تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

ثم أخبر عن مقالتهم عند شهودهم مشاهدته بقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي : اجعل أزواجنا وذرياتنا من أهل معرفتك ومشاهدتك ليكونوا زيادة نور أبصارنا ، واجعلهم مطيعين لك ومعاونين لنا في خدمتك.

قال جعفر : (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا) معاونة على طاعتك ، ومن أولادنا حتى تقر عيننا بهم.

ثم وصفهم بزيادة الدعاء على أنفسهم بأن يجعلهم أئمة الهدى ، وأن يجعلهم أئمة للمتقين أي : اجعلنا عرفاءك لنكون أئمة للزهّاد والعبّاد.

يا فهم ، إن العارف واصل مراد يعرف من الله مكان الحقائق ، ومثله كمثل عنقاء مغرب ، ومثل الزهاد وأهل التقوى كمثل الطيور الصغار المختلفة.

قال أبو عثمان : لا يكون إماما في التقوى من لم يصحح تقواه مع ربه ، وبقي عليه شيء من ذلك إنما الإمام المقدم في الشيء ، وإمام المتقين من يتقي كل شيء سوى الله.

ثم أخبر سبحانه عما يجازيهم بمأمولهم : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٧٥) يجزون بغرف الوصال كشف أنوار الجمال بما صبروا في شوقه عنه به لا بغيره يسمعون سلام الله وتحيته واعتذاره إليهم ، والفرق بين السلام والتحية أن السلام سلامة العارفين في الوصال عن الفرقة ، والتحية روح تجلي حياة الحق الأزلي في أرواحهم وأشباحهم ، فيحيون بحياته أبد الآبدين (خالِدِينَ فِيها) دائمين في مشاهدة الله (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٧٦) حسنت مستقرا بهم ومقاما بهم بحسن جمال الحق.

قال الترمذي : أهل الغرف كائن في أوائل الآية لا في آخرها ، وإنما وصف أهل الغرف بما يعقل من ظواهر أمورهم ، وإنما نالوها بما في باطنهم ، ألا تراه تعالى يقول : (بِما صَبَرُوا) ، والصبر في الأخلاق والآداب.

قال الواسطي : التحية غير السلام ، السلام من عند الله ، والتحية صفرة الحياة مع الحق.

وقال أيضا : التحية من الله إلى الروح كسوة يحيا الروح بحياته ؛ فلا يلاحظ غير من حياه وأكرمه وأدناه تحية من عند الله مباركة طيبة.

وقال أيضا : التحية في الأصل ما يحيا به ، فيفرح الروح بذلك ، ويأنس به ، وقال : التحية في الدنيا على العقول بركات ما يقع عليها من طيب ما أجرى عليها.

وقال بعضهم : التحية أنس الأسرار بالحي ، والسلام سلامة القلوب من القطيعة.

وقال بعضهم في قوله : (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) : طاب فيها المقام ، وحسن فيها القرار.

٤١

وقال بعضهم : أحسن المقام ، المقام في مشهد الحق ، وأطيب القرار ، القرار في جواره على فرش مرضاته.

* * *

سورة الشعراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦))

(طسم (١)) «الطاء» طهارة القدم من الحدثان ، و «السين» سنا صفاته الذي ينكشف في مرائي البرهان ، و «الميم» مجده الذي ظهر بوصف البهاء في قلوب أهل العرفان ، طاحت أرواح السابقين في مشاهدة طهارة ذاته ، وسكرت قلوب أهل الأسرار في رؤية سنا صفاته ، وانمحت عقول المحبين في شهود مجد كبريائه ، طابت قلوب الوالهين بطيب وصاله ، وسارت عقول الهامين في ميادين أسراره ، وطارت أرواح المحبين بأجنحة محبته في جنان مشاهدته ف «الطاء» طرب المستأنسين في طلبه ، و «السين» سرور المحبين بها ، وجدوا من أسراره ، و «الميم» مهابة العارفين في بسيط ملكه.

قال الجنيد : «الطاء» طرب التائبين في ميدان الرحمة ، و «السين» سرور العارفين في ميدان الوصلة ، و «الميم» مقام المحبين في ميدان القربة.

وقال بعضهم : «الطاء» شجرة طوبى ، و «السين» سدرة المنتهى ، و «الميم» محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : «الطاء» طرب المشتاقين ، و «السين» سرور المحبين بمحبوبهم ، والعارفين بمعروفهم ، و «الميم» مقام الموافقة.

قال الأستاذ : «الطاء» إشارة إلى طهارة عزة وتقدس علوه ، و «السين» دلالة على سنا جبروته ، و «الميم» دلالة على مجد جلاله في أزله ، ويقال : «الطاء» طرب أرباب الوصلة على بساط القربة بوجدان كمال الروح ، و «السين» سرور العارفين بما كوشفوا به من بقاء الأحدية باستظلالهم لوجوده ، و «الميم» إشارة إلى موافقتهم لله بترك تخيير على الله ، وحسن الرضا باختيار الحق لهم.

ويقال : «الطاء» إشارة إلى طهارة أسرار أهل التوحيد ، و «السين» إشارة إلى سلامة

٤٢

قلبهم عن مساكنة كل مخلوق ، و «الميم» إشارة إلى منة الخالق عليهم بذلك (١).

قوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣) أخبر عن كمال شفقة حبيبه على أمته أنه كان يحب ألا يبقى في الأرض أحدا إلا يكون لمحبوبة محبّا خاضعا ووليّا صادقا ، وهو تعالى أخبره أن حرصك بإيمانهم لا يمنع سوابق حكمي فيهم ، وفيه بيان أن الإيمان والمعرفة موهبة خاصة خارجة عن اكتساب الخلق.

قال سهل : تهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم وإيمانهم ، وقد سبق مني الحكم في إيمان المؤمنين وكفر الكافرين فلا تغيير ولا تبديل.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٧) كما أنبت سبحانه من أرض الظاهر كل صنف ونوع من النبات الحسن الكريم أنبت في أرض قلوب العارفين كل لون من نبات المعارف وأنوار الكشف وأشجار المحبة ورياحين المودة والحكمة.

قال أبو بكر بن طاهر : أكرم زوج من نبات الأرض آدم وحواء ؛ فإنهما كانا سببا في إظهار الرسل والأنبياء والأولياء والعارفين.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))

قوله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) ناداه بلسان الوصال وكشف الجمال.

ثم امتحنه بأعظم البلاء ، وهو صحبة الأضداد إظهارا للربوبية ، وإيجادا للعبودية فأشفق موسى على خلقه بأنهم إن كذبوه هلكوا ؛ لأنه أخبر عن عظائم المقامات وحقائق

__________________

(١) الحروف المقطعة في أوائل السور يجمعها قولك : (سرّ حصين قطع كلامه) وأولى ما قال أهل التفسير في حق هذه الحروف الله أعلم بمراده لأنها من الأسرار الغامضة كما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه : «إن لكل كتاب سرا وسر القرآن في المقطعات».

٤٣

الحالات بقوله : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢)) وخوفه كان شفقة عليهم.

قال ابن عطاء : أمره بدعائهم إلى توحيده ، وقد أشهده عظمته في القراءة وإحاطة علمه وقدرته بعباده ؛ فقال (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) فنطق بخوفه بلسان إعظام الحق وإجلاله ؛ خوفا من أن يرى تكذيبهم بمقال ، ورد عليهم من الحق خاف من استماعه إنكارا وأشفق من مشاهدتهم على ذلك إكبارا ، ولما استطاب موسى مقام المداناة والمناجاة مع الحق سبحانه تعلل بقوله : (وَيَضِيقُ صَدْرِي) أي : ضاق صدري من حمل وارد كشف الألوهية ، ومن غاية سكري بشراب المحبة والوصلة ، ونظر روحي إلى جمال الديمومية (لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ) بإبلاغ الرسالة ، ولا يحتمل صدري رحمة رؤيتهم (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) بالعبارة عن مقامي بين يديك لهم.

قال الشبلي : كذلك صفة من يحقق في المحبة أن يضيق صدره عن حمل ما فيه من أنواع المحن ، ويكل لسانه من الإخبار عن شيء منه لنفرح به ؛ فيموت فيها كمدا أو يعيش فيها فندا.

ولما طاب وقت موسى في استماعه كلام الحق من الحق بلا واسطة ، وحصل له لذة الحضور والمشاهدة ثقل عليه إحكام الرسالة مع الخلق ، وإبلاغها إليهم فتعلل بقوله تعالى : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)) ، وليس بعجب طريان خوف الطبيعة وصفات البشرية على الأنبياء في الأصل ؛ فالمعرفة ثابت ، وهذا شرط الانبساط ، والسؤال عن سر القدر هل يكون مقتولا بيدهم بالحكم السابق ، فأخبره الحق سبحانه أن فرعون وقومه من الهالكين لأجل عصيانهم له بقوله : (كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥))) أي : من كنت معه بالنصر والظفر لا يخذله أحد.

قال أبو بكر بن طاهر : السؤال سؤال الحق تعالى عن علمه فأجابه : (كَلَّا) ، ثم بدأ قال : (فَاذْهَبا ...) الآية ، وهو تقدير بسؤاله أي : هل في سبق علمك وواجب حكمك أن يقتلون ، يستدل على ذلك بجواب الحق له (كَلَّا) ، ثم خاطبه وبعثه بالرسالة ، وأمرهما بإظهار الدلالة.

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠))

قوله تعالى : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) ظن الملعون أنه ربي موسى ، وكان موسى مربّى في حجر وصلة الله سبحانه بألبان شفقته ، ورعاية حسن عنايته حقيقة ، فرجع إلى منة

٤٤

المجاز ، وكان ذلك من غاية جهله ، وليته منّ على كليم الله الذي كان مستغرقا في بحار امتنان الحق وتربيته بألطافه بقوله سبحانه : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) [طه : ٣٩] ؛ فيكتفي.

قال محمد بن علي : ليس من الفتوة تذكار الصنائع ، وتزداد على من اصطنعت إليه ، ألا ترى إلى فرعون لما لم يكن له فتوة كيف ذكر صنيعه ، وامتن به على موسى.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

قوله تعالى : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) إن الله سبحانه إذا أراد أن يبلغ أحدا من خلقه إلى مقام من النبوة والولاية ، وهو في موضع شائن يلقي عليه رعبا حتى يفر إليه من خلقه ؛ فيكشف له خصائص أسراره كما فعل لموسى ، وكان في الأزل مجتبى بالرسالة والنبوة ؛ فالإخبار عنه بقوله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) أي : من قبح أعمالكم لما خفتكم من نزول عقوبة الله عليكم ، (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) معرفة بجلاله وعزه ، وفهما بحقائق ملكه وملكوته ، وعلما بذاته وصفاته وربوبيته وعبوديته أي : كانت هذه المنزلة لي بحق الاصطفائية في الأزل ، ولكن ظهر علىّ لطائفها لما فررت منكم إليه.

قال بعضهم : الفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين.

قال الله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ.)

قال ابن عطاء : فررت من مجاورتكم ، وخفت من جرأتكم على ربكم لما لم تحفظوا حقوق الرسل ، ولم أر عليكم علامات التوفيق.

وقال بعضهم : فارقتكم لما خفت نزول العذاب عليكم.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ

٤٥

فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩))

قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٣) كان الملعون مشبها لذلك قال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : شيء هو؟ فوقع في الخيال ، فأجابه موسى : (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي : موجد الأشياء بلا كيف ، وهو منزه عن التكييف والتصوير ، وزاد الحجة عليه من حيث قطع نسبة التشبيه عنه بقوله : (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٦) أي : ليس الخالق كالمخلوق أوجدكم وأوجد آباءكم من العدم بقوة القدم ، ومن كان قديما انقطع عنه إشارات الأوهام والخيال ، فلما سمع الملعون حجة كاملة ، وعلم أن حجته القطع نسب موسى إلى الجنون لما لم يكن له جواب لموسى ، وخاف أن يسقط من أعين قومه.

قال عمرو المكي : علم فرعون أن الحجة قد وجبت فخاف الافتضاح عند قومه ، فأعرض عن مساءلة موسى ، ورجع إلى قومه ، وقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).

قال موسى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) تبين بذلك حجته ، وظهر افتضاحه في انقطاعه ، فثبت الحجة عليه إذ لم يدفع الحجة بحجة ، والإشارة في قوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) مشرق قلوب العارفين يشرق بطلوع شمس تجلي الصفات والذات ، ومغرب نفوسهم التي هي معدن ظلمات قهره حين ابتلاهم بالاستتار بعد التجلي.

قال ابن عطاء : منور قلب أوليائه بالإيمان ، ومشرق ظواهرهم به ، ومظلم قلوب أعدائه بالكفر والعصيان ، ومظهر آثار تلك الظلم على هياكلهم.

٤٦

(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١))

قوله تعالى : (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) (٥٠) لما عاينوا مشاهدة الحق سهل عليهم البلاء لا سيما أنهم يطمعون أن يصلوا إليه بنعت الرضا والغفران بقوله : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) خطاياهم : احتجابهم بالسحر عن رؤية لطائفه التي هي مرآة سر القدم ، ولو وجدوا السحر بالحقيقة لم يكن ذلك خطأ ، وإنما الخطأ وقع على الاحتجاب به عن الحق.

قال ابن عطاء : من اتصلت مشاهدته بالحقيقة احتمل معها كل وارد يرد عليه من محبوب ومكروه ألا ترى السحرة لما صحت مشاهدتهم كيف قالوا : «لا خير».

(قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦))

قوله تعالى : (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٦٢) احتجب القوم بالبلاء عن رؤية المبلي ، وشاهد الكليم مشاهدة الحق في مقام الامتحان ؛ لذلك أفرد نفسه من بينهم بقوله : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي : إن معي ربي بالرعاية والحفظ والعناية والمشاهدة سيهديني إلى وصاله الأبدي ، وذخائر علمه الأزلي ، وسر المعية في الحقيقة لا يتجاوز عن رؤية الذات والصفات والعلم والقدرة ؛ لأن المعية إشارة المحب إلى المحبوب ، ولو كان في محل الوحدة يكون حاله مرتفعا من محل المعية إلى محل الاتحاد إلا أن في المعية مباشرة التجلي بنعت دنو

٤٧

الدنو ، حيث لا يبقى رسوم البعد والقرب.

قال الجنيد : حين سئل العناية أولا أم الرعاية؟ قال : العناية قبل الماء والطين.

قال ابن عطاء : في قوله : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي : معي ربي بعلمه وقدرته سيهديني إلى قربه حتى أكون معه بالمراقبة والرعاية والمحافظة والمشاهدة.

(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧))

قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧٧) رأي الخليل عليه‌السلام نفسه على مثابة في الخلة بألا يكون في زمانه له نظير يسمع كلامه من حيث حاله ، فوقع العداوة بينه وبين الخلق جميعا ، وأيضا هذا إخبار عن كمال محبته إذ لا يليق بصحبته ومحبته أحد غير الحق.

قال سمنون (١) : لا تصح المحبة لمن لم ينظر إلى الأكوان ، وما فيها بعين العداوة حتى يصح له بذلك محبة محبوبه ، والرجوع إليه بالانقطاع عما سواه.

ألا ترى الله تعالى حاكيا عن الخليل قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧٧) هجرت الكل فيك حتى صحّ لي الاتصال بك.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠))

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨) الذي خلقني بخلقه فهو يهديني بنفسه إلى نفسه ، وعرفني بصفاته ذاته وبذاته صفاته (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (٧٩) يطعمني من موائد كشف جماله ، ويسقيني شراب المحبة من بحر جلاله (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٨٠) إذا مرضت بداء محبته ، وسقمت بسقم شوقي إلى لقائه ؛ فهو يشفيني بحسن وصاله وكشف جماله.

وفي لقياك عجل لي شفائي

بمقدمك المبارك زال دائي

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١))

قوله تعالى : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) (٨١) الذي يفنيني بسطوات عظمته ، ويحييني بروح كشف بقائه.

تميت بها وتحيي من تريد

لها في طرفها لحظات سحر

__________________

(١) هو العارف بالله سمنون المحب ، ويقال : سمنون المجنون.

٤٨

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣))

قوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) أطمع أن يغفر لي خطيئتي في طلبي جمال القدم في مرآة الكون بقولي : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [القرة : ٢٦٠] ، وتقصيري في حقائق التوكل بقولي : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، بأن يكشف لي الكشف الأكبر في اليوم الأعظم (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٨٣) أي : هب لي معرفة كاملة بجلال عزتك ، وألهمني غرائب حكمك ، وألحقني بمن وحدك وأفردك عن غيرك في تجريد توحيدك من المرسلين والنبيين والعارفين.

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) أي : اجعلني ممدوح العارفين إلى الأبد ، (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (٨٥) أي : من ورثة جنة مشاهدتك ووصالك ، (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٨٧) أي : لا تحجبني من جمالك وكشف ووصالك ، ولا ترد عليّ شفاعتي في المذنبين ، ولا تمنعني من الانبساط بين يديك ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) يوم لا ينفع الاشتغال بغيرك ، بل ينفع من أتاك بقلب

٤٩

سقيم بمحبتك مملوء من شوقك ، محترق بنيران عشقك ، خال عن غيرك من العرش إلى الثرى ، رفيق بلزوم أنوار كشف جمالك ، له لطيف في تقلب ذاتك وصفاتك بنعت المحبة والمعرفة ، وأيضا بقلب طاهر عن الأدناس ، وعن الهواجس والوسواس ، بيّن سبحانه في هذه الآيات مقام خليله بين يديه من المراتب الشريفة والحالات الرفيعة ، الإشارة الأولى بقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي) إلى محض وحدانية الحق وكمال قدرته الأزلية بنعت نفي الأنداد والأضداد.

وأشار في قوله : (فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى قطع الأسباب والاكتساب في النبوة والولاية والخلة بالإشارة إلى الاصطفائية السابقة ، وأشار في قوله : (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) إلى مقام التوكل والرضا والتسليم والتفويض ، وقطع الأسباب ، والأعمال إليه بالكلية ، والإعراض عما سواه ، وهكذا الإشارة في قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) رفع الرجوع إلى غيره والسكون إلى التداوي والمعالجة بشيء ؛ فهو كمال التسليم ، وأشار بقوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أنه مشاهد سوابق القدر بنعت الرضا بالحكم والقضاء.

وأشار بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) إلى مقام حسن اليقين ، وحسن الرجاء ، وخالص العبودية ، وأشار بقوله : (وَلا تُخْزِنِي) إلى مقام الإجلال والتعظيم والخوف والخشية والهيبة ، وأشار بقوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إلى التخلق بخلق الله والاتصاف بصفته إذ لم يكن القلب سليما بلا عيب إلا إذا كان متصفا بطهارة قدس الحق عن النظر إلى الخلق ، واستعمل حسن الأدب في كمال خلقه ومعرفته في وصف الحق سبحانه بمكنيات ألفاظ حيث قال : (الَّذِي) ، وهذا من غلبه حرمة الحق عليه ، وتمكينه في الصحو بعد سكره في البداية ، وجرأته حين غلب عليه سكر المحبة حيث خاطب الحق بتصريح القول في المواجهة بقوله : (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ، و (رَبِّ اجْعَلْنِي) [إبراهيم : ٤٠] ، و (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ، والدليل على ذلك قول الواسطي قال : لما استغرق إبراهيم في الخلة احتشم من ذكر خليله بالتصريح ، فرجع إلى الصفات جعل يقول : «الذي» ، ولم يصرح بل كنى ، والكناية فيها تصريح ، ولما كان في ابتداء مقاماته وأوائل جذبه لم يستغرق في الخلة جعل يصرح ، ويقول : «ربي» «ربي».

قال بعضهم : الذي خلقني لعبوديته يهديني إلى قربه.

وقال بعضهم : الذي خلقني لدعوة خلقه سيهديني إلى آداب خلته.

قال الأستاذ : أي : يهديني إليّ فإلي محو في وجودي ، فليس لي خير عني.

وقال النهرجوري : الذي يطعمني حلاوة ذكره ، ويسقيني كأس محبته.

٥٠

وقال الجريري : الذي يطعمني في حضرته ، ويسقيني هو الذي يظهر عليّ بركات ذلك المطعم والمشرب ، وفي ذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١).

وقال ابن عطاء : إذا أمرضني رؤية الأغيار ؛ فإن شفائي الرجوع إلى مشاهدة الملك الجبار.

وقال جعفر : إذا مرضت برؤية أفعالي وأحوالي شفاني تذكار الفضل والكرم.

وقال ذو النون : إذا أمرضني مقاساة الخلق شفاني مشاهدة الحق.

وقال ابن عطاء : الذي يميتني عنه ثم يحييني به.

وقال أبو عثمان : يميتني بخوفه ، ويحييني برجائه.

وقال الواسطي : الذي يميتني بالاستتار ، ويحييني بالتجلي.

وقال الجنيد : الذي يميتني بالافتقار إليه ، ثم يحييني بالاستغناء به.

وقال أبو عثمان : أخرج سؤاله على حد الأدب ، ولم يحكم على ربه بالمغفرة ، ولكنه قال :

(وَالَّذِي أَطْمَعُ) طمع العبيد في مواليهم ، وإن لم يكونوا يستحقون عليهم شيئا ، إذ العبد لا يستحق على مولاه شيئا ، وما يأتيه من فضل مولاه.

وقال ابن عطاء في قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي : شكر ما خصصتني به من مقام الخلد ، قال : الراضين عنك في جميع الأحوال ، قال : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي : أطلق لسان أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثناء عليّ والشهادة لي فإنك قد جعلتهم شهداء مقبولين.

قال سهل : ارزقني الثناء في جميع الأمم والملل.

وقال في قوله : (وَلا تُخْزِنِي) لا تقطع حجتي عنه المسألة ، ولا تفضحني بالمناقشة ، ولا تحشمني بالحياء عنه مواقعة الجزاء.

قال ابن عطاء : لا تشغلني بالخلة عنك ، وأفض عليّ أنوار رحمتك لئلا أغيب عن مشاهدتك برؤية شيء سواك.

وقال في قوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال : قلب خال من الاشتغال بشيء سوى مولاه ، سلم له الطريق إليه ، ولم يعرج على شيء سواه.

قال الواسطي : سلم من سوء القضاء ، وسئل من القلب السليم.

قال : سلم عن الإعراض عن الله.

__________________

(١) رواه أحمد (٢ / ٣٧٧) ، والترمذي (٣ / ١٤٨) ، وأبو داود (٢ / ١٥).

٥١

وقال الجنيد : السليم الذي لا يكون فيه إلا حبه.

وقال ابن عطاء : السليم لا يشوبه شيء من آفات الكون.

وسئل بعضهم : بم ينال سلامة الصدر؟ قال : بالوقوف على حد اليقين.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ

٥٢

وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤))

قوله تعالى : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٤) أراد بالمؤمنين المؤثر من الله على من سواه بشرط المحبة والموافقة.

قال ابن عطاء : ما أنا بمعرض عمن أقبل على ربه ، قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ.)

وأخبر الله سبحانه أن قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محل نزول الكلام الأزلي ؛ لأنه مصفى من جميع

٥٣

الحدثان بتجلي مشاهدة الرحمن ، فكان قلبه عليه‌السلام صدف لآلئ خطاب الحق يسبح في بحار الكرم ، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة ؛ وذلك سر عجيب ، وعلم غريب بأنه سمع كلام الحق ، وما اتصل به ؛ لأن كلامه لم ينفصل منه ، وكيف يفارق الصفات عن الذات لكن بقي في قلبه ظاهره وعلمه وسره ؛ فجبريل في البين واسطة لجهة الحرمة ، وذكر ذلك بقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) ؛ لأن القلب معدن الإلهام والوحي والكلام والرعاية والعرفان به يحفظ الكلام ، وفائدة ذلك إعلام أن من وجود الإنسان ليس شيء يليق بالخطاب ، ونزول الأنبياء إلا قلبه ، فكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق ، ولا يرى جمال الحق.

قال أبو بكر بن طاهر : ما أنزل على قلبه جبريل جعله محلا للإنذار لا للتحقيق ، والحقيقة هو ما يلقفه من الحق ؛ فلم يخبر عنه ، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة ؛ لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه ، وما أنزله جبريل جعله للخلق ؛ فقال : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) بما نزل به جبريل على قلبك لا من المتحققين به ؛ فإنك متحقق بما كافحناك به وخاطبناك على مقام لو شاهدك فيه جبريل لاحترق.

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١))

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) (٢٠٥) بيّن سبحانه أن الغفلة والجهلة لا يرون بأبصار قلوبهم أنوار الغيب ، وإن تمادوا في حياة طويلة ؛ لأنها في غشاوة الضلالة.

قال يحيى بن معاذ : أشد الناس غفلة من اغتر بحياته الفانية ، والتذّ بمراداته الواهية ، وسكن إلى مألوفاته ، والله يقول : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ.)

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢) وصف أهل الحرمان أن أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم في غشاوة الغفلة عن سماع القرآن ، والسامع بالحقيقة الذي له سمع خاصة قلبي عقلي غيبي روحي يسمع في كل لمحة من جميع الأصوات والحركات في الأكوان خطاب الحق سبحانه بحيث يصيح سره بنعت الشوق إليه ، وهذا وصف أهل السماع

٥٤

من الواجدين والمتحققين بسماع الخطاب من العارفين ، ومن هذا السماع انعزلت أسماع العموم ، قال الله سبحانه : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ.)

قال ابن عطاء : لا يسمعون ولا يفهمون كما أخبر الله عن قوم أنهم ينظرون ولا يرون ، كذلك هؤلاء يسمعون ولا يفهمون ؛ لأنهم (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) حرموا فهم معاني السماع.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦))

قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢١٥) بيّن أن حقيقة العامل ما يكون علي الأقرب والمواساة للأبعد ؛ لأن الأقرب يكون في منازل المهابة والأمر عليه أشد أي : أخبر الأقربين من عظيم جلالي وعزتي وسطوات كبريائي وعظمتي ، فإني أشدد على الأقرب ما أشدد على الأبعد وواس الضعفاء ؛ فإنهم لا يحتملون أثقال حقائق الأمور ليحتملوا بك ما يكلفهم ، وأيضا أي : خوّف أهل العناد وراع أهل المراد ، أمر بالتسليط على المنكرين والعاندين ، وأمر بالتواضع وخفض الجناح للمتواضعين والعارفين.

قال سهل : خوف الأقرب منك ، واخفض جناحك للأبعدين ، دلهم علينا بألطف الدلالة ، وأخبرهم إلى جواد كريم.

قال ابن عطاء في قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) : ليّن جانبك ؛ فإنهم على حدّ الترسم بالعبادة لا التحقق بها ، والمتوثب على الله أشد من قارئ ألبس قميص النسك.

ثم أعلمه وأمره بالإعراض عن المعاندين بقوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢١٦) أي : لا تراع قربتهم منك ، وراع ما أمرناك ، ولا تخف من خذلانهم ، وارجع إليّ بنعت تفويض أمرك إليّ فذلك قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٢١٧) أي : أقبل على العزيز ليعزك على الكل ويرحمك بمواصلتك وكشف اللقاء لك.

٥٥

قال الحسين بن الفضل : برأ كل نبي عمن عصاه من أمته إلا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشرف محله ؛ فقال : (فَإِنْ عَصَوْكَ) أي : إن خالفوك بعد الإقرار بارتكاب محرم ؛ فقل : إني بريء من أعمالكم لا بريء منكم ؛ فإن لك محل الشفاعة ، والشفاعة تزيل عنهم ظلمات المعاصي.

وقال الجنيد : التوكل أن تقبل بالكلية على ربك ، وتعرض بالكلية عما دونه ؛ فإن إليه حاجتك في الدارين.

ثم بيّن سبحانه مقام شهود نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عين الحق بنعت الرعاية والحفظ ، أمره بالتوكل عليه.

ثم اعلم إنك إذا توكلت عليّ ، وفوضت أمرك إليّ ؛ فأنا أربيك بنظر عنايتي ثم أعلمه مقام الإحسان والمراقبة بقوله : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) (٢١٨) أي : توكل على من يراك حين تقوم بنعت الإقبال أي : مشاهدته والإعراض عما دونه.

قال رويم : تقوم إليه بالقعود عن الكل ، ثم زاد ذكر إحاطة علمه به فقال الله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢١٩) أي : الذي يراك في القيام بنعت الاستقامة في المشاهدة ، وفي السجود بنعت الفناء في العظمة والكبرياء بين أهل شهود عظمتي وأزليتي وأبديتي ، وأيضا الذي يرى روحك في مشاهد عالم الملكوت بين الساجدين من المقربين.

قال الواسطي : إثبات رؤية الكون على الأزل ، قال الله تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) (٢١٨) أثبت للرؤية في الفقد والوجود ، وتقلبه في الساجدين في أصلاب الأنبياء والمرسلين (١).

وقال بعضهم : تقلب وصفك على ألسنة الأنبياء والأولياء.

ثم أكمل حقيقة الرعاية بقوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٢٠) يسمع خفيات نداء المشتاقين من قلوبهم عليهم بآلام أرواحهم من داء المحبة فيجازيهم بكشف جماله ولطائف خطابه.

__________________

(١) في التأويلات النجمية : أي يرى قصدك ونيتك وعزيمتك عند قيامك للأمور كلها وقد اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخلق ، فإن من علم أنه بمشهد الحق راعى دقائق حالاته وخفايا أحواله مع الحق وبقوله : (وتقلبك في الساجدين) هون عليه معاناة مشاق العبادات لإخباره برؤيته له ولا مشقة لمن يعلم أنه بمرأى من مولاه ومحبوبه وإن حمل الجبال الرواسي يهون لمن جملها على شعرة من جفن عينه على مشاهدة ربه ، ويقال كنت بمرأى منا حين تقلبك في عالم الأرواح في الساجدين بأن خلقنا روح كل ساجد من روحك أنه هو السميع في الأزل مقالتك «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» لأن أرواحهم خلقت من روحك العليم باستحقاقك لهذه الكرامة انتهى.

٥٦

قال ابن عطاء : سميع لدعوات عباده عليم بوجود مصالحهم.

وقال جعفر : السميع من يسمع مناجاة الأسرار ، والعليم من يعلم إرادات الضمائر.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) أي : الذين شاهدوا الله بنعت الإيقان والعرفان ، وأصلحوا سرائرهم بتقديسها عما دون الله في قربة الله ، وذكروا الله كثيرا أي : سافروا بقلوبهم وأرواحهم وعقولهم في ميادين الآزال والآباد على مراكب الأسرار والأنوار بغير طريان الغفلة وهجوم الفترة ، وبفهم الذكر الكثير فناء الذاكر في المذكور بعد أن ينكشف له لوائح أنوار الأزلية والأبدية ؛ فهذا غاية المجهود من الذاكرين ، وفيه نكتة عجيبة أن الله سبحانه وصفهم بالذكر الكثير ، وما أخبر أنهم ذاكرون بالحقيقة ؛ لأن حقائق الذكر لا يقع للحدثان في قدم الرحمن ؛ لأن الذكر الحقيقي إحاطة ذكر الذاكر بالمذكور ، وهو مستحيل في حق الأزل ؛ لذلك قال الواسطي : من ذكره افترى ، وانتصارهم بعد أن ظلموا انتصارهم من نفوسهم الأمّارة حين جهلوا حقوق الله بالمجاهدات الكثيرة والرياضات.

قال الجنيد : الذكر الكثير هو دوام المراقبة في جميع الأحوال ، وطرد الغفلة عن القلب.

وقال أبو يزيد : الذكر الكثير ليس بالعدد ، ولكنه بالحضور دون العاهة والغفلة.

قال النصرآبادي : حقيقة الذاكر أن يغيب الذاكر عن ذكره بمشاهدة المذكور ثم تغيب مشاهدته في مشاهدته حتى شاهد حقّا.

ثم وصف الله سبحانه أهل الدعاوي الباطلة بأنهم يعلمون يوم القيامة منقلب دعواهم في مهوات البعد ، بقوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧) حين عاينوا مقامات أهل الولاية ، وانقلبوا إلى معادنهم من الشقاوة.

قال ابن عطاء : سيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا.

قال الواسطي : ظلم نفسه من لا يراها في أسر القدرة ، وفي قبضة العزة ، فظن أنه مهمل في مصرفاته.

* * *

سورة النمل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)

٥٧

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

(طس) أي : بحرارة وجود الأنبياء والمرسلين والأولياء والمقربين التي ضياؤها من سنا قدسي ، ونضارتها من لطائف أنسي.

وقال بعضهم : بوجود نظري يطيب قلوب أوليائي ، وبشهود وجهي يغيب أسرار أصفيائي.

وقال الأستاذ : أي : بطهارة قدسي وسنا عزتي لا أخيب أمل من أمل لطفي.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦))

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) كان روحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضرا مشاهدا الكبر في قرب القرب في جميع أنفاسه يسمع من الحق كلام الأزلي على وفاق موارد الشرع والحقيقة بلا واسطة.

ألا ترى كيف قال : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) يعني : تلقف من الحق كفاحا.

قال أبو بكر بن طاهر : إنك تتلقف القرآن من الحق حقيقة ، وإن كنت تأخذه في الظاهر عن واسطة جبريل ، قال الله : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ، (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ.)

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

قوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) كان موسى في بداية حاله في مقام العشق والمحبة ، وكان أكثر أحوال مكاشفا في مقام التباس ؛ فلما حان بدو كشفه جعل سبحانه الشجرة والنار مرآة فعلية ، فتجلى بجلاله وجماله من ذاته سبحانه لموسى ، وأوقع موسى في رسوم الإنسانية حتى لا يفزع ، ويدنى من النار والشجرة.

ثم ناداه منها بعد أن كاشف له مشاهدة جلاله ، ولولا ذلك لفني موسى في أول سطوات عظمته وعزته ، ومعنى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) أنه تعالى وتقدس عن المثال والخيال أراد به نفسه المقدس الذي يزيد بركة مشاهدته لموسى ؛ فالنداء منه ، وهو كلامه السرمدي

٥٨

المبارك ذاته وصفاته ، (بُورِكَ) قدس عن إشارة كل مشبهي ، أشار إليه بالأماكن والجهات هو تعالى تجلى بوصف النار والنور من الشجرة ، والطور ذاته وصفاته منزه عن الجملة ، وهو قادر أن يري نفسه لعاشقه بكل ما يليق بحاله ، ولم يتجل له صرفا من عزة ذاته وجلال صفاته لا يحتمل الكون والكائنات بأسرها بل هذا تربية العاشق ، ربما يرى نفسه من شجرة ، وربما يرى نفسه من الشمس والقمر والكواكب وغيرها من آيات ملكوت السماوات والأرض ، لذلك قال إبراهيم : (هذا رَبِّي)

وقال عليه‌السلام : «إن الله تعالى يرى هيئة ذاته كيف شاء» (١).

ويجوز أن تلك البركة تعود إلى موسى من مشاهدة من النار ، وفي كل موضع تظهر بركة كشف مشاهدة الحق يكون مباركا ذا بركة ؛ ألا ترى إلى قول القائل :

إذا نزلت سلمى بواد فماؤها

زلال وسلسال وشيخانها ورد

قال ابن عطاء : أصابتك بركة النار بموارد الأنوار عليك ، ومخاطبة الحق إياك ؛ فإنك أنست في الظاهر نارا ، وأنست به ، وكان في الحقيقة أنوارا ؛ فأزال عنك أنسك بها ، وخصك بالأنس بنورها فكلمك وثبتك عند الكلام خصصت بها من بين جميع الرسل.

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

قوله تعالى : (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (١٠) أي : لا تخف من الثعبان ؛ فإن ما ترى فهو ظهور تجلي عظمتي ، ولا يخاف من مشاهدة عظمتي وجلالي في مقام الالتباس المرسلون ؛ فإنهم يعلمون أسرار ربوبيتي (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) إلا من وقف منهم في حظ العشق والمحبة ؛ فلما احتجب بهما يفزع عند ظهور عظمتي وجلالي ، فإنه غير مستأنس بهما ، فلما ارتفع ذلك الحجاب عنه ، وعلم ما فات عنه ورجع إليّ من حظه بقوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) بسوء الحجاب ، والوقوف بالحظ : (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١) (غَفُورٌ) بلا حرم ،

__________________

(١) هو من الأحاديث التي تفرد المصنف بذكرها في كتبه.

٥٩

(رَحِيمٌ) بأن أوصله إلى أعلى المقامات من المشاهدة ، وتصديق ما ذكرنا ما قال الواسطي : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) برؤية النفس والالتفات إليها.

وقال القاسم : إلا من خاف غيرنا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) افهم أن العلم علمان علم البيان وعلم العيان ، علم البيان ما يكون بالوسائط الشرعية ، وعلم العيان مستفاد من الكشوفات الغيبية ؛ فما ذكر الله سبحانه فيما أعطاهما ، فهو من العلمين البياني والعياني ، فالعلم البياني معروف بين العموم ، والعلم العياني مشهور بين الخصوص لم يطلع عليه إلا ولي أو نبي ؛ لأنه صدر من الحق لأهله ، شهوده من المحبين والعارفين والموحدين والصديقين والأنبياء والمرسلين ، ومن ذلك العلم علم اللدني ، والعلم اللدني حقائقه علم المجهول ، وعلم المجهول ما يكون صورته بخلاف علم الظاهر مثل صنيع الخضر عند موسى ـ عليهما‌السلام ـ من قتل الغلام وغيره ، وهو حلم الأفعال وبطون حقائق المقدرات والأمور الغيبية ، وما يتعلق بالملك والملكوت الذي هو المرتبة الأولى من علوم المعارف ، والحكم المرتبة الثانية علوم الأسماء والنعوت والصفات مثل ما علمه الله آدم بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، والمرتبة الثالثة العلم بالذات : وهو علم الأسرار وهذه العلوم يجمعها قسمان قسم مستفاد من الخطاب والإلهام والكلام ، وقسم يتعلق بكشف الذات والصفات والأفعال ، وما أشرنا إلى هذه ، وهو صورتها وحقائقها ذوقي كشفي لا يطلع عليها إلا من شاهد الحق بالحق ، ويستغرق في بحارها ، وعرف أنها غير محصورة للعقول ؛ لأنها صفات قديمة لا نهاية لها ؛ فلما عظم شأنها حمدا الله بما نالا منه من الله ، بقوله : (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٥) أي : خصنا في الأزل بهذه الخاصية من بين عباده تفضلا ، وامتنانا واصطفائية مقدسة في سوابقات حكمه الديمومية عن علل الاكتساب.

٦٠