تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦))

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) لما تمكنت فطرته السليمة القابلة نور الغيب بسنا العقل ، وكمل عقله بتأييد الحق ونصرته على النفس والهوى ، وقوى قلبه بصفات الإيمان والإيقان ، وتجرد روحه مما دون الله ، واستوى سره بنعت التمكين في العبودية عند جريان أحكام الربوبية عليه آتيناه حكمة الأزلية ، وعلوم الأبدية ؛ ليعرف بأنوارها حقائق الصفات ، ويرى بسنائها جلال الذات.

قال الجنيد : لما تكامل عقله ، وصحت بصيرته ، وخلصت نحيزته ، وآن أوان خطابه آتيناه حكما بيانا في نفسه ، وعلما مما يتجدد عنده من موارد الزوائد عليه من ربه.

قال أبو بكر الوراق : حكما على عبادنا ، وعلما بنا.

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠))

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي : بما أنعمت عليّ من كشف جمالك ، وما أسمعتني من لطائف خطابك لا أساعد المخالفين ، ولا أجالس البطالين ، ولا أعين المدعين ، ولا أكون موافقا لمراد النفس والهوى ، ولا أكون في قيد الشهوة والمنى.

قال ابن عطاء : العارف بنعم الله من لا يوافق من خالف ولي نعمته ، والعارف بالمنعم لا يخالفه في حال من الأحوال.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

٨١

قوله تعالى : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أن الله سبحانه لما أراد بعبد عبادنا أن يكون له فردا أوقع عليه واقعة شنيعة ليفزع من تبعاتها ، فيفر مما دون الله إلى الله ، فلما فرّ إليه خائفا من الامتحان بجد جمال الرحمن ، ويعلم أن جميع ما جرى عليه واسطة لوصول المراد هذا حال موسى أفقره الحق إلى الافتقار إليه بسبب من الأسباب ، والغرض منها كشف النقاب ، وإسماع الخطاب ، (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً) كان واجدا في نفسه شغلات نيران المحبة ، واستأنس بها ، واستوحش من الخلق ؛ فإذا أقبل إلى الحق بالكلية خاف وترقب أن يلحقه أحد من الضلال ، فيمنعه من الوصول إليه ، وأيضا خرج مما دون الله خائفا عظمة الله ، يترقب طلوع شمس الوصال من مشرق الجمال.

وقال أبو بكر بن طاهر : (خائِفاً) على قومه العذاب يترقب لهم هداية من الله.

قال ابن عطاء : خرج منها خائفا من قومه يترقب مناجاة ربه.

وقال بعضهم : مستوحشا من الوحدة يطلب من يأنس به.

وقال محمد بن حامد : خائفا من الشيطان راجيا للعصمة.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

قوله تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) لما تخلص من مقام تربية الإرادة ، وغار من صحبة الأضداد ، ومقام الامتحان هاج سره بحق الحق ، واستنشق روحه رائحة ورد الوصال ، ورأى بردا من سحائب القربة ، قال في نفسه : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢) أي : يهديني ربي إلى مشاهدته ، ويسمعني كلامه ، وذلك سواء سبيل المعرفة ؛ لأن المعرفة بحقيقتها مستفادة من المشاهدة ، ومن هناك تبدو سبل قدم الذات ومعرفة أزلية الصفات ، فمدين إشارة إلى مشاهدة عالم الأزل والأبد ، وتوجهه كان إليها بالحقيقة ، فوجد نسائم ذلك من جانب مدين ؛ لأن هناك مواضع الكشف والخطاب وصعود أنوار نبوة شعيب عليه‌السلام ، وذلك كما قال عليه‌السلام في إخباره عن وجدانه نسيم نفحه كشف جمال الحق في مزار قلب أويس

٨٢

القرني ـ رحمة الله عليه : «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» (١) ، قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه‌السلام : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) [يوسف : ٩٤].

قال جعفر : توجه بوجهه إلى ناحية مدين ، وتوجه بقلبه إلى ربه طالبا فيه سبيل الهداية ، وأكرمه الله بالكلام ، وكل من أقبل على الله بالكلية ؛ فإن الله يبلغه مأموله.

قال أبو سعيد الخراز : حملته الفراسة ، وتدابير المكالمة فيه إلى أن توجه أرض الأولياء ، وهي أرض مدين ، فصادف بها شعيبا ، وكان له في لقائه أوائل البركات ، فلما كمل هيجانه إلى لقاء ربه قصد مدين بصورته ، وقصد بروحه موارد المشاهدة والمكاشفة بقوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) ورد سره موارد المكاشفة ، وسواقي المشاهدة وأنهار القربة ، وبحار القدس والأنس فشرب منها بأقدح الأقداح شربات المحبة والعشق والشوق فصار هائما في الملكوت حيران في الجبروت.

قال الواسطي : الوارد بطلب المقالة لثقل الحرمة ، والقاصد يطلب اللقاء والظفر قال أبو بكر بن طاهر : ورد في الظاهر ماء مدين وورد في الحقيقة على مالك مياه الأنس وبساتين المعرفة (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) أي : خواص من العباد يرتعون في تلك الميادين ، فأنس بهم ، وشرب معهم من تلك المياه شربة أورثته ورود ذلك المورد المورود على مخاطبة الحق ، وأورثه شرب ذلك الماء الثبات في حال المخاطبة ، ثم بيّن سبحانه مقام فراسة موسى بقوله : (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) ، رأى موسى بنور النبوة أهله ، وخاطبهما من حيث رؤية القلب ووجدان الأهلية وأعانهما نصحا الطريقة وأداء شرائط الإرادة بقوله : (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، استظل ظل العناية وطلب من هناك حقائق الكفاية بنعت الرضا والتسليم وأظهر افتقاره إلى وصول المشاهدة حين عاين كنوز القدم مفتوحة وجلابيب الصفات مكشوفة فانبسط إليه بالسؤال حين انفرد من الخلق والخليقة.

قال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية فخشع وخضع وتكلم بلسان الافتقار بما ورد على سره من أنوار الربوبية ، فافتقاره افتقار العبد إلى مولاه في جميع أحواله لا افتقار سؤال ولا طلب.

قال بعضهم : تولى إلى كهف الرعاية فإن فيه الراحة والاسترواح.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٤١) ، والطبراني في «المعجم الأوسط» (٥ / ٥٧).

٨٣

قال رويم في قوله (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) : مياه الرحمة والعناية لا تخلو من الواردين والطالبين والعاكفين عليها ، فمن أيّد بالعناية سقي ماء الرحمة ، ومن أيّد بالشفقة سقي ماء العناية ، ومن أيّد بالكلاءة سقي من ماء المعرفة ، ومن أيّد بالأنس سقي من ماء المحبة ، ومن أيّد بالصدق سقي من ماء الصفاء ، وكل وارد مياه الحضرة يسقى على مقدار عطشه ، فمنهم من يروي من عطشه ، ومنهم من يزيد عطشا وهيمانا ، وكلما ازداد من الشرب ازداد من الظمأ ، كما حكي عن أيوب عليه‌السلام أنه قال : [من يشبع من رحمتك] كذلك قيل : والمشرب كثير الزحام.

شربت الحب كاسا بعد كاس

فما نفد الشراب ولا رويت

قال الأستاذ : ورد بقلبه موارد الأنس ، والموارد المختلفة مورد القلوب رياض البسط لكشوفات المحاضرة ، فيطرفون لأنواع الملاطفات ومورد الأرواح مشاهدة الأرواح ، فيكاشفون بأنوار المشاهدة ، ويسقطون عن الإحساس والنفس ، وموارد الأسرار ساحات التوحيد ، فعند ذلك الولاية لله فلا نفس ولا حسّ ولا قلب ، ولا أنس ، استهلاك في الصمدية وفناء بالكلية ، ويقال في قوله : (تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي : إلى ظل الأنس وروح البسط واستقلال السر بحقيقة الوجود.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

قوله تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) الحياء صفة الكرام لكن ، هاهنا زيادة على حكم الحياء ؛ ولأن تلك السلالة المقدسة لما رأت الكليم عليه‌السلام استغرقت في أنوار ما كسا وجهه من صولة الموسوية ، وما ألبسه من نور العظمة فتحاشت واستحيت مما رأت منه بنور الفراسة ، ذلك النور من أهلية المحبة بين روحها وروح الكليم ، قال تعالى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) معناه كل من رآه أحبه واستأنس.

قال أبو بكر بن طاهر : لتمام إيمانها وشرف عنصرها وكريم نسبها أتته على استحياء ،

٨٤

فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحياء من الإيمان» (١) ثم بيّن سبحانه ما رمزنا من وصف فراستها بقوله : (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) رأت بنور الولاية قوة النبوة وأمانة الصديقية ، وأيضا قوة المعرفة والربوبية وأمانة المحبة والعبودية ، وتكلمت مما رأت في المستقبل من أمانة موسى بالوفاء في شرطه شعيب في عهده بقوله ، (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) وقوة إرادته في خدمته عشر حجج ، وهذه الكلمة أيضا صدرت منها من رأس شقيقة روحها من روح موسى ؛ لذلك صارت له أهلا ، فأبصر شعيب ما أبصرت من سوابق الحكم في المشيئة والمقادير في الأزل لذلك (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) ؛ لأنه رأى بنور النبوة أنه يبلغ إلى درجة الكمال في ثماني حجج ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك ، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج ؛ لأنه رأى أن بعد العشر لا يبقى مقام الإرادة ، ويكون بعد ذلك مقام الاستقلال والاستقامة ، ولا يحتمل مؤنة الإرادة بعد ذلك ؛ لذلك قال : (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ.)

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣))

قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار وأنفاسهم من بدو الإرادة بل من وقت الولادة ، بل من كون الروح من العدم في مشاهدة القدم منقسمة على شرائف الأحوال ، في كل نفس لهم سر وحال ووجد وخطاب ومقام وكشف ومشاهدة ، فأجل الإرادة أجل المعاملات وأجل الحالات ، فإذا تم أوائل المعارف وأمارات الكواشف لموسى ولم يبق عليه حق

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٦٨) ، ومسلم (١ / ٦٣).

٨٥

الإرادات والمقامات والمعاملات وظهر له عين القدم في عين الجمع وبان نور الأزل في النار بعد انقضاء الأجل قال : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) ، والحكمة في ذلك أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة ؛ لذلك تجلى النور في النار لاستئناسه بلباس الالتباس ، فأخبر عن حال الاستئناس ، وقال (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : أبصرتها وأنستها ، ولا تخاط النار من الاستئناس خاصة في الشتاء ، وكان شتاء فتجلى الحق بالنور في لباس النار ؛ لأنه كان في طلب النار ، فأخذ الحق مراده وتجلى من حيث إرادته وهذا سنته تعالى ، ألا ترى إلى جبريل أنه إذا علم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب دحية فأكثر إتيانه إليه كان على صورة دحية ، فلما وصل موسى إلى المقصود ذهب النار وبقي النور وذهب الأنس وبقى القدس ، ثم ذهب النور وظهر عين الصفة ، ثم عين الذات ، فلما وله تحير في صولة الأزل ، وبان العيان لم يبق له العرفان ، وظن ظنونا منها أنه كان في سره أين أنا وإيش ما أرى ، هل يكون لموسى ما يرى موسى أو أن موسى نام عن موسى ، وما يرى لا يرى أو يرى ولا يعرف ، فكاد أن يضمحل في الحيرة إذ بان الكشف بالبداهة خارجا عن العادة فناداه الحق : أين أنت يا موسى (إِنِّي أَنَا اللهُ) ، فأوقعه بطيب الخطاب من الفناء إلى البقاء ومن التفرقة إلى الجمع حتى أنس بالأنس ثم بالقدس ، وبقي مع الحق بنعت الفرقان في محل العيان ، فأوائل الأحوال كان رسما ثم وسما ثم واسطة ثم حقيقة ، فارتفع الوسائط وبقي الحقائق ، وذلك بقوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى) ، أتى من الأكوان والحدثان إلى بساط الرحمن ، ونودي له من شاطئ وادي الأزل في ساحة القدم من شجرة الذات بأصوات الصفات أن يا موسى (إِنِّي أَنَا) إشارة البعد في القرب والقرب في البعد والغيبة في الحضور والحضور في الغيبة ، أشار إلى الهوية ، ثم إلى كشف العيان بقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ) أي : اخرج أنت من أنت من حيث أنت ؛ فإني أنا الله أبقى لك ؛ فانظر إليّ بعين منا ؛ حتى ترى الألوهية وتعلم الحقيقة.

قال بن عطاء : في قوله (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) : لما تم أجل المحبة ودنا أيام القربة والزلفة وإظهار أنوار النبرة عليه سار بأهله ليشترك معه في لطائف الصنع.

وقال جعفر في قوله (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) : أبصر نارا دالة على الأنوار ؛ لأنه رأى النور على هيئة النار ، فلما دنا منها شملته أنوار القدس ، وأحاطت به جلابيب الأنس ، فخوطب بألطف خطابا ، واستدعى منه أحسن جواب ؛ فصار بذلك مكلما شريفا مقربا أعطى ما سأل وأمّن مما خاف ، وذلك قوله (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً.)

٨٦

قال أبو بكر بن طاهر : أنس سره برؤية النار لما كان فيه من عظيم الشأن وعلو المتبة ، فأخرج الرؤية بلفظ آنست أي : أرى هذه النار رؤية مستأنس بها لا مستوحش منها ، فدنا منها فأنسه طهارة الموضع وما سمع فيه من مناجاة ربه وكلامه ، فتحقق بالأنس.

وقال الواسطي : الوسائط في الحقيقة لا أوزان لها ولا أخطار ، وإنما هي علل لضعف الطاقات ، كما جعل الواسطة به موسى بيته الشجرة نادى في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى ، ثم دفع الواسطة ثانيا ، فقال (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ.)

قال أبو سعيد القرشي : تلك الشجرة في مخاطبة الكلام تعلل التطبيق ، بذلك التعلل حمل موارد الخطاب عليه كما تعلل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» (١) أي : أنست منها ولا هي مني في شيء ، إنما لي منها تعلل أتحمل به موارد الوحي عليّ.

قال أبو علي الروذباري : الجبل الذي كلّم الله موسى عليه كان من عقيق.

قال القاسم : لما سمع موسى الكلام خرّ صاعقا ، فجاء جبريل وميكائيل فروّحاه بمروحة الأنس حتى أفاق من الهيبة ، واستأنس بالأنس مع الله ، فزال بالرعب والفزع من قلبه ، فقال له : يا موسى أنا الذي أكلمك من علوّي ، وأسمعك من دنوّي ، فلدنوّي لا أخلو من علوّي ، ومن علوّي لا أخلو من دنوّي ، يا موسى إني أنا الذي أدّبتك قربتك وناجيتك ، عند ذلك قال له موسى : أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ قال له : أنا أقرب إليك منك.

قال الأستاذ في قوله (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) : لاح له نار ثم لاح نور ثم بدا ما بدا فلا كان المقصود النار ولا النور ، وظهر النداء (إِنِّي أَنَا اللهُ) قيل شتّان بين شجرة وشجرة ؛ فشجرة آدم عندها ظهرت محنة وفتنة ، وشجرة موسى عندها افتتحت نبوته ورسالته ، يا صاحبي لو يعلم قائل هذا القول حقيقة شجرة آدم لم يقل مثل هذا في حق آدم ؛ فإن شجرة آدم إشارة إلى شجرة الربوبية ، لذلك قال (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة : ٣٥] ؛ فإن آدم إذا كان متصفا بصفات الحق ، أراد العينة بحقيقتها فنهى الحق عنها ، فقال : هذا شيء لم يكن لك ؛ فإن حقيقة الأزلية ممتنعة من الاتحاد بالحدثية ، هكذا قال ، ولكن أظهر أزليته من الشجرة ، وسكر آدم ولم يصبر عن تناولها ، فأكل منها حبة الربوبية ، فكبر حاله في الحضرة ، ولم يطق الجنة حملها ، فأهبط منها إلى معدن العشاق ، فشجرة آدم الأسرار ، وشجرة موسى شجرة الأنوار ، وكم بين الأسرار والأنوار ، الأنوار للأبرار والأسرار للأخيار ، فلما صال آدم بصولة السكر انهزم من

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٤٠٥) ، والمحب الطبري في الرياض النضرة (١ / ٢٦٥).

٨٧

سطوات العظمة ، ولم يحق له الجنة بعد ذلك ، لذلك قيل (اهبط) وقيل في القصة أن موسى لما سمع كلام الحق سبحانه غشى عليه ، فأرسل الله إليه الملائكة حتى روّحوه بمراوح الأنس ، كان هذا في ابتداء الأمر والمبتدئ مرفوق به ، وفي المرة الأخرى خرّ موسى صعقا وكان يفيق والملائكة تقول له : يا ابن الحيض مثلك من يسأل الرؤية يا ليت لو يعلم الملائكة أين موسى هناك لم يعيروه ؛ فإن موسى كان في أول الأحوال مريدا ، وفي الآخر مرادا مطلوبا طلبه الحق واصطفاه لنفسه ، وقال (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ، وهيجه إلى سؤال رؤية بعد أن ناجاه ، وناداه بأصوات اللطف ، وقال (إِنِّي أَنَا اللهُ) ، فشاهد موسى بين الجلال والجمال حقيقة الذات ، فظن أنه خارج الحجاب من غلبة العيان قال : (رَبِّ أَرِنِي) ، فأجابه الحق وقال (لَنْ تَرانِي) أي : أنت في مشاهد وتراني ، فمن أين تطلبني وها أنا في عينك تراني بعيني؟! وفيه ألف الاستفهام غائبة مضمرة ، لا يدركها بالفهم إلا أهل الحقائق ، فيا ليت لو يعلم الملائكة أن موسى في ذلك مراد الحق أراد أن يريه نفسه ، وهيجه إلى سؤال رؤيته ، ولو لا ذلك فمن أين يجد الحدث ظهور وجود القدم؟! وتلك الصعقة لموسى أنه كان في بداية الخطاب طمع الرؤية ، فلما تجلى الحق سبحانه للجبل له واسطة طمع وصول حقيقة القدم ، فماج بحر الربوبية موجا ، فألقت موسى إلى سراب الحيرة حتى صعق ، كما كان آدم يراه من الشجرة ، فتعربد كما تعربد الكليم ، فأهبطه من دار الوصلة إلى دار المحبة ، وكذا يكون من أقبل الأزل بنعت الأجل وصارع مع أسد القدم بوصف العدم :

نديمي غير منسوب إلى شيء من الحيف

سقاني مثل ما يشرب كفعل الضيف بالضيف

فلما دارت الكأس دعا بالنّطع والسيف

كذا من يشرب الرّاح مع التنين في الصيف

قيل : في البداية لطف ، وفي النهاية عنف ، ويقال : في الأول ختل ، وفي الآخر قتل.

وقال الأستاذ في وصف الشجرة : الشجرة هي شجرة الوصلة ، ثمرتها القربة ، أصلها في أرض المحبة ، وفرعها باسق في سماء الصفوة ، أوراقها الزلفى ، أزهارها وأنوارها تنفتق عن نسيم الروح والبهجة.

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤))

قوله تعالى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) : افهم أن مقام الفصاحة هو

٨٨

مقام الصحو والتمكين الذي يقدر صاحبه أن يخبر من الحق وأسراره بعباده لا يكون شفيعه في موازين العلم ، وهذا حال تبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «أنا أفصح العرب (١)» ، «وبعثت بجوامع الكلم» (٢) ، وهذا قدرة قادرية اتصف بها العارف المتمكن الذي بلغ مقام مشاهدة الخاص ومخاطبة الخاص ، وكان موسى في محل السكر في ذلك الوقت ، ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان ؛ لأن كلامه لو خرج على وزان حاله يكون على نعوت الشطح عظيما في آذان الخلق ، وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق ؛ لذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) ؛ لأن كلامه كان من بحر المكافحة والمواجهة الخاصة التي كان مخصوصا بها دونه.

قال أبو بكر بن طاهر : هو أفصح مني لسانا ؛ لأنه لم يسمع خطابك ولم يخاطبك ؛ فهو أفصح مني لسانا مع الخلق ، كيف أكون معهم فصيحا وسمعت لذة كلامك؟ وكيف أخاطبهم مع مخاطبتك؟ وكيف أجعل لهم وزنا مع ما أدبتني وخصصتني به؟ (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) معهم وأحسن بيانا لهم ، إني لم أستلذ مخاطبة بعدك ، ولم ألتذ بكلام غيرك وأنشد :

هل كنت تعرف سرّا يورث الصّمما

أصمّني سرّهم أيام فرقتهم

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩)فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٢٣٢).

(٢) رواه البخاري (٣ / ١٠٨٧) ، ومسلم (١ / ٣٧١).

٨٩

الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥))

قوله تعالى : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) سلطان الحق لهما ما كساهما من أنوار قدسه وأنسه ومحبته وهيبته.

قال جعفر : هيبته في قلوب الأعداء ومحبته في قلوب الأولياء.

قال ابن عطاء : سياسة الخلافة مع النبوة.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤))

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) كان روحه عليه‌السلام في مشاهد قرب القدم ، وجسمه في بطن العدم ، علمه كان قائما بمجازاة روحه عند الله ، وأخبر عن بعض مقاماته كليمه ، فاشتاق إليه ، فزفر وبكى من محبته وشوقه ، فناداه الحق بوصفه ودنوه بين يديه ، فسأل من الحق رؤيته ، فناداه الحق ، وخاطبه بلسان حبيبه محمد ، فاستلذّ بكلامه وسكن ، كما أخبر عليه‌السلام عن كمال حب عليّ بن أبي طالب في قلبه وفضله عند الله

٩٠

بقوله : «إنّ الله سبحانه خاطبني ليلة المعراج بلغة عليّ (١)» ، فهو سبحانه وتعالى خاطب الكليم بلغة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عليه‌السلام في حضرة القدس ، وموسى كان في مقام الأنس هو في مقام القدس سأل أمته ، وموسى في مقام الأنس ذكر أمته ، فبين ذكر الحبيب والكليم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغفورة لذلك ، قال تعالى : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.)

قال الحسين : في هذه الآية خاطب منصوب القدرة في عين العدم.

وعن أبي يزيد أنه قرئت هذه الآية بين يديه فقال : الحمد لله الذي لم أكن ، ثم سأل بعضهم عن معنى قوله هذا ، فقال : معناه كيف كنت أستحق سماع النداء من الحق وجوابه فأجابه الحق عناء اللطف ونيابته عناء ، ثم قال سهل في قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) : عرضنا عليه لأمته ما أبى علينا فخصصنا به أمتك من قراءة الكتاب حفظا والصلاة في غير المحاريب ، كنا ننوب عنك وعن أمتك قبل الإيجاد.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

قوله تعالى (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) : كلّ كلام بغير خطاب الحال والواقعة فهو لغو.

قال يوسف بن الحسين : اللغو ما يشغلك عن العبادة.

وقال حمدون : اللغو ذكر الخلق.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦))

قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) : الهداية مقرونة بإرادة الأزل ، ولو كان إرادة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق أبي طالب مقرونة بإرادة الأزل لكان مهتديا ، ولكن كان محبته وإرادته في حقه من جهة القرابة ، ألا ترى أنه إذا قال : «اللهمّ أعزّ الإسلام بعمر» (٢) كيف أجابه؟!

قال ابن عطاء : إنك لا تسأل الهداية لمن تحبه طبعا ، وإنما تسأل الهداية لمن تحبه فتكون محبتك له حقيقة ؛ لأنك لا تحب على الحقيقة إلا من تحبه ، حاشا لنبينا المخالفة.

__________________

(١) هو من الأحاديث التي ذكرها المصنف في كتبه ، ولم نقف على من خرجه.

(٢) رواه ابن ماجه (١ / ٣٩) ، وابن حبان (١٥ / ٣٠٦).

٩١

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)) (١).

قوله تعالى (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً) حرمهم بالحقيقة قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو كعبة القدس ، وحرم الأنس ، وسرادق مجد تجلي جلاله ، وجماله يجبى إليه ثمرات جميع أشجار الذات والصفات ، من دخل ذلك الحرم بشرط المحبة والموافقة كان آمنا من آفات الكونين والعالمين ، وكان منظور الحق في العالم ، وهكذا كل من دخل في قلب وليّ من أوليائه ، وقلب العارف حرم المراقبات والمشاهدات ، من دفع عنه خاطر الوسواس والهواجس يجبى إليه من أشجار الأنوار ثمرات الأسرار.

__________________

(١) في قوله تعالى : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ) الوعد الحسن : هو الوعد بالجنة ، والوعد الأحسن هو الوعد بالرؤية ، والموعود له من المؤمن بالإيمان الرسمي ، فهو لاقيه يوم القيامة ؛ لأنها جنة غير معجّلة ، والموعود له هو المؤمن بالإيمان الحقيقي فهو لاقيه في الدنيا ؛ لأن قيامة العارفين دائمة ، وهذا الوعد مطلقا مما يقتضيه استعداد كل من الأبرار والمقرّبين ، فلا يتخطّى أحدهم حدّ الآخر بحكم اسم العدل دون الفضل ؛ لكن فرق بين حالة وحالة ، فإن الأبرار ، وإن كانوا يرون ربهم ؛ لكن ذلك في الآخرة لا في الدنيا ، وكذا في الأسبوع مرة لا في كل لحظة ، كما هو شأن المقربين ؛ لأنه لا حجاب لهم أصلا ، كما دلّ عليه قوله : «وصنف لا يتستر الرب عنهم ، وذلك من نتائج شهودهم في الدنيا بالبصيرة».

٩٢

قال بعضهم : من مكن من رعاية سرّه وافتقاد أوقاته لن يعدم الزوائد من الله ودوام الفوائد ، ومن ضيّع أوقاته وأهمل ساعاته فهو متردد في ميادين الغفلة وساع في مسالك الهلكة.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) : يخلق ما يشاء في قلوب العارفين والمحبين والموحدين من أطيار الإفهام والمعارف بخواطر الحق والإنعام ، ويختار بها بمشيئة الأزل أهل محبته ومعرفته ومشاهدته وقربه ووصاله ، ونفى عن هذه المواهب السنية علة الاكتساب بقوله : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.)

قال الجنيد : كيف يكون للعبد اختيار والله المختار له بقوله : (وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.)

إذا نظروا إلى الأحكام الجارية بجميل نظر الله لهم فيها وحسن اختياره فيما أجراه عليهم لم يكن عندهم شيء أفضل من الرضا والسكون.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١))

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) : إذا أدام ليالي الهجران بظلمة النفس والشيطان والفترة والعصيان من يأتي بنهار الوصال وضياء الجمال إلا الله سبحانه ، وإذا أدام نهار الوصلة واستقام شمس المشاهدة في وسط فلك العناية على قلب العارف الصادق من يأتي بليل الفقدان وظلمة الغفلة والنسيان.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤))

قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ

٩٣

إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) ، ثم بيّن سبحانه أن ليل الفترة ونهار المشاهدة من كمال لطفه بأوليائه ؛ ليترفهوا في زمان الفترة ، ويستريحوا لحظة من ثقل واردات المشاهدة ، ويستبشروا في نهار الكشف والعيان برؤية الرحمن ، ويتلذذوا بالروح والريحان ، وذلك قوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ.)

قال الحسين بن منصور : من علم من أين جاء علم أين يذهب ، ومن علم ما يصنع علم ما يصنع به ، ومن علم ما يصنع به علم ما يراد به ، ومن علم ما يراد به علم ما له ، ومن علم ما له علم ما عليه ، ومن علم ما عليه علم ما معه ، ومن لم يعلم من أين جاء وأين هو وكيف هو ولمن هو ومما هو وما هو وإلى أين هو فذلك ممن أهمل أوقاته ، وترك ما ندبه الله إليه ، بقوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.)

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦))

قوله تعالى : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : شهداء الخلق أصحاب الفراسات والمشاهدات الذين يخاطبهم الله بفعله وصفاته وذاته بوسائط الكون أحيانا ، ويخاطبهم صرفا بكلامه القديم بغير واسطة ، فهم مشرفون على أسرار الحق والخليقة ، فهم ينطقون من بطون خواطرهم ، ولكل طائفة من المريدين شاهد من أهل القصة ، يشهدون لهم وعليهم في الدنيا والآخرة ، وهو مخصص مستخرج من القوم بنعت الاصطفائية والولاية.

قال بعضهم : أخرجنا من كل قوم وليّا وأطلعناه على أسرار قربنا ، ثم أذنا في البرهان ، فأظهر البرهان بنا لا به ، فعلم الخلق أن لا قيام لأحد بنفسه ، ولا يخبر عن الحق سواه ، ولا يجيب عن سؤاله غيره ، ولا يقوى على مخاطبته إلا من أيّد بتأييد خاصّ.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧))

قوله تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) : نصيب العارف من الدنيا الوجه الحسن ، الصوت الحسن ، ورائحة الطيب ، والدار الحسنة ، ومجالسة الفقراء الصبّر الصادقين في العشق القائمين بالله ، بشرط المحبة والشوق

٩٤

والبذل والإيثار في خدمتهم وصحبتهم ، والنظر إلى كل مستحسن والانفراد عن كل مستقبح وإجراء الحياة في السماع والوقت والوجد والحال والمراقبة والمحاضرة ، وجميع ذلك مجموع في قوله عليه‌السلام : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة» (١) ، وإحسان الله على العارف كشف مشاهدته وتعريف نفسه له ، وإحسان العارف الإقبال على الله بنعت التجريد عما دونه وشهوده مشاهدة جلاله وربوبيته في عبوديته.

سئل سفيان الثوري عن قوله (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) قال : لا تغفل عن عمرك في الدنيا أن تعمل بالطاعة.

قال بعضهم : لا تغترّ بها ولا تسكن إليها.

وقال الجنيد : لا تترك إخلاص العمل لله في الدنيا ؛ فهو الذي يقربك منه ويقطعك عما سواه.

قال القاسم في قوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ) : اصرف وجهك عن الكل بالإقبال عليه كما أحسن إليك ؛ حيث جعلك من أهل معرفته ، وأحسن مجاورة معرفته ؛ فإنه أحسن إليك ؛ حيث أنعم عليك بالإيمان وهو من أعظم النعم ، فأحسن جوار نعمه ؛ فإنه أحسن إليك في أن وفّقك لخدمته ، فأحسن القيام بواجب عبوديته وإخلاص خدمته.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))

قوله تعالى : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) : كل مريد نظر إلى طاعته وعلمه وعمله وكراماته وحكمته ونطقه وفصاحته وما يسهل له من مراداته فهو مفتون بدعواه ساقط عن نظر الشيوخ بترك آدابه وسقوط احتشامهم عن قلبه ، نعوذ بالله من هذه الفتنة ، والله رأيت أكثر أهل زماننا يسقطون من درجة الإرادة والصدق ومن قلوب أهل الحقيقة بإعجابهم بما هم فيه ، فيصير حالهم أقبح من أحوال العصاة المفلسين ؛ لأن مآل هؤلاء في أواخر أعمارهم الإنكار على أولياء الله وخروجهم بدعوى الشيخوخية عليهم ، أعمى الله أبصار قلوبهم وهم لا يشعرون.

قال سهل : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح ، ولا ادّعى لنفسه حالا فتم له ، والسعيد من الخلق من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل الفضل والإفضال ورؤية من الله

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٩٥

عليه في جميع الأفعال ، والشقي من زيّن في عينه أقواله وأفعاله ، وافتخر بها وادّعاها لنفسه ، فشؤمه ومهلكه يوما فيوما ، وإن لم يهلكه في الوقت ، ألا ترى الله تعالى كيف حكى عن قارون بقوله (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) نسي الفضل ، وادّعى لنفسه فضلا ، فخسف الله به الأرض ظاهرا ، فكم قد خسف بالأسرار وصاحبها لا يشعر بذلك ، وخسف الأسرار هو منع العصمة ، والرد إلى الحول والقوة وإطلاق اللسان بالدعاوى العريضة ، والعمى عن رؤية الفضل ، والقعود عن القيام بالشكر على ما أولى وأعطى حينئذ يكون وقت الزوال.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩))

قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) : بيّن سبحانه في هذه الآية شأن قارون وخروجه بالزينة على أهله ، وهلاك من يخرج على أولياء الله بالدعاوى الباطلة والكبر والرياسة ، لا محالة يسقط من عيون الخلق وقلوبهم بعد سقوطه من عين الحق ، ويخسف أنوار إيمانه في قلبه لا يرى أثرها بعد ذلك ، وأصل الزينة عند العارفين وجوه معفرة بالتراب عليها آثار دموع الشوق والمحبة ، ساجدة على باب الربوبية.

قال ابن عطاء : أزين ما تزين به طاعة ربه ، ومن تزيّن بالدنيا فهو مغرور في زينته.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ) : وصف الله سبحانه أهل الفقر من الصادقين والعلم من العارفين بمشاهدتهم جمال الغيب وشهودهم مشاهدة الحق مع تصاغر زينة الدنيا في عيونهم ، وإن ذلك المقام لا يناله إلا صابر في بلائه راض في قضائه مشتاق إلى جماله واله في رؤية جلاله.

قال بعضهم : العالم بربه من رؤي دوام نعمته عليه ، وتتابع آلائه لديه ، وقصور شكره

٩٦

عن نعمه ، وإفلاسه عما يظهر منه ، هذه صفة العلماء بالله.

قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) : نبهنا الله سبحانه أن الوصول إلى قربه ووصاله ومراتب دنوّه في جنان مشاهدته لمن لا يكون له حبّ الرياسة والجاه في قلبه ، ولا يباشر حظوظ نفسه وهواه ، ومن خصّ بهذه الدرجات الشريفة لا يأتي منه أفعال المخنثين من أهل الرياء والسمعة ، الذين تركوا الدين بالدنيا وجاهها ، وأفسدوا وجه الأرض بسالوسهم وناموسهم ، ضرب الله أعناقهم ؛ فإنهم قرناء الشياطين في جهنم ، نعوذ بالله من شؤم معصيتهم.

قال يحيي بن معاذ : الدنيا خمر إبليس ، من شرب منها شربة لا يفيق إلا في عسكر القيامة.

وقال ابن عطاء : العلو النظر إلى النفس ، والفساد النظر إلى الدنيا.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : إن الله سبحانه خلق روح المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين نورين : نور الجمال ، ونور الجلال ، حين أظهر ذاته سبحانه ، فوصل نور الذات إلى نور الجمال والجلال ، ثم تجلّى من جميع الصفات والذات بين الجلال والجمال المكمن غيب الغيب ، فظهر روحه عليه‌السلام ، وصار أهلا للقرآن ؛ لأنه كان مخصوصا بأهلية رؤية الذات والصفات جميعا ، فنزل القرآن على معدن أهلية ، ليأخذه ويرجع به إلى معدنه الذي بدأ منه ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي : إن الذي خاطبك بكلامه القديم لرادّك إليه بمراكب القرآن ، وذلك المعدن معدن التنزيه المنزه عن التشاكل والتباعض والاجتماع والافتراق ، نظر إلى شوقك في قلبك إلى معدنك من عالم الملكوت والجبروت يردك بأنوار صفاته إلى مشاهدات ذاته ، تعالى الله عن إشارة الزنادقة والثنويين ؛ لذلك قال عليه‌السلام : «حبّ الوطن من الإيمان» (١).

قال الواسطي في (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : مجالسة ليلة المسرى وإلى مخاطبات الروح بالقرآن.

__________________

(١) ذكره القاري في المصنوع (١ / ٩١).

٩٧

قال ابن عطاء : الذي يسّر عليك القرآن قادر أن يردّك إلى وطنك الذي منه ظهرت ، حتى تشاهده بسرك على دوام أوقاتك.

قال الحسين : إن الذي فرقك برسم الإبلاغ إلى الخلق سيردّك إلى معنى الجمع بالفناء عن ملاحظاتهم والترسم معهم على حد الإبلاغ رسومهم ، ويخصصك بالمقام الأخص والبيان الأخلص.

وقال ابن عطاء : الذي حفظك في أوقات المخاطبة لرادّك إلى وطنك من المشاهدة.

قال الواسطي : إلى حيث شاهد روحك وإلى الكرم الذي أظهرك منه.

قال الأستاذ : إن الذي أقامك شواهد العبودية فيما أثبتك لرادّك إلى الفناء عنك بمحوك في وجود الحقيقة.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ) : اطّلع الحق على قلب حبيبه عليه‌السلام ورأى بحار عشقه ومحبته وشوقه ومعرفته وأنسه وتوحيده وتفريده تكاد تموج بأمواج الاتحاد والفردانية في الأنانية ، فأشهده على نفسه لا يتحرك من مقام الاتحاد ، فإن ذلك مكمن عين الجمع ، ولا ينبغي أن يكون محجوبا عنه به بقوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ؛ فإن اتحادك وأنانيتك صدرت من كشوف جلاليّ وجماليّ ، ولا يبقى أثرها عند بروز سطوات عظمة قدمي ، ألا ترى كيف قال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفى عن ساحة كبريائه أنانية كل عارف سكران ، وأفنى مدارج التوحيد والمعارف في سبحات ذاته بذاته بقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، فإذا تبين الحقيقة للخليقة تفنى الخليقة في الحقيقة ، ولا تبقى أنانية العارف في ألوهية المعروف ، وتعالى الله عن الأضداد والأنداد.

قال الواسطي : إذا تحقق ذلك عنده أخذ العبد من العبد لقيام الحق به.

قال ابن عطاء : في كشف الذات هلكة ومحرقة ، قال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.)

* * *

سورة العنكبوت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ

٩٨

فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥))

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) : أقسم الحق سبحانه بإشارة الألف إلى استواء فردانية أزليته على قلوب المفردين من أهل التفريد ، وبإشارة اللام إلى كشف جماله للأرواح العاشقين الذين استقاموا مع الله بنعت التجريد ، وبإشارة الميم إلى محبة القدمية السابقة لسباق المحبين الذين استغرقوا في بحار التوحيد أنه تعالى لا يدفع من ادّعى محبته ومعرفته في مقام وصاله ، وكشف جماله في الدنيا بوصف السرمدية إلا ويبتليهم بعد التجلي بالاستتار وبعد كشف الأنوار بتعذيب الأسرار ؛ لاستيفاء حق الربوبية من العبودية وغيرة الأزلية على كون الحدث بالأسامي والنعوت في نعوته الأبدية.

قال ابن عطاء : ظن الحق أنهم يتركون مع دعاوى المحبة ، ولا يطالبون بحقائقها ، وحقائق المحبة هي صبّ البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء ، فبلاء يلحق جسده ، وبلاء يلحق قلبه ، وبلاء يلحق سره ، وبلاء يلحق روحه ، وبلاء النفس في الظاهر الأمراض والمحن ، وفي الحقيقة منعها عن القيام بخدمة القوي العزيز بعد مخاطبته إياه بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وبلاء القلب تراكم الشوق ومراعاة ما يرد عليه في الوقت بعد الوقت من ربه والمحافظة على أحواله مع الحرمة والهيبة ، وبلاء السر هو المقام مع من لا مقام للخلق معه والرجوع إلى من لا وصول للخلق إليه ، وبلاء الروح الحصول في القبضة والابتلاء بالمشاهدة ، وهذا ما لا طاقة لأحد فيه ، ثم بيّن سبحانه أنه لا ينجو أحد من الأولين والآخرين من دركات الامتحان بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) ، ميز بالتبوء بين الصادق والكاذب ؛ فتبين شكر الشاكرين في النعمة وصبر الصابرين في المحنة ودعوى الكاذبين بفرارهم عن البلاء والطاعة.

قال ابن عطاء : يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء ، من شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين ، ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين ، ثم بيّن سبحانه أن الذين عاشوا في البطالة لم يبلغوا منازل الصديقين بالتمني والتجلي وأبواب مقادير سعادة الآزال مسدودة عليهم ، أيحسبون أن ينقضوا قضيات الحق السالفة فيهم بوصف الشقاوة والطرد والقطيعة ، ويبدلوها بقضياته السابقة بنعت الاصطفائية في حق المحبين المطيعين؟! كلا ليس كما يحسبون ؛ فإن أحكام الأزلية مقدسة من

٩٩

النقوض والنقائض بهوسات المفلسين البطالين.

قال الله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ، قال القاسم : أن يسبقوا ما كتبنا عليهم من محتوم القضاء وما قدر عليهم مما مضى الحكم فيهم ، (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤) أي : باطل ما يعملون.

قال الواسطي : إنما ذكر الله تنبيها للخلق ووصفا لهم بصفاتهم ونعوتهم قبل أن خلقهم ؛ كي يوقنوا أنهم لا يسبقونه بالقول والفعل ، وأنهم مرتبطون بما سبق لهم من الصفات ، وفيهم قال الله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) ، ثم سلى قلوب المشتاقين إليه بقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) : من كان مستغرقا في بحر أشواقه فإن أوان كشف جماله وجلاله قريب من مشتاقيه الناجين من حبس النفس وحجابها ، فيرون الحق بلا حجاب وهو سميع لأهل الصفوة أسرارهم ، عليم بالتهاب قلوبهم بنيران محبته وشوقه ، قيل فليسأل ربه سؤال الملح المحتاج ، وليطلب منه طلب الراغب المشتاق.

وقال أبو عثمان في قوله : (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) : تعزية للمشتاقين أي : أعلم اشتياقكم إليّ ، وأنا أجّلت لكم أجلا ، فعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون ، فتطيبوا نفسا ، وتنبهوا.

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

قوله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦) (١) : نبّه الخلق أن ربوبيته منزّهة عن عبودية الخلق ، وأن صفات الحدث يرجع بنعوتها إلى الحدث ؛ لأنه مقدس عن النفع والضر ، وهو غنيّ عن وجود الخلق وعدمه ، فبيّن قيمة المجاهدة أنهم إذا جاهدوا ولم يظفروا بمأمولهم يعلمون أنهم يدورون حواليهم ، وأن الفضل من الله خاصّ لأهل الخصوص ممن عرفهم الله نفسه بلاكدّ ولا عناء.

__________________

(١) لأن نفع ذلك له فيتعبها ليريحها ، ويشقيها ليسعدها ، ويميتها ليحييها ، وعبر بالنفس لأنها الأمارة بالسوء ، وإنما طوى ما ادعى تقديره لأن السياق للمجاهدة.

١٠٠