تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

قال الواسطي : بالنعم ابتدأ الحق الخلق تفضيلا من غير استحقاق ، جلت نعمه وعطاياه أن تستجليها الحوادث بحال الكنه المبتدئ بالنعم والمتفضل بها ، قال الله : (وَمَنْ جاهَدَ.)

قال أبو بكر بن طاهر : من يظهر على نفسه آثار العبودية وزينتها لا يطالب بها قربة إلى ربه ؛ فإن الحق لا يتقرب إليه إلا به وبما منه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) : وصف المتكلفين بدعاوى المعرفة والمحبة ، فإذا لحق بهم ملامة الخلق تركوا الطريق ، والعارف الصادق المحب المشاهد لا يبالي بأقوال الخلق وأفعالهم في حقه ؛ فإن الأكوان والحدثان ومن فيها من الخلق أقل من خردلة في عين العاشقين ؛ لأنهم يعرفون غباوة الخلق وجهلهم بحالهم ؛ وبلاؤهم لا وزن له كما لا وزن لهم عندهم.

قال الواسطي : لا يؤذى في الله إلا الأنبياء وخواص الأولياء والأكابر من العبّاد ، ومن تعززت نفسه نازع الله في ربوبيته.

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ

١٠١

الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

قوله تعالى : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) : اطلبوا رزق المشاهدة والوصلة من مقام المحاضرة مع الله ، (وَاعْبُدُوهُ) بشرط المعرفة والإحسان ، ولا تظنوا أن الكشف العيان والمعرفة والبيان يتعلق بالاكتساب ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) أي : اشكروا ما أنعم عليكم بتعريفه إياكم نفسه له لا بغيره من العرش إلى الثرى.

قال ابن عطاء : اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة.

وقال سهل : اطلبوا الرزق في التوكل لا في الكسب ؛ فإن طلب الرزق في الكسب سبيل العوامّ.

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) : يعذب من يشاء بالاستتار ، ويرحم من يشاء بالتجلي ، يعذب من يشاء بالقبض ، ويرحم من يشاء بالبسط ، يعذب من يشاء بالمجاهدة ، ويرحم من يشاء بكشف المشاهدة.

قال بعضهم : يعذب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة.

وقال بعضهم : يعذب من يشاء بالإعراض عن الله ، ويرحم من يشاء بالإقبال عليه.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦))

قوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) : عاين الحق ، (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) من نفسي ومن الكون إليه بالانفصال عما دونه ، ولا يصحّ لأحد الرجوع إليه ، وهو متعلق بشيء من الكون حتى ينفصل عن الأكوان أجمع ولا يتصل بها.

وقال ابن عطاء : أي : راجع إلى ربي من جميع مالي وعليّ الرجوع إليه.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ

١٠٢

فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨))

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) : أجر الخلة كشف المشاهدة والقربة في الدنيا بالقلب والروح وفي الآخرة عيانا بالعين ، وذلك لصلاح الكل.

قال ابن عطاء : أعطيناه في الدنيا المعرفة والتوكل ، وإنه في الآخرة لمن الراجعين إلى مقام العارفين.

قال بعضهم : آتيناه ثناء وحسنا في دنياه ، وآتيناه ذكرا حسنا في عقباه ، وهو ما خصّ به من أنه خليل الله.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

١٠٣

قوله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) : كل مجلس ليس بمجلس العارفين بالله وبأحكامه فهو مجلس منكر ؛ لأن مجالسهم مجالس السماع والوجد والحضور والمراقبة والذكر والفكر والنصيحة ، وأهل الغفلة مجالسهم مجالس سهو ولهو ، سئل الجنيد عن هذه الآية قال : كلّ شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢))

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) : بيّن الله سبحانه أن من اعتمد على غير الله في أسباب الدنيا والآخرة فهو ينقطع عن مراده غير واصل بربه.

قال ابن عطاء : من اعتمد شيئا سوى الله فهو هباء لا حاصل له ، وهلاكه في نفس ما اعتمد ، ومن اتخذ سواه ظهيرا قطع من نفسه سبيل العصمة ، وردّ إلى حوله وقوته.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) : دقائق المعارف لا يعرفها إلا صاحب حال مخاطب من الله بنعت الكشف والعيان والبيان.

قال سهل : شواهد القدرة يدل على القادر ولا يعقلها أي : لا يتنبه بها إلا العالمون به وبأسمائه وصفاته ؛ لأنهم علماء النسبة والباقون علماء المنهج ، والعالم على الحقيقة من يحجره علمه عن كل ما لا يبيحه العلم الظاهر.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) : حقيقة الصلاة

١٠٤

حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر ، فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء ، والفكر يطرد الخواطر المذمومة وهي المنكر هذا في الصلاة ، وبعد الصلاة تنهى الصلاة الحقيقة التي تنهى صاحبها عن رؤية الأعمال والأعراض ، فإذا كان كذلك الصلاة يتكون قرة عيون العارفين ، بقوله عليه‌السلام : «قرّة عيني في الصلاة» (١).

وقال ابن عطاء : بركات الصلاة تذهب بعقاب الفحشاء ونيات المنكر.

قال جعفر : الصلاة إذا كانت مقبولة فإنها تنهى عن مطالعات الأعمال وطلب الأعراض ، وقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) للعارف بذكر خالص في السرّ غير مشوب بحركات الصورة ، وذلك نور صدر من أنوار كشوف صفات الحق حين أظهر جلاله وجماله لروحه ، وله ذكر مشوب بالأعمال الظاهرة مثل الصلاة وجميع الأعمال ، والذكر الأول أصفى وأجل ؛ لذلك قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ؛ لأنه غير مكتسب مقدس عن العلل ، وأيضا ذكر الله الأزلي للعارف حين اصطفاه بمعرفته أكبر وأعظم من أن يدركه أحد بالكسب والأعمال ، وأن يلحقه نقض أو نقص من جهة الحدث ، وإذا قلت ذكر الله للعباد أكبر من ذكر العباد له قابلت الحادث بالقديم ، وكيف تقول الله أحسن من الخلق ، ولا يوازي قدمه إلا قدمه ولا يقابل ذكره إلا ذكره ، وأنّى يكون الأكوان والحدثان في سرادق الرحمن؟! وكيف يبقى الكون في سطوات المكون؟!

قال الواسطي : من شاهد نفسه في ذكره فقد شاهد نفسه في مقابلة من لا يقابله شيء ، والله يقول : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) من أن يكون أحد فيه بحق العبودية ، فكيف بحقوق الربوبية؟!

قال أيضا : ذكر الله لكم في الأزل أكبر وأحكم وأقدم وأتمّ.

وقال ابن عطاء : ذكر الله أكبر من ذكركم ؛ لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال.

قال القاسم : ذكر الله أكبر من أن يحويه أفهامكم وعقولكم ، وحقيقة الذكر طرد الغفلة ، وإذا لم تكن الغفلة فما وجه الذكر ؛ لأنه أكبر من أن يلحقه ذكر أو يدنيه إشارة ؛ لأن الإشارة تطلب الأين ، والأين يلحقه الحين.

وقال الأستاذ : لذكر الله أكبر من أن يعرف قدره أحد وأكبر من أن يعارضه ذكر ، ويقال ذكر الله أكبر من أن يبقى معه وحشة.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

١٠٥

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨))

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) : إن الله سبحانه أزال عن ساحة الاصطفائية الأزلية وشرف النبوة والرسالة المصطفوية لنبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والرسل علل التكلف والأسباب بما أخبرنا بهذه الآية ما علمناه من إنبائه تقديس الولاية ، والفضل العميم القديم السابق في حق العارفين والمحبين.

قال أبو سعيد الخراز في هذه الآية : أبيدت عنه الرسوم وأشكال الطبائع ؛ لما فيه من تدبير المحبة والاختصاص بخصائص القربة ، فلم يتدنس بمرسوم ، ولم يرجع إلى معلوم ؛ لذلك لما بدهه الحق أثّر فيه حيث وجده خاليا عما فيه الأغيار ، ألا ترى أنه لما قيل له : (اقْرَأْ) قال : ما أنا بقارئ ، فقيل له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] فلما قيل له : (بِاسْمِ رَبِّكَ) سكن إليه وألفه ؛ لخلوه عن التدنس بالمرسومات.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : عرائس حقائق القرآن لا تنكشف إلا لأرواح المقربين من العارفين والعلماء الربانيين ؛ لأنها أماكن أسرار الصفات وأوعية لطائف كشوف الذات ، وما سواها من الوعاء أليق بظواهر الخطاب وصورتها مع أهل الشرائع.

قال أبو بكر بن طاهر : علوم الدراية جعل وعاءها صدور العلماء ربانيين ، وآيات ذلك ظاهرة عليهم ، وأنوارها مشرقة فيهم ، فلا ترى عالما مستعملا بعلمه راعيا لأحكام الحق عليه ،

١٠٦

وموارد الحق إياه إلا وأنوار هيبته تشتمل على قلوب حاضريه فلا يكون مجلسه إلا مجلس أدب.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦))

قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) : بسط الحق بساط عطايا الكرم ونورها بشروق شموس القدم لطلاب مشاهدته وقربه ووصاله من العارفين والمحبين.

قال سهل : إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) : قهر سلطان كبريائه أعدم كل موجود سواه وإن بقي ؛ لأن بقاء الخلق ببقاء الحق يكون ليس لهم بقاء بالحقيقة ، إنما البقاء لمن له أزل وقدم.

قال الجنيد : النفوس وإن عظمت خطرتها فإنها مردودة إلى قيمتها لا يثبت لها حال ما دامت قائمة بأنفسها ، إلا أن يفني الحق شاهدها عنها ويحييها بشواهد إشهاد منه إياها إذ ذاك تحيا ويزول عنها العلل ، قال الله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) : ما دامت ما فيه قائمة بذواتها ، (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بما لنا ، فتسقط عنها العوارض والعلل ، ويقيمها مقام الصدق.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨))

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : حثّ سبحانه العباد بالتوكل عليه

١٠٧

والتيقن بلطيف صنعه والكرم العميم منه على جميع البرية ، وبأن يرضى العباد بما يجري عليهم من الأقدار السابقة في الأزل ، ولا يكونوا مهتمين بما يستقبلون من الأيام الباقية والأعمار الماضية بجهة الرزق ؛ لأنه تعالى قدّر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وما قدّر في الخلق والرزق والأجل لا يتبدل بقصد القاصدين وجهد الجاهدين ، ألا ترى إلى الوحوش والطيور لا تدّخر شيئا إلى الغد «تغدو خماصا وتروح بطانا» (١) ؛ لا تكالهما على الله بما وصل إلى قلوبها من نور معرفة خالقها ، كيف يكون الإنسان يهتم لأجل رزقه ويدّخر شيئا لغده ولا يعرف حقيقة رزقه وأجله ، فربما يأكل ذخيرته غيره ولا يصل إلى غده ؛ لذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدّخر شيئا لغد ؛ إذ الأرزاق مجددة كالأنفاس المجددة في كل لمحة ، ولذلك وصف الله سبحانه في أوائل الآية أهل التوكل والرضا بقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل : ٤٢] ، ثم بيّن أنه تعالى رازق جميع ذوات الأرواح بقوله : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ؛ ليسقط عن القلوب اهتمام الرزق من قلوب الخصوص والعموم ؛ لأجل نفوسهم ولغيرهم ؛ لأنه سميع مقالة السائلين في طلب حوائجهم منه ، عليم بما ادخره من أرزاقهم في خزائن جوده ، ودقيقة إشارة التوحيد أن الأرزاق في أماكن العدم معدومة ولا يوجدها بالحدثان ؛ لأن إيجادها من نعوت قوة الرحمانية الأزلية ، ولو يحصرها بجميعها كيف تحملها الدابة ، وأصل حقيقة الرزق مشاهدة العدم والأرواح لا تحمل سطواتها في وقت التجلي ، بل الله يكسبها قوة أزلية تحمل بها منه ما عليه من كنه كشفه.

قال بعضهم في تفسير قوله : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) قال : لا تدّخر شيئا لغد.

قال النهرجوري : لا تجزعوا من التوكل ؛ فإنه عيش لأهله ، قال الله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ.)

وقال ابن عطاء : يرزقها بالتوكل ، ويرزقكم بالطلب.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) : افهم يا غافل أن الله سبحانه اختار أهل صفوته بالاصطفائية القدمية ، وخصّهم بعرفان نفسه والإيقان فيما بان منه لهم من أنوار الربوبية في مقام العبودية ، فطارت أرواحهم من عالم الملكوت بأجنحة أنوار الجبروت في أوائل إيجادها إلى الأكوان ؛ لحصول عبودية الرحمن ، فصحبها سنا قربه وضياء دنوه وحلاوة أنسها بما رأت من جلاله وجماله ، فتحركت من الأزل إلى الأبد بنعت شوقها إلى صانعها ، وما

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٥٧٣) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٩٤) ، وأحمد (١ / ٥٢).

١٠٨

طرأ عليها السكون ، بل غلب عليها شوق معادنها ، فحركاتها جذبا منه تعالى إليه ومحبّة وشوقا ، فلما هامت في ميادين الشوق من غلبة السكر والذوق ولا تعرف مسالك الربوبية بالحقيقة فيكشف الله لها سنا القدس فتصل به إلى حجال الأنس ، وتعرف هناك سبيل الصفات ، وتتطرق من مدارجها إلى معارج طرق معارف الذات ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) : جاهدوا بالله في الله لله ، فيعرفون الله بالله ، وهو معهم بإعطائه إياهم كشف جماله ؛ لأنهم يشاهدونه بنعت المراقبة ، وبذل وجوههم لحب المشاهدة (١) ، وذلك معنى قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩) ، وأصل المجاهدة فطام النفس عما دون الله من العرش إلى الثرى ، سبل المجاهدة من العبد إلى الله أو من الله إلى العبد.

فقال : ما من شيء إلا الله موجده قال الله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي : أوجدكم وأوجد أعمالكم بلا شريك ولا عون فالخلق فأتم بالخلق قائم بالخلق.

قال ابن عطاء : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) أي : في رضانا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) : الوصول إلى محل الرضوان.

قال الجنيد : لنهدينهم سبيل الإخلاص.

قال ابن عطاء : المجاهدة صدق الافتقار إلى الله بالانقطاع عن كل ما سواه.

قال النهرجوري : والذين جاهدوا في خدمتنا لنفتحنّ عليهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا والمشاهدة لنا ، ومن لم يكن أوائل أحواله المجاهدة كانت أيامه وأوقاته موصولة بالتواني والأماني ، ويكون حظه البعد من حيث يأمن القرب.

قال عبد الله بن منازل : المجاهدة علم أدب الخدمة لا المداومة عليها ، وأدب الخدمة أعزّ من الخدمة.

قال الشيخ أبو عبد الله بن خفيف : وكل محتمل لثقل العبودية في اختلاف ما وضع الله من عوض وفضل فهو داخل في أحوال المجاهدين.

قال الأستاذ : شغلوا ظواهرهم بالوظائف ، فأوصل إلى سرائرهم اللطائف.

__________________

(١) وفي التأويلات النجمية قوله : هذا مثل ضربه الله تعالى للخلق تعريفا لذاته وصفاته ، فلكل طائفة من عوام الخلق وخواصهم اختصاص بالمعرفة من فهم الخطاب على حسب مقاماتهم وحسن استعدادهم فما العوام فاختصاصهم بالمعرفة في رؤية شواهد الحق وآياته بإرآته إياهم في الآفاق ، وأما الخواص فاختصاصهم بالمعرفة في مشاهدة أنوار صفات الله تعالى وذاته تبارك وتعالى بإرآته في أنفسهم عند التجلي لهم بذاته وصفاته.

١٠٩

سورة الروم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦))

(الم) : إشارة الألف هاهنا إلى اشتياق قلوب المشتاقين إلى لقائه ، وإشارة اللام والميم إشارة كيف جماله لأرواح المحبين العاشقين لوجهه بقوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ) : إشارة إلى أن الأرواح وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمّارة والشياطين الكافرة امتحانا من الله وتربية لها بمباشرة القهريات ، فإنها تغلب على النفوس حين يخرج من مقام الاختيار.

قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (٣) : نفى كل نفس قاتل الأرواح النفوس ، فالمؤيد من أعانه الله على نفسه بأن قوّاه في العبودية بشراب المحبة والقربة ، ثم بيّن أن القهر واللطف يتعلقان به ، والنصر والخذلان يصدران منها بقوله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي : له أمر الاصطفائية في الأزل ورعايتها له إلى الأبد ، فإذا انكشفت أنوار العناية انهزمت ظلمات الطبيعة تفرح الأرواح بتأييد الله حين عاينت ملكوت الله بقوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ.)

قال سهل في قوله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) : من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء ؛ لأنه المبدئ والمعيد.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ

١١٠

السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣))

قوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) : وصف المدققين من أهل السالوس والطرارير من أهل الناموس بأنهم عرفوا الأحكام الدنيوية ، وهم محجوبون عن معاملات الله ، غافلون عما فتح الله على قلوب أوليائه الذين غلب عليهم شوق الله ، وأذهلهم حبّ الله عن تدابير عيش الدنيا ونظام أمورها ؛ لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم أعلم بأمور دنياكم ، وأنا أعلم بأمور آخرتكم» (١).

قال القاسم : من كان عن الآخرة غافلا كان عن الله أغفل ، ومن كان غافلا عن الله فقد سقط عن درجات المتعبدين.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)

__________________

(١) رواه ابن حزم في الإحكام (٥ / ١٢٨).

١١١

ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمنتكم من شركاء في ما رزقنكم فانتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الأيت لقوم يعقلون (٢٨) بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من نصرين)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) : من كان في الدنيا على حد التفرق فيوم القيامة يرجع إليها ، ومن كان في الدنيا على حد الجمع فيكون في الآخرة جمعا ، ومن كان مع الله فهو جمع ومن كان مع غير الله فهم متفرقون إلى أماكنهم من السعادات والشقاوات والبعاد والقربات ، فأهل القرب في مشاهدة الأنس والقدس ، وأهل البعاد في الوحشة والتفرقة.

قال أبو بكر بن طاهر : يتفرق كل إلى ما قدّر له من محل السعادة ومنزل الشقاوة ، ومن كان تفرقه إلى الجمع كان مجموع السر ، ينقلب إلى محل السعداء ، ومن كان تفرقه إلى فرقة كان متفرق السر ، ثم لا يألف الحق أبدا فيرجع إلى محل أهل الشقاوة ، ثم فسر الله سبحانه حال الفريقين بالنعتين المتضادين بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : وصف أهل الحبور بالإيمان والعمل الصالح ، فأما إيمانهم فشهود أرواحهم مشاهد الأزل في أوائل ظهورها من العدم ، وأما أعمالهم الصالحة فالعشق والمحبة والشوق ، فآخر درجاتهم في منازل الوصال الفرح بمشاهدة الله والسرور بقربه ، وطيب العيش بسماع كلامه وخطابه ، يطربهم الحق بنفسه أبد الآبدين في روح وصاله وكشف جماله ، فابتداء أحوالهم في صباح الأزل تنزيه القدم ، وفي مساء الأبد قدس البقاء بقوله سبحانه وتعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي : إذ طلع في قلوبكم صبح مشرق الأزل فكونوا بنعت التنزيه في طلب عيشكم بالمشاهدة ، وإن تروا جلال ذاته وأنوار صفاته في سربال الأفعال فإن هناك مكر الفعل غالب ، لئلا تقعوا في التشبيه من غلبة ذوق العشق ، وكذا كونوا إذا تخفى عليكم الكشوف ويأتي عليكم مساء الصحو هذا نعمة عظيمة لا يقوم الحدثان بشكرها ، فحمد سبحانه نفسه بألسنة كل ذرة من العرش إلى الثرى فعلا وصفة بقوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فهذا وصف تنزيه العارفين في يدي سماعهم ومنتهى حالهم في السماع ، وهم في روضة شهود الأنس سمعوا بأرواحهم القدسية وعقولهم الملكوتية سماع الحق من نفسه حيث قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كيلا يقعوا في بحار الأنانية من حدة سكرهم في المحبة والمشاهدة ، فيخرجوا عليه بدعوى الربوبية ، ليس هاهنا مقام هذا المقال ، إنما أردنا

١١٢

شرح مقام السماع فإن الله بجوده وجلاله يطّيب أوقات عشّاقه بكل لسان في الدنيا وكل صوت حسن في الآخرة.

قال الأوزاعي في تفسير قوله : (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) : إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت.

وقال : ليس أحد من خلق الله عزوجل أحسن صوتا من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع على سبع سماوات صلواتها وتسبيحها.

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين منها كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها سموّا وأوسطها محلة ، ومنها يتفجر أنهار الجنة وعليها يوضع العرش يوم القيامة. فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله إني رجل حبّب إليّ الصوت الحسن فهل في الجنة صوت حسن؟ فقال : أي والذي نفسي بيده إن الله ليوحي إلى شجرة في الجنة أن أسمعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن البرابط والمزامير ، فترفع صوتا لم يسمع الخلائق مثله قط في تسبيح الرب وتقديسه» (١).

وعن أبي الدرداء قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكّر الناس فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم ، وفي آخر القوم أعرابيّ فجثا لركبتيه ، فقال : يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال : نعم يا أعرابي ، إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قط ، وذلك أفضل من نعيم الجنة ، قال : فسأل أبو الدرداء : بما يتغنين؟ قال : بالتسبيح إن شاء الله. قيل الخوصانية المرهفة الأعلى الخمصة الأسفل» (٢).

وعن مغيرة عن إبراهيم قال : «إن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل جنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار ، فتحركت تلك الأجراس بأصوات ، لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا» (٣).

وسئل أبو هريرة : «هل لأهل الجنة من سماع؟ قال : شجرة أصلها من ذهب وأغصانها من فضة وثمرها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت ، يبعث الله ريحا فيحكّ بعضها بعضا ، فما سمع أحد شيئا أحسن منه» (٤).

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٠٢٨) ، والترمذي (٤ / ٦٧٤).

(٢) رواه ابن حبان في المجروحين (١ / ٣٣١) ، وابن عدي في الكامل (٣ / ٢٨٥).

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره (١٤ / ١٣).

(٤) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (١ / ٤٦٠).

١١٣

فافهم ، مثل هذه الأحاديث كثيرة وههنا غاية مقاصدنا تفسير قوله سبحانه : (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) ، وربّ روضة في الدنيا للعارف الصادق العاشق بالله يرى الحق فيها ويسمع من الحق السماع بغير واسطة ، وربما يكون بواسطة ، فيسمعه الحق من ألسنة كل ذرة من العرش إلى الثرى أصواتا قدوسية وخطابات سبوحية.

قال جعفر : بالله فابدأ في صباحك ، وبه فاختم في مساءك ، فمن كان به ابتداؤه وإليه انتهاؤه فلا يشقى فيما بينهما.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) : الدين طريق القدم ، والحنيفية التبرؤ من الكون ، وإقامة الوجه الإعراض عن الكل والإقبال بعد فناء النفس والكل على الأزل ، فهذه بمجموعها فطرة الحق التي فطر الخلق بتلك الفطرة ، ولا يبتدأ هذه الفطرة من حالها ؛ فإنها طرق القدم في مكمن العدم ، وإذا استقام في السير من العدم إلى القدم وكمل من الحقائق بحيث لا يعوج عن الإقبال على الحق بشيء من الحدوثية ، فمحض ذلك الانفراد مع الوصول أصل الدين ؛ لذلك قال : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، خاطب الحق حبيبه في بداية تخلصه من نفسه ، ومن الكون بعد إقبال الحق عليه أن يستقيم بنعت التجريد في توحيده ، ومسيره إلى جلاله في طريق محبته وعبوديته.

قال أبو علي الجوزجاني : دعا الله عباده إلى الإخلاص من كل وجه ، وأخبر أن من كان في ظاهره وباطنه شيء سوى الحق لم يكن مخلصا في قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي : معرضا عن الكل ، مقبلا عليه أي : مطهّرا عن الأكوان وما فيها.

قال ابن عطاء : الفطرة ما فطرهم عليه وثبّتها في اللوح المحفوظ.

وقال : الدين القيم الطريق الواضح لأهل الحقائق.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ

١١٤

لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) : راجعين إليه من الحدوثية بعد الاتصاف بالربوبية والقوة أي : لا تدّعوا الأنائية ؛ فإنكم في منازل التوحيد وحقيقة التوحيد ألا تنسى صولة القدم على الحدث ، وإن كان مستغرقا في بحر القدم.

قال ابن عطاء : راجعين إليه من الكل خصوصا من ظلمات النفوس ، مقيمين معه على حد آداب العبودية لا يفارقون عرصته بحال ، ولا يخافون سواه ، هذا حد المنيبين.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) : الزكاة بذل الوجود ، فإذا بذلت بحد إرادة طلب جماله جلّ جلاله فيقع التضعيف في أجر الوصول ، وهو دنو الدنو بعد الدنو.

قال سهل : وقع التضعيف لإرادة الله وجه الله به لا إلى إيتاء الزكاة ، والزكاة زكاة البدن في تطهيرها من المعاصي وزكاة المال في تطهيره من الشبهات.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) : خلقكم بحكمته ، ورزقكم بمحبته ومعرفته ، ثم يميتكم عنكم وعن الكون ، ثم يحييكم بحياته ، وأيضا يميتكم بسطوة عظمته ، ثم يحييكم بجمال وصلته ، ثم بقي في مواهبه السنية على الاكتساب والخليقة بقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، ثم نزّه نفسه عن تناول أحد بسبب ما أو أن يكون عطاؤه بعلة ، وقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٠).

قال الحسين : خلقكم بقدرته ورزقكم معرفته ، وأماتكم عن الأغيار وأحياكم به.

قال ابن عطاء : رزقكم العلم به والرجوع إليه.

قال شقيق : كما لا تستطيع أن تزيد في خلقك ولا في حياتك كذلك لا تستطيع أن تزيد في رزقك ، فلا تتعب نفسك في طلب الرزق.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي

١١٥

عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) : إن الله سبحانه غلب الإنسانية على الكون طاعة ومعصية ، فإذا رزق الإنسان الطاعة صلح الأكوان ببركتها ، وإذا رزقه العصيان فسد الحدثان بشؤم معصيته ؛ لأن طاعته ومعصيته من تأثير لطفه وقهره ، ولطفه وقهره هذا بنعت الاستيلاء على الوجود ، فإذا فسادها يؤثر في بر النفوس وبحار القلوب ، ففساد بر النفوس فترتها عن العبودية ، وفساد بحر القلب احتجابه عن مشاهدة أنوار الربوبية.

قال الواسطي : البر النفس ، والبحر القلب ، وفساد النفس متعلق بفساد القلب ، فمن لم يعمل في إصلاح قلبه بالتفكر والمراقبة وفي إصلاح نفسه بأكل الحلال ولزوم الأدب ظهر الفساد في ظاهره وباطنه.

وقيل : في البر والبحر أنه السرائر والظواهر.

قال جعفر : شاهد البر من عرف نفسه ، وشاهد البحر من عرف قلبه ، وصلاح هذين بالهيبة والحياء ، فهيبة الرب تزيل فساد الظاهر ، والحياء منه يميت فساد الباطن.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩))

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) : رياح اللطف تهب في قلوب العارفين ، وتبشر بأنوار المشاهدة والكشف (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) : من وصلته بعد الكشف والعيان ، (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) : يجري القلب في بحر مشاهدته ، ويسري في

١١٦

أنوار الصفات والذات بإرادته ومحبته ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : تبتغوا من وجوده ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٤٦) : ظهور الربوبية في العبودية ، قيل رياح القدس تبشّر بمنازل الأنس.

وقال النصرآبادي : هو أن يظهر عليك أوائل الاسترواح إلى ذكره ، فيكون ذلك إشارة بالوصول إلى المذكور.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (١) إن الله سبحانه يزين الأرض بأنوار فعله ، فينبت الحضر بورد الورد ، ويضيء الزهر والنبات ، ويتجلى من أنوار صفته فيها لا عين العارفين الذين شاهدوا الله بنعت الحسن ، ووصفهم الأنس بالورد والريحان والسماع ووجوه الحسان ، ألا ترى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف أشار بقوله «النظر إلى الوجه الحسن يزيد في البصر» (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النظر إلى الخضرة والماء الجاري يزيد في البصر» (٣).

قيل : أي يحيي الأنفس الميتة بالشهوات ، والقلوب الميتة بالغفلات بأنوار معرفته وآثار هدايته.

قال الأستاذ : يحيي الأرواح بعد حجبتها بأنوار المشاهدات ، فتطلع شموسها من برج

__________________

(١) اعلم أن وجه الإنسان عند مسّ الهمّ ، ووقت الغمّ ؛ كوجه الأرض في الشتاء حيث إن كلّا منهم يتغيّر عن حاله ؛ وهو موته ، ثم يحييه الله برحمته التي هي المطر بالنسبة إلى الأرض ، والسرور بالنسبة إلى القلب ، وأثر تلك الرحمة ؛ الخضرة في وجه الأرض ، والانبساط في البشرة ، فقد أشارت الآية بأن ذلك الموت ليس بمستمر ؛ بل يتعقّبه الحياة على ما يقتضيه الأسماء الإلهية الحاكمة على هذا العالم ، المدبّرة في الأنفس ، والآفاق المؤثّرة في الظاهر والباطن ، ولمّا كان ذلك موقوفا على النظر الصحيح ؛ قال : فانظروا ، ونظير ذلك الليل والنهار والنوم واليقظة ، والسحابة على وجه الشمس ، والانكساف والكدورة للماء وصفوته ، ثم الموت والحياة المذكوران ، وإن كانا مجازيين عند أرباب الظاهر ؛ لكنهما حقيقتان عند أهل الباطن ، فإن للأرض روحا نباتيا ، كما أن للإنسان روحا حيوانيا بل للإنسان روح نباتي أيضا به يشتهي الأكل والشرب ، وبه تربيته في بدنه لا بالروح الحيواني ، وإن كان الروح الحيواني مبدأ الحسّ الحركة.

(٢) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٣٨٧).

(٣) رواه الشهاب في مسنده (١ / ١٩٣).

١١٧

السعادات ، ويتصل بمشام الكافة ، فيتم ما نقص عليهم من الزيادات ، فلا يبقى صاحب يقين إلا حظي منه بنصيب.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) : فطرة آدم عليه‌السلام خلقت بنعت الضعف عن حمل وارد أنوار الربوبية وعرفان حقائق الألوهية ؛ لأنها كانت حادثة وقعت في موازاة القدم ، ففنيت بسطوة بقاء الأزل.

قال الواسطي : خلقه خلقة لا يمكنه أن يجر نفعا ولا يدفع ضرّا ، هل هو إلا الضعف التام.

[سورة الروم (٣٠) : آية ٦٠]

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في احتمال جفوة المعاندين والمخالفين ، وحثه على الصبر في أداء الرسالة ومباشرة الشريعة التي شغلته عن مشاهدة القدم ، قال سبحانه : (فَاصْبِرْ) في العبودية ، فإن بعد أداء العبودية كشف الربوبية لك ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) : بكشف الحجاب لك ، ويا عاقل إن أشد الصبر ، الصبر في الحجاب ، ثم الصبر في العتاب ، ثم الصبر في كشف النقاب ، ثم الصبر في الخطاب ، ثم الصبر في القربات ، ثم الصبر في المداناة ، ثم الصبر في الوصلات ، ثم الصبر في لطف الأنس ، ثم الصبر في سطوة القدس ، ثم الصبر في الانبساط ، ثم الصبر في العربدة ، ثم الصبر في الاتصاف ، ثم الصبر في الاتحاد ، ثم الصبر في السكر ، ثم الصبر في الغيبة عن الحق ، ثم الصبر في رؤية نفسه بعد غيبة الحق ، ثم الصبر في غلبة الأنائية ، هذا أشد جميع الصبر والاصطبارات ، ولا يعرف هذه المقامات في الصبر إلا ذو الكمال من العارفين.

وقال رويم : الصبر ترك الشكوى. وقال المحاسبي : الصبر التهدف بسهام البلاء.

١١٨

سورة لقمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

(الم) (١) : الألف إشارة إلى ألفة العارفين ، واللام إشارة إلى لطيف صنعه في المستحسنين ، والميم إشارة إلى معالم أنوار محبته في قلوب المحبين ، ثم لين زمام الخطاب إلى الإشارة في معنى الحروف بقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٢) أي : هذه الرموز آيات الكتاب المحكم المبين لطائف الحكم التي لا يدركها إلا أهل الفهم الذين هداهم نوره إلى ما كان فيه من الشرف والفضل والإرشاد إلى معدن الصفة ، هم الذين وصفهم الله بالإحسان والهداية والمغفرة والعرفان بقوله : (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (٣) عرفهم حقائق مراد الله ، وأوقعهم في بحار مشاهدة الله.

قال ابن عطاء في قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٢) : أنوار الخطاب المحكم لك وعليك.

قال شاه الكرماني : ثلاثة من علامات الهدى : الاسترجاع عند المصيبة ، والاستكانة عند النعمة ، ونفي الامتنان عند العطية.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) : الإشارة فيه إلى طلب علوم الفلسفة من علم الإكسير والسحر والنيرزجات وأباطيل الزنادقة وترهاتهم ؛ لأن هذه كلها

١١٩

سبب ضلالة الخلق بقوله : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.)

قال سهل : الجدال في الدين والخوض في الباطل.

قال أبو عثمان : كل كلام سوى كلام الله وسنة رسوله أو سير الصالحين فهو من لهو الحديث.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) الحكمة ثلاثة : حكمة القرآن ، وهي حقائقها ، وحكمة الإيمان ، وهي المعرفة ، وحكمة البرهان ، وهي إدراك لطائف صنع الحق في الأفعال ، وأصل الحكمة إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام.

قال شاه : ثلاثة من علامات الحكمة : إنزال النفس من الناس منزلتها ، وإنزال الناس من الناس لظنهم ، ووعظهم على قدر عقولهم ، فيقوموا بنفع حاضر.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) : رؤية ما دون الله شرك في التوحيد من العرش إلى الثرى ، والشرك على ثلاثة أقسام : شرك النفس ، وهو حظّها من الدنيا ، وشرك العقل ، وهو حظّها من الآخرة ، وشرك القلب ، وهو حظّها من صفاء العبودية ، وأخفى من الشرك ما تستلذّ الروح من تروح أنس الله ، وهو أعظم الحجاب ؛ لأن من بقي من حظه الأكبر فقد احتجب عن الغوص في بحار الألوهية والسير في ميادين الأزلية ، والوصل زجر النفس عن الاشتغال بما دون الله.

قال بعضهم : وعظ لقمان ابنه في ابتداء وعظه على مجانبة الشرك وهو التفرد للحق بالكل نفسا وقلبا وروحا ، فلا تشتغل بالنفس إلا بخدمته ، ولا تلاحظ بالقلب سواه ، ولا تشاهد بالروح غيره ، وهو مقام التفريد في التوحيد.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤))

قوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) : بيّن سبحانه طريق الجمع والتفرقة في هذه الآية فالجمع ما قال : (أَنِ اشْكُرْ لِي) ، فإذا أضاف الشكر إلى الغير فقد شغله بالتفرقة ؛ لأن السبب غير المسبب ، والعارف إذا كمل في معرفته فقد سقط عنه رؤية

١٢٠