من المطعم ، والمشرب ، والمنكح ونحوها ، وأمّا النعيم الذاتي فبقدر تصفية ذاتهم وصفاتهم ؛ وإنما : قلنا النعيم الذاتي من طريق المشاكلة ، وإلا فلا نعيم هناك أصلا ؛ لأنه عالم الفناء عن الحسّ ، وليس عنده ذوق ، وبرد وسلام فاعرفه ، واجتهد أن تكون من الذين ابيضّت وجوههم في جميع العوالم ، فإن النور الدائم لا يلحقه الظلمة.

(١) رواه أحمد (٦ / ٥٥) ، والديلمي في الفردوس (٣ / ٢٧٨).

٤٩٣

الكتاب المرقوم ، فمن كان بذلك الحال فهو تكلم من جهة الحق بلا واسطة.

قال الحريري : رقّم الله به قلوب عباده بما قضى عليهم في الأزل من الشقاوة والسعادة ، فذلك رقم خفيّ في أسرار العباد ، وظاهر على هياكلهم ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ميسّر لما خلق له» (١).

قال ابن عطاء في قوله : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) : يشهد على أسرار الأولياء والأبرار من المقربين.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (٢٣) : هم في نعيم الوصلة ينظرون إلى المشاهدة ، وذلك النظر أورث وجوههم نضرة ونورا وبشارة يعرف صاحبها بها ؛ لذلك قال الله : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤).

قال ابن عطاء : على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف ، وعلى أرائك القربة ينظرون إلى الرؤوف.

وقال جعفر في قوله : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ) : تبقى لذة النظر تتلألأ مثل الشمس ، في وجوههم رضا محبوبهم عنهم.

قوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢٦) أي : ليبادر في طلبها المبادرون إلى القربات والمشاهدات بسني المعاملات ، وتطهير الأسرار من الخطرات.

قال ذو النون : علامة المتنافسين تعلّق القلب به ، وطيران الضمير إليه ، والحركة عند ذكره ، والهرب من الناس ، والأنس بالوحدة ، والبكاء على ما سلف ، وحلاوة سماء الذكر ، والتدبر في كلام الرحمن ، وتلقّي النعيم بالفرح ، والشكر والتعريض للمناجاة.

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٤) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤١).

٤٩٤

قوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨) : بيّن الله سبحانه أحوال المقربين والأبرار ، وفرّق بينهم فرقا عجيبا ، إن الأبرار يشربون من أنهار أنوار الصفات ، والمقربون من بحار الذات ، ومزج شراب الأبرار من سواقي أنهار المقرّبين ، ولو شرب الأبرار صرف ما يشرب المقرّبون لذابوا جميعا ، فالأبرار في مقام الأنس ، والمقرّبون في مقام القدس.

قال بعضهم : قال بها المقرّبون صرفا ، ونمزج لأصحاب اليمين ، فليس كل من احتمل حمل الصفات قوي على مشاهدة الذات والصفات ، وشراب المقرّبين لحملهم الذات والصفات جميعا.

قال الجريري : يشرب بها المقرّبون على بساط القرب في مجلس الأنس ، ورياض القدس بكأس الرضا على مشاهدة الحق تعالى.

سورة الانشقاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤))

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) : إذا أراد الله قلع الكون يلقي على السماوات والأرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه ، فتنشقّ السماء ، وتمد الأرض من عكس تجلّي عظمته وكبريائه ، وحق منهما أن يقصد عالما عليها من أثقال قهريات جبروته ؛ حيث شققهما وهما طائعتان لربهما ، وكيف لا يكون منهما طاعته ، وهما في قبضة قهر جلاله أقل من خردلة ، ألا ترى كيف قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكون في عين الرحمن أقلّ من خردلة» (١) ، وكذلك تتجلّى السماء بأرواح العارفين ، وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء ، فتنشقّ الأرواح ، وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها ، وبهذا الوصف وصف قلوب المقرّبين عند نزول خطاب الهيبة ، قال الله :

__________________

(١) هو من الأحاديث التي تفرد بذكرها المصنف في كتبه.

٤٩٥

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ.)

قال بعضهم : خطاب الأمر إذا وقع على الهياكل فمن بين مطيع وعاص ، وخطاب الهيبة إذا وردت تفنى وتعجز والإقرار معه ، كقوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٢) : ورد عليها صفة إلهيته ، فانشقت وأذنت لربّها ، وأطاعت ، وانقادت ، وحق لها ذلك ، وهو الذي أوجده.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) : هذا خطاب فيه حثّ على ائتمار الأمر ، والقصد إلى بذل الروح ، فإذا بلغ إلى نهايته فملاقيه أنها وأعمال الثقلين لا تليق بعزته وجلاله.

قال أبو بكر بن طاهر : إنك معامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد الأعلى ، فاجتهد ألا تخجل من معاملتك مع خالقك.

قوله تعالى : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٩) : مسرورا بلقاء ربه ، وما نال من قربه ووصاله ، وهذا للمتوسّطين ، ومن بلغ إلى حقيقة الوصال وصار أهلا له لا ينقلب عنه إلى غيره.

قال ابن عطاء : مسرورا بما نال من رضا الحق.

قال عبد الواحد بن زيد : مسرورا بتحقيق ميعاد اللقاء.

وقال إبراهيم بن أدهم : مسرورا بدخول الجنة ، والنجاة من النار.

وقال أبو عثمان : مسرورا بإنزاله في منازل الأولياء والصدّيقين.

ويقال : بأن يلقى ربه ، ويكلمه قبل أن يدخل الجنة.

(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

قوله تعالى : (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥) : كان في الأزل بصيرا فيما قدره ، وقضى عليه قبل إيجاده ، فعدمه عنده كوجوده ، ووجوده كعدمه ، لا يخفى عن بصره فيه شيء من أوله وآخره وظاهره وباطنه وشقاوته وسعادته وحياته ومماته ، حتى لا يختفي نفس من أنفاسه منه إلا هو سبحانه بصير به قبل الإيجاد ، وكيف لا يبصره وهو موجده.

قال الواسطي : كان بصيرا حين خلقه ، لماذا خلقه؟ ولأي شيء أوجده؟ وما قدر عليه

٤٩٦

من السعادة والشقاوة ، وما كتب له وعليه من أجله ورزقه.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) (١٦) : أقسم الله سبحانه بما بقي من عكس أنوار شمس جماله على قلوب المحبين والعارفين دليل الاستتار بعد غيبوبة شمس تجلّيه ، وما يضمه من هموم متفرقة في مقام القبض ، وقبر مشاهدته إذا استوى في سماء القلوب حين طلع من الغيوب ، فلا يبقى فيها آثار ظلمة الطبيعة ، والنفس الأمّارة إن حبيبه وجميع أحبائه يركبون على مطيّات أنوار قربه ، ويسيرون فيها إلى ميادين أزلياته وأبدياته ، ففي كل نفس لهم منزل وحال وكشف ومشاهدة ووجد ووصال إلى الأبد ، وذلك قوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) (١).

سورة البروج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢))

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) : السماء ذات البروج سماء قلوب العارفين ذات الأبراج من العلوم والحكم والحقائق ، تسري فيها الأرواح والعقول ؛ لوجدان أنوار وجود الحق ؛ ولتربية عجائب الخلق والخلق.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) (٢) : يوم اللقاء والكشف.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (٣) : الشاهد هو ، والمشهود هو ، يرى نفسه ؛ إذ لا يراه أحد

__________________

(١) قال التستري في تفسيره (٢ / ٢٥٤) : باطنها لترفعن درجة فوق درجة في الجنة ، ولتحولن من حال إلى حال أشرف منها وأسر ، كما كنتم في الدنيا ترفعون من درجة إلى درجة أعلى منها ، من طمع وخوف وشوق ومحبة.

٤٩٧

بالحقيقة ، وأيضا الشاهد هو ، إذا تجلّى بتجلّي الجمال والحسن ، والمشهود كله مستحسن جميل بجماله ، وأيضا الشاهد هو ، والمشهود قلوب العارفين شاهدها بنعت الكشف ، وأيضا الشاهد قلوب المحبين ، ومشهود لقائه هو شاهدهم ، وهو مشهودهم هو شاهد العارف والعارف شاهده.

قال الواسطي : الشاهد هو ، والمشهود الكون لا يقال متى شهدهم ، ولا يحدث لله شهادة ، فحيث كانت الربوبية كانت العبودية ؛ لأنه شهدهم قبل خلقهم علما وقدرة ورؤية ، وتصريفا في الإيجاد والإبقاء والإفناء ، لم يحدث له في إحداث الخلق أحداث ؛ لأنه لا فصل ، ولا وصل ، والوجود معدوم ، والمعدوم موجود لم يحضر آباد وقته ، وأحضرهم أحداث أوقاته ، ولما ثبت الشهود بالمشاهدة وجب أنه لم يكن عنده مفقودا أبدا ، أو يستحيل أن يكون البارئ مفقودا.

قال الفارس : كلاهما عائد عليه هو الناظر ، والمنظور إليه ، وهو الشاهد لخلقه ، والمشاهد لهم بوجود الإيمان وحقائقه.

قال الحسين : في هذه الآية علامة أنه ما انفصل الكون عن المكوّن ولا قاربه.

قال سهل : الشاهد نفس الروح ، والمشهود نفس الطبع ، وقد وقعت لى نكتة في التوحيد : أنه تعالى لم يزل شاهدا ، فلو ثبت مشهودا غير نفسه من الحدثان ، فإذا تقول بقدم الحادث والعلم بوجود المحدثات على الحقيقة كان مشهود الحق إذا كان في علمه علم كينونية المكوّنات ، وكيفية وجودها ، فإذا وجودها وعدمها سواء في شهود الحق.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (١٣) : يبدئ المفقود من العدم بنور القدم ، ويعيد الموجود بقهر استيلاء الوحدانية حتى يصير الموجود معدوما ، ثم يعيده يوم الميثاق للحكم والقضاء ، يبدئ بالتجلي قلوب العارفين ، فيفنيها ثم يعيد بالتدلّي فيحييها.

وقال ابن عطاء : يبدئ بإظهار القدرة ، فيوجد المعدوم ، ثم يعيد بإظهار الهيبة ، فيفقد الموجود.

قال جعفر : يبدئ فيفنى عمّن سواه ، ثم يعيد فيبقى بإبقائه.

قوله تعالى : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (١٤) : «غفور» للجنايات ، و «الودود» بكشف المشاهدات.

قال الواسطي : «الغفور» : بما يرتكبونه من أنواع المخالفات ، و «الودود» : بما أبدئ

٤٩٨

عليهم من آثار فضله.

وقال سهل : «الودود» المجيب إلى عباده بإسباغ النعم عليهم ، ودوام العافية.

قوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) : وصف نفسه بإيجاد أعظم خلقه وهو العرش ، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه والقدس إعلاما بأنه كان ولا مكان ، والآن ليس في المكان ؛ إذ جلاله وجماله منزّه عن مماسة المكان والحاجة إلى الحدثان.

قال الواسطي : هو أعلى من أن يكون له فيه ، وإليه حاجة ، بل أظهر العرش إظهارا للقدرة ، ولا مكان للذات.

قال سهل : «العرش» : جماع جلال الشرف.

قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٦) (١) : كان مريدا في الأزل بإرادته ، منزّها عن أن يحدث فيه إرادة ثانية ، والإرادة مقدمة على الفعل ؛ إذ الإرادة قديمة ، والفعل منه إيجاد الخلق لا شريك له في إرادته ، ولا في إيجاد خلقه ، فإذا الإرادة زائلة ، والخواطر عليلة ، والتدابير مضمحلة عند ظهور إرادته ، يختص برحمته من يشاء بمعرفته ، وإن كان فارّا من بابه ، ويخذل من يشاء من قربه ، وإن كان متزهدا بزهده.

قال بعضهم : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٦) : في إظهار ربوبيته وألوهيته.

سورة الطارق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا

__________________

(١) قال القشيري : إن أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك ، وهو عادل في ذلك ، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك فلذا كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، هل أتاك حديث الجنود ، أي : جنود النفس التي تحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل ، ثم فسّرها بفرعون الهوى ، وثمود حب الدنيا ، والطبع الدني ، بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب ، لهذا كله ، فلا يفرقون بين الروح والنفس ، ولا بين الفرق والجمع ، والله من ورائهم محيط ، لا يفوته شيء ، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتا وصفاتا وفعلا ، بل هو أي : ما يوحي إلى الأسرار الصافية ، والأرواح الطاهرة قرآن مجيد في لوح محفوظ عن الخواطر والهواجس الظلمانية ، وهو قلب العارف.

٤٩٩

ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤))

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١) : أقسم بسماء قلوب الصدّيقين وما يطرق فيها من نجوم تجلّي الذات والصفات.

قال سهل : وما طرق على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زوائد البيان والأنعام.

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) : أقسم بسماء ذات القدم إذا أمطرت أمطار أنوار تجلّي الكبرياء والجلال والجمال ، وأرض قلوب العارفين التي تتصدع بنبات المعرفة ، ورياحين المودة ، وأزهار الحكمة.

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً) (١٦) : أعلمهم الكيد ، ولم يعرفهم حقائقه ، ولم يعلمهم أن الكيد المحدث عند كيد القدم ، وكيده مكره ، ومكره منزّه عن الخلل ؛ إذ هو منزّه عن العجز ، كيده سبق شقاوة الأشقياء منه ، هذا كيده مع الأعداء ، وكيده مع الأولياء ظهور الصفات في نعوت الأفعال ؛ لتعزيزهم بالأوقات الصافية ، وجذبهم إلى رؤية صرف القدم ، وتقديسهم عن رؤية العلة بكشف الوحدة.

قال ابن عطاء : «الكيد» : استدراجك من حيث لا تعلم.

سورة الأعلى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦))

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) أي : نزّه اسمه باسمه عن أن يكون له سميّ من العرش إلى الثرى حتى يكون بقدس اسمه مقدّسا عن رؤية الأغيار ، ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس الصفات ، ثم إلى رؤية قدس الذات ، بدءا بتنزيه الاسم رفقا به بألا يضمحل لله في سبحات الصفات وتجلّي الذات.

قال بعضهم : نزّه لسانك بعد ذكرك ربك عن لغو وكذب.

قال الحريري : أي : فرّق أوهام الخلق عن كل ما يتوهمون ؛ إذ العرش حجاب.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) : خلق آدم ونفخ فيه من روحه ، فسوّى بين تجلّي

٥٠٠