تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قال بعضهم : «الخشية» تصيب القلب ، و «السر» و «الخوف» تصيب البدن.

قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) : فيه وعيد لمن يضمر في خاطره ما لا يليق بالحق ، وكيف يخفى ما في القلب والعيوب من المعيبات المكنونة ، وهو موجدها ابتداء ، وعالم بها انتهاء ؛ لأنه من لطفه محيط بما في القلوب ، خبير بما يجري في الصدور.

قال الواسطي : حجب الأشياء عن الوقوف على حقائقها ، واستبعد بمعرفة الحقائق ، فقال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ.)

قال ابن عطاء : ألا يعلم من خلق الصدور ، وما يحدث فيها من حوادث العوارض.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) : ذلّل للأرواح أرض القلوب يمشي في مناكب أسرارها ، وأقطار عقولها ، وسبيل أنوارها إلى عالم الغيوب ، فتأكل منها موائد المعارف ، وأثمار الكواشف.

قال سهل : خلق الله الأنفس ذلولا ، فمن أذلّها مخالفتها فقد نجّاها من الفتن والبلاء والمحن ، ومن لم يذللها واتبعها أذلته نفسه وأهلكته.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) : إشارة إلى طيور الأرواح القدسية التي تطير في هواء الأزل والأبد بأجنحة الشوق والمحبة باسطات أجنحتهن ببسط الأنس ، قابضة لها برؤية عظمة القدس ، فهناك محل القبض والبسط ، ولولا فضله وكرمه لتفنى في بروز سبحات ذاته ، وتسقط من هواء هويته إلى أرض قهره.

قال الله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ.)

قال الجريري : أشار الحق إلى أن يتوكل عليه الأولياء ، ويسكن إليه الأصفياء ؛ لأن الطيور لما صفا توكلهن على الحق طيّرهن في الهواء ، وقبض أجنحتهن ، وأمسكها صافات على ذكر الله ، فإذا توكل عليه الوليّ شوقا إلى الملك الأعلى طيّره بجناح الأنس في هواء المحبّة ، وأجلسه على بساط المعرفة ، ويقبضه الحق بقدرته ، ويمسكه بعواطف رحمته.

٤٤١

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) : شبّه الله صاحب النفس الذي يمشي قلبه في ظلماتها لا تدري أين تمشي كالأعمى الذي يتخبط تخبط العشواء في الظلمات.

وقال : هو أهدى أمّن تمشي روحه في طرق الملكوت ، بنعت المعرفة والنيران في أنوار المشاهدة.

قال سهل : (مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) ، أي : مطرق إلى هوى نفسه بحبلة خلقه بعد هدى من ربه.

(أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) ، يعني : المؤمن المهتدي على صراط مستقيم ، أي : على شريعة طرق التوحيد.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : بقي مكنون علمه فيما جرى في الأزل عن الخليقة ، وإن كان صدّيقا ، أو نبيّا مرسلا ، أو ملكا مقربا ، فيكون عنهم مستورا ، كما كان في سر الأزل قبل الخلق ، ولو أمعنت النظر يا صاحبي في العلم ، فإن حقيقة العلم منفية عن الخلق ؛ إذ الخلق لا يعلم حقيقته ، فإن حقيقة علم الأشياء لمنشئها لا غير ، وذلك قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ، أثبت العلم بالحقيقة لنفسه.

قال يحيى بن معاذ : أخفى الله علمه في عباده عن عباده ، فكلّ يتبع أمره على جهة الإشفاق ، لا يعلم ما سبق ، وبماذا يختم له ، وذلك قوله : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ.)

٤٤٢

سورة القلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩))

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) (١) ، أي : «بنون» صفتي وقلم فعلي ، «وما يسطرون» من أحرف مقاديري على ألواح أمري ، وأيضا «النون» : هو الذات ، و «القلم» : الصفات ، و «ما يسطرون» : من الأفعال على ألواح التقدير ، وهي تستطرها بين الكاف والنون من العدم على ألواح الإرادة ، وأيضا «النون» : نور وجهه الذي يظهر يوم الشهود ، وبه يسعى جميع العارفين والعاشقين إلى الأبد ، وأيضا : نور عنايته السابقة في الأزل في اصطفائية الأنبياء والأولياء ، وأيضا أي : بنيران قلوب المحبين ، ونور فؤاد المشتاقين ونصرتي للأنبياء والمرسلين والأولياء والصدّيقين ، وأيضا أي : بنظري على قلوب أحبائي ، ونظر أسرارهم إلى لقائي ، وأيضا أي : بنوادر أنوار صفاتي ، وبقلم أفعالي الذي يجري على ألواح أسرار العارفين ، و «ما يسطرون» : الأرواح القدسية من مخاطباتي في أوراق أسرارها ، وأيضا أي : بالنون الذي جعلت في بطنها حجال معراج يونس ، وأيضا أي : نيرات ملكوتي ونادرات عجائب جبروتي ، وأيضا أي : بنور القرآن والعلم الذي كتبته في اللوح المحفوظ في أول الأول ، وما ينتسخون منه سفرتي وكرام بررتي ، وأيضا أي : ابتدائي في أول وليتي من القدم إلى العدم ؛ لإسماع أسر الأرواح القدسية

٤٤٣

الملكوتية التي خرجت من العدم بكشف نور القدم ، ونداء الأزل ، وندائي للقلم حين قلت بعدما أوجدته اكتب ما هو كائن إلى الأبد ، وبهذا القلم النوري ، وما يسطرون أهل قربي من خطابي أي : بهذه الأقسام المباركة يا حبيبي يا قرة عيون العارفين ، وبنون حاجبيك ، وقلم لسانك ، ولوح وجهك ، وما يسطرون كتبته أنوار تجلاتي من عجائب سنا كشف جمالي في جمالك لنظر هلال جلالك وجمالك.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٣) ، أي : لست باصطفائيتك ، ونعمة ربك من النبوة والولاية ، مثلما يزعمون هؤلاء الظلمة ، بل أنت سيد حبيب صفيّ نبيّ مرسل ، رغم أنف الكفرة.

قال سهل : «النون» : اسم من أسماء الله ، وذاك أنه إذا جمعت أوائل هذه السور الثلاث «الر» ، و «حم» ، و «ن» يكون الرحمن.

وقال جعفر : نور الأزلية الذي اخترع منه الأنوار كلها ، فجعل ذلك لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك قيل له : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) أي : على النور الذي خصّصت به في الأزل.

وقال بعضهم : «النون» : نور القدرة ، و «القلم» القضاء ، و «ما يسطرون» : الملائكة كرام الكاتبين.

قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (٣) : بيّن له الأجر ، وليس أجره في مقابلة فعله ، وليس هو بناظر إلى فعله وإلى شيء من الأعراض ، ارتفع قدره عن ذلك لما وصفه الله في شهوده جمال الحق ، بألا يميل إلى غيره بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ، فأجره : قرب الله ووصاله ، وكشف جماله له أبدا ، وذلك غير محتجب عنه ، وأيضا أجره : قبول شفاعته غير منقطع شفاعته لأهل الكبائر من أمته ، لا يخيب رجاءه في غفرانهم جميعا بلا عتاب ولا عذاب.

قال سهل : غير محدود لما لم يطالع الأعواض ، ولم يعتمد على شيء سوانا ، كأن ذلك أجر غير ممنون ، وهو ما شهدت من المشاهد والمواقف.

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) ، أي : ألبستك خلقي ، فأنت على خلقي ، وخلقي عظيم ، ومن عظم خلقي أنه نعتي ووصفي ألبسته إياك ، وخصصتك بحمله ، فإن حمله لا يأتي من غيرك من العرش إلى الثرى ، فإن بخلقك ذقت طعم شهود مشاهدتي ، فيسهل عليك جريان القضاء والقدر ، فأنت تشاهدني بنعت تحملك أثقال أمري فيك ، فطابت خلقك من خلقي في خلقي.

قال الواسطي : هو لباس النعوت ، والتخلّق بأخلاقه ؛ إذ لم يبق للأعراض عنده خطر.

قال الحسين : معناه : أنه لم يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعة الحق.

٤٤٤

وقال : صغرت الأكوان في عينك بعد مشاهدة مكوّنها.

وقال : لأنك تنظر إلى الأشياء لتشاهد الحق ، ولا ينظر إلى الأشياء ليشاهده ملك.

قال سهل : تأدّبت بآداب القرآن ، فلما تجاوزوا حدوده.

وقال الواسطي : أظهر الله قدرته في عيسى ونفاده في أصف ، وسخطه في عصا موسى ، وأظهر أخلاقه ونعوته في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) ، فإذا فتشت هؤلاء في الحقيقة لا تجد إلا نعوتا قائمة بنعوت للمنعوت لا لغيره.

وقال : الخلق لا تحمله العوام ، والخلق لمن تخلق بأخلاق الربّ ؛ لأن الله أوحى إلى داود «تخلّق بأخلاقي ، فأني أنا الصبور» (١) ، فمن أوتي الخلق فقد أوتي أعظم المقامات ؛ لأن المقامات ارتباط بالعامة ، والخلق ارتباط بالصفات والنعوت.

قال الحسين : عظم خلقك حيث لم ترض بالأخلاق وسرت ، ولم تسكن إلى النعوت حتى وصلت إلى الذات ، ثم فنيت عن الذات بالذات ، حتى وصلت إلى حقيقة الذات ، ومن فني بالفناء كان القائم عنه غيره بالفناء.

وقال : كيف لا يكون خلقه عظيما وقد تجلّى الله سره بأنوار أخلاقه ، وحقّ لمن وقعت له المباشرة الثالثة أن يكون مفضّلا في خلقه؟!

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) : أخبر الله سبحانه أنه ينكشف يوم الشهود لعشاقه ، وأحبائه ، ومشتاقيه ، وعرفانه عن بعض صفاته الخاصة ، ويتجلى منها لهم ، وهو كشف ستر الغيرة عن عورات أسرار القدم ، فيشاهدونها بعيون عاشقة حائرة

__________________

(١) ذكره المناوي في فيض القدير (١ / ٤٦٥).

٤٤٥

ناظرة إلى ربها ، فيدعون إلى السجود من حيث غشيتهم أنوار العظمة حتى لا يحترقون في كشف ستر الصفة ، فإنها موضع العظمة والكبرياء ، وبدو لطائف أنوار أسرار الذات ، يظهر في لباس الالتباس حتى لا يفينهم فناء لا بقاء بعده ، والمقصود منه زوائد المحبة ، والنظر إلى وجود العظمة.

قال جعفر : إذا التقى الولي مع الولي انكشفت عنه الشدائد.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤) : وصف الله سبحانه في حقيقة الإشارة أهل السكر في المشاهدة ، إذا وصلوا محض الاتصاف والاتحاد غابوا في غيبتة ، واستغرقوا في بحار ألوهيته ، وفنوا من أوصاف الحدوثية بعد انتعاتهم بنعوت الألوهية ، وصاروا باقين بنعته لا يرون وصفهم ، ويرون وصف الحق ، فكادوا أن يخرجوا بدعوى الأنائية ، فإن الله سبحانه سيأخذ أنوار شموس الذات ، وأقمار الصفات عن عيون أرواحهم قليلا ، قليلا ، وهم لا يعلمون من غلبة سكرهم وحلاوة أحوالهم حتى يغيب أنوار الغيب عن أبصار أسرارهم ، ويبقيهم في عرصات الصحو حتى يروا أنفسهم في مقام الغيبة والاستتار.

قال الواسطي : لو كشف للخلق لصاروا حيارى ، ولكن يبدأهم بالتلبيس والسر ، ثم يكشف ؛ ليعرفوا قدر ما هم عليه ، وأما الغاية فهو الاستدراج.

قال أبو الحسين بن هند : «المستدرج» السكران ، والسكران لا يصل إليه ألم فجع المصيبة إلا بعد إفاقته ، فإذا أفاقوا من سكرتهم خلص إلى قلوبهم ذلك ، فانزعجوا ولم يطمئنوا ، و «الاستدراج» : هو السكون إلى الذات ، والتنعم بالنعمة ، ونسيان ما تحت النعم من المحن ، والاغترار بحلم الله عزوجل.

قال أبو سعيد الخراز : «الاستدراج» : فقدان اليقين ؛ لأن باليقين تستبين فوائد باطنه ، فإذا فقد اليقين فقد فوائد باطنه ، واشتغل بظاهره ، واستكثر عن نفسه حركاته وسعيه لغيبوبته عن المنة.

قال بعضهم : لولا الاستدراج لا يخلو العبد منه في وقت من الأوقات ، ولولا الاستدراج لما عرف العبد طعم الكرامة ، ولما انزجر عن العقوبة ، فبالاستدراج يعرف العقوبة ويخلق المقت ، وبالانتباه يعرف النعمة ويرجو القربة.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ

٤٤٦

تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) : أدّب حبيبه حين غلب عليه شوق لقائه ، وثقل عليه رؤية غيره ، وأراد أن يصل إلى جواره ، فأمره بالصبر في ميادين بلائه بامتحانه ؛ ليعرّفه شرائف مقاماته في معرفة الذات والصفات ، ويسرج من سراجه سراج العارفين والموحدين ، فيرشدون برشده ، ويرون الحق بنوره ، فقال الله تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) ، في قلة صبره عن مشاهدته ، وبلاء استتاره والفناء تحت جريان امتحانه ، وذلك حين نادى في ظلمات بطن الحوت ، وهو مغتمّ تحت ذل الحجاب ، فتلطف عليه الحق كاشف عنه غمة الفرقة ، وأراه جماله ، وذلك قوله : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : سوابق نعم الاصطفائية الأزلية ، لكان في أرض الحجاب ذليلا ، ولكن أغاثته الاجتبائية والاصطفائية من ذلك الحجاب ، وشرفه بكشف النقاب ، وجعله من المتمكنين في النظر إلى وجهه لم يقع بعد ذلك إلى بحر الامتحان ، ولا في حجاب الحرمان.

قال الله تعالى : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠).

قال الجنيد في كتاب «صبر الأنبياء» : قال الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المصطفى وحبيبه المرتضى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) : يستكشف لندائه ما مسه من ألم بلائه ، ويستغيث مع وجود العزم على القيام بواجب الصبر ، خوف دخول العجز ، وإشفاقا من ملامة العلم عند الإصغاء إلى الإبقاء على النفس التي لولا تدارك المنعم بالحفظ عند أول باد من البلاء لدخل العجز بسلطان قهره عليها ، لكن لوّح له تعريض الخطاب : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، لما سبق عنده من حكم الاختيار في قديم العلم.

قال الواسطي : الاجتبائية أورثت الصلاح ، لا الصلاح أورث الاجتبائية.

سورة الحاقة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)

٤٤٧

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨))

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) (٢) : يوم تحقّق حقائق الأمور عيانا ، لا يبقى فيها ريب أهل الظنون ، وينكشف الحق لأهل الحق ، ولا معارضة للنفس فيها ، ونبيّن للجاهلين أعلام ولاية العارفين.

قال سهل : اليوم الذي يلحق كل أحد بعلمه.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥))

قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) : الإشارة فيه أنه لما أوجد الله الأرواح قبل الكون أتى بها شط قاموس كشف ذاته وصفاته ، فشربت الأرواح زلال أنهار القربة ، وشراب الوصلة ، وسمعت خطاب الألوهية ، وسكرت من حلاوة الجمال والجلال ، وهاجت إلى لحجها ، وكادت تستغرق وتفنى فيها حين علا عليها أمواج سطوات العزة ، ولطمات العظمة حملها الله هناك بعض العناية لتجري بها من الآزال إلى الآباد ، ومن الآباد إلى الآزال ، فلما دار دور الدهر الدّهار وجرى جري الفلك الدوّار وخلق الكون جعل لها سفينة صورة آدم ، وحمل بها الأرواح الغيبية الملكوتية ، فتجري بها إلى معادنها الأولية.

قال القاسم : الأجسام لم تكن ، والأرواح لا تحمل الجاري ، وإنما هو جريان الحق بشرط الاتسام إذا عاينت الروح هذه المقامات عرفت سره.

قال الواسطي : أحد شقي آدم ، وأخرج منه الذرية.

قال : حملناكم بشواهدنا ، وأجرينا لكم الأوقات على مقاديرنا.

وقال الأستاذ : ذلك منته على خواص أوليائه أن يسلمهم في سفينة العافية ، والكون يتلاطم أمواج بحار أشغالها على اختلاف أوصافها ، وهم بوصف السلامة لا منازعة مع كل واحد ، ولا محاسبة مع أحد ، ولا توقع من أحد ، سالمون من الناس ، والناس منهم سالمون.

قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢) : حقائق أسرار الخطاب لا يعلمها إلا القلوب الذاكرة ، والأرواح الشائقة ، ولا يسمع أصوات هواتفها بالحقيقة إلا سماع الأسرار من

٤٤٨

الأنوار للأرواح والعقول ، تسمعها من الحق ، وتفهمها بالحق.

قال الوسطي : آذان وعت عن الله أسرارها.

وقال : «واعية» في معادنها ليس فيها من شاهدها شيئا ، هي الخالية عمن سواه ، فما اضطراب الطبائع إلا ضربا من الجهل.

قال جعفر : تلك آذان فتحها الله للمواعظ ، وشرح قلوبا ؛ لقبول تلك المواعظ ، وسهّل على نفوسها استعمال تلك المواعظ ، والقيام بمواجبها.

وقال : تلك آذان أسمعها الله في الأزل خطابه ، فهي «واعية» : يعني من الحق كل خطاب (١).

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢٤) : يعتد الحق لأوليائه العاشقين الذين يحملون مؤن أثقال الحجاب يوم كشف النقاب ، ويقول لهم : اشربوا شراب وصالي هنيئا لكم ، بأنه وصال بلا فراق ، وعيش بلا كدورة ، وأنس بلا وحشة ، بما أسلفتم من إلقاء أزمة همومكم على أعناق مراكب أفكاركم التي صعدت عند كل نفس إلى مصاعد ملكوتي ، وسادات جبروتي ، كم شوق تشتاقون به إليّ ، وكم غمّ تغتمّون به لأجلي ، وكم بذل تبتذلون به لأجلي حين بذلتم أرواحكم لضرب سيوف شوقي ، وكم تمرغ من أنفسكم في تراب جناب حضرتي ، لأجل مشاهدتي ، هنيئا لكم لقائي أبدا ، عيشوا في رياض قربي ، واستأنسوا بجمالي ، فأنتم لي ، وأنا لكم ، والإشارة في الأيام الخالية أيام الله الذي هو منزّه عن دور الأفلاك ، ومطهّر من الكون والأملاك ، أيام قدم القدم وأزل الأزل أسلف الله لهم العناية ، فتلك الأيام خالية من الأعمال والعلّات والأسباب ، كأن تلك العناية أسفلها المحبوبون ؛ إذ الحبيب الأكبر قائم مقامهم قبل وجودهم ، فمن حيث الاتحاد الحبيب

__________________

(١) أي حافظة لما جاء من عند الله. وقيل أذن سمعت وعقلت ما سمعت وقيل لتحفظها كل أذن فتكون عظة وعبرة لمن يأتي بعد والمراد صاحب الإذن والمعنى ليعتبر ويعمل بالموعظة. تفسير الخازن (٦ / ص ١٥٣).

٤٤٩

والمحبوب واحد ، ألا ترى كيف قال لحبيبه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، كأنهم كانوا في الأزل وأيام القدم مع حبيبهم ، إذ الحبيب كان قائما مقامهم ، وإن كانوا معدومين ، أي : اشربوا شراب وصالي من أزل الآزال إلى أبد الآباد ، فأيام القدم خالية عن وجود الحدثان ، وأيام البقاء لا تكون خالية عن شوق المشتاقين ، وزفرة الوالهين ، ودوران العارفين في ساحة كبريائه ، وسرادق بقائه.

قال الواسطي : أي : الأيام الخالية عن ذكر الله ؛ لتعلموا أنكم في فضله دون جزاء الآمال.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤))

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) : أقسم الله سبحانه بما ظهر من أنوار صفاته في آياته لذوي الأبصار من العارفين.

(وَما لا تُبْصِرُونَ) : من كشف ذاته التي لو بدا نور من أنواره لذابت من سبحات الكون وما فيه ، وأيضا «ما تبصرون» من معجزات أنبيائي ، وكرامات أوليائي ، وما لا تبصرون عما في قلوبهم من العلوم اللّدنية ، والأحكام الغيبية.

قال جعفر : بما تبصرون من صنع في ملكي ، وما لا تبصرون من برّى إلى أوليائي.

وقال الجنيد : بما تبصرون من آثار الرسالة على حبيبي وصفيّ ، وما لا تبصرون من سري معه الذي أخفيته عن الخلق.

قال ابن عطاء : بما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون مما اخترن من خلقه الذي لم يجر القلم به ، ولم يشعر الملائكة بذلك ، وما أظهر الله للخلق من صفاته ، وأراهم من صنعه ، وأبدا لهم من علمه في جنب ما اخترن عنهم إلا كدرة في جنب الدنيا والآخرة ، ولو أظهر الله من حقائق ما اخترن لذابت الخلائق عن آخرهم فضلا عن حملها.

٤٥٠

قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) (٤٤) : كيف التقوّل منه ، وهو مقدّس بحفظ الله وعنايته عن الشرك ، والشك ، والنفاق ، وسوء الأخلاق ، هو عالم تعالى بأن قلبه ولسانه لم يكونا موضع الاختلاف والقول لكنه هذه ، بأنه لا يكشف بأسرار الحق التي انكشفت له من غيب الغيب ، وتلك الأسرار لو ظهرت بعضها للخلق لتعطلت الأحكام ، وطاشت الأرواح ، واضمحلّت الأجسام.

قال الواسطي : ما كشفنا له من الحقيقة لو نطق بها لاقينا أوصافا ، مع أن كل ذكر ليس بذكر ، وليس لله وقت ماض ، ولا حين مستأنف.

وقال أيضا : علامة مجذوب الحق إذا رغب حجب ، وإذا صرف جذب.

قال : لعمرك أنه حجب ، ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل جذب ، وإذا أظهر نفسه حجبه ، وإذا أظهره لغيره جذبه مع أن كل مثبت محجوب.

وقال أيضا : لم يلطف له بلطيفه ، فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢) ، وهذا الخطاب تلبيس ، ولو تقوّل تنبيه ، وهو أتمّ له في ذلك الحال.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١) : «حق اليقين» : ما بان باطنه من ظاهره ، وظاهره من باطنه ، وباشر نور القلب ، ويحرق ما دون الحق من ذكر الخلق ، وهو الحق من حيث الحقيقة التي ظهرت في لباس الآيات ، إما ذاتا ، وإما صفة ، وكلامه حق عيان بأنه فيه الاسم والمسمّى ، وذلك من حيث الحقيقة واحد ، فلم يبق لعارفه شكّ ولا مكاشفة حجاب ، ثم خاطب المكاشف المحقق بأنه منزهه عن الظنون ، والأوهام ، والممازجة بالحدثان بقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢).

قال الجنيد قدّس سره : «حق اليقين» : ما يتحقق للعبد من معرفة بالحق ، وهو أن يشاهد الغيوب ، كمشاهدة المرئيات مشاهدة وعيان يحكم على الغيبات ، ويخبر عنها بالصدق كما أخبر الصدّيق الأكبر في مشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين يديه حين سأله : «ما أبقيت لنفسك؟ قال : الله ورسوله» (١) ، فأخبر عن تحققه بالحقيقة ، وقطعه عن كل ما سواه ، ووقوفه معه على

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٢ / ١٠٦).

٤٥١

الصدق ، ولم يسأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كيفية ما أشار إليه ؛ لما عرف من صدقه وبلوغه المنتهى فيه ، ولما قصر حال حارثة عن حاله لما قال : «أصبحت مؤمنا حقّا» (١) ، فأخبر عن حقيقة إيمانه ، سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك لما كان يجد في نفسه من عظم دعواه ، ثم لما أخبر لم يحكم له بذلك ، وقال : «عرفت فالزم» (٢) : أي : عرفت الطريق إلى حقيقة الإيمان حتى تبلغ إليه ، وترى حال أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه مستورا من غير استخبار عنه ، ولا استكشاف ؛ لما علم من صدقه فيما ادّعى ، وهذا مقام حق اليقين.

سورة المعارج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ) : هذا وصف أهل الأمل ، والظن الكاذب الذين يظنون أنهم يتركون في قبائح أعمالهم ، وهم لا يعذّبون.

قوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) : افهم أن للملائكة والروح مقامات معلومة في عالم الملكوت ، فإذا عرجت الملائكة من مسقط الأمر إلى مصعد المعلوم يكون بيوم كان مقداره عندنا خمسين ألف سنة ، وهم يعرجون بأقل ساعة ، وليس للحق مكان ومنتهى ، إن الخلق يعرجون بل إن ظهور عزته وجلاله في كل ذرة عيان ، فإذا رفعت القرب والبعد من حيث المسافة وأدرجت الأوهام لم يكن بين الحق وبين الروح وصول الحق بأقل طرفة ، فإن الوصول منه وهى قريب غير بعيد.

قال سهل : تعرج الملائكة بأعمال بني آدم إلى الله ، والروح إليها ناظر في ذلك المشهد.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) (٥) : واسى قلب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره بالصبر الجميل ، وهو الصبر بالله لله في الله ، فإن نازله العذاب لمن مؤذيك يقع عليه نعته بحيث لا يقدر دفعها من جميع الوجوه ، فانظر إلينا ولا تنظر إليه ، فإنه مأخوذ.

__________________

(١) رواه الطبراني في الكبير (٣ / ٢٦٦).

(٢) رواه الطبراني في الكبير (٣ / ٢٦٦).

٤٥٢

قال سهل : الصبر الجميل رضا بغير شكوى ، ثم بيّن أن الكافرين والمنكرين يرونهم عذابا بعيدا ، بقوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً) (٧) : إن المنكر لا يظن أنه مأخوذ قط ، ولا يعلم أنه وقع في العذاب ، ولا يدري.

قال سهل : إنهم يرون المقضي عليهم من الموت والبعث والحساب بعيد البعد ، أما قوله : (وَنَراهُ قَرِيباً) : فإن كل كائن قريب ، والبعيد ما لا يكون.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) : طبع الإنسانية خلق ضعيفا لا يطيق تحمّل البلاء ، قال سبحانه : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨) : وذلك الطبع طبع ممتزج بطبع الشيطاني ، والنفساني والهوائي ، والشهواني ، فإذا أتاه مراده سكن به ، ويمنع ذلك من طلاب الخير ، وإذا لم يؤت إليه مراده يشتكي ، ويجزع ، ويضجر ، ولا يصبر ، فإذا أراد الله بالعبد خيرا جعل ذلك الطبع مسخّرا له حتى يطمئن.

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢))

قال الله تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) : يعني العارفين بالله ، الساكنين تحت جريان مقاديره ، المستقيمين به عند امتحانه.

قال سهل : هلوعا منقلبا في حركات الشهوات ، واتباع الهوى.

قال ابن عطاء : «الهلوع» الذي عند الموجود يرضى ، وعند المقصود يسخط.

وقال في قوله : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (١) : العارفين بمقادير الأشياء ، فلا يكون لهم لغير الله

__________________

(١) اعلم أن دوام الصلاة لا يمكن بالصورة ؛ بل بالمعنى ؛ وذلك أن من سجد قلبه لله تعالى سجدة حقيقية ، وخضع خضوعا تاما ؛ فإن عبادته لله تعالى مستمرة سواء كان على اليقظة ، أو على النوم ؛ لأن النوم إنما يجري على صورته لا على قلبه ، كما أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «ينام عيناي ولا ينام قلبي» ، فإذا كان قلب الرجل يقظانا ، سرى ذلك في جميع أجزائه وقواه ؛ فإن القلب أصل القوى والجسد ، فإذا صلح ؛ صلح القوى والجسد كلها ، كما أنه إذا فسد ؛ فسد القوى والجسد كلها.

٤٥٣

فرح ، ولا إلى غيره سكون.

وقال سهل : إذا افتقر جزع ، وإذا آثر منع إلا المصلين الموفّقين من عباده.

قال الواسطي : «جزوعا» لما يجهل من القسمة ، وأما «المنع» فهو من صفة المنافقين.

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) : «أماناتهم» : أمانة الاصطفائية الأزلية التي أودع أنوارها قلوب العارفين حين عاينته أرواحهم في مشاهد الأولية ، و «عهدهم» : ما عهد الله بأنه لهم ، وهم له لا لغيره ، فهم مدخل بالمحبة فمن راعى عهده ، وأمانته بشرط المحبة ، والشوق ، والعشق ، وبذل الوجود ، والطرب بلقائه ، وحسن الإقبال عليه على السرمدية ، ولا يتقاعد عنه بشيء من دونه ، فهو من الذين (هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ.)

قال بعضهم : «الأمانة» : سر الله عند عباده تسلوهم بها في خواطرهم ، ويسرّوا به باللجوء ، والافتقار إليه أبدا ، فإذا سكن القلب إلى ما خطر من وسوسة النفس بإذنه الأمانة بحقها بمفارقتها ، والأمانة عهد الله ، ورسوله بقوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ.)

قال الجنيد : إنما هي حفظ القلب مع الله على التوحيد ، و «الأمانة» : المحافظة على الجوارح.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٣٣) ، أي : الذين شاهدوا مشاهدة الله قائمين في مقام مشاهدته ، مستقيمين في النظر إليه ، لا يزولون عن مقامهم ، وهم بشرط محبته إلى الأبد قائمون ، وببذل وجودهم واقفون.

قال سهل : قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة أن لا إله إلا الله ، فلا يشركون به في شيء من الأفعال ، والأقوال ، والأحوال.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧)

٤٥٤

أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) (٣٩) : أمين الله على أوليائه الصادقين أنه يبلغهم إلى جواره ؛ لأنّهم خلقوا من تربة الجنة ، وخلقت أرواحهم من نور الملكوت ، وإلى مواضعها ترجع ، وللقائه خلقهم ، ومن نوره أوجدهم ، وإن أهل الخذلان خلقوا من عالم الشهواني ، والشيطاني ، ومنبعها النار ، فيدخلون مواضعهم ؛ لأنهم ليسوا من أهل جواره ، ونحن لا ننظر إلى ما خلقنا منه من النطفة والطين ، ولا نعتبر بها ، فنحن نعتبر بالاصطفائية والخاصية في المعرفة ، فإن بهما يصلون إلى جوار الله.

قال الواسطي : ما يؤيسهم من دخول الجنة ، أي : خلقناهم للكفر ، والإيمان ، والثواب ، والعقاب.

سورة نوح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦))

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (١) : كان نوح عليه‌السلام مشكاة نور عظمة الله ؛ لذلك أرسله إلى قومه

__________________

(١) أشار بنوح إلى الروح ، وذلك من حيث المراتب الأربع التي حصلت للروح من حيث أولية ، وآخرية ، وظاهرية ، وباطنية ، فالروح نوح : أي سابق على قومه من القوى الروحانية ، والأعضاء الجسمانية ، وإذا الفاعل قبل القائل ، وقد أرسله الله إلى قومه ؛ فهو المؤثّر فيه لا غيره تعالى ؛ لأنه لا غير هنالك حتى يكون هو المباشر للإرسال ، وكذا كل الإرسالات الواقعة في الدنيا ؛ فإنها كلها مضافة إلى الله تعالى ، فإن الإرسال إمّا من الشيخ المرشد ؛ فذلك مضاف إلى الإلهام الإلهي ، وإمّا من الجناب النبوي ؛ فذلك مضاف إلى الوحي الربّاني ، والكل ؛ لكن المظاهر متعددة بحسب المقامات والأطوار ، وقد يترقّى ـ

٤٥٥

بالإنذار ، فلما عصوه أثر منه قومه من قهر الجبروت ، والأنبياء ، والأولياء في درجات القرب على تفاوت ، فبعضهم يخرجون من نور الجلال ، وبعضهم يخرجون من نور الجمال أورث قومه البسط ، والأنس ، والسهولة ، ومن خرج من نور العظمة أورث قومه الهيبة ، والإجلال.

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩))

قوله تعالى : (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (٧) : من أصرّ على المعصية أورثه التمادي في الضلالة حتى يرى قبيح أعماله مستحسنا ، فإذا رآه مستحسنا يستكبر ويعلو به على أولياء الله ، ولا يقبل بعد ذلك نصيحتهم.

قال سهل : الإصرار على الذنب يورث الاستكبار ، والاستكبار يورث الجهل ، والجهل يورث التخطّي في الباطل ، والتخطّي في الباطل يورث قساوة القلب ، وقساوة القلب يورث النفاق ، والنفاق يورث الكفر.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠))

قوله تعالى : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (١٠) : كان الله في الأزل غفّارا لذنوب عباده ، فدعاهم إلى رؤية غفرانه الأزلي بنعت الافتقار إليه ، ورؤية التقصير في العبودية ، والندم على ما ضاع من أيّامهم بالغفلة عن الله.

قال بعضهم : الاستغفار أوائل طلب التوبة.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣))

قوله تعالى : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١) ، أي : إذا كنتم مستسقين من عطش الشوق إلى لقائه ينزّل من سماء قربه مطر رحمته ، وهي كشف مشاهدته ، ثم ذلك المطر الغزير بأنه ينبت في بساتين قلوبهم أشجار المعرفة ، ورياحين المحبة ، ويجري في أرض عقولهم أنهار الحكمة ، بقوله : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١٢).

قال جعفر : يزيّن ظاهركم بزينة الخدمة ، وباطنكم بأنوار الإيمان.

__________________

ـ السالك في بعض المواطن إلى حيث يأخذ الإذن من الله تعالى بلا واسطة ، وذلك لا يلزم منه ترك الوساطة ، فإن ذلك بشفاعة الواسطة ، أو باستهلاك الكل في عين الجمع ، وليس هناك إلا الله تعالى.

٤٥٦

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨))

قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) : طور من أهل المعرفة ، وطور من أهل الحكمة ، وطور من أهل التوحيد ، وطور من أهل الشوق ، وطور من أهل العشق ، وطور من أهل الفناء ، وطور من أهل البقاء ، وطور من أهل الخدمة ، وطور من أهل المشاهدة ، خلق طور الأرواح القدسية من نور الجبروت ، وخلق طور العقول الهادين العارفة من نور الملكوت ، وخلق طور القلوب الشائقة من معادن القربة ، وخلق طور أجسام الصديقين من تراب الجنة ، فكل طور يرجع إلى معدنه من الغيب.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١٩) : جعل أرض الغيوب بساطا للقلوب ؛ ليسلك في طريق أنوارها الأرواح والعقول ؛ لطلب مشاهدة جلاله وجماله.

سورة الجن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢))

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) : خلق الله بعض أوليائه من الجن ولهم أرواح ملكوتية وأجسام روحانية ، وهم إخواننا في المعرفة يطيعون الله ورسوله ، ويحبون

٤٥٧

أولياءه ، يستنون بسنة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسمعون القرآن ، ويفهمون معناه ، وبعضهم شاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعوا كلام الحق منه شفاها ، وخضعوا له إذعانا ، واستبشروا بروح الله وروح خطابه استبشارا.

قال ابن عطاء : تعجّبت الجن من بركات القرآن ، لما سمعوه وجدوا في قلوبهم روحا ، وفي أسرارهم نورا ، وعلى أرواحهم راحة ، وفي أبدانهم نشاطا للائتمار بأوامره ، فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي : كتابا عجيب البركة ، ثم وصف بركته بقوله : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) : يهدي إلى معدنه ، وهو الذات القديم.

قال الجنيد : إلى الوصول إلى الله ، وهو الرشد.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢))

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) علت عظمة جلاله عن أن يكون لها ضدّ من الأضداد ، وندّ من الأنداد ، وأن يدركه أحد بنفسه.

قال الجنيد : ارتفع بشأنه عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا.

وقال : الذي تعالى عظمته عن أن يكون إليه سبيلا إلا به ، أو يلوثه ما أحدثه بل لا دليل على الله سواه ، ولا أثر لشيء عليه ؛ لأنه الذي أبدى الآثار.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥))

قوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي : من يعرف ربه فلا يخش على نفسه السقوط من الدرجات ، ولا يبقى في حجب المجاهدات ، بل يبلغ إلى أنوار

٤٥٨

المشاهدات.

قال الواسطي : حقيقة الإيمان ما أوجب الإيمان ، فمن بقي في مخاوف المرتابين لم يبلغ إلى حقيقة الإيمان.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

قوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) (١) أي : لما عاينوا في أهل معارفي استقاموا في طوارقات أنوار مشاهدتي ، وصبروا في واردات بحار حقائق وجودي ؛ لأسقينا أرواحهم وعقولهم وقلوبهم مياه بحار أسراري وأنهار أنواري.

قال بعضهم : هو القيام على سبيل السنّة ، والميل إلى أهل الصلاح ؛ لكشفنا على قلوبهم ماء الوداد.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١))

قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) : مساجد القلوب لزوّار تجلّيه ، فلا ينبغي أن يكون فيها ذكر غير الله.

قال ابن عطاء : مساجدك أعضاؤك التي قررت أن تسجد عليها لا تخضعها ولا تذلّلها لغير خالقها.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥))

__________________

(١) الإسقاء والسقي بمعنى واحد ، وقال الراغب : السقي والسقيا هو أن تعطيه ماء ليشرب والإسقاء أن تجعل له ذلك له حتى يتناوله كيف شاء كما يقال اسقينه نهرا فالإسقاء أبلغ ، وغدق من باب علم إذا غزر وصف الماء به للمبالغة في غزارته كرجل عدل وتخصيص الماء الكثير بالذكر لأنه أصل السعة وإن كان أصل المعاش هو أصل الماء لا كثرته ولعزة وجوده بين العرب قال عمر ـ رضي الله عنهما ـ أينما كان الماء كان العشب وأينما كان العشب كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة والمعنى لأعطيناهم مالا كثيرا وعيشا رغدا ووسعنا على الرزق في الدنيا. تفسير حقي (١٦ / ١٨٣).

٤٥٩

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) : أمره بإظهار تلاشي الكون في عظمته ، وغلبة قهر سلطانه على الكائنات جميعا ، وهذا رؤية فردانية الحق بنعت الاستغراق في بحار كبريائه.

قال القاسم : هذه لفظة تدل على إخلاص التوحيد ؛ إذ التوحيد هو صرف النظر إلى الحق لا غير ، وهذا لا يصح إلا بالإقبال على الله ، والإعراض عمّا سواه ، والاعتماد عليه دون ما عداه.

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧))

قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) : ستر الله أنوار غيبه من جميع الخلق إلا من أرواح النبيين والمرسلين ، وعقول الصدّيقين وقلوب العارفين ، وأسرار الموحدين هم مستشرقون بالله على غيب الله ، وهم أهل مكاشفات صحيحة ، وفراسات صادقة ، ومشاهدات واضحة.

قال بعضهم : أخفى الحق الغيب عن الخلق ، فلم يطلع عليه أحدا من عباده إلا الأولياء على طرف منه بأخبار صدق أو تلقف من الحق والأولياء ، والأمناء أصحاب الفراسات الصادقة ، فإنهم ينظرون بنور الغيب ، فيحكمون على الغيب.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).

قوله تعالى : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) : أظهر قهر سلطان جبروته على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، فإنه موجد الأشياء ، والعالم بها قبل إيجادها ، ظاهرا وباطنا ، صغارا وكبارا.

قال القاسم : هو أوجدها ، فأحصاها عددا.

سورة المزمل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣))

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ) : إن الله سبحانه اشتاق إلى مناجاة حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فناداه أن يقوم في أجواف الليالي بحسن الإقبال ، ونعت الاستقامة في مشاهدته ، فإنه المقام المحمود

٤٦٠