تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١))

قوله تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : أخبر سبحانه عن سر ما ذكرت أي : كما جزينا إحسانك ببذل وجودك وقتل ابنك وذبحه لكشف مشاهدتنا لكما ، (كَذلِكَ نَجْزِي) : نفدي مشاهدتنا لكل قتيل محبتي بسيوف شوقي إلى جمالي.

قال الكتابي : بين العبد وبين الله ألف مقام من نور وظلمة ، وإنما كان اجتهادهم في قطع الظلمة حتى وصلوا إلى النور ، فلم يكن لهم رجوع ، وذلك جزاء المحسنين.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣))

١٨١

قوله تعالى : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (١) : كان يونس عليه‌السلام من أهل التوحيد والمعرفة والعشق ، وكان يسبح في بحار الألوهية والربوبية ، ويجد منها جواهر الأزليات والأبديات ولآلئ أسرار المعارف والكواشف ، فبلغ قعر عين الأولية والآخرية ، وصار متلاشيا في لجج بحار الذات ، وخارجا بنعوت الاتحاد من لجج الصفات ، وكاد يدّعي ما يدّعي أهل السكر في الأنائية ، فالتقمه حوت قهر غيرة الإلهية ، وهو ملام حيث ما انسلخ من أوصاف الحدوثية ، وكاد يبقى في بطن حوت القهر ، فأغاثه عرفان بقاء الحق بعد عرفانه بفنائه فيه ، ونجّاه من طوفان قهر الأزل ، ولم يبق في الحيرة والغيرة بقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤) أي : فلولا كان من العارفين بقدم الأزل وتنزيه الأبد للبث في حجاب الغيرة ، وفيه حقيقة شطح العارفين أنه كان عليه‌السلام في حجال الخلوة في بطن الحوت ، وهي كانت له معاريج مشاهدة القدم أي : لولا أنه كان من الأنبياء والمتمكنين من أهل القدوة والأسوة لبقي في مشاهدة القدم إلى يوم البعث ، إلى محشر مساقط تجلي الجلال والجمال التي قال سبحانه : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، ولكن كان رحمة البلاد والعباد ؛ ليعرفهم منازل الأبرار والأتقياء ومقام العبودية والربوبية.

وقال سهل : من المسبحين من القائمين بحقوق الله قبل البلاء.

قال ابن عطاء : من العارفين بنا المتعرفين إلينا قبل وقوع ما وقع.

(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤))

قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) : أهل البدايات في مقام الطاعات والأوساط في المقامات ، مثل التوكل والرضا والتسليم ، والمحبون في مقام الحالات والمواجيد ، وأهل المعرفة في مقام المعارف ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام ، ولا يبقى المقام للموحدين ؛ فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات ، وليس لهم مقام معلوم ؛ لأن هناك لم يكن لهم وقوف ؛ حيث أفناهم قهر الجلال والجمال والعظمة والكبرياء عن كل ما وجدوا من الحق ، فبقوا في الفناء إلى الأبد.

قال ابن عطاء : لك مقام المشاهدة ، ولهم مقام الخدمة.

__________________

(١) قال في كشف الأسرار : فصادفه حوت جاء من قبل اليمن فابتلعه ، فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى (وهو مليم) حال من مفعول التقمه أي داخل في الملامة ومعنى دخوله في الملامة كونه يلام سواء لاموه أم لا يقال ألام الرجل إذا أتى أو آتى بما يلام عليه فيكون المليم بمعنى من يستحق اللوم سواء لاموه أم لا يقال ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه أو يلوم نفسه.

١٨٢

وقال جعفر : الخلق مع الله على مقامات شتى ، من تجاوز حده هلك ، فللأنبياء مقام المشاهدة ، وللرسل مقام العيان ، وللملائكة مقام الهيبة ، وللمؤمنين مقام الدنو والخدمة ، وللعصاة مقام التوبة ، وللكفار مقام الطرد والغفلة واللعنة.

قال الحسين : المريدون في المقامات يجولون من مقام ، والمرادون جازوا المقامات إلى رب المقامات.

وقال الجنيد : المقامات معلومة كما ذكره الله تعالى ، وأرباب الحقائق يأنفون من المعلومات والمرسومات ؛ لأنهم في قبضة الحق وأمره.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) : لما كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية من الصلاة والتسبيح ، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعاتهم من استيلاء أنوار مشاهدة الحق والاستغراق في بحار منن الألوهية.

قال بعضهم : لذلك قطعت بهم مقاماتهم عن ملاحظة المنة حتى قالوا بالتفخيم : إنا لنحن وإنا لنحن ، فلما أظهروا وسرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة حتى قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها.)

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) : سبقت لهم كلمة الحسنى باصطفائية الله في الأزل بالولاية والنبوة والرسالة بغير علة الاكتساب ونقائص الحدوثية ، أخبر عن محض مننه الأزلية عليهم ، ونفى عنهم الانقطاع عنه من جهة تغاير الامتحان أنهم مؤيدون بوصف الظفر بالبقية على مرادهم بكل ما أرادوا له ، أنزل عليهم جنود أنوار تجلي ظهور جلاله في قلوبهم ، تقدست سرائرهم عن كل غالب من الشهوات وعلل النفسيات.

١٨٣

قال سهل : جنوده ترد على الأسرار ، وترد على الظواهر ، وجنده في السرائر صحة عقد الإيمان في القلب وشرحه به ، وما يتولد فيه من صحة إيمانه والتوكل وما يريد فيه بتوكله ومحبة الله تعالى ، فإذا نزلت المحبة في القلب وسكنت فيه طهّرها من كل ما سواه ؛ فإن المحبة لا يسكن معها ما يضادها ، وجنوده في الظواهر هو أن يوفقه بالقيام إلى العبادات والأوامر على حدود السنن والتبرؤ من الحول والقوة لما يتقن من حسن قيام الله لعبده بالكفاية في كل أسبابه ، ثم أنه سبحانه لما وصف صنائع لطفه بأنبيائه وأوليائه نزّه نفسه أن يلحق به وبتنزيه جلاله علل كل حادث ووصف كل واصف وحمد كل حامد ؛ حيث قام حمده وتنزيهه مقام أداء حقوق ربوبيته على أهل العبودية بقوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٨٠) ، ضاق صدر سيد المرسلين عن مقالة أهل الزور والبهتان من الكفرة في حق جلاله ، فواسى الله قلبه بقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ) شرفه مخاطبة المواجهة وإضافة تربيته إليه ، ثم وصف نفسه بالعزة المنيعة من كل إشارة إليه ، ثم أظهر مننه على أهل عرفانه من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصديقين بسلامه عليهم بقوله : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١) ، وحمد نفسه بما وهب لهم من سنيات القربة وحقائق المشاهدة والمكاشفة بقوله : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢) ؛ حيث لا يقوم حمد الحامدين مقام حمده له.

سورة ص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧))

(ص) : هذا الحرف من كنوز إشارات الحق إلى حبيبه عليه الصلاة والسلام ؛ حيث صادف بنعت الوصال الذي يفنى عنه بصولة صدمات الأزلية عند كشوف قهر القدم صفات الحدثية ، حتى صار صدق جواهر أسرار الربوبية في بحار الذات والصفات ، واصطاده الحق بزمام محبته من صحاري البريات ، وصفّاه بصفاء عن كدورات الكون ، فكان صفوا من بحر النبوة ، صاحبا في مشاهدة البقاء بنعت صدق العشق في رؤية أنوار الكبرياء ، ما صدق عن

١٨٤

مشاهدة جمال الحق إلى الأكوان حين عارضه صواعق الامتحان ، فخرج منها بوصف الصدق في المحبة ، وصفو الصحو في المعرفة ، حين أسكر الحق صفوة أرواح الصادقين بشربات بحر وصله ووصفه ، أخبر بحرف صاد من صفاوة قلوب العارفين ، وصدق حقائق محبة المحبين ، وتلهب نيران صدور العاشقين ، وصبابة أسرار الوالهين ، وصفوف أهل الاستقامة في مقام مشاهدة القدم ، حين وازنوا بنعت الفناء جلال البقاء ، وإشارة التوحيد فيه أنه كان بجلاله وعظمته في قدم القدم ، وأزل الأزل بحار الصمدية صافية عن غبار الحدثان ، فأشار به عنه ، وبان كل مصدر كل الكل ، صدر منه الوجود ؛ إذ كان وجوده منزها عن الاجتماع والاقتران والعلل والانقسام أي : أظهرت لك يا صادق ما كان وما سيكون ، وجعلتك بصيرا ببصري ؛ حتى تطلع على غيبوبة جلال وصالي ، فكنت مصورا بصورة روح الأول التي صدرت مني بيعتي.

ثم قال : شطح من مقام السكر رمز حقيقة الاتحاد سيد أهل الصحو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«من رآني فقد رأى الحقّ» (١) ، (٢) ثم أراد أن يبين للعالمين بحرف الصاد وصف الربوبية ، وحقيقة محبة حبيبه ومنازله الرفيعة في مقام وصاله ، فأقسم بصفاته التي هي مفاتيح كنوز ذاته التي أخبر عنها بحرف الصاد ، فقال : (وَالْقُرْآنِ) أي : أنت بالوصف الذي وصفتك بحق صفاتي (وَالْقُرْآنِ) ، ثم وصف القرآن بأنه تجلى به من نفسه فيه لقلوب العارفين ، فيورث منه أسرارهم أنوار ذكره ؛ إذ هو ذكر القدم بذكر جميع الصفات ، والذات فؤاد المقربين وأرواح الشائقين ، وهذا قوله : (ذِي الذِّكْرِ) (١) يتذكر به العقول الراسخة معتبرات لطائف حقائق الربوبية التي برقت أنوارها في صنائع ملكه ، وملكوته ومقدورات قدرته ، ويدرك بنور قلوب الصادقين أنوار مشاهدته حين خاطبهم به أي : بك وبالقرآن إن المحجوبين عن هذه الشواهد في عزة وظلمة عن معرفتك ، وفي خلاف عن إدراك شرفك وفضلك وفضل أمتك بقوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) ، لا يخرجون من مضيق غفلتهم إلى فضاء المعرفة ؛ لأنهم طردوا بسوط قهر الأزل عن جناب القدم ، ما وهب لهم استعداد قبول نور المعرفة ، فبقوا إلى الأبد في شر النفاق وظلمة الشقاق.

قال ابن عطاء : في معنى الصاد قسم صفاء قلوب العارفين ، وما أودعت فيها من

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٦).

(٢) أي : رأى الله على قول بعض أهل الإشارات حيث جعل رؤية العبد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقظة أو مناما رؤية للحق سبحانه.

١٨٥

لطائف الحكمة ، وشريف الذكر ونور المعرفة.

قال الأستاذ : صاد مفتاح اسمه الصادق ، والصبور ، والصمد ، والصانع أقسم بهذه الأسماء (وَالْقُرْآنِ.)

وقال ابن عباس : صاد كان بحرا بمكة ، وكان عليه عرش الرحمن ؛ إذ لا ليل ولا نهار.

وقيل في صاد : أن معناه صاد محمل قلوب الخلق وأسمائها حتى آمنوا به.

وقال بعض المشايخ في قوله : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي : ذي البيان الشافي والاعتبار ، والموعظة البليغة وقال الجنيد : ذي الموعظة البليغة ، والنور الشافي وقيل : (فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي : في غفلة وإعراض عما يراد بهم ، وذلك منهم قريب قوله : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) ، وصف الله سبحانه ضعف قلوب الكافرين عن حمل وارد أنوار ربوبيته حين هجمها صولات العظمة ، فانهزموا عن سطوات عزته ، ورجوعهم إلى المحدثات أي : اصبروا على مشاهدة أمثالكم ؛ حتى لا تجذب قلوبكم أنوار سلطانه المحيطة لوجودكم جميعا ؛ كيلا تحترقوا فيها ، وأيضا اصبروا على آلهتكم حين دفعكم عن شهودها قهر جبروت الأزل التي تصدر من كل ذرة من العرش إلى الثرى ، فإن الصبر مع الحدث ممكن ومع القدم لا يمكن ، وهذا دأب ضعفاء المريدين في مشاهدة جلال الحق يفرون منه من عظم سطوات قدوسيته إلى مقامات العبودية ، وهذا من غلبة شفقتهم على نفوسهم ؛ حتى لا يفنوا في أنوار الكبرياء ، ويشتغلون منه بالوسائط مثل رؤية المستحسنات من الكونين ، وهذا علة طارئة على الجمهور من السالكين.

قال بعضهم : هذا توبيخ لمن ترك الصبر من المؤمنين على دينهم.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦))

قوله تعالى : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) : كانوا منطمسة العيون عما ألبسه الحق من أنوار ربوبيته وسنا جلاله وجماله ، لم يروه إلا بالصورة الإنسانية التي هي ميراث آدم من ظاهر الخلقة ، فهذا كقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ، وهم لا ينظرون ،

١٨٦

استبعدوا اصطفائية حبيبه بالوحي ، ولم يعرفوه بأنه أثر الله في العالم ، ومشكاة تجليه حتى قالوا مثل ما قالوا : (عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ، رأوه ونفوسهم خالية عن مشاهدة الغيوب ، وإدراك نور صفات الحق ، فقاسوا نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنفسهم ، ولم يعلموا أنه كان نفس النفوس ، وروح الأرواح وأصل الخليقة ، وباكورة من بساتين الربوبية ، يا ليت لهم لو رأوه في مشاهد الملكوت ، ومناصب الجبروت أن خاطبه الحق ب (لولاك لما خلقت الأفلاك).

قال بعضهم : في قوله : (عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) : لما أكرمناهم به من أشرف الرسل ، فلم يعرفوا حقه ، ولم يشاهدوا ما خصوا به من فنون المباركات والكرامات.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧))

قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) : كان خاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرق من ماء السماء بل ألطف من نور العرش والكرسي من كثرة ما ورد عليه نور الحق ، فكان ملطفا بنور نوره ، س مرفقا بلذائذ محبته وشوقه ، لا يحتمل زحمة مقالة المنكرين ، وهذا من كمال جلاله في المعرفة ، لا أنه لم يكن صابرا في مقام العبودية ، بل كان جليس الحق وأهل ملكوته ، وسرادق مجده كيف يسمع سخرية المستهزئين على دينه وشريعته! فمع ذلك أمره الحق بالصبر على ما قالوا ، وأعلمه بأن ذلك امتحان من ولاية القهر ، والواجب على العاشق الصادق أن يستقيم في مشاهدة القهر كما يستقيم في مشاهدة اللطف ، وأصل الصبر التلّبس بنعت صبر الأزل حتى يمكن احتمال أثقال امتحانه به ، وإلا كيف يحمل الحدث وارد القدم وأمره له بالاتصاف به! ومع ذلك ذكره شأن داود عليه الصلاة والسلام في صبره على ما قالوا فيه حين عشق بعروس من عرائسه حين تجلى الحق منها له ، فإنه كان عاشق الحق ، وكان في مبادئ عشقه ، فسلاه بواسطة من وسائطه حتى لا يفنى فيه به ، ثم زاد في وصفه حين قوى في المحبة بالقوة الملكوتية بقوله : (ذَا الْأَيْدِ) : واهب نفسه له حامل أثقال قهره به راجع من الوسيلة إلى الأصل بقوله : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) : رجع إلى الحق بنعت الندم على ما سلف من أيامه في الفترة من عين القدم بغيره من أهل العدم ، وإن كان طريقا منه إليه ، أي : كن يا محمد كداود في بلائي ، فأنا بلاء الأنبياء والمرسلين والعرفاء والصديقين.

وقال شاه الكرماني : الصبر ثلاثة أشياء : ترك الشكوى ، وصدق الرضا ، وقبول القضاء بحلاوة القلب.

وقال بعضهم : هو الفناء في البلاء بلا ظهور اشتكاء.

١٨٧

قال بعضهم : (ذَا الْأَيْدِ) ذا الصبر في أمر دينه (١).

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩))

قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) : هذا التسخير وقوع نور الفعل معها ، ومباشرة أنوار الصفات فيها بواسطة الفعل ، فيظهر روح الفعل فيها ، فتقبل فيض الصفة من الصفة ، فصارت خاضعة متخشعة في نور عظمته تعالى ، فلما وصل إليها ألحان داود من حيث روحه العاشقة ترنمت بألحان العشق من أغصان ورد الجمال والجلال ، فتحركت من لذة سماع صوت داود وتسبيحه وتنزيهه ، فوافقت داود في الذكر والتسبيح ، وكذلك الطيور إذا سمعت أصوات الوصلة منه صفرت بصفير التنزيه وتقديس من وجدان حلاوة وجد داود وإدراك روح الملكوت ؛ لأنهن مقدسات خلقن مستعدات لقبول أنوار فعل الخاص وأشكال الروحانيات ، وفيهن خويصات لهن عشق ومعرفة كالهدهد والبلبل والعندليب والقمري والحمامة ومالك الحزين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف أصواتهن وتسبيحهن من حيث المحبة والعشق ، ألا ترى كيف أنشد :

ربّ ورقاء هتوف بالضّحى

ذات شجو صرخت في فتن

فبكائي ربّما أرّقها

وبكاءها ربّما أرّقني

هي أن تشكو فما تشكو فما أفهم

وإذا أشكو فما تفهمني

غير أنّي بالجوى أعرفها

وهي أيضا بالجوى تعرفني

وخاصية العشي والإشراق أن فيهما زيادة ظهور أنوار قدرته القديمة وآثار بركة عظمته العظيمة ، وأن وقت الضحى وقت صحو أهل السكر من خمار شهود المقامات المحمودة ، وأن العشي وقت إقبال المقبلين إلى مشاهد المناجاة وإدراك أنوار المشاهدات واستماع طيب الخطابات.

قال محمد بن علي الترمذي : لما أخلص هو في تسبيحه لربه جعل الله الجماد يوافقه في تسبيحه ويعينه على عبادته.

قال ابن عباس : كان يفهم تسبيح الحجر والشجر بالعشي والإشراق.

وقال الأستاذ : كان يفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به ؛ كرامة له ومعجزة ،

__________________

(١) أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام ، فكانت قوته في ذلك سببا لعروجه إلى المراتب العظام. نظم الدرر (٧ / ١٧٨).

١٨٨

وكذلك الطير كانت تجتمع إليه ، فتسبح لله ، وداود كان يعرف تسبيح الطير ، وكل من تحقق بحاله ساعده كل شيء.

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣))

قوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) ملكه : معرفته بالله وما وصل إليه من الله من النبوة والولاية والمحبة أي : قويناه بتأييدنا في مقام المشاهدة حتى احتمل بنا حمل واردات سطوات عظمتنا ، والحكمة ههنا الفهم على مواقع معاني إلهام الخاص ولطائف الوحي والمعرفة على بطون حقائق فعل الحق والعلم بأحكام العبودية وآثار الربوبية ، (وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠) فصاحة اللسان وشرح هذه المقامات به بأحسن البيان حيث لا اعوجاج فيه ولا لكنة فيه ، أدى به مراد الخطاب على وفق مراد الله وأيضا : شددنا ملكه أي :

ملكته على نفسه بالعدل والإنصاف ومعرفته بها وشرح دقائق أفعالها.

قال بعضهم : شددنا ملكه بالعدل.

وقال سهل : آتيناه الحكمة أي : أعطيناه علما بنفسه ، وألهمناه مواعظ أمته ونصيحتهم.

قال ابن عطاء : العلم والفهم.

قال أيضا : العلم بنا والفهم عنا.

قال جعفر : صدق القول ، وصحة العقل ، والثبات في الأمور.

وقال ابن طاهر : مخالطة الأبرار ومجانبة الأشرار.

وقال بعضهم : شددنا ملكه بالعصمة فيه وقلة الاعتماد عليه.

وقيل : آتيناه الحكمة النطق بالصدق وقول الحق.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

قوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) : هذه القصة

١٨٩

تسلية لقلب نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حيث أوقع الله في قلبه محبة زينب ، فضاق صدره ، فقال سبحانه : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) [الإسراء : ٧٧] ، ففرح بذلك ، وزاد له محبة الله والشوق إلى لقائه ، فافهم أيها الممتحن بالمحبة ؛ إن الله سبحانه خلق قلوب عشاق الأنبياء والأولياء من آثار تجلي جماله وجلاله ومحبته وشوقه وعشقه وبهائه ولطفه ، وأوقعها في بحار نور نوره ، وغسلها بمياه التنزيه والتقديس ، ثم كاشف بها عين الألوهية حتى غرقت فيها وانهزمت من سطوات أنوار كبرياء قدمه إلى أكناف أنوار فعله ، فعلم الحق ضعفها عن حمل وارد شهود جلال كبريائه ، فتلطف عليها ، وأراها في أنوار أفعاله وآياته جمال ذاته وصفاته حتى سكنت بها وبقيت بعد فنائها فيه ، فمنها واقعة آدم بحواء والحنطة ، وإبراهيم بالشمس والقمر والكواكب وحسن سارة ، وموسى بالجبل والشجرة ، ويوسف بزليخا ، ويعقوب بيوسف ، وداود بامرأة أوريا ، وسليمان ببلقيس ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب ، والمراد من ذلك أن جذبهم بنور حسن فعله إلى مشاهدة جمال قدمه ، فربّاهم بمقام التباس في العشق في أول المعرفة حتى وصلوا إليه بوسائط حسن فعله بعد أن تجلى بنفسه منه لهم ، فيا محب انظر إلى مقام الاتحاد ؛ فإن الكل هو لا غير في البين ، ألا ترى كيف خاطب موسى من الشجرة وتجلى له منها مرة ، ثم تجلى له من الجبل مرة ، ثم تجلى له من العصا مرة بنعت العظمة حيث صارت حية؟! وتلك بروز أنوار قهر عظمته ، رأى داود ذلك بصورة الطير في الخلوة ، ومن في البين إبليس كان تلبيسا من حيث الالتباس ، ثم رأى ذلك في صورة امرأة حسناء ، وأين الصور والعلل ، بل هناك حيل ومكر وقع نظره على جمال الأزل ، فظن أن ذلك حاصل له ، فلما وصل إليها غاب ذلك عنه ، فعلم أنه ممتحن ، فرجع من الفعل إلى الفاعل بنعت الخجل والحياء ، ومن مقام التفرقة إلى مقام الجمع ، ومن مقام الالتباس إلى مقام التوحيد ، قال سبحانه في وصف حاله في قصة دخول ملكين إليه بقوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ) : استغفر من مقام الالتباس ، كما استغفر موسى حيث قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، وكما استغفر آدم بقوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا) [الأعراف : ٢٣٠] ، وكقول إبراهيم : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٧٨] ، وكما منّ على صفي المملكة وعندليب ورد بساتين المشاهدة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، ثم تضرع بنعت الفناء في البكاء في مقام الإنابة ، وفرّ منه إليه بعد أن احتجب منه به (١).

__________________

(١) هذا يدلّ على أنه كلّما كانت معرفة الله أتمّ ، كان الخوف منه أعظم ، وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء.

١٩٠

قال أبو عثمان : أيقن داود بأوائل البلاء فالتجأ إلى التضرع.

قال أبو سعيد الخراز : زلات الأنبياء في الظاهر زلات وفي الحقيقة كرامات وزلفى ، ألا ترى إلى قصة داود حين أحس بأوائل أمره كيف استغفر وتضرع؟! فأخبر الله عنه بما ناله في حال ظنه من الزلفى.

وقال : ظن داود أنما فتناه فتضرع ورجع ، فكان له بذلك عندنا لزلفى وحسن مآب.

صدق الشيخ أبو سعيد الخراز فيما قال أن بلاء الأنبياء والأولياء لا ينقص اصطفائيتهم بل يزيد شرفهم على شرفهم بقوله سبحانه : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) ، زلته كانت التفاته من الذات إلى الصفة ومن الصفة إلى الفعل ، فإذا رجع إلى أوائل الحقائق في التوحيد وإفراد القدم عن الحدوث ستر مقام البلاء عنه بعد ذلك ، حتى لم يطق الرجوع من النهاية إلى البداية ، ومعنى قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) ، زاد زلفته حيث أوقعه في بحار الديمومية والأزلية والأبدية ، وفي كل لمحة كان له استغراق ، وحسن المآب له بأن آواه الحق إليه منه ، ووقاه من قهره ، حتى كان لا يجري عليه بعد ذلك أحكام الامتحان.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧))

قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) : لما خرج من امتحان الحق وبلاياه كساه خلعة الربوبية وألبسه لباس العزة والسلطنة ، كآدم خرج من البلاء وحبس في الأرض على بساط ملك الخلافة ، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن مصورين ، بصورة الروح الأعظم ، فإذا تمكن داود في العشق والمحبة والنبوة والرسالة والتخلق صار أمره أمر الحق ونهيه نهي الحق ، بل هو الحق ، ظهر من لباس الملك والملكوت ، كقول سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه حيث قال : «جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران» (١) ، ثم لما وضع الحق معجون سر قهر الأزل في الطبع الإنساني وهو محل الاستدراج الذي يجري عليه أحكام مكر القدم دقق عليه الأمر ، وحذّره أن يرى نفسه في البين في إجراء الحكم بين الخليقة ،

__________________

(١) ذكره القرطبي في التفسير (١٣ / ١٥٩) ، وياقوت الحموي في معجم البلدان (٤ / ٢٢٥).

١٩١

فقال : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي : فاحكم بحكمي حين عاينتني فيك ، واخرج منك ، ولا تتبع الهوى بأن تنظر إليك ، فيضلك ذلك عن رؤيتي وحكم الاتحاد فينطمس عليك سبيل الصواب في ظهور لطائف حكمتي وحقائق أمور ربوبيتي ، فمن احتجب به مني فهو محجوب به عني ، لا يسلك بعد ذلك طرق الحقائق ، فيقع في أليم عذاب الحجاب ، وهذا معنى قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)

قال ابن عطاء : جعلتك خليفة في الأرض لتحكم في عبادي بحكمي ، ولا تتبع هواك فيهم ورائك ، وتحكم لهم كحكمك لنفسك ، بل تضيق على نفسك وتوسع عليهم.

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢))

قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) : المتقين الذين وقعوا في رؤية أنوار عظمته وكبريائه التي تبرز من مرائي الأكوان ومقدوراته ، فتنزهوا عن كل ما سواه في رؤية جلاله وإجلاله أي : ليس هؤلاء كالذين بقوا في حجاب النفوس ، لا يخرجون من غشاوات الهوى ، ولا يرون أنوار الهدى.

قال ابن عطاء : أم نجعل المقبلين علينا كالمعرضين عنّا.

وقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) : ذكر النزول في الكتاب شرط رسوم الأمر ، وفي البرهان ظهور نور الصفة له بحكم التجلي ، وفي الحقيقة لا افتراق في صفاته عن عينية الذات ، هو منزّه عن التغاير ، ألا ترى إلى قوله : (مُبارَكٌ) أي : منزّه عن التفرق بل هو ثابت في أصل الأصول ، (مُبارَكٌ) عليك وعلى أمتك الذين يفهمون حقائقه حيث وقعوا في بحار التدبر والتفكر فيه ، هو مرآة الصفة أعطاها عباده ؛ لينظروا فيها بعيون الأهلية له ؛ حتى يبصروا فيها حقائق الأنوار ، ويدركوا منها دقائق الأسرار ، فعمّ التدبر لعموم العلماء والفهماء ، وخصّ التذكر لخصوص العقلاء ؛ لأن التدبر للفهم ، والتذكر لوقوع الإجلال وخشية الخاص في قلوب أكابر أهل العلم الذين يرون بعيون الأرواح عرائس الصفات فيه ، وينكشف لهم فيه غوامض علوم الألوهية.

١٩٢

قال ابن عطاء : (مُبارَكٌ) على من سمعه منك ، فيفهم المراد منه وفيه ، ويحفظ آدابه وشرائعه ، وفيه موعظة لأولي العقول السليمة الراجعة إلى الله في المشكلات.

قال بعضهم : من أصابته بركة القرآن رزق التدبر في آياته ، ومن رزق التدبر في آياته لم يحرم التذكر والاتعاظ به.

قال الله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ.)

قال بعضهم : (مُبارَكٌ) عليك بإنزاله عليك ، فإنك المخاطب به ، وأنت المبين له ، (مُبارَكٌ) على من يسمعه ، ويتبع أوامره ، و (مُبارَكٌ) على من يتذكر فيه الأوامر والنواهي والمواعظ ، فيتعظ بما يعظ به الكتاب ، علما بأنه من عند سيده فيفتخر بأنه خاطبه بما خاطبه.

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) : ذكر منته على عشقه داود بعد جريان حكم القدر في أمر الامتحان الذي أخرج من نفس العشق والمحبة العبد المحمود بثناء الحق عليه بقوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣٠) ، وذلك أنه لما خلعه الحق كسوة الربوبية نظر إلى تلك الكسوة ولم ير منها لنفسه شيئا علم أنها هي الحق ظهر منه للعالمين ، فأحالها إليه بنعت رجوعه إليه فزعا خاشعا صابرا شاكرا مقرّا بالعبودية ، هذا وصف من ألبسه الحق لباس القدم ، فرجع منه إليه بنعت التضرع والفزع ؛ حيث قال : «أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» (١) ، فرّ منه إليه بعد ذوق مباشرة الصفة قال : «أنا العبد لا إله إلا الله» (٢) ؛ لأنه كان عالما بخفيات مكر الأزل ، ليس كمن سكر واغترّ بسكره فقال أنا الحق ؛ فإنه من أوائل قطرات جرعة أقداح أفراحه التي امتلأت من أشربة بحار الآزال والآباد ، فوصف الله سليمان بهذا الوصف ؛ لعلمه بمكره القديم.

قال بعضهم : العبودية هي الذبول عند موارد الربوبية ، والخمود تحت صفات الألوهية.

وقال الأستاذ : كان أوّابا إلى الله ، رجّاعا في جميع الأحوال في النعمة بالشكر ، وفي المحنة بالصبر.

(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

قوله تعالى : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) : هذا من جملة امتحان

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢) ، والترمذي (٥ / ٥٢٤).

(٢) ذكره المصنف في مشرب الأرواح.

١٩٣

الله سبحانه عبده سليمان في مقام المعرفة والمحبة ، هو بجلاله وعزته ذوّقه طعم عشقه ومحبته ، ثم عرض نفسه بنعت ظهور حسن جمال تجليه ؛ ليزيد عليه شوق جماله ، فرأى ذلك الحسن والجمال قد ظهر من الصافنات الجياد ، فشغلته تلك الرؤية عن حقائق الفردانية وتجرد الوحدانية من الوسائط ، وغاب عنه شمس جمال القدم صرفا ، فأدرك نفسه خاليا عن شهود عين العين ؛ فغار على أحواله فقال : «ردوها عليّ» ، فلما قدس طرق الوحدانية بمكنسة الغيرة رجعت إليه أنوار الألوهية والفردانية بنعت الكشف وذهاب الحجاب ، فلما مسح الصوافنّ شكرا لإنعامه وغيرة على سلطانه سخّر الله له الريح التي جناحاها بالمشرق والمغرب.

قال أبو سعيد القرشي : من غار لله وتحرك له فإن الله يشكر له ذلك ، ألا ترى سليمان لما شغله الأفراس عن الصلاة حتى توارت الشمس بالحجاب قال : «ردوها عليّ» ، فطفق مسحا بالسوق والأعناق ، قيل : إنه كان عشرون ألف فرس منقش ذوات أجنحة أخرجته الشياطين من البحر فشكر الله له صنيعه ، فسخرنا له الريح ، وأبدله مركبا أهنأ منها وأنعم.

وقال ابن عطاء : شكر الله صنيعه وأبدله فرسا لا يحتاج إلى رائض ولا إلى علف ولا يبول ولا يروث.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٤) : هذه الفتنة أيضا فتنة العشق ، التي ظهرت له من محبته بنت الملك ، وهكذا كل فتنة لو تراها بالحقيقة ما ولدت إلا من العشق ، شغف في محبتها بحسنها وجمالها ، فغار عليه الحق ، وأسقطه من منازل الملك حتى غرّبه في القفار والبوادي ، وأنساه ذكرها غيرة عليه حتى لا يبقى في قلبه غيره ، وأجلس مكانه في الملك صخرا حتى أفسد في الأرض ، فتلطف عليه الحق ، وأرجعه إلى مكانه ومكانته ، فسأل الحق تمكينه في الملك والمملكة ، (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً) ، سأل المغفرة فيما قصّر في واجب المعرفة وحقيقتها التي يوجب انفراد القلب عن غير جمال الحق من العرش إلى الثرى ، ثم سأل ملك تمكينه في ذلك المقام ، وسأل ألا يحتجب بالملك عن المالك ، ولا يجري عليه بعد ذلك الامتحان ، ولا يسلط عليه جنود المكر والقهر ؛ حتى لا يحتجب بنفسه عن نفسه ، وقوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ليس هذا من البخل هذا شفقة على المقصرين لو كانوا مبتلين بذلك الملك ؛ ليكونوا محتجبين به عنه ، وأيضا يبلغ السالك في المعرفة والمحبة إلى ألا يطيق أن يرى غير نفسه مقام المشاهدة.

قال ابن عطاء : مكني من مخالفة نفسي حتى لا أوافقها بحال.

١٩٤

وقال بعضهم : (وَهَبْ لِي مُلْكاً) : أي المعرفة بك حتى لا أرى معك غيرك ولا تشغلني كثرة عروض الدنيا عنك.

قال الجنيد : هب لي ملكا ثم رجع ونظر فيما سأل فقال : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أن يسأل الملك ؛ فإنه يشغل عن المالك (١).

وقال ابن عطاء : سأله ملك الدنيا ؛ لينظر كيف صبره من الدنيا مع القدرة عليها.

وقال ابن دانيار : استغفر ثم سأل الملك أعلم بذلك أن الملك لا يخلو من الفتن ظاهرا وباطنا ، فجعل أول سؤاله الاستغفار.

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨))

قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٦) : كان عليه‌السلام من فرط حبه جمال الحق يحب أن ينظر إلى صنائعه وممالكه ساعة فساعة من المشرق إلى المغرب ؛ حتى يدرك عجائب ملكه وملكوته ، فسخر الله له الريح الرخاء ، وأجراها بمراده حيث أصاب ، وهذا جزاء صبره في ترك حظوظ نفسه ، وفي إشارة الحقيقة سهل له هبوب رياح الشوق والمحبة ، فتسرى بروحه إلى قرب مولاه إذا قصد بسره إليه.

قال محمد بن الفضل : انظر إلى ما أوتي سليمان من الملك الريح التي لا حاصل لها ، والشياطين الذين هم أعداؤه ليعلم أن الركون إلى الدنيا ركون إلى ما لا حاصل له ومجاورة الأعداء.

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩))

قوله تعالى : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) : فيه إشارة الحقائق أي : ما أعطيتك فهو مقام الاتحاد ، وهو عطاء عظيم جعلتك خليفة لي ، فامنن بمنتي على عبادي ، أو أمسك عنهم بإمساكي ، وهذا كما قال في إشارة عين الجمع إلى سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه بقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] ، وكما قال سبحانه في بعض الحديث : «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (٢) ، بيّن لسليمان

__________________

(١) دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهمّ الدين على مهمّ الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم طلب المملكة بعده ، ثم دلت الآية أيضا على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لافتتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة. اللباب (١٣ / ٣٦٩).

(٢) رواه أبو نعيم في الحلية (٨ / ٣١٩) ، وابن أبي الدنيا في الأولياء (١ / ٩).

١٩٥

محل تمكينه في نيابة الحق في ملكه ، وأعلمنا أن من لا يكون بوصف سليمان لم يجز له أن يدخل في سعة الدنيا وذكر المنة ، وجوزه أن يمنّ على عباده بنعمة الدنيا ؛ إذ كان منته منة الحق صافيا عن حظ نفسه ، لكن ما أمره بمنة المعرفة على عباده ، فليس في معرفة الله لأحد على أحد ؛ فإنها فضل منه على عباده بغير واسطة.

قال ابن عطاء : امنن على من أردت بعطائنا ، وإنا لا نمنّ عليك بذلك ، ولا نمنّ عليك إلا بالمعرفة والهداية ، قال الله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ).

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣))

قوله تعالى (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) : ذكر الله سبحانه رتبته ومحله في تمكينه ، أعطاه ملك الدنيا مع ملك الآخرة من المعرفة والمحبة والنبوة بألا مضرة فيه عليه ولا في مقاماته وأحواله الشريفة ، بل كان له مزيدا في حاله ورفعة ، وشرفا في معرفته ، وأخبر من حسن مآبه بأنه تعالى ستره بأنوار قربه حين آواه من قهره بلطفه ورجوعه إلى الحق بحسن التضرع والبكاء والخشوع والحياء في كل لحظة ولمحة.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥))

قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) : افهم يا حبيبي أنه تعالى بوجود جلال قدمه أبلى أهل محبته ، ولا يوازي بلاؤه صبر أهل الحدثان ، بل كان خارجا عن صبر المخلوق والتصبر المكتسب ، ورجع إلى الحق بلا صبر نفسه ، وانخلع من حوله وقوته ، وسأل أن يعطيه الله صبرا يحتمل به بلاء القديم ، فلما رآه الحق خارجا من صبره ألبسه من صبره القديم كسوة ، فاحتمل به بلاءه ، فأثنى عليه الحق بعد اتصافه به وانخلاعه من دعوى الأنائية بعد الاتحاد به الذي لو ألقى ذرة على جميع قلوب العارفين يدّعون دعوى الأنانية ، فلما لم يؤثر فيه سكر الاتحاد والاتصاف وبقي متمكنا في العبودية واستلذ بحلاوة مشاهدته من قهره كما استلذ بمشاهدته من لطفه ، فقال : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤) أي : راجع من دعوى الأنانية إليّ بنعت العبودية ، ومن لم يحمل بلاءه إلا به كيف يحتمل بلاءه بنفسه.

قال ابن عطاء : واقفا معنا بحسن الأدب لا يؤثر عليه دوام النعم ، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحن ؛ لمشاهدته المنعم والمبلي ، ونعم العبد عبد لا يشغله ما لنا عنا.

١٩٦

وقال أبو الحسين بن زرعان في هذه الآية : إنه يستلذ وجود البلاء مع الله ، فاستزاد ابن البلاء ، وذلك قوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، ظهر على آثار العافية ، فإن العيش في البلاء مع الله عيش الخواص ، وعيش العافية مع الله عيش العوام ، (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ؛ لفقدان عيش الخواص والرجوع إلى عيش العوام. قال الحسين : سهّل عليه البلاء.

قوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ) : فمن كان في وجدانه كان فانيا عن رؤية الأغيار.

قال جعفر بن محمد : لما أظهر الله البلاء بأيوب وكثر عليه الدود عقد لسانه عن الدعاء ؛ لإنفاذ الحكم والمشيئة فيه ، وتحكم له بالصبر ، فلما دامت أحكام الصبر أورثه الرضا ؛ لما وجد من حلاوة القرب مع الله ، فأثنى عليه في الأولين والآخرين بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ).

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

قوله تعالى : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي : أخلصناهم مما سوانا حتى خلصوا في محل التمكين في دار التفريد وعين التجريد وحق التوحيد ومشاهدة الجبروت والملكوت ، دعوا المريدين إلى مقامات القربات والمداناة والمشاهدات والمكاشفات ، وما

١٩٧

اعوجّوا من حد الاستقامة إلى حد التلوين ، وما احتجبوا بشيء عنه تعالى ؛ فإنهم أولو القوة الألوهية والبصائر الربانية.

قال ابن عطاء : (أَخْلَصْناهُمْ) لنا ، وخصصناهم بنا ومعنا.

وقال : (بِخالِصَةٍ) تلك الخالصة خلو سره عن ذكر الدارين وما فيهما حتى كان لنا خالصا مخلصا.

قال سهل : أخلصهم له دون ذكرهم له ، وليس من ذكر الله بالله كمن ذكر الله بذكر الله.

قال أبو يعقوب السوسي : لما قال (أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) صفت قلوبهم لذكره عند ذلك ، ورقت أرواحهم له بإرادته ، فهم في مكشوف ما تقدم لهم في الغيب سبقت لهم منه الحسنى ، فصاروا بدرجة المخلصين ، ثم زاد في وصفهم بقوله : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧) ذكر العندية ، وقرن بها الاصطفائية ، وبيّن أن اصطفائيتهم في العبودية أزلية قبل وجود الكون ، فإذا كانت الاصطفائية أزلية يسقط عنها أسباب الحدثان ، فصار شرفهم خاصّا وموهبة خالصة بلا علل ؛ لذلك قال : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ).

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦))

قوله تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ) : بيّن الله سبحانه ههنا تفضيل آدم على الملائكة المقربين ؛ فالخطاب لأكابرهم ؛ إذ كان روحه خلقت قبل أرواحهم ؛ إذ روحه تكونت من ظهور تجلي الحق بجميع الذات والصفات كاملة بخلعة كسوة الربوبية التي ألبسها الحق حتى صارت مرآة يتجلى منها للعالمين ، وبقيت في أول الأول في مشادة أنوار

١٩٨

الأزليات والأبديات ، ولو كانت الملائكة بهذه المثابة لكانت معها في الكينونية من سنا برق تجلي الحق ، وعرفتها بالأهلية ، فإذا كانت الملائكة نازلة من درجاتها وصارت محجوبة عن رؤية ظهورها في العالم احتاجت إلى إعلام الحق بذلك ، فلما علم الحق أنهم جهلوا حقائق وجود آدم لم يذكر ههنا ذكر روحه معهم ، وقدم ذكر الصورة من قلة عرفانهم شرف روحه ، وقال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (١) ، مكر بهم حتى وقعوا في التشويش والنظر إلى أنفسهم بالخيرية حتى يظهر بعد ذلك كمال آدم ، فإذا كانوا مخالفين في صورته بأول الخطاب كيف كانوا في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)؟! وذلك من أعظم عجائب الربوبية ، وفيه تفهيم تحقيق عبوديته ؛ حتى لا يجري في قلوب الملائكة أنه بمعنى من الربوبية في وقت سجوده أي : إني خالق بشرا من طين أي : من عجز وضعف أكسية أنوار جلالي وعظمتي ، فإذا كمّلته اتصف بصفاتي منورا بنور ذاتي ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي : أحييه بحياتي وبروحي التي ظهرت من تجلي الجلال والجمال ، (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٧٢) ؛ إذ يكون قبلة أنوار عزتي وكبريائي ومواقع تجلي ذاتي وصفاتي ، فلما رأته الملائكة بتلك الصفات سجدت له كلهم من حيث أراهم الحق آدم منورا بنوره مصورا بصورته إلا إبليس ؛ لأنه كان من الكافرين المحجوبين ؛ لطمس الحق إياه ، وبأنه لم يكن مكتحلا بكحل نور جمال الأزل ، فلما لم يكن له أهلية لرؤية وقع في رؤية نفسه ورؤية خيريته حتى (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) ، وقع في قياس النار والطين ، ولم ير أنوار جمال الحق التي ظهرت من وجه آدم ، وهكذا حال المدعين والسالوسيين والمرائين المداهنين في حق أوليائه ، لا جرم كان مخاطبا بالطرد والإبعاد إلى يوم الميعاد ، حتى لا يذوق حلاوة برد الوصال ، ولا يرى أنوار الجمال والجلال ، ولا يدرك فضائل الأنبياء والأولياء إلى أبد الآباد ، بل إذا يرى أثر سلطنة ولايتهم وعزة أحوالهم ، يذوب كما يذوب الملح في الماء ، ولا يبقى له حيل ، ولا يطيق أن يمكر بهم ، بل ينسى في رؤيتهم جميع مكرياته ، ولا يطيق أن يرمي إليهم من أسهم وسوسته ، سبل وسوسته تلحق بأهله لا بأهل الحق ، وذلك قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) : المتجردين في قصودهم نحو قدم الحق وبقائه الأبدي وجماله الأزلي عن الأكوان والحدثان ، واحذر ألا

__________________

(١) فهو عين هذا النفس بفتح الفاء ، فقبلته الصورة على حسب استعدادها ، وقابليتها.

(٢) هذه أول معارضة ظهرت من إبليس في صنعة الجدال ، فإنه جادل ربه وما أحسن في جداله ؛ لأنه ما أعطي حقه إن الحق تعالى أراد بقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي : يد تنزيه وتشبيه ، وإن شئت قلت : يد وجوب وإمكان ، أو يد بخلاف سائر العالم ملكا وفلكا.

١٩٩

يجري على خاطرك أن لإبليس قدرة بأهله ، بل يغويهم بإغواء الحق إياهم ، ألا ترى إلى قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، ظاهره القسم ، وباطنه الآلة والاستعانة بقهره ، يا ليت الملعون أدرك الخطاب الثالث بعد الخطاب الأول والثاني ؛ حيث قال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) ، وحيث قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، ثم قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) لم يعرف مفهوم الخطاب ، وهو أن من كان له مباشرة أنوار يد الأزل ويد الأبد في ظاهره وروح تجلي جلال الذات في باطنه يكون مستحقّا في جميع الأحوال لكرامات سنية وأحوال رفيعة وخدمة أهل الملكوت له وسجود الملائكة له ؛ إذ كان مشرق أنوار جلال الأزلي وجمال الأبدي.

جئنا إلى مقالة المشايخ رحمة الله عليهم فيما قالوا في هذه الآية :

قال بعضهم في قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) : امتحنهم بالإعلام ، وحثّهم بذلك على طلب الاستفهام ، فيزدادوا علما بعجائب قدرته ، ويتلاشى عندهم نفوسهم.

قال بعضهم في قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) : أي كاملا ، يستحق التعظيم بخصائص الاختصاص التي خص بها من خصوص الخلقة ، (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

قال ابن عطاء في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) : أبديت عليه آثار شواهد عزتي ، وروّحت ستره بما يكون به العبيد روحانيين.

قال بعضهم : هو روح ملك ، وهو الذي خصصه به ، فأوجبت تلك الخصوصية سجود الملائكة له.

وقال بعضهم : وهو قول الفناء ، جذبهم بشهود التعظيم ، فلم يستجيزوا المخالفة ، وحجب إبليس برؤية الفخر بنفسه عن التعظيم ، ولو رأى تعظيم الحق لما استجاز الفخر عليه ؛ لأن من استولى عليه الحق قهره.

قال جعفر في قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) : سخطي الذي لم يزل جاريا عليك ، وواصلا إليك في أوقاتك المقدرة وأيامك الماضية.

قال بعضهم في قوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) : الذي يكون سره بينه وبين ربه ، بحيث لا يعلم ملك فيكتبه ، ولا هوى فيميله ، ولا عدو فيفسده.

(إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي : القرآن صفته الأزلية ، يذكر للعالمين شمائل جماله وجلاله ، ويظهر كنوز أسراره وأنوار ذاته وصفاته لمن له فهم عقل ومعرفة.

قال ابن عطاء : يطرد به عند الغفلة ليعتبر به المعتبرون.

٢٠٠